خطبة الجمعة (219) 8 شوال 1426هـ – 11 نوفمبر 2005م
مواضيع الخطبة:
حديث عن الكلام + المسيرة الإيمانية ليوم الأربعاء + المسألة الدستورية
نشكر الله سبحانه وتعالى شكراً لاينقطع أن وفّق هذا الشعب لموقف مجيد حميد في نصرة دينه، بما لم يكن يرتقبه البعض، أما نحن فكنّا مؤمنين بأن هذا موقف الشعب المؤمن ولو كان غير ذلك لدُهشنا وذُهلنا.
الشكر الحقيقي من الله، الشكر لكم أيها المؤمنون شكرا حقيقيا من الله سبحانه وتعالى، فأجزل لكم الثواب، وحفظ لكم عملكم هذا ليوم لايُغنيكم إلا العمل الصالح.
الخطبة الأولى
الحمدلله مسبِّب الأسباب ولاسببَ له، وحاكم الأسباب ولاحاكم له، ومدبِّر الأسباب ولامدبّر له، والمتصرّف في الأسباب، ولامتصرف في أمره، القاضي بالحقّ، الحاكم بالعدل وهو العليُّ العظيم.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله، واغتنام أيام المهلة في إصلاح النفس، وتطهير القلب، وتزكية الروح، والتزوّد ليوم المعاد. ولنأخذ بما عن علي عليه السلام:”احذر أن يراك الله عند معصيته، ويفقدك عند طاعته، فتكون من الخاسرين”، وإنّ أخسرنا أظلمُنا، والظلمُ أن يُعصى الله، والعدلُ أن يُطاع.
أعاذنا الله وإخواننا المؤمنين والمؤمنات من معصيته، ووفّقنا برحمته لطاعته، وغفر الله لنا ولهم ولوالدينا وأرحامنا ومن يعنينا أمره ومن كان له حقٌّ خاصٌّ علينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وصلّى الله على البشير النذير، والسراج المنير محمد بن عبدالله وآله الطاهرين.
حديث عن الكلام:
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات فهذا حديث عن الكلام نستضيء فيه بنصوص من كتاب الله والحديث عن المعصومين عليهم السلام: إن لله على هذا الإنسان لنِعماً لاتحصى، وآلاءً لاتُعد. وماوصل الإنسان إليه من نِعَم الله بعلمه فهو الشيء القليل، ومهما امتدّ النظر، واتسعت الفكرة وكان الاستقصاء لنعم الله فإن أحدا لايأتي على جميع نعمه.
من نعم الله عزّ وجل نعمة البيان التي تُمثّل ترجمان الإنسان في أمر دينه ودنياه، وماكانت لتنبنى هذه الحضارة الشاهقة في الكثير من الأنحاء لولا نعمة البيان:{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ…}(1).
ولو لم تكن من نعمة لله عزّ وجل على هذا الإنسان بعد خلقه إلا هذه النعمة لكفى أن يبقى ساجدا لله طوال حياته. ولكن الإنسان كفور.
لولا البيان لانحبست الأفكار في الأذهان، وانقطعت تجارب الفكر والعمل لكل جيل سابق عن لاحقه، فكان على كل جيل أن يبدأ حياته من الصفر. ولما كان تفاعل فكري بدرجة كبيرة في المقطع الزمني الواحد، ولضاعت المعارف والعلوم، وكُبتت المشاعر، ولم تتلاقح العقول، ولم يتيسّر بناء أمة، ولم يأخذ فاقد العقول ممايغنى به واجدها مايأخذه من الكثير عن طريق البيان.
دور خطير ورقابة مشدَّدة:
البيان كم له من دور خطير، وكم تمثل الكلمة من مسؤولية، وإنها في ميزان الله لشيء عظيم؛ يدلك على هذا الرقابة المشددة التي فرضها الله عز وجل على كل لفظ يلفظه هذا الإنسان.
{مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}(2).
