خطبة الجمعة (217) 24 شهر رمضان 1426هـ – 28 اكتوبر 2005م

مواضيع الخطبة:


تكملة موضوع الذنوب + ذكرى وفاة أمير المؤمنين عليه السلام + مقاومة الاحتلال + الأمن المطلوب + إشارتان


ياجماهير أمتنا تحرروا من فكر العدو وأخلاقياته وسلوكياته الجاهلية القذِرة من أجل قدرة المقاومة، وجدّية المقاومة، وفاعلية المقاومة، والاستقامة على المقاومة، وانتصار المقاومة.


الخطبة الأولى

الحمدلله الذي يقوم به كلُّ شيء ولايقوم بشيء، المحتاج إليه كلُّ شيء ولايحتاج إلى شيء، المدبّر لكل شيء ولايُشركه في التدبير شيء، العليم بكلِّ شيء ولايعلمه شيء، القادر على كلِّ شيء، ولاقدرة لشيء في قبال قدرته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، والدخول في طاعته في كل أمرٍ كبيرٍ أو صغير، والخروج من طاعة الشيطان ومن يدعو إليه؛ فما من أشفق على عبدٍ وأعلم بمصلحته وأطلب لنفعه، وأغنى عن ظلمه، وأقدر على هداه، وأنصح له، وأجزل ثوابا على طاعته من ربّه الذي خلقه وأحسن تدبيره، وأسبغ عليه نعمه. ومامن أعدى وأفتك بالعبد من الشيطان الذي يُغويه، ومن حزبه الذين يدعون إليه.
ولنحذر عباد الله قساوة القلوب، فمن قسى قلبه ثقل عليه قبول الحقّ، وخفّ عليه قبول الباطل، ولم يَرْشَح قلبه عن خير، وقد جاء عن الرسول (ص):”ترك العبادة يُقسّي القلب، ترك الذّكر يميت النفس”(1).
أعاذنا الله وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين من قسوة القلوب، وموت النفوس، وانطفاء نور الهدى فيها، وقبولها الباطل ووحشتها من الحقّ وغفر الله لنا ولهم، وتاب علينا إنه هو التواب الرحيم، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات الأعزاء فمع متابعةٍ لموضوع الذنوب تحت أكثر من عنوان:
1. عجباً عجباً:
يقول الحديث عن علي عليه السلام:”عجبت لقوم يحتمون الطعام مخافة الأذى كيف لايحتمون الذنوب مخافة النار”(2) يقيس علي عليه السلام ألم الدنيا إلى ألم الآخرة، وشقاء هذه إلى شقاء تلك، وعذاب الأولى بعذاب الثانية، فيخفّ عنده ميزان ألم الدنيا وشقائها وعذابها، ويثقل في نظره الثاقب عليه السلام ميزان عذاب الدنيا، وألمها، وشقائها، ويهول عليه الأمر فيكون استعداده كله للآخرة، وفراره من عذابها، وتحضيره لنعيمها.
ويرى الآخرين وكيف يحتمون من ألم الدنيا، ويفرون منه، ويتوسلون إلى التخلص منه بكل وسيلة. إلا أنهم يستسهلون أمر الآخرة، لايُصغون سمعا إلى نذير الله تبارك وتعالى بها، فيعجب ويعجب عليه السلام وهو يُدرك أن وراء هذا الموقف غير المتوازن من كثير من الناس غفلة عن الآخرة، وعدم تقدير لما عليه أمرُها، وأن وراء ذلك ضلالاً كبيراً، ولو أفاقت النفس، وانفتحت الرؤية على مافي الآخرة من نعيم مقيم، وعذاب أليم لكان وزن الدنيا عندها لايساوي شيئاً بالنسبة لوزن الآخرة، ولانصرفت الهمم، واتجهت الإرادات إلى الآخرة مهملة كثيرا من شأن الدنيا.
وفي كلمة عن زين العابدين عليه السلام:”عجبتُ لمن يحتمي عن الطعام لمضرّته، ولايحتمي من الذّنب لمعرّته!”(3).
