خطبة الجمعة (224) 13 ذي القعدة 1426هـ – 16 ديسمبر 2005م

مواضيع الخطبة:

 

لسكربمعناه الأعم + غضبٌ لله + الحرية الانسانية+ الوصاية في الاسلام + بين الوحدة والشتات


والذين يريدون ان يطبّعوا الأمة على شتم دينها ومرجعياتها وعلمائها لابدّ أن تخيّب ظنهم الأمة وتثبت لهم حضورها وفعاليتها واعتزازها بذاتها ودينها ومرجعيتها وأنها لن تخذل الاسلام وهو خيارها الأكبر في الحياة في أي يوم من الأيام.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي احيا عقول العارفين بمعرفته، وأنار قلوبهم بذكره، وأذاقهم حلاوة مناجاته وشكره، وأراهم من جماله وجلاله ما يزهدهم في غيره، وسلك بهم سبيل رضوانه وكرامته، وبوأهم المنازل الرفيعة في جنته. الحمد لله الذي عمّت هداياته، وبصّرت العقول آياته، وأقامت الحجة بيناته .
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا كثيرا.
أوصيكم عباد الله ونفسي الخطاءة بتقوى الله والانقياد الى طاعته انقياد ايمان وتسليم ورضا فهو الخالق والمالك والرازق والمدبرالحكيم والمشرع العليم الرحيم، والمجزي بالحسنة اضعافا والمغدق على المطيعين من الخير العميم ألطافاً.
الطامع في الثواب لا يجد ثوابا كثواب الله، والخائف من العقاب لا يتهدده عقاب كعقاب الله، وإن العبد ليجد ملجأ من غير الله عند الله، ولا يجد ملجأ عند غيره منه أبدا.
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المتاب {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}(1).
ربنا اغفر لنا ولأمهاتنا وآبائنا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا وأصدقائنا واخواننا المؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات يا رحمن يا رحيم.
اللهم صل وسلم على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم انبيائك ورسلك وآله الطاهرين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين الذين اخترتهم على العالمين وملائكتك المسبحين يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فالحديث عن السكر بمعناه الأعم: صحيح أن عظمة الانسان في عقله، ولكن لا عظمة لانسان في عقل مخمور مغمور، لأن ما ينفع من العقل هو تفكيره الصائب، وادراكه الدقيق، وما لم يكن العقل حاضرا فاعلا لا يدرك الادراك الدقيق ولا يفكر التفكير الصائب. والسكر كما في اللغة حالة تعترض بين المرء وعقله، فهي حالة عازلة للعقل، معطّلة له عن دوره، مسلمة للمرء لأخيلته وأوهامه وأحلامه. وكلما وقع الانسان في هذه الحالة كان في حكم الفاقد لعقله وكان خاسرا لما به عظمته، فحقّ أن يسقط، وحقّ ان يُحتقر. وكلما طال من انسان سكره كلما بعد عن مستوى انسانيته، وانحدر عن طريق الغاية التي أهّله إليها عقله، وكان من شرط بلوغها احتفاظه بدقة ادراكه وصحة تفكيره.
وسكرة العقل منها ما يكون حاجزا له عن حقائق الحسّ والمعنى، ومنها ما يحجبه عن ادراك الحقائق البعيدة الكبرى وإن تأتى له أن يدرك الحقائق القريبة التي تساعده على الاستفادة من متع هذه الحياة، وتجنب عدد من اخطارها.
وسكرة تتسبب فيها الخمرة وما شابهها تظهر للعيان، ولا تخفى على الرائي العادي آثارها، وسكرة تأتي من أسباب أخرى إنما يرى آثارها أهل البصائر.