ولولا أهمية الكلمة، ودورها الخطير، ومسؤوليتها الضخمة لما كانت هذه الرقابة المشدّدة التي لايفلت منها لفظ واحد من الكثير الذي نقوله ليلا ونهارا. وكم نقول، وكم نطلق للسان أن يتلّفظ بما يشتهي؟! والكلام في نظر الإسلام من العمل الذي يمثّل مسؤولية على عاتق صاحبه، والذي يشق طريقا لصاحبه للجنّة أو النّار.
وكما يبني العمل النفس ويهدمها فكذلك يبني القول النفس ويهدمها، وكما تأتي الأفعال على الحياة وتذهب بها، أو تحييها وتبعثها، فكذلك الكلمة قد تُميت الحياة، وقد تقيمها، وتُزهق النفوس أو تحييها.
نعم، إن الكلام من العمل، فتقول الكلمة عن الرسول (ص):”من لم يحسب كلامه من عمله كثرت خطاياه وحضر عذابه”(3). هذا الاستخفاف غير المسؤول بالكلمة، بدورها بفاعليتها، بما تحدثه في النفس، بما تحدثه في ساحة الحياة، بما تغيّره من موازين، بما تحدثه من انعطافات في تاريخ الشعوب وفي تاريخ الأمم؛ هذا الاستخفاف يقود إلى كوارث، ويستتبع عذاباً في الدنيا، ومشاكل قد لاتخرج منها المجتمعات في هذه الحياة، ويستتبع عذابا في الآخرة.
وإن الكلمة لكلمتان مابينهما مابين السماء والأرض وأبعد من ذلك:
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}(4).
كلمة ترقى بصاحبها، ترقى بأوضاع الحياة، تهدي، تُرشّد، تصلح. وكلمة أخرى تسقط بصاحبها من السماء إلى الأرض، وتهوي به إلى منحدر سحيق، تهوي بمكانته في الدنيا، وشرفه في الناس، وتهوي بمكانته في الآخرة حتى لاتستقر به إلا في النار.
كلمة الخير، بنِّية الخير طيّبة تصعد إلى الله عزّ وجل مقبولةً، مُجازاً عليها صاحبها جزاءً لايعلمه إلا الله. وكم من كلمة أنقذت أمة؟! قد تنقذ الكلمة نفسا واحدة، وقد تنقذ أمِّة كاملة، وكم من كلمة أحدثت فتنة في الناس أتت على أخضر الأرض ويابسها، وأتت على خلق كثيرين؟!
والكلمة أيها الأخوة والأخوات قد تغني عن حرب، وتسد أبواب السوء والدمار والخراب عن أمّة، وتئِد الفتنة التي لو اشتعلت لأحرقت مافي الأرض جميعاً. عن أمير المؤمنين عليه السلام”رُبَّ كلمة أنفذ من صَول”(5) جولة من الحرب لاتسترد حقّا، وكلمة حق في موضعها، في زمانها المناسب، ومكانها المناسب، وبالأسلوب المناسب قد تُحقّق مالا تحققِّه الحروب، ولو بكّر الناس دائما بكلمة الحق، والكلمة الآمرة بالمعروف، والناهية عن المنكر عند بدايات المنكر، وعند بدايات التخلف عن المعروف لسدوا أبوابا كثيرة من الشر، ولأعفوا أنفسهم من مضاعفات المنكر إذا استمر، ومما يكون عليهم من ثمن مكلف مرهق باهض في رفعه.
والكلمة قد تربك وضعاً، وتثير حرباً، وتُدمِّر أمة، وتزع ضغينة، وتبعث حقداً، وتقود إلى ثأر “رُبّ كلام كلّام” أي جرّاح. وجرح الكلمة قد يكون أبعد غوراً، وأشد فتكاً بالنفس، وأوجع خاصة للشرفاء من الجرح يصيب جارحة خارجية من الجوارح.
وقد أخطأ من حسب أنه لايدفع لكلامه عِوضاً، ولايتقاضى عنه ثمناً. إن لبعض الكلام ثمن مرهق يدفعه صاحبه، ولبعض الكلام ثمن لايستطيع صاحب الكلمة الخيّرة أن يتصوّره، ثمن عند الله، والأثمان من عند الله يصعب على الناس أن يقدّروها. عن علي عليه السلام:”كلامك محفوظ عليك(6)، مخلَّد في صحيفتك، فاجعله في ما يزلفك(7)”(8).