في الذنب فضيحة، وفي الذنب عذاب، وفضيحة الذنب لاتعدلها فضيحة، وعذاب الذنب لايُساويه عذاب، فيكون الاحتماء من مضرة الطعام على لذّته لأثره الضار بالجسد وهو مؤقت ولا يبلغ سوؤه سوء الذنب، والإقدام على الذنب على سقوط صاحبه، ومافيه من أثر سيءٍ بالغ السوء على الروح وهي لبُّ المعنى الانساني وفيها قيمته الرفيعة مما يَعجَبُ له العاقل، ومما يكشف عن هزال فكر، وعن موت شعور، وعن ظلمة روح. والروح النّيّرة، والقلب الوضىء لايمكن أن يستسهل ذنبا، ولايستخف بمعصية من معاصي الله تبارك وتعالى.
أطايب من الطعام، ولذائذ من اللذات التي يتهالك عليها الملايين تقف النفس عنها محتمية خوفاً من مرض، ولكنها تتهافت على معاصي الله، وعلى الذنوب الموبقات في حالةٍ من الجهل، وحالة من الغفلة، وحالة من الضلال.
2. عقل الحكمة:
هناك عقلان: عقل يدرك ماعليه الخارج، يدرك أن هذا أسود، ويدرك أن هذا أبيض. يدرك أن هذا ضارٌّ وذاك نافع، أما عقل الحكمة فهو الذي يقود صاحبه إلى ماهو خير، ويُجنّبه عما هو شر.
الخيارات الرشيدة، الخيارات الصائبة هي من وحي عقل الحكمة. إدراك أن هذا صائب، وهذا غير صائب، هذا خير، وهذا شر، قد يكون من العقل الفطن الذي يتعامل مع الحقائق، ويحاول أن يكتشفها.
تكتشف أن هذا سم، وأن ذاك دواء، لكن إقدامك يكون على أيٍّ منهما؟ قد يُقدم شخص على ما يعلم أنه سم، ويجتنب عما يعلم أنه دواء، فيكون عاقلا من جهة، وفاقدا للعقل من جهة أخرى. إنه بلا عقل من عقل الحكمة على الإطلاق.
تقول الكلمة عن الكاظم عليه السلام:”إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب، وترك الدنيا من الفضل وترك الذنوب من الفرض”(4).
هناك حاجات في الدنيا لابد منها، وضرورات لايستطيع الحي إهمالها، ويوجب الإسلام حفظاً للحياة السعي للتوفّر عليها.
هناك مأكل يتقوّم به الجسد، ومشرب كذلك، وملبس يحفظ الحياة، ومسكن يأوي إليه الإنسان ليستره، ويقيه عن حرّ وبرد.
وهناك أمور أخرى تتصل بمثل هذه الحاجات أو تشبهها أو تقاربها وهي مطلوبة، والكدّ من أجل التوفر عليها يجب على القادر، خاصة إذا لم يكن له مايقوّم حياته منها إلا عن طريق الكد.
لكن هناك من أشياء الدنيا ماهو فضول ونافلة، لايضر غيابه، وفقده لايثلم الحياة. العقلاء يتركون فضول الدنيا، والتزيُّد فيها، لايطلبون تزيّداً في الدنيا، لاينغمسون في الدنيا حتى في حلالها. مافضل عن وقت يصرفونه في طلب حاجات الحياة وضروراتها وكمالياتها التي يمكن أن تدخل في منفعة الإنسان، وتستوي بحياة الشخص بمستويات الآخرين مما يتطلّبه الوضع الاجتماعي، ما فضل عن ذلك تراهم ينفقونه وكل تفكيرهم وجهدهم في بناء أنفسهم، وفي بناء مجتمعهم، في إحقاق الحق وإزهاق الباطل.
“إن العقلاء تركوا فضول الدنيا فكيف الذنوب” هؤلاء يسميهم الإمام الكاظم عليه السلام عقلاء لأنهم تركوا الأدنى من أجل الأعلى، وطلبوا الباقي بدلا من الفاني. الفضول من الدنيا لن ينفعهم في شيء، إذا كانت الحاجات الضرورية ومايقاربها لابد للإنسان منها، والتوفّر عليها تنفعه، فإن الفضول والتزيّد لن ينفعه بشيء، فمن العقل أن ينصرف عما لاينفعه إلى ماينفعه. أي عقل هذا؟ إنه من عقل الحكمة، وهو رشد والرشد إلى الخيارات الصائبة.
في حديث آخر عن الرسول صلى الله عليه وآله:”من قارف ذنباً فارقه عقل لايرجع إليه أبداً”(5).