ولنقرأ نصوصا هادية في النوع الثاني من السكر الذي يحول بين المرء وبين أن يرى ربه، وبين ان يرى ذاته، وبين ان يفكر في مصيره، وبين ان يشعر بقيمة انسانيته:
قال تعالى {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ}(2) لا رؤية، لا سمع، لا بصر، لا شعور بقيمة الذات، لا شعور بقيمة الحياة، لا تفكير في المصير، لا معرفة لأكبر الحقائق وأولها: حقيقة الله تبارك وتعالى. هكذا يفعل السكر المعنوي، وغير المرئي لكثير من الناس.
عن امير المؤمنين(ع):”السكر أربع سكرات، سكر الشراب وسكر المال وسكر النوم وسكر الملك”(3) فالشراب يسكر وسكره الخبيث، وسكره المسقط لقيمة الانسان ليس أكبر سكر، وإنما هناك سكر اكبر قد يكون هذا السكر مقدمة له. فسكر الخمر يجرّ إلى نسيان الله، إلى نسيان الحق، الى الصدود عن الحق. وسكر المال، المال يسكر، المال يصرف عن الاشتغال بالهموم الكبرى، المال يصدّ عن ذكر الله. الاشتغال بالمال، شوق المال، الاندغام في المال، الحب المجنون للمال يعطل من الانسان شعوره الكبير، ويعطل من الانسان تفكيره المنفتح. وسكر النوم، وسكر الملك، وإذا كان للمال سكر عظيم فإن الملك سكره أكبر لأن الملك فيه مال، وفيه شهرة، وفيه سيطرة وسلطان، وهو يثير الغرور ويصحبه الاستكبار والاستعلاء ويحدث جنونا وبطرا حتى لتجد الملوك يستخّفون بالملايين، وحتى لينسى الملوك عظمة الله عزوجل، وتتفرعن في داخلهم مشاعر الذات حتى يحكمهم الوهم والخيال؛ خيالُ أنهم أرباب من دون الله.
“ينبغي للعاقل ان يحترس سكر المال وسكر العلم، وسكر القدرة وسكر المدح وسكر الشباب فإن لكل واحد من ذلك ريحا خبيثة تسلب العقل وتسخف الوقار”(4) هكذا تضع حكمة أمير المؤمنين(ع) وبصيرته الكبرى أصابعنا على أماكن الداء من نفوسنا. هكذا تعطينا الكلمة عنه (ع) بصيرة واسعة وتجعلنا نغوص في داخل ذواتنا لنتعرف على مواقع السقوط ومواقع الضعف التي نخسر من خلالها انسانيتنا وحاضرنا ومستقبلنا.
سكرالعلم
العلم هذا الأمر الشريف حين نقف معه، حين يكون حاجبا لنا عن الله عزوجل، حين نصاب بالغرور من خلاله، حين يتخيل لنا اننا أكبر من أن ننصح، أكبر من ان نخضع لأوامر الله ونواهيه، أكبر من أن نسمع من نبي او رسول فهذا سكر يحدثه العلم، وسكر العلم من أكبر السكر.
سكر القدرة
الضعيف ربما الفته ضعفه ضعفه الخارجي او ضعف بدنه، ضعفه في ماله الى ضعفه الذاتي وهو ضعف الإمكان.
ضعف الامكان
الضعف الكبير فينا هو ضعف الامكان، وضعف الامكان يعني أنني لا املك لنفسي نفعا ولا ضرا ولا حياة ولا نشورا، أن وجودي وحياتي وأثري كله بيد غيري وأنا لا شيء. وعليّ أن التفت أني لا شيء على الاطلاق إلا بالله تبارك وتعالى، ومن التفت إلى أنه لا شيء على الاطلاق إلا بالله لم يصبه الغرور وكان على الطريق الصحيح. هذا الأمر أمر الالتفات الى ضعف الذات الاصل، والى ضعف الامكان يخسره الانسان بالقدرة الظاهرية، هذه القدرة التي لا يملك من امرها شيئا وإنما هي عارية بيده، ولو توقف ارفاده في اي لحظة من اللحظات لما وجد من قدرته التي بيده شيئا.
المدح قتال
المدح يصيب الممدوح بالغرور، يخدعه عن نفسه، يريه أنه اكبر من واقعه بمرات، وكلما أسرف المداحون كلما قتلوا ممدوحهم لأنهم يوقعونه في الغرور والوهم والخيال حتى ليتوقف عن طلب الكمال لانه بلحاظ خياله ووهمه قد كمل.
سكر الشباب
الشباب فيه روح الانفعال،وروح الطيش، الشباب بما يعنيه من قوة، وبما يعنيه من طاقات كبيرة، وقلة في التجربة، قد يوقع في الخطأ الكثير. فلابد أن ترتبط قوة الشباب، وطاقة الشباب وعنفوان الشباب بتجربة الشيوخ وحكمة الشيوخ.
“فإن لكل واحد من ذلك ريحا خبيثة، تسلب العقل وتسخف الوقار”. هذه الحالات تسخّف الوقار، تسقط قيمة الانسان، تقزّم انسانية الانسان. هذا السكر يستدرج الانسان الى الاعمال الساقطة التي لا تتناسب مع مستوى انسانيته.
وحين يسلب الانسان العقل فقل لي بم يزيد على الحيوان؟ !!
عن رسول الله(ص) :” يابن مسعود احذر سكر الخطيئة فإن للخطيئة سكرا كسكر الشراب بل هي اشد سكرا منه، يقول الله تعالى{ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}”(5) فسكر الخطيئة، وسكر الذنب يسلب السمع، يحوّل أصحابه الى صمّ وبكم وعمي، يفقد هذا الانسان احساسه وشعوره العقلي، والقدرة على ادراك الحقائق الكبرى. الحيوان يرى الحسيات كما يراها الانسان، ولكن تعامل الانسان مع حقائق الحس يختلف بخلفية عقله المحلل وخلفية عقله المدرك والمستنبط عن حِس الحيوان الذي تبقى منفعته عند الحاجات القريبة.
هذه الطاقة التي يتشرف بها الانسان يخسرها حين تستحوذ عليه الخطيئة. الخطيئة قد تلذ وتستعسلها النفس وتنشد إليها، والخطيئة تعني بعدا عن الله، بعدا عن القيم، بعدا عن الحق، بعدا عن الشريعة. وكل خطوة تبتعد بنا عن شريعة الله عن هداه عن عقلنا عن الانشداد الى الله هي خطوة انفلات، هي خطوة سخف، هي خطوة تهبط بنا الى مستوى الحيوان.
أقرأ النصوص بسرعة:
“استعيذوا بالله من سكرة الغنى، فإن له سكرة بعيدة الافاقة”(6) الأغنياء يحتاجون الى حضور المساجد، الأغنياء يحتاجون الى سماع الموعظة، الأغنياء يحتاجون الى التفكر والتأمل فإن الغنى قد يصيبهم بسكرة مميتة لا ينجي منها إلا ذكر الله والتأمل في البدايات والنهايات لاكتساب البصائر.
“سكر الغفلة والغرور أبعد إفاقة من سكر الخمور” الخمر قد يفقد صاحبه عقله ساعة او اكثر من ساعة لكن الغفلة والغرور حيث يستحكمان في النفس ويترسخان فيها، السكر المترتب عليهما قد يكون سكر العمر كله.
في قوله تعالى:{اَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى}(7).
جاء التفسير عن الصادق(ع) وكأنه من التطبيق على احد مصاديق السكر بأن السكر الذي تعنيه الآية هو سكر النوم. تقول الرواية عنه (ع) “في قوله تعالى {اَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى} سكر النوم” فهذا أحد مصاديق السكر المنهي عن اقتراب الصلاة في حالة منه.
واضح جدا أن المصداق الأظهر والمصداق الأوضح في هذه الآية الكريمة هو السكر المترتب على الخمرة المعروفة وما ماثلها وقاربها، إلا أن النوم له سكر، والصلاة تعتمد على الحضور، وعلى النباهة، والتفاعل مع مضامين الصلاة، وأبعادها، ودروسها، وإضاءاتها وإيحاءاتها وهذا ما يفقد القدرة عليه النائم، ومن داعب النوم عينيه.
“من كثر نزاعه بالجهل دام عماه عن الحق، ومن زاغ ساءت عنده الحسنة وحسبنت عنده السيئة وسكر سكر الضلالة”(8).
لا تدخل في مراء، لا تجادل بغير الحق، اذا عرفت ضعف حجتك فاعترف بأن حجتك ضعيفة، اذا كان عليك ان تسلِّم في العقل بالمغلوبية فسلم بالمغلوبية. اصرارك على الموقف مع تبين بطلانه والاستمرار في الجدل عن غير حق يسبب العمى، يبتعد بالنفس عن هداها، يسقط من النفس قدرتها على الموضوعية، قدرتها على متابعة الحق، يخلق فيها حالة من العناد والمكابرة للحق والانصياع للباطل.
“ومن زاغ ساءت عنده الحسنة” الأصل في النفس وفي الفطرة التي خلق الله الناس عليها ان النفس تستحسن الحسنة، وتستسخف السيئة لكن الفطرة يمكن ان تغالط، ويمكن ان تعيش النفس حالة سطحية خطأً، بعيدة عن هدى الفطرة فتستسخف الحسنة، وتستحسن السيئة وذلك ما يفعله الزيغ عن الحق.
وتقول الكلمة أن سكر الضلالة سكر بعيد طويل المدى وبذلك تكون فيه خسارة العمر بالكامل.
اللهم صلّ وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولاخواننا المؤمنات والمؤمنين أجمعين. اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا، وأدم لنا يقظة الايمان وصحوة الهدى، وارزقنا نباهة العقل، ولا تصبنا بالغفلة، ولا تسلمنا للضلالة، ولا تسلبنا الذكر والمعرفة يارب يا كريم يا رحمن يا رحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}


الخطبة الثانية

الحمدلله الذي لا مذّل لمن أعزّ، ولا معزّ لم أذلّ، ولا خافض لمن رفع، ولا رافع لمن خفض، ولا هازم لمن نصر، ولا ناصر لمن هزم، لا محيي غيره ، ولا باعث سواه بعد الموت، بيده الأمر كله، وهو على كل شيء قدير.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاما.
أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، وأن لا نشتري مرضاة المخلوقين بمرضاته، ولا نتقي غضبهم بغضبه، ولا نُخدع بوعدهم عن وعده، ولا يشغلنا وعيدهم عن وعيده، فلا يستوي مالك ومملوك، ولا ربّ ومربوب، ولا غنيّ وفقير، ولا قاهر ومقهور.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين وتب علينا انك انت التواب الرحيم، واجعل تعظيمنا لك، وتوكلنا عليك، وطمعنا فيك، وخوفنا منك، وقصدنا إليك، فإنك الإله الحق ولا إله سواك، ولا حول ولا قوة الا بك.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهاديين المعصومين، الحسن بن علي الزكي والحسين بن علي الشهيد وعلي بن الحسين زين العابدين ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق وموسى بن جعفر الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد بن علي الجواد وعلي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري ومحمد بن الحسن القائم المنتظر المهدي.
اللهم عجل فرج وليك القائم المنتظر وحفّه بملائكتك المقربين وأيده بروح القدس يارب العالمين واجعلنا من أنصاره في غيبته وحضوره.
عبدك وابن عبديك الموالي له ولدولته والفقهاء العدول والعلماء الصلحاء والمجاهدين الغيارى والمؤمنين والمؤمنات اجمعين وفقهم لمراضيك وسدد خطاهم على طريقك وادرأ عنهم يا كريم.
أما بعد أيها الأخوة والأخوات الأعزاء فمع هذه الكلمات:
غضب لله:
ما ارتكبته قناة الجزيرة من تعدِ على مقام المرجعية الاسلامية وتطاول جريء بذيء على سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني حفظه الله وأعزه هو تعدِ وتطاول على الاسلام ومقدساته من إيمان وعلم وتقوى، وهو اضرار بالدين وتحدِ للامة واستخفاف بكرامتها. والأمة التي يهون عليها ذلك هي أمة ميتة، والسكوت على هذه الانتهاكات يطمع كل ساقط بالتعدي والتطاول على مقدساتها وكرامتها ويذهب كل ما لها من حرمة ، والغضب للمرجعية الاسلامية غضب لله، ومن لم يغضب لله هان على الله أمره، واستحق منه غضبه.
وكل الأمم تغضب لمقدراتها، وليس من مقدرات الأمم ما هو بوزن مقدرات هذه الأمة مما خالفها، والذين يريدون ان يطبِّعوا الأمة على شتم دينها ومرجعيتها وعلمائها لابدّ أن تخيّب ظنهم الأمة، وتثبت لهم حضورها وفعاليتها واعتزازها بذاتها، ودينها ومرجعيتها وأنها لن تخذل الاسلام وهو خيارها الأكبر في الحياة في أي يوم من الأيام.
والمرجعية الاسلامية كما هو الاسلام لا تعرف الحدود، ولا تؤطرها المواضعات الأرضية، وقصدها بالإهانة ليس قصدا بذلك لذاتها وإنما المقصود المبدأ والقضية والانتماء والهوية . والقضية والهوية لنا جميعا وتعنينا جميعا.
أمتنا لم يصبها الخدر، ولم تنس ذاتها الايمانية، ولم يرخص عليها دينها، ولا تفتقد الشعور بالكرامة ولا تستسيغ الهوان ولا تؤمن بالتقاعد فلماذا كل هذا التعدي؟! ولماذا كل هذا العدوان؟! والعقلانية عندنا لا تعني الموت، ولا تعني الذوبان واستعسال المهانة، ولا تعني الركوع لغير الله والهروب عن المواجهة التي يفرضها الدين، ويفرضها العقل، وتفرضها الحياة وتفرضها الكرامة.
وإنما توجه الإهانة للمرجعية في الكثير لا جهلا وسذاجة، وإنما لمواقفها المخلصة من قضايا، الأمة ولتضايق أعداء الأمة من هذه المواقف المنتصرة لدينها وعزتها وكرامتها ومصلحتها مما يفرض على الامة نفسها أن تخلص للمرجعية، وتقف معها اخلاصا لدينها، ووقوفاً جديّا فاعلا مع قضيتها وأن ترد عدوان المعتدين على المعتدين.
فعلينا أن نقول الكلمة القوية الصريحة الصارخة المنكرة الرافضة لأساليب الاستفزاز، والكلمات البذيئة والتعديات السافرة السخيفة في وجه هذا الاستهداف الرخيص القذر لمقام المرجعية الكبير والذي ارتكبته قناة الجزيرة أو قد ترتكبه أي قناة أخرى.
الحرية الانسانية:
اسلاميا لاحرية لأحد أمام الله. الله هو الخالق، هو المدبر، هو الرازق، هو المالك من كل احد كلَّ ذرة من وجوده، وكل حركة من حركاته، وكل أثر من آثاره حتى أنك لتقول حقّا بكل إيمان لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أنت الذي لا تملك من نفسك أمام قدرة الله شيئا، وأنت الذي لا تستقل بشيء من وجودك وحياتك في شيء.
أنت الذي كلك من الله، وكلك بالله، أنت الذي يتدفق عليك وجودك آنا بعد آن من فيض الله عزوجل ، أتستكبر على ان تمتثل لأمر الله ونهيه؟! أليس من مقتضى العقل الواضح أن مالك الوجود يتصرف في ملكه، فأنت المملوك بكلك لله أليس من حق الله في العقل أن يتصرف فيك بامر ونهي؟ إنه لا حرية أمام الله لأحد على الإطلاق، لا في صلاة ولا في صوم ولا في سياسة ولا في اجتماع ولا اقتصاد ولا أي شيء آخر.
الذين يطلبون التحرر من شريعة الله عليهم أن يطلبوا الانفصال عن قدرة الله فيحيوا بغير قدرته ويقوموا ويقعدوا، ويفكروا من غير مدده.
بعد الله لا سيادة لأحد على أحد لا تكوينا ولا تشريعا. ليس لملك ولا نبي ولا رسول حق التشريع وحق الأمر والنهي والطاعة في الأصل على الاطلاق.
حين ننظر الى الملك في نفسه، حين ننظر إلى الرسول في نفسه وبما هو بشر، لا نعطيه حق الأمر والنهي، ولا نعترف له بحق الطاعة على الاطلاق.
وكما لا سيادة لأحد على أحد بعد الله لا تكويناً ولا تشريعا، فليس من حق أحد ان يعطي من نفسه العبودية مختارا لأحد، وإذا كانت العبودية عبودية الداخل فإن أحدا لا يملكها منك إلا بأن تملكه انت من نفسك. وليس لأحد من الناس على الاطلاق ان يذلّ في داخله، أن يعترف بحق الطاعة لأحد من غير الله سبحانه وتعالى مفصولا ذلك عن أمر الله وإذنه.
ولا نقول بالحرية المطلقة للانسان، لأن القول بالحرية المطلقة للانسان ولو في اتجاه غير الله يساوي نتيجة خطرة، هذه النتيجة هي حق التصرف المطلق في الغير. لو قلت لنفسي بأني حرّ بالنسبة لعلاقتي بالأخرين لكان معنى ذلك أن لي حق التصرف المطلق في الآخرين وهذا خطأ. ففي الوقت الذي يحرم عليك ان تعطي من نفسك العبودية لأحد، فإنه ليست لك الحرية المطلقة في اتجاه الآخرين من خلق الله.
ما معنى هذه المقولة التي تتردد على ألسن الكثيرين بوضوح وبدون وضوح، وهي مقولة(( لا وصاية))؟ ومعنى وصابة الرأي والكلمة وجوب الطاعة.
حين تنفى الوصاية فمعنى ذلك نفي وجوب الطاعة من أحد لأحد، إلا أن هذا الأمر خطأ، فليس في الاسلام نفي مطلق للوصاية. قبل أن نبين هذا الوجه، هناك احترام خُلقُي يجب ان لا نخلطه بأمر الوصاية ثبتت أو لم تثبت، وهناك التقدير العقلائي للخبرة والاختصاص وهذا أمر آخر أيضا يجب أن لا نخلطه بقضية الوصاية وعدم الوصاية.
أما الوصاية بمعنى وجوب الطاعة بالذات لأحد من خلق الله فهو أمرٌ منفي بكل وضوح في الاسلام كما سبق. فليس لملك ولا رسول أن يطاع من غير إذن الله، وبالنظر الى ذاته فحسب. أما الوصاية بمعنى صحة الامر والنهي ووجوب طاعة هذا الامر والنهي اذا كانت هذه الوصاية بالغير فالمنكرلها منكر لأبده البديهيات في الاسلام. فإن علينا ان نطيع رسول الله(ص) وهو أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وإنكار الطاعة لرسول الله(ص) إنكار لأساسية كبرى من أساسيات الاسلام لا يسلم مع إنكارها الاسلام لأحد على الاطلاق.
وهناك طاعة لعلي(ع) وأبنائه المعصومين عليهم السلام باعتبارهم أئمة من الله، وكلما أمر الله بطاعة أحد وجبت طاعته. فطاعتك لوالديك في الحدود الشرعية واجبة بلا إشكال. هذه الطاعة الثابتة لرسول الله(ص) الثابتة للأئمة المعصومين من بعده إذا ثبت شيء منها لفقهاء الأمة كانت الوصاية بمعنى وجوب الطاعة أمرا دينيا لا مفر منه.
إنك تطيع الفقيه تشريعا في أخذك الفتوى منه، وحين يتحدد في فكرك ونفسك ان عليك تقليد فلان تكون فتوى فلان ملزمة لك ويجب عليك طاعته وانكار ذلك فيه ما فيه من تجاوز للاسلام. فتبين لك أن إنكار الوصاية على الإطلاق ليس من الاسلام في شيء. تجب طاعة رسول الله، تجب طاعة الأئمة المعصومين، تجب طاعة الفقهاء في الحدود التي ثبت الأمر الشرعي من المعصومين عليهم السلام بطاعتهم.
بين الوحدة والشتات:
دين التوحيد ينظر للانسان بما هو نوع واحد ويستهدف توحيده على خط الله، والدين الحق وحده من بين كل الأطروحات هو القادر على ان يلاقي بين المصالح الفردية والفئوية والوطنية والقومية والانسانية النوعية ولا متسع لشرح الأمر. على طريق ذلك نحن نجد أن طلب القوة في الاسلام لا يكون بسلب الغير واستضعافه، وأن قوة الفرد يوظفها الاسلام على طريق قوة الفئة، وقوة الفئة على طريق قوة الوطن، وقوة الوطن على طريق قوة الامة، وقوة الامة على طريق قوة الانسانية. لو راجعنا الاسلام مراجعة دقيقة لوجدنا أنه يدفع بالأفراد الى طلب القوة لا على حساب الآخرين ولا مفصولا عن مصلحة الآخرين ودعم قوتهم.
ثم إذا كان الاسلام يمحور كل حركة الانسانية حول محور التوحيد فإنه اذا تمحورت كل الحركة حول المحور الواحد الصحيح فلابد أن ينتج ذلك اتحاد الناس المنشدين إلى ذلك المحور.
وكما يمنع الاسلام حالة الشتات يمنع حالة التمحور والتوحد على الباطل، وأنه لا تعاون على شر او خطأ “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا” اعتصام بما به الاعتصام من الخطأ والجهل والطلم ولا اعتصام الا بحبل الله. يطلب بعضنا من البعض الاتحاد ولكن يسبق كل ذلك سؤال : الاتحاد على ماذا؟ الاتحاد على أطروحة غربية؟ على أطروحة شرقية؟ أو ان الاتحاد الحق، الاتحاد المطلوب هوالاتحاد الذي يعني الاعتصام بحبل الله؟
فلنتعلم أن الاتحاد دائما يطلب بأن يكون بالاعتصام بحبل الله، ولنتعلم ان ألا نغالط من قبل الاخرين بطلب الاتحاد بشكل مطلق.
والآية الكريمة الأخرى في شطر منها تقول “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان” إذن نحن أمام مطلب ديني واضح وهو أن نتحد ويكون هذا الاتحاد خاضعا لرؤى الدين وأحكام الشريعة. ولا اتحاد على الاطلاق على ما فيه منافاة الدين وأحكام الشريعة.
فكل صوت وكل راية تدعو الى الالتفاف بها، على المسلم ان يتحقق من أمرها، أهي راية تخضع لشريعة الله، وتقدر أحكامه، وتعترف بالعبودية له أو تتنكر لشيء من ذلك. وإذا أراد ان يبقى على خط اسلامه فلا يتبعنّ أحدا من غير إذن الله علىالاطلاق.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى وعلى آله الاخيار الاطهار واغفر لنا ولاخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين. اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعزّ بها الاسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة الى طاعتك، والقادة الى سبيلك يا كريم.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذّكرون}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 8/ آل عمران.
2 الحجر 72
3 ميزان الحكمة جزء4 ص495
4 ميزان الحكمة الجزء4 ص495
5 ميزان الحكمة الجزء الرابع ص495
6 ميزان الحكمة الجزء الرابع ص495
7 – 43/ النساء.
8 ميزان الحكمة الجزء الرابع ص495

 

زر الذهاب إلى الأعلى