وعنه عليه السلام:”كثرة الهذر يُكسب العار” كلام غير موزون، كلام في غير موضعه، كلام بلا حساب دقيق، بلا موازنة.
وعن الرسول (ص):”إنّ الرَّجل ليدنو من الجنة حتّى مايكون بينه وبينها إلا قيد رمح(9) فيتكلم بالكلمة(10) فيتباعد منها أبعد من صنعاء”(11) مثال للمسافة البعيدة، رُوعي فيها ذهنية السامع في وقت الكلام.
وكثرة الكلام تعرّض للمزالق فعن علي عليه السلام:”إيّاك وكثرة الكلام فإنه يُكثر الزلل ويورث الملل” وهذا مشاهد عند من يضطرون للكلام الكثير حتى النافع. حتى المحاضرات والندوات وما إلى ذلك يصل الإنسان إلى درجة الملل والكلالة، فلايشتهي أن يتحدث. ويقول عليه السلام في المعنى نفسه:”الإكثار يُزِلّ الحكيم(12)، ويمل الحليم، فلاتكثر فتضجر، ولاتفرط فَتهُن”(13).
الإفراط في الكلام قد يسقط قيمة الكلمة.
وقبل أن يكون الكلام لفظاً فهو مستوى من الرؤية والفكر(14)، ونوع من الشعور، ولون من المحتوى الذي يتشكل منه واقع إنسانية الإنسان وحيوانيته وعلمه وجهله وإيمانه وكفره، وهداه وضلاله، وحكمته وسفهه، ورزانته وطيشه.
فمما جاء عن الإمام علي (ع):”مغرس الكلام القلب(15)، ومستودعه الفكر، ومقوّمه [يه – خ ل] العقل، ومبديه اللسان(16)، وجسمه الحروف، وروحه المعنى…”.
والمعاني التي ينقلها اللفظ هي مايكشف في الكثير عن داخل المتكلم وماتعتمل به نفسه، ومايُكنّه بين جوانحه.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم إنّا نسألك صلاح السريرة وحسن النيّة، وأطيب القول، وخيل العمل، وأرضى حياة، وأكرم خاتمة يامن بيده الأمر كله ياولي ياحميد ياكريم يارحيم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}
الخطبة الثانية
الحمدلله الكبير المتعال، ذي العزّ والجلال، والجود والنوال. لايمنع سائلَه، ولايُخيّب آملَه، لايقطع رجاءَ راجيه. ناصرٌ لمن استنصره، معزّ لمن تعزّز به، مذّل لمن تكبَّر عليه، قاهر لمن غالبه، قامعٌ لمن حاربه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة بتقوى الله، وعدم الركون إلى أعدائه وأعداء أوليائه، فإن من عادى الله لايُؤمَن، ولاتُبقي فيه عداوته لخالقه مظنّة خير، أو مبعث صدق، أو مصدر وثاقة. وموادَّة أعداء الله عداوة لله، والاقتراب منهم بُعدٌ عن الله، فلا يحتمل قلبٌ حبّاً لله وأعدائه، ولايُقرِّب الفعل الواحد من الله ومن أعدائه. ومن استغنى بأعداء الله عنه سبحانه فقد سفِه، ومن استغنى بالله أغناه وكفاه ووقاه وتولّى أمره بلطفه ورحمته.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، وكفّر عنّا سيئاتنا، وضاعف لنا حسناتنا، وأسعدنا في دنيانا وأخرانا، واصرف قلوبنا إليك، واجعل إرادتنا من إرادتك، واختيارنا من اختيارك، وهب لنا من لدنك رحمة وبركة وسلاماً.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن القائم المنتظر المهدي.
اللهم عجّل فرج ولي أمرنا القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقرّبين، وأيّده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، وسائر المؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الأخوة والأخوات في الإيمان فالحديث عن المسيرة الإيمانية ليوم الأربعاء ومايتصل بها، وعن المسألة الدستورية:-
المسيرة الإيمانية ليوم الأربعاء:
1. نشكر الله سبحانه وتعالى شكراً لاينقطع أن وفّق هذا الشعب لموقف مجيد حميد في نصرة دينه، بما لم يكن يرتقبه البعض، أما نحن فكنّا مؤمنين بأن هذا موقف الشعب المؤمن ولو كان غير ذلك لدُهشنا وذُهلنا.
الشكر الحقيقي من الله، الشكر لكم أيها المؤمنون شكرا حقيقيا من الله سبحانه وتعالى، فأجزل لكم الثواب، وحفظ لكم عملكم هذا في ليومٍ لايُغنيكم إلا العمل الصالح.
ومانملك نحن البشر إلا أن نتقدّم بالشكر الجزيل على المستوى الذي نستطيع، والذي قد لايسمن ولايغني شيئاً، ولكنه الواجب الذي يفرض علينا أن نُسجِّل شكرا جزيلا متصلاً لهذا الموقف الصادق الصامد الإيماني القوي، ولهذه الإرادة العملية التي ترجمت موقفكم الإيجابي النفسي وموقفكم الفكري الإيجابي النفسي من قضايا الإسلام وهمومه.
أنا لا أستكثر على المرأة حضورها المكثّف، ولا أريد أن أغريها بالكلمات، فإن لها من حب الله، وإن لها من الاعتزاز بالإسلام، وإن لها من شعورها بالمسؤولية، وإن لها من أصالتها الإيمانية، ومن انتمائها لفاطمة وزينب وخديجة مايكفي عن الإغراء بالكلام، ولكنها مشكورة كل الشكر.
2. واقع المسيرة:
كانت مسيرة هائلة، حاشدة، قوية رصينة، مباركة، منضبطة، تكشف عن مستوى متقدم لأهل الإيمان، وأهل الإيمان دائما أولى بالمستويات المتقدمة.
كانت للمسيرة رسالتان:
3. رسالة مباشرة: مفادها الإصرار الذي لايميل، ولايحيد، ولايضعف على بقاء أحكام الأسرة في الدائرة الشرعية لايمسّها التشريع الوضعي بكثير ولابقليل، وكان من رسالتها عدم التنازل والتسامح في الضمانات الكافية. هذه رسالة مباشرة.
4. والرسالة الأعم: أن هنا شعباً مؤمناً يحب الإسلام، يعشقه، يذوب فيه، يضحّي من أجله، يقدّمه على كل شيء في حياته وحتى على حياته.
هذه رسالة لاتبقى في دائرة الأحكام الأسرية وإنما هي رسالة تغطي كل الشأن الديني، وكل مساحة القضايا الدينية.
5. حقائق أكدتها المسيرة:-
أ. المسيرة قد قالت عن الجماهير المؤمنة وأكدّت ذلك، وثبّتت هذه الحقيقة: أننا مع الإسلام لا مع غيره. وأن خيارنا سيبقى دائماً إسلامياً(17).
ب. الرجل – المرأة – الشاب والشابة قد أحبطوا محاولات التشويه وأيأسوها. وقالوا للذين يحاولون تشويه الواقع والحقيقة الإيمانية التي يعيشها ضمير هذا المواطن، وحقيقة التمسّك بالشريعة التي يجادل فيها الآخرون وكل المحاولات العابثة أيأستها هذه المواقف الجاهرة الصريحة التي لم تنم عن حضور وقتي في مسيرة زمنية معيّنة، وإنما كانت رسالة مفتوحة على كل زمن، وعلى كل مكان، وعلى كل قضية تهم الإسلام. وقالت الجماهير: أن محاولاتكم في الابتعاد بالشابة والشاب عن الإسلام محاولات يائسة، وستكون دائما إن شاء الله على صخرة الوعي الإيماني، والتصميم الإيماني، والعزة الإيمانية فاشلة.
ج. قد فُضح الإعلام المُضلِّل، الذي كثيرا ماادّعى أن الغالبية مع قانون بلاضمانات كافية، وكان كثير الافتراء بدرجة أكبر على المرأة المؤمنة، وأنها تقف معه في خندقه المتغرّب، وفي خندقه المناهض للإسلام. وشكرا للمرأة وأي شكر، أنها صفعت هذا الإعلام صفعة قوية.
د. انكشاف القيمة الهزيلة للإعلام المضلِّل الذي يُظهر البلاد وكأنها تحولت فكرياً إلى بلاد غربية وأن الدين وعلماء الدين صاروا في عزلة تامّة.
ه. أظهرت الأمة ثقتها العالية المعهودة بعلمائها المخلصين الواعين. ولقد كان تاريخنا كلّه أن وقفة العلماء مع الأمة، وأن وقفة الأمة مع العلماء(18).
و. تضاعفت ثقة العلماء بجماهير الأمة المؤمنة وهي ثقة لم تُفقد في أي يوم من الأيام.
ز. ضاعف الموقف شعورَ العلماء بمسؤوليتهم الإسلامية الكبيرة أمام هذا الدّعم الجماهيري الواسع الصادق.
ح. أصبح من غير المناسب ولا النافع إهمال الحكومة الرأيَ العلمائي في الشأن العام وهو يُمثِّل هذا الثقل الشعبي الكبير ويُعبِّر عن رؤية الشعب وهمّه وطموحه وينال ثقته.
ط. سجّلت المسيرة أيضاً أن الخلافات العارضة هنا أو هناك لاتستطيع أن تحول دون التّوحّد بين المؤمنين في المنعطفات الخطيرة. وأن ضرب الإعلام على وتر هذه الخلافات وتضخيمها لن يجديَه كثيراً خاصة في مثل هذه المنعطفات.
وأمَّا الشاذ – على أي مستوى من المستويات – فله أن يبقى على شذوذه ولن يعطل المسيرة الرشيدة لعموم العلماء في أي مؤسسة وخارج هذه المؤسسة أو تلك المؤسسة، وللمؤمنين بتلاوينهم التي لاتختلف الاختلاف الخطير.
ي. أصبحت الحكومة بين خيارين: إما الاستجابة لإرادة الشعب الرافضة لاستصدار قانون للأحكام الأسرية بلاضمانات شرعية ودستورية، وإما مواجهة هذه الإرادة التي عبّرت عن نفسها بصراحة ليس فيها شيء من اللبس ولا الغموض، ولاتفيد في تأويلها كل الالتواءات، والادعاءات. الموقف الأول لو اختارته الحكومة لكان الموقف الطبيعي وفيه حكمة، ومصلحة للبلد، أما الخيار الثاني فهو الخيار الصعب المكلف للطرفين ويُدخِلُ الشعب في مفارقة طويلة المدى مع الحكومة وفي مقدمة الشعب العلماء في هذا المجال، والمفارقة لابد أن يصحبها صراع سياسي مرير.
أيها الأخوة والأخوات المؤمنون:
5. عطاء كثير بلااستكثار: لئن أعطيتم للإسلام فإن الإسلام دائما وأبدا يعطيكم أكثر مما تعطون، اعطوا الكثير الكثير للإسلام واستقلوا دائما ماتعطون. إذا كنت في موقفي أنظر لله فأنت في موقفك تنظر لله، وإذا كان مني موقف نصرة للدين فهو لله، وكذلك إذا كان منك موقف لنصرة الدين فهو لله. لاترتقب شكرا مني، ولا أرتقب شكرا منك فكلّنا عبيد لله وماتحرّكت من أجلك في الأساس، وماتحركت أنت من أجلي في الأساس، ماحركني من نداء الله هو الذي حركك، وماحركك من نداء الله هو الذي حرَّكني.
إذا كان أتباع الأحزاب غير الدينية، وأتباع الحكومات يتطلعون للأجر من رئاستهم فالمؤمن لايتطلع لأجر إلا من عند الله.
أي عالم تقدّرونه قد يموت، وقد يخون العالم، ولكن هل إذا خان العالم صح للأمة أن تخون دينها؟ وإذا قصر العالم هل تصح للأمة أن تقصر في حق دينها؟ صحيح على العلماء مسؤولية متميّزة ولكن الكل مسؤول.
ماذا سنعطي الإسلام؟ إذا أعطينا الإسلام مالاً، أو أعطيناه وقتا، أو فكرا، أو دما فإن أموالنا ودماءنا وأفكارنا لاتسلم إلا بالإسلام، وإن حياتنا لاتهنأ إلا بالإسلام، وإن إنسانيتنا لانتوفر عليها إلا بالإسلام، وإن عزتنا وكرامتنا لن نجدها إلا في ظل الإسلام، وإن نصرنا على العدو الأجنبي لن يتحقق إلا في ظل الإسلام(19).
يقول الله تبارك وتعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ….}(20) شُحٌّ في المال، شح في الأمن، شح في كل خير، هذا الشح لابد أن يرتفع لو طبقنا الإسلام، كلما تفقده الأرض اليوم من خير إنما فقدته لتغييب الإسلام، ولو كان الإسلام هو الحاضر في الساحة، ولو كان الإسلام هو الفاعل في الساحة، ولو كان الإسلام هو القائد في الساحة لفتح الله على الناس بركات السماء والأرض ولتحولت هذه الأرض أرض الإنسان كل إنسان إلى نمط من جنة الله الخالدة. فعطاء وعطاء ولكن لا استكثار أبدا على الإسلام.
أخوتي الكرام.. أخواتي الكريمات..
لو تعلّمنا كتاب العشرة في الإسلام، وأخذنا به في حياتنا العملية، ولو تأدّبت الأسر بأدب الإسلام، وعاشت همّ رسالته الكبير، ورؤيته الفسيحة لكادت المحاكم أن تُغلق أبوابها، أقولها وأنا واثق بل متيقّن.
وفي مرحلة التقاضي فإن قوانين الأرض لتخسأ أن تبلغ ماعليه قوانين السماء علماً وعدلاً وحكمة ورأفة وإحاطة بدقائق التكوين الإنساني، وشمولية في الرؤية لكل المتطلبات والمؤثّرات واستيعاب تفاصيلها.
6. نقرأ في بعض التعليقات الصحفيَّة الرسمية تصويراً أن المشكلة في قانون الأسرة هو الاختلاف بين العلماء على مسودة هذا القانون. وفي هذا تسطيح للمسألة وصرف للنظر عن مركز الاختلاف وكذلك طرفي الاختلاف.
إنا لانعير اهتماماً للنظر في المسودات قبل التأكُّد من الضمانات. قضيتنا قضية ضمانات، وليست قضية هذه المسودة أو تلك المسودة، وأن المسودة تصدر من هذه الجهة أو تصدر من تلك الجهة، ائتوني بمسودة إسلامية ناصعة من أمريكا، ائتوني بها من روسيا، وقد وافق عليه الفقيه الذي يرجع إليه النَّاس في تقليدهم سأقبلها.
7. هنا مفارقة: تُطالب المجتمعات الغربية وحكوماتها ملايين المسلمين من مواطنيها بالإندماج والذوبان في حضارة الغرب وقيمها وثقافتها وأنماط سلوكها والتنازل عن الهوية الإسلامية حتى في المأكل والملبس.
أمّا في البلدان الإسلامية فالمسلمون يُطالَبون من حكوماتهم والجماعات الموالية حضارياً للغرب بالذوبان في ثقافة الأجنبي وتشريعاته. أي مفارقة هذه!! كل ما نريد أن يطالب الآخرون باحترام حضارتنا، ولانقول بالذوبان فيها. نحن لانطالب أن تُكره الحكومات الآخرين ولايستبيح المسلمون المؤمنون لأنفسهم أن يرتكبوا طريقة الإكراه لهم في البلاد الإسلامية على الذوبان في حضارتها، ولكن كل مانطلبه هو احترام هذه الحضارة، أما أصحاب الحضارة الغربية فيطلبون من مواطنيهم المسلمين أن يتنازلوا عن الهوية الإسلامية.
8. مفارقة أخرى: قانون أحكام الأسرة الذي يريدونه بلاضمانات شرعية ودستورية يحترم الملل الأخرى من يهودية ونصرانية وبوذية لكنه يريد أن يسوق أهل المذاهب الإسلامية سوقاً إلى التسليم به. نحن مع احترام الآخرين، نحن مع عدم إكراه الآخرين على أن تُطبّق عليهم الأحكام الأسرية الشرعية لكن أليس من المفارقة الفاضحة أن يُعطى أصحاب الملل الأخرى وهم أقليات في هذا البلد حرية التديّن والتمذهب كما يريدون وحرية أن يطبقوا على أنفسهم الأحكام التي تفرضها مذاهبهم ودياناتهم بينما يُساق المسلمون، سوقا ويكرهون إكراها على أن يسلموا للأحكام العلمانية!! الله أكبر كم هي المفارقة!!!
9. أبواب الحوار الجاد الذي يقدّر العلماءُ جدواه من أكثر من بُعد لاأحد منهم يغلقها، ولكن لامساومة على الإطلاق على الثابت الديني وكذلك مايكفل حمايته.
وكيف لمن عرف نفسه عبداً مملوكاً لله في كل ذرة من ذرات وجوده أن يقيم نفسه وكيلاً فضولياً عن الله عزّ وجل ليتنازل عن شيء من دينه للآخرين؟!
10. لماذا التحرك السريع الواسع في مسألة أحكام الأسرة؟
أ. كل الملفات مهمة عندنا ولم يغفُل طرحها العلماء في كل المناسبات، ومسألة الدين مسألة حساسة جداً، وأحكام الأسرة ذات خصوصية متميزة شديدة الأهمية كما تعلمون.
ب. رأى العلماء أن يكون الاشتغال اليومي للملفات السياسية متروكاً للمؤسسات السياسية الإسلامية وقد تعضدها مؤسسات أخرى. على أنهم – أي العلماء – في تنسيق دائم مع من يمكنهم التنسيق معه في هذه الجمعيات، ولم ينسوا مسؤوليتهم بالنسبة لهذه الملفات على الإطلاق. أما في المنعطفات الخطيرة بالنسبة لهذه الملفات فسيكون العلماء في المقدّمة.
ج. في العادة لايوجد تحرّكٌ بالمستوى المطلوب في القضايا الدينية ذات الأهمية البالغة حتى من الجمعيات السياسية الإسلامية فلو تخلّف العلماء عن مسؤوليتهم في هذا المجال الذي يرتبط به مصير الأجيال كلها على مستوى الأمة بكاملها لضُيّع تضييعاً كاملاً، وغُيّب تغييبا شاملاً، ولارتكب الشعب كله خطأ لايغفر. واعلموا أن العمل في كل المسارات لايُصلح الوضع إذا ضيعت إذا ضاعت الأحكام الشرعية وقيم الرسالة.
د. الأحكام الأسرية قضية لازالت بيد الإسلام، ويُراد سلبها منه وكاد يكون ذلك في أيام، فكان لابد من تحرك سريع وواسع يدفع الخطر.
والقضايا الأخرى صارت تحت يد الحكم، واسترداد المسلوب قد يكون أصعب بكثير من حفظ الموجود. شيء في يدك يراد الآن أن ينهب، أنت أقدر على الاحتفاظ به من شيء قد تمّ نهبه ووضع في الخزانة.
11. تقول النسخة التي تحت يدي من الدستور العراقي الجديد في المادة الثالثة والتسعين:
– العراقيون أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية حسب دياناتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم ويُنظم ذلك بقانون.
واضح جدا أن القانون لأهل أي مذهب في مجال مذهبهم لايكون تحت تصرف غير أهل المذهب ولاتحت تصرف المثقفين العاديين، وأصحاب الاختصاصات المحترمة الأخرى ولاالعلماء من غير المرجعيات الفقهية من أهل المذهب. فالمادة تضع كل الأحوال الشخصية تحت يد أهل المذهب وفقهاء أهل المذهب.
هذا دستور عراقي متقدم على دستور البحرين بمسافات وأمكنه أن يدخل هذه المادة الدستورية فلينفضح القائلون بعكس ذلك.
ونستنج من هذا أكثر من شيء:
أ. انظر إلى أهمية الأحوال الشخصة في نظر كل الفرقاء في العراق، من هذا النصّ تعرف أهمية الأحوال الشخصية في نظر كل الفرقاء في العراق. لم يرجئوا المسألة إلى قانون، أكدوا على هذا الحق في الدستور ومنهم المرجعية الدينية في النجف الأشرف التي لم تكن بعيداً عن التأثير عل الدستور العراقي في مواده الصالحة.
ب. هذا النص صار سائغاً وضرورياً في الدستور العراقي.. ونص يكفل لنا الحرية المذهبية في الأحكام الأسرية حرام ومخالف للديموقراطية في البحرين والتي لاتساوي شيئاً من مستواها في دستور العراق.
وهذا النص لايبعد في ظنّي حسب السماع من مصدر موثوق أنه يوجد له مثيل في الدستور الأفغاني. أما المادة 14 فتقول:
أتباع كل دين أو مذهب أحرار في:
أ. ممارسة الشعائر الدينية بما فيها الشعائر الحسينية. وقد نص عليها نصا صريحا لا لبس فيه.
ب. إدارة الأوقاف وشؤونها ومؤسساتها الدينية وينظم ذلك بقانون. نحن نطالب بتدخلنافي الأوقاف فيمنع علينا النظام ذلك.
المسألة الدستورية:-
دستور 2002 غير شرعي بالشرعية الوضعية في نظرنا. والشرعية الوضعية هي المبحوث عنها هنا، أما الشرعية الإلهية فليست إلا لكتاب الله وسنة رسوله والمعصومين عليهم السلام.
والدستور المذكور متخلّف جداً، ومهمّش للشعب. أما دستور 1973 فقد تجاوزه مستوى الشعب.
إذاً لابد من دستور تعاقدي من حق الشعب أن يتقدّم بمستواه على مستوى دستور 73.
على الشعب أن يمارس كل صلاحياته القانونية من ندوات ومؤتمرات ومسيرات وأنواع الإعلام الممكن في الداخل والخارج للتأكيد على هذا المطلب، مبرهناً على أنه مطلب جماهيري عام لاتختص به شريحة دون أخرى، ولا اتجاه دون آخر في حفاظ على السلم، واحترام للمتلكات العامة والخاصة، وأن يقف مع الجمعيات السياسية في هذا المطلب المشترك.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
ربنا لاتزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا ثبتنا على دينك الذي ارتضيته لنا، ولاتزل لنا قدماً عن صراطك المستقيم يارحمن يارحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 1 – 4/ الرحمن.
2 – 18/ ق.
3 – ميزان الحكمة ج8 ص343.
4 – 10/ فاطر.
5 – المصدر ص335.
6 – المسألة خطيرة جداً، وبالغة الأهمية، ونحن بحسب التربية العادية والبيئة السائدة كثيرا مانسترخص الكلمة وليس إلا من الخطأ أن يعز الدرهم على صاحبه أعز من كلمته.
7 – أي يقرّبك من الله عزّ وجل.
8 – المصدر ص338.
9 – يرتفع بمستواه حتى لايكون بينه وبين الجنة إلا مسافة صغيرة، قصيرة.
10 – لابد أن تكون كلمة مما يغضب الله عزّ وجل.
11 – المصدر والصفحة.
12 – لايزل الجاهل فقط، الجاهل معروف بالزلل، لكن الحكيم المثقل بالحكمة، الغني بالروية، القادر على الموازنة كثرة الكلام تزله.
13 – المصدر ص439.
14 – نحن ننظر إلى الكلام على أنه ألفاظٌ تجري على اللسان وهذه نظرة سطحية ساذجة جداً.
15 – أنت تتحدث عن قلب، عن محتوى قلب، عن رؤية قلب، عن إيمان قلب، عن شفافية قلب، أو عن عكس ذلك.
16 – وظيفة اللسان فقط النقل، الإبداء، الإظهار. ولكننا نظهر مكنون أنفسنا في الغالب من خلال كلامنا. ونبرز مستوانا، ومانحن عليه من علم أو جهل وغير ذلك.
17 – هتاف جموع المصلين بـ(الإسلام النهج الرائد، ياعالم سر أنت القائد). ملاحظة الشيخ: (المعني هنا نوع العالم وليس شخصه).
18 – هتاف جموع المصلين بـ(معكم معكم ياعلماء).
19 – هتاف جموع المصلين بـ(معكم في حب الإسلام، سر ياقاسم بالإقدام).
20 – 96/ الأعراف.