مقارفة الذنب تفقدنا درجة من العقل، تفقدنا درجة من الحكمة، تُخسّرنا درجة من الرشد، يقول الحديث هذه الدرجة من الرشد لاترجع أبدا، وربما كان ذلك مادام العبد مصرّاً على ذنبه. هذا لايخسر بعض خلايا مادية حيوية للجسم، يمكن أن تُستعاد، إنه يخسر درجة من رشده، درجة من حكمته، وما الخير كل الخير عند الإنسان إلا حيث تكون عنده حكمة، ويكون عنده رشد، وخسارة الحكمة والرشد لايسدّ ثلمتهما عقل يكتشف الحقائق، وعقل يتعامل مع الفلك، ويستطيع أن يصل إلى كثير من أوضاعه وحقائقه.
العقل الرياضي والعقل الفلسفي إنما يقولان لي أن هنا شيئا يمكن أن تنتفع به، أو يمكن أن يجلب لك نفعا أو يجلب لك ضرّاً، أما أن أُقدم على النفع وأدع الضر فذلك ما أحتاج فيه إلى عقل هو عقل الرشد وعقل الحكمة. الطفل يعرف أن هذه نارٌ، والبالغ الراشد يعلم أن هذه نارٌ، ولكن معرفة الطفل أن هذه نار، ويمكن أن يكون قد جرّبها مرة ومرتين وأنها أحرقت اصبعه قد لاتمنعه من مد يده إلى النار، وأما من توفّر على الرشد فإنه يقبض يده عن النار. ما الذي يقبض يده عن النار؟ ليس معرفة أن هذه نار، وإنما هو عقل الرشد وعقل الحكمة الذي يجنّبه النار.
وفي الكلمة عن علي عليه السلام:”لو لم يتوعّد الله على معصيته لكان يجب أن لايُعصى شكراً لنعمه”(6).
العقل عقل الرشد وعقل الحكمة يقودان إلى شكر المنعم، والتفريط بشكر المنعم يساوي فقدا لعقل الحكمة والرشد.
3. مداخل الذنوب:
عن علي عليه السلام:”ثلاث من حفظهن كان معصوما من الشيطان الرجيم ومن كل بلية: من لم يخل بامرأة ليس يملك منها شيئاً(7)، ولم يدخل على سلطان، ولم يعن صاحب بدعة ببدعته”(8).
تجنب موارد الهلكة فيه وقاية وعصمة، فرارك من الفتنة حماية لذاتك، الشخص ينفتح على القنوات الفضائية القذرة، يخلو بالمرأة الأجنبية، يغشى دواوين السلاطين الظلمة، يقارن الأصدقاء الجهلاء المفسدين ثمّ يرجو لشخصيته أن تنبني انبناء إيمانياً، وأن يكون على منأى من السقوط، كيف يرجو من وضع نفسه على طريق السقوط، ومن وقف على شفا جرف هار من النار أن يحمي نفسه؟!
من أراد أن يحمي نفسه، وتسلم له وتستقيم، فعليه أن يطلب مواقع الهداية، ومواقع النصيحة، ومواقع العبرة، وأن يجتنب عن مواقع كثيرة كثيرة للشيطان وجند الشيطان، والمادة الشيطانية تدخل على الإنسان في كل بيت، ولكن بإرادته. لاعذر لأحدنا على الإطلاق في كثير من الموارد حيث يقول بأن الإعلام العالمي القذر له هجمة بالغة على كل شبر من الأرض. مفتاح تلفازك بيدك، وأمر هذا الجهاز المُسمّى بالأنترنت بيدك، وكل الآليات لازالت لاتملك أن تقتحم عليك داخلك من غير أن تستلم لها إرادتك، ومن غير أن تتعامل إرادتك معها ابتداءً بطواعية.
عن الإمام الصادق عليه السلام:”إن صلة الرحم والبرّ ليهوّنان الحساب، ويعصمان من الذنوب..”(9).
عن علي عليه السلام:”لو لم يرعب الله سبحانه في طاعته، لوجب أن يطاع رجاء رحمته(10)، لو لم ينه الله سبحانه عن محارمه لوجب أن يجتنبها العاقل”(11).
احتفاظنا بالعقل، طلبنا للعقل، وطلب العقل يكون بالتأمّل، ويكون بالتروّي، والتفكر، والاعتبار فيه عصمة، وكلما توفر أحدنا على العقل بالاعتبار والتفكر والتدبر ومطالعة الأمور في بداياتها ونهاياتها ومقايسة قيمة الدنيا إلى الآخرة، ويومه إلى غده كلما ازداد رشده، وكلما غزرت حكمته، والرشد والحكمة لايقودان إلا إلى الطاعة والاستقامة.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. اللهم داو داء قلوبنا، واشفنا من أسقام أرواحنا وعقولنا، وأحي ضمائرنا، وزك نفوسنا، وأنقذنا مما يحول بيننا وبين معرفتك، وقبول الحق من عندك، وادرأ عنا كل سوء، ومنّ علينا بخير الدنيا والآخرة، يا أحسن الرازقين، ويا أرحم الراحمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)}

الخطبة الثانية

الحمدلله ربِّ الليل والنهار، والظّل والحرور(12)، والصغير والكبير، وماظهر وماخفي، ومايُرى وما لايرى، وما أقلّت الأرض واحتوت السماء، وماكان ومايكون بلا انقضاء.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وزداهم تحية وبركة وسلاماً.
ألا عباد الله فلنتّق الله الذي منه مبتدؤنا وإليه مرجعنا ولاخالق لنا غيره، ولارازق سواه، ولامدبر لأحد معه. أحسَنَ الخَلْقَ والتدبير، وتكفّل بأرزاق العباد، ويغفر الذنب ويُجزل الثواب.
وتبدأ تقوى الله من المشاعر فلاتكون إلا طيّبة مما ينال رضاه، فتَزِيْن بها النفس وتكرم وتسمو، وينضبط بالتقوى الفعل، فلا يأتي إلا صالحاً نافعا قويماً، وترقى الكلمة فلاتخرج إلا طاهرة نقيَّة بنّاءة مُصلِحة هادية تمشّياً مع قوله تعالى {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً}(13).
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ونقّ قلوبنا، وطهّر مشاعرنا، وأصلح عملنا، وأحسن قولنا، واجعل حياتنا في طاعتك، وبذلاً في سبيلك، وسعياً صائباً في طلب مرضاتك ياكريم يارحيم.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على خاتم أنبيائك ورسلك محمد بن عبدالله الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الأئمة الهادين المعصومين: الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن القائم المنتظر.
وعجّل فرج ولي أمرك القائم المنتظر. اللهم عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، وانصره نصرا عزيزا، وأيّده تأييداً كبيراً.
عبدك وابن عبديك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك.
أما بعد أيها الكرام من المؤمنين والمؤمنات الأخوة في الله فهذه بعض كلمات:
ذكرى وفاة أمير المؤمنين عليه السلام:
لقد كانت حياة علي عليه السلام جهاداً ناجحاً في كلّ ساحِ الحياة، ونجاحُ جهاد كلّه من كونه في سبيل الله، وعلى منهجه القويم، وخطِّ شريعته العادلة، وخلوِّه من شوائب الأرض وحسابات مصالحها المنفصلة عن مصلحة الدين، ورضى الرب.
ولقد كانت النماذج الإنسانية الفذَّة، والأمثلة الرسالية العالية، والقدوات الصالحة الرفيعة في الأمة وهي قِمم شاهقة تجد ملاذها الإنساني والرسالي وقدوتها المُشعّة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمير المؤمنين، وتستلهم منه دروسها على الطريق المتعب الطويل، وفي المنعطفات الخطيرة.
سلمان وهو في الدرجة العاشرة من الإيمان – كما أتى الخبر – لم يجد ملاذا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله في الأرض إلا في شخصية علي عليه السلام. أبطال القتال الرسالي، وأبطال المحراب، وأبطال العدالة، وأبطال العلم، أبطال كلّ حقل من حقول المعرفة، وأبطال الإيمان كانوا يجدون أنفسهم صغاراً أمام علي عليه السلام.
كانت حياة علي عليه السلام مدرسة مواكبة للقرآن، ولاتفترق عنه ولاتغادر خطّه لحظة، وكانت خياراتها ومواقفها دليلاً على مواقفه وخياراته.
وكانت القدوات الصالحة العملاقة في الأمة تجد تفسير مايُغمض عليها من كتاب الله في كلمات علي عليه السلام ومواقفه وخياراته، وإشاراته، ونطقه وصمته.
قِممٌ شامخة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله لايختلف أحد على إيمانهم ووعيهم ورساليتهم وزهدهم وتقواهم وحقّانيتهم وصدقهم ومكانتهم الرفيعة في الإسلام كسلمان وأبي ذر وعمار بن ياسر كان من فخرهم الكبير انتماؤهم وتشيّعهم لعلي بن أبي طالب عليه السلام، والتمسك بولايته. وما عُرف لهم تشيّعٌ من بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لغير علي عليه السلام.
مقاومة الاحتلال:
كان كثيراً في ميزان الخارج ماأعطته قوافل الجهاد من أبناء المسلمين في فلسطين لقضية القدس وأرض المسرى والمعراج، وهو قليل في سبيل الله والمقدّسات، ولايكبر ثمنٌ على دين الله ورسالته.
ولازال المجاهدون هناك يبذلون الثمن المُكلِِف والباهض من مالهم وأمنهم ودمهم لقضية التحرير واسترجاع المقدّسات.
أمَّا المحيط العربي الرسمي، وكثيرٌ من المحيط الإسلامي الرسمي فقد تجاوز مرحلة المغازلات، واللقاءات الخجولة، والترتريبات السّرّية مع العدو الإسرائيلي؛ عدوِّ القضية والأمة إلى مرحلة طلب الوِدّ المكشوف والارتماء الرخيص المعلن في أحضان الفجور للعدوّ المستهتر.
والأنظمة في تسارُعٍ وتسابق في عمليات التطبيع الشامل، والتمكين للمحتل من الأرض والثروة والإنسان.
وإن أكبر ضمانة يُقدّمها النظام الرسمي العربي والإسلامي لبقاء الاحتلال، وترسيخه وتوسيعه هو ممارسة عمليات القهر والإذلال لشعوب الأمة وسلبها حرَّيَّتها وترتيب وضعها الفكري والنفسي والسلوكي بما يتناسق والتوجه الأمريكي والصهيوني في كل هذه الأبعاد، والتخطيط العملي المطبَّق فعلاً لإحداثٍ فاصلةٍ هائلة بينها وبين قرآنها وتاريخها وإسلامها وتشريعاته وأخلاقه ومفاهيمه ورؤاه وسلوكياته لتكون جاهزة بالكامل لقبول التبعية الذليلة والتنازلات عن كرامة الذات وأصالة الانتماء، وإرادة التحرر.
إن التطبيع مع العدو على مستوى العلاقات الخارجية خطير جداً، ولكن الأخطر منه ذلك التطبيع للأوضاع الفكرية والنفسية لإنسان أمتنا بما يتوافق وقبول العدو المحتل صديقاً مخلصاً ومعلماً قديراً، ودليلاً هادياً، وسيّداً أميناً.
لن يتركوك حتى تُصدِّق بأن أمريكا سيّدُك، لن يتركوك حتى تكون أمريكا والصهيونية عشيقك، لن يتركوك حتى تكون على الدرب الذي تخطّه أمريكا وإسرائيل.
إذا تحوّل فكرك إلى فكر إسرائيلي، وتحولت أخلاقياتك إلى أخلاقيات إسرائيلية، وتحول تعامل رؤيتك مع الحياة إلى تعامل الرؤية الإسرائيلية مع الحياة، وأن الأمر كل الأمر مادة ولاغير، وقتلوا فيك الروح، فأنت وأنا غداً ولاسمح الله بذلك سنكون على درب واحد مع إسرائيل، وسنعطي اليد الذليلة طائعين لإسرائيل.
وهو تطبيع قائم على قدم وساق في ساحات التربية والتعليم، والإعلام والسياحة، والتشريع، وعن طريق ملاحقة الدين ومطاردته في مسجده وحوزته وكل مؤسسة تنتمي إليه.
إنه تطبيع جذري يستأصل الشعور الفاصل، ولايُبقي شعوراً بالوحشة من العدو، ولا مجالاً لسوء الظن به، وأخذ الحيطة منه.
أما مقاومة المحتل للأرض والمقدّسات فلايمكن أبداً أن يُنفّذها عقلٌ محتل(14)، وقلب محتل، وإرادة محتلة، وهاجس محتل، وحياة محتلّة(15)، من فكر العدو، وأخلاقية العدو، وسلوكيات العدو، ولاتسلك طريقها الشائك الوعر نفسية مسكونة من رعب العدو، وإكباره وتعظيمه والإعجاب به.
صناعة الجيل على اليد الأمريكية في البلاد الإسلامية الامَ تنتهي؟ ألاتنتهي إلى إكبار أمريكا وتعظيمها؟!
ياجماهير أمتنا تحرروا من فكر العدو وأخلاقياته وسلوكياته الجاهلية القذِرة من أجل قدرة المقاومة، وجدّية المقاومة، وفاعلية المقاومة، والاستقامة على المقاومة، وانتصار المقاومة.
الأمن المطلوب:
شعار الأمن يطرحه الجميع.
ونسأل: أمن من هو المطلوب؟ في إجابتنا على هذا السؤال نقول: المطلوب من حكومة وشعب؛ شعبٍ بكل فئاته.
ونسأل أمن ماذا؟ ونجيب: أمن حياة – أمن مال – أمن عرض وكرامة وشرف – أَمْنُ مسكن وطريق وأماكن عامة – أمن حريّة إنسانية بناءة. ولاشيء من ذلك بغير أمن دين.
ماهو الطريق لهذا الأمر؟ البطش الحكومي – القوانين الحديدية المقيِّّدة – الحرية الحيوانية البهيمية – الظلم الاجتماعي – إقصاء الدين ومطاردته. أشيء من ذلك يصلح آلية أمن؟ أشيء من ذلك يفتح على الأمة طريق الأمن؟ أليس كلّ ذلك مضاداً للأمن؟ أليس كل ذلك فتّاكاً بقضيَّة الأمن؟ أشيء من ذلك ينسجم مع شعار الأمن؟ لاشيء من ذلك ينسجم مع شعار الأمن.
ولا أمن لشعب مكبوت، ولامن شعب مكبوت. الشعب المكبوت مهيء دائما للانفجار، والذي تمارس في حقه الظلم وتعلّمه الظلم وتنشّئه على الظلم، يمكن لك جداً أن ترتقب منه الظلم. ولا أمن لحكومة ظالمة، ولا من حكومة ظالمة.
ولا أمن مع حرية حيوانية منفلتة ولا مع ظلم اجتماعي.
وإقصاء الدين ومطاردته يستحيل معهما أمن.
فالذين يريدون أن يصدقوا مع هذا الشعار عليهم أن لايناقضوه عملاً..
وعلى طريق الأمن علينا أن نرفع هذا الشعار: حكمٌ عادلٌ يساوي وطن أمْنٍ ومحبة.
والأسرة الآمنة والوطن الآمن يحتاجان بالضرورة إلى حكم منصف عادل.
الأسرة المحاربة في رزقها، أو في أمنها، أو في أخلاقها، والمقهورة في دينها والتي يُعاني أبناؤها من البطالة، ولاتجد مسكناً يُظلّ رؤوس أبنائها لاتكون آمنة، ولايبتني منها مجتمع آمن، ولايتم بها أمن وطن.
عالجوا مسألة العدل في الحكم، وابنوا أسرة في ظل قيم الدين وأحكام الشريعة يأمن الوطن.
من أجل وطن آمن، ومن أجل أسرة آمنة، ومن أجل مجتمع آمن لابد من قيام هذه الكيانات على أرضية صلبة، على أرضية تعطي العدل، على أرضية تخصب الضمير، وتوظّف إمكانات الإنسان من أجل صالح الإنسان، وليست هناك رسالة وصلت الأرض تتوفر على قدرة إقامة العدل، وأقامة الحق، وإشادة صرح للإنسانية عامر بالخيرات كرسالة الإسلام.
لبناء أسرة آمنة، وبناء وطن آمن، وبناء مجتمع آمن لابد من قيم، لابد من الرجوع إلى الشريعة العادلة. خيال أن تُبنى أسرة آمنة في ظل قيم الغرب، أن تبنى أسرة آمنة في ظل التشريعات الغربية، مستحيل أن تولد أسرة في الأرض تعيش روح المحبة، وروح الوفاء، والصدق، والأمانة، والإيثار والتضحية… مستحيل أن تقوم أسرة من هذا الطراز على غير طريق الله تبارك وتعالى.
نحن مع الأسرة الآمنة، نحن مع المجتمع الآمن، نحن مع الوطن الآمن، ومن أجل كل ذلك نصر على الطرح الديني، ونصر على الالتزام بالإسلام، ونصر على عدم مفارقة الإسلام.
وباختصار بالنسبة لقانون أحكام الأسرة: فإن قانون أحكام الأسرة إذا ابتعد شعرة عن الحكم الشرعي فلن يسمح له هذا الشعب بإذن الله أن يولد، وإنّي لأرى من المؤمنين رجالا ونساء، شيبا وشبانا، كهولا وأطفالا أنهم يملؤون شوارع هذا البلد احتجاجا على أي قانون يخالف شرع الله في مسألة الأحكام الأسرية.
أما أنا شخصياً فأقول: بأنه لو رأى الناس أن لا مسيرة ولاتظاهر، ولا اعتصام في هذا الأمر، وذلك من باب الفرض، وإلا فهناك من هذا الشعب الوف ممن يفوقونني مرات غيرة على الإسلام ونصرة له – ولولم يخرج أحد ليتظاهر ضد هذا القانون لخرجت أنا وحدي (16).
إشارتان:
1) مايكون لعاقل أن يكبر في نفسه، ومايكون له أن يُصدِّق بأنه كبير لكلام يقال فيه، وإلا كان الصغير الحقير جدّاً.
والإنسان أعرف بنفسه ممن حوله، إلا ماكان من عيوبه فقد يخفى عليه. ومن لم يرَ أحجام الآخرين وأقدارهم، ولايرى إلا وزن نفسه فهو جاهل ولاوزن له. وربّ نفس استوحشت من كلمة ثناء استيحاشها من كلمة ذم أو أكثر. والإطراء حين يكون مغرقاً ومتجاوزاً ينقلب إساءة.
ويُخطئ من يظن بمن له حظٌّ في الإيمان، ومعرفة بعبوديته أنه يُفرحه المدح.
ومن وجد أن المدح يغيّر نظره إلى نفسه، ويرفع قيمتها عنده فليعلم أنه مخدوع.
وتعاطينا النصحَ السديد، والنقد النزيه مطلوب لاتعاطينا المدح الذي قد يخطئ مواقعه، وموارد ضروراته.
2) ساحتنا الإيمانية المحليَّة تغنى والحمدلله بالكفاءات الفعلية الناجزة، وإن كنّا على مسافات من المستوى المطلوب، فضلاً عن الكامل. وهناك كفاءات وقدرات واعدة كثيرة على الطريق.
وعلاقات إخوة الإيمان من أصحاب الهمّ الرسالي الذين عرفتهم الساحة طويلاً وخبرتهم، وأثبتوا في ذاكرتها جدارة في المواقف غير محتاجة إلى الإشفاق من أحد، وهي أقوى من أن تنال من تماسكها وصلابتها وتجذرها إيحاءات الصحافة وتحريضاتها.
إنها علاقات مدعومة بوعي مصلحة الرسالة، وقائمة على أرضية الإيمان، ولها نظر إلى الآخرة، وطموح في مثوبة الله.
إنَّ علاقات أولئك الأخوة إنما بنتها العقيدة، وحسُّ المسؤولية الإيمانية، وهي أرفع من أن تخِرّبها المصالح الأرضية بجاهليتها. وستبقى كل الأطراف المؤمنة متناصرة في الحق، متعاونة على الخير إن شاء الله، لاتغلبها الدنيا على دينها ووعيها، وتقيدها بالحكم الشرعي، ولاتميل بها عن قصد الله بتوفيقه.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، مغفرة جزماً حتماً يارحمن يارحيم. اللهم ياقاضي الحاجات لاتدع لنا حاجة للدنيا أو الآخرة إلا قضيتها، وياكاشف الكربات لاتدع لنا كربة إلا فرجتها، ويادافع البليات لاتدع بليَّة تأخذُ سبيلها لنا، ويامفرج الهموم والغموم فرج همومنا وغمومنا.
يامعطي من سأله ومن لم يسأله ومن لم يعرفه تحنّناً منه ورحمة اعطنا كل ماأملنا من الخير، وأكثر من آمالنا يامن لاتضييق قدرته، ولايحد ملكه، ولايقصر عطاؤه ياولي الأمر ياحميد يامجيد يارؤوف يارحيم ياكريم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – ميزان الحكمة ج8 ص238.
2 – ميزان الحكمة ج3 رقم1 ص448.
3 – ميزان الحكمة ج3 ص448.
4 – ميزان الحكمة ج3 رقم2 ص449.
5 – ميزان الحكمة ج3 ص449.
6 – ميزان الحكمة ج3 ص449.
7 – في حكم الله، في شرع الله.
8 – ميزان الحكمة ