خطبة عيد الفطر المبارك 1 شوال 1426هـ – 04 نوفمبر 2005م
مواضيع الخطبة :
يوم العيد منزّه عن اللعب واللهو وما ابتدعه المبطلون مما ينافي قدر هذا اليوم وشأنه عند الله، وما يعنيه من الاحتفال العبادي لاجتياز الامتحان بالتكليف، في شهر ربيع الروح وموسم العبادة. ويوم يصل فيه المكلف العبادة في يوم فطره بالعبادة في يوم صومه، ليؤكد أن العمر كله لعبادة الله وطاعته والعروج في مراقي الكمال الذي دعا إليه على طريق ولايته.
الخطبة الأولى
الحمدلله الذي إليه مردّ العباد، وعليه حسابهم، وبيده جزاؤهم، لا يفرون من قدره، ولا يجدون مأوى من غيره.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يخرج صاحب طاعة من شكره، ولا ييأس مقصر من رحمته، وكل طامع في عفوه. وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أيّده بتأييده وأعزّه بعزّه، ونصره بنصره، ورفع قدره، وأعلى شأنه صلى الله عليه وآله البررة الكرام وسلّم تسليما كثيرا.
عباد الله، التقوى التقوى، فما ربح إلا من اتقى، وقد خسر من تكبّر وطغى، ونسي حقّ العلي الأعلى. ولنطلب العزّ من طاعة الله، وكل عزّ كاذب في غير طاعته منقلب ذلاً مخزيا طويلا، وهوانا ساحقاً مقيما. والعزّ الصادق الذي يحمي من التضعضع لذوي المال والسلطان وكل جبار متكبر طاغ، لا يعرفه بحق إلا متذلل لله خاشع له.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على خاتم أنبيائك ورسلك محمد الصادق الأمين وآله الطاهرين.
وما جعلت لنا من عزّ ظاهر في الناس فاجعل لنا معه ذلة باطنة لعظمتك، ومعرفة عالية بجلالك وجمالك، وخضوعا صادقا بأمرك ونهيك، وشعوراً عميقا بالغا راسخا شاملا بكامل عبوديتنا لك.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا ومن كان له حق خاص علينا من مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
اخواني المؤمنين والمؤمنات، إنه ما رخّص الله سبحانه لمؤمن أن يذل نفسه، أما ذلته بين يدي ربّه فهي عين العزة والكرامة والرفعة التي يطلبها بطبعه، وما لأحد طريق غير الذل لله يسلكه طلبا للعزة الصادقة التي لا سبيل لها من عند غير الله القوي العزيز الملك الحق المبين.
وفي الحديث عن الصادق(ع) إن الله تبارك وتعالى فوّض إلى المؤمن كل شيء إلا إذلال نفسه فإنه ليس له، ليس لمؤمن أن يذلّ نفسه. وإن أيّ معصية فيها بعد عن الله، وكل بعد عنه سبحانه وهو انفصال عن مصدر العز والقوة والحق وهن وضعف وذل. وكل تواضع بين يدي غيره لا يرجع إلى الذل لعزته وعظمته معصية مبعدة عنه، وهوان للنفس وسحق لكرامتها وظلم لا يجوز من صاحبها لها.
ولإذلال النفس طرق كلها مجافية لما عليه المنهج الحق والتشريع الحكيم، ومما جاء عن الصادق(ع):” لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، قيل له: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض لما لا يطيق فيذلها” فمن أصرّ مثلا على موقع لا يحمل كفاءته الفكرية أو النفسية أو العملية مما يضطره للتراجع المحرج والفشل الفاضح يكون مخطئا في حق نفسه وظالما لها بهذا النوع من الإذلال. والدخول فيما يعتذر منه، ويسجل على المرء خطأ وينال من موقعيته إذلال للنفس وخدش لكرامتها ينبغي التحرز منه من كلام متسرع أو فعل غير مناسب
مثلا.
فعن المفضل قال: قال الصادق(ع):” لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه، قلت: بم يذلّ نفسه؟ قال: يدخل فيما يعتذر منه” وما أثقل الذل على نفوس الكرام، وما أكثر قليله، وأشدّ ضئيله، وأوجع خفيفه في قلوبهم.
فعن نفس كبيرة بالله عزيزة بطاعته والذل بين يديه هي نفس علي(ع) ” ساعة ذلّ لا تفي بعزّ الدهر” وفي البيان قلب واضح والمقصود أنما تعقبه ساعة الذل من ألم في نفس العزيز لا تعدله عزة الدهر الكاذبة التي تغري صغار النفوس لو كانت هذه العزة الطويلة الأمد ثمنا لتلك الساعة من الذل والانسحاق أمام من ليس بأهل.
وساعة الذل للخلق والتمرغ في تراب المذلة بين أيديهم تسلب من النفس ما يؤهلها لقرب الله، تبعد بالنفس عن الله مسافات، وليس للبعد عن الله شبرا واحدا ثمن من الدنيا كلها.
وقريبا من هذا المعنى عليه السلام” اكرم نفسك عن دنيّة وإن ساقتك الى الرغائب، فإنك لن تعتاض بما تبذل من دينك وعرضك بثمن وإن جلّ” – وإن كبر-
فالتمرغ في تراب الذل بين يدي صاحب مال أو جاه أو سلطان مما يغضب الله عزوجل من أجل الحياة خسارة، خسارة دين وشرف وكرامة لا يعوضها مال، وثلمة في النفس لا يجبرها شيء، وجرح غائر في أعماق عزتها لا يمكن أن يقوم له ثمنا غنى ولا منصب ولا لذة ومتعة.
ولنربّ النفوس على أدب هذه الكلمة عنه(ع) ورفعتها وجمالها وروعتها وعزتها حيث تقول” المنية ولا الدنيّة، والتقلل ولا التوسل” فأن يموت انسان عزيزا متصل القلب بالله خير من أن يأتي دنيّة تغضب الله سبحانه، أو يدخل في ذلة لا يأذن بها آخذا في نظره مقاييس الدين وتعاليم الشريعة. وأن يعيش المرء حياة الشحّ والقلة المحتمل لمعاناة خير له من أن يقدم على ذلة السؤال ويبذل ماء وجهه بالتوسل. والمؤمن يقدم دائما كرامته وشرفه على مشتهيات الدنيا ولذائذها. وإذا دار الأمر بين أن تضيق حياته المادية أو يقدم على موقف يخرجه من دينه أو يثلم شرفه أو يهون بين الناس صبر على الضيق، ولم تأخذ به مثل هذه الحاجة إلى أن يخسر عزته. وهوان النفس يسقطها في الرذائل، ويجعلها مظنة السوء، فلا يطمئن لها ولا يوثق بها فعن الإمام الهادي(ع):” من هانت عليه نفسه فلا تأمن شره”.
نعم إن هوانها وحقارتها تجرها إلى السرقة والخيانة وارتكاب السوء حيث يفقدها هوانها الحصانة المترتبة على الشعور بالعزة والعصمة التي ينبتها الاحساس بالكرامة. كلما احسست بكرامة النفس كلما اعتصمت عن الرذائل، كلما عصمك ذلك عن الرذائل. وكلما هانت على أحدنا نفسه كلما انسحقت أمام المغريات وأمام المخاوف، وكلما جرتها مطامعها الدنيّة إلى أن تبيع ذاتها بثمن رخيص.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم .
اللهم ارزقنا التذلل بين يديك، والاستكانة عند ذكرك، والخضوع لعزتك، والكرامة في خلقك، وعزة الايمان في عبادك. اللهم بارك لنا عيدنا الذي شرّعته لنا، واجعله يوم طاعة وتقوى، ومنطلق خير
دائم وبركات كثيرة. يارحمن يارحيم ياكريم.
بسم الله الرحمن الرحيم
” والعصر* إن الانسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر”
الخطبة الثانية
الحمد لله له الكبرياء والعزة والعظمة والجبروت، وله النعماء والآلاء وهو الرؤوف الرحيم، الذي عمّت رحمته كل شيء، وشمل عفوه كل شيء. مضت الأشياء على إرادته، وانساقت مقهورة على طريق مشيئته، وانقادت ذليلة لعظمته، وشهدت ناطقة بقدرته ولطفه وحكمته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا.
عباد الله، علينا بتقوى الله فإنها خلق الصالحين، وطريق عروج النبيين والمرسلين والصديقين، وإنها لتهون على أهلها مصاعب الدنيا، وتمهد لهم سبيل الآخرة، وتقيهم مخاوفها، وتؤهلهم لكرامتها. وإن أمامنا الموت الذي لابدّ منه، وما خوفنا منه إلا من تباعدنا عن الله، ومن اطاع ربه هان عليه يوم موته.
وإن في الاستعداد للموت بإصلاح الذات وتنقية القلب وملازمة الطاعة ومجانبة المعصية والاشتغال بذكر الله لعقلا كبيرا، واختيارا رشيدا وحكمة صائبة.
سئل النبي(ص) في الخبر:” أيّ المؤمنين أكيس؟- أفطن أفهم أذكى الذكاء العملي وأيهم الأرشد في الاختيار- قال: أكثرهم ذكرا للموت، وأشدهم له استعدادا”
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، واجعل حياتنا خير حياة، ومماتنا خير ممات، ومبعثنا خير مبعث، والطف بنا يا كريم يا رحيم.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على خاتم أنبيائك ورسلك، محمد الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء والصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين، الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد وعلي بن الحسين زين العابدين ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق وموسى بن جعفر الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد بن علي الجواد وعلي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري ومحمد بن الحسن القائم المنتظر المهدي.
اللهم عجل فرج ولينا القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يا ربّ العالمين.
عبدك وابن عبديك الموالي له الممهد لدولته والفقهاء العدول والعلماء الصلحاء والمجاهدين الغيارى والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفّقهم لمراضك وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات الأعزاء فهذا يوم عيد لأهل ولاية الله وطاعته، وهو يوم شكر على توفيق الطاعة والبعد عن المعصية والانتصار على النفس والشيطان. وما كان ذلك ليكون لولا عناية الله ورأفته وتوفيقه وتسديده. وإنه ليوم شكر وطاعة واشتغال بسنن كريمة ومستحبات مربية، ويوم كتب فيه على القادرين زكاة الفطرة فريضة شرعية لابدّ منها وقدرها صاع من طعام له أحكام فقهية معينة لابدّ من مراعاتها. صاع يخرجه المكلف عن نفسه وعمن يعوله من ذكر أو أنثى أو كبير أو صغير.
ويوم العيد منزّه عن اللعب واللهو وما ابتدعه المبطلون مما ينافي قدر هذا اليوم وشأنه عند الله، وما يعنيه من الاحتفال العبادي لاجتياز الامتحان بالتكليف، في شهر ربيع الروح وموسم العبادة. ويوم يصل فيه المكلف العبادة في يوم فطره بالعبادة في يوم صومه، ليؤكد أن العمر كله لعبادة الله وطاعته والعروج في مراقي الكمال الذي دعا إليه على طريق ولايته.
والمؤمن لابدّ أن يفرق بين عيد سنّه الله لأهل ولايته وطاعته كعيدكم هذا، وعيد سوّل به الشيطان وبطانته لأهل عداوة الله ومعصيته. فعن الرسول(ص):” قدمت المدينة ولأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية وإن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما، يوم الفطر ويوم النحر” وفي حديث سويد بن غفلة عن أمير المؤمنين(ع):” .. إنما هذا عيد من غفر له” وعنه (ع) أنه قال في بعض الأعياد:” إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وشكر قيامه، وكل يوم لا تعصي الله فيه فهو يوم عيد” هذا عيد المؤمنين، صار عيدا لأنك لم تعص الله في فرض الصوم الذي كتبه عليك في شهر رمضان، وقد وفقك الله لأداء التكليف، لهذا تفرح، لأنك انتصرت على الشيطان، لأن روحك كانت يقظة، لأن الله عزوجل قد رأف بك ونجاك من النار. ” إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وشكر قيامه وكل يوم لا تعصي الله الله فيه فهو يوم عيد” فمع الشكر على توفيق الطاعة في هذا اليوم الكريم لابد من الاستغفار عن التقصير. صحيح أننا صمنا ولكن هل وفّينا حق الصوم؟ ليس لأحد أن يقول بأنه قد فعل ذلك. فلابدّ من الاستغفار عن التقصير.
فمع الشكر على توفيق الطاعة في هذا اليوم الكريم لابد من الاستغفار عن التقصير وطلب العفو عن الاهمال والكسل والفترة والزلة والهفوة والعثرة.
ربنا اغفر لنا ولمن سبقنا بالإيمان ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين أحياء وأمواتا واحملنا على عفوك ولا تحملنا على عدلك وانصر المسلمين والمؤمنين على الكافرين والمنافقين واكفنا أذى الظالمين والجاهلين، واجعلنا في عباد الصالحين الفائزين الراضين المرضيين عندك يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
إن أصدق القول وأحسن الحديث قول الله العزيز الحكيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم
” إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكروالبغي يعظكم لعلكم تذكّرون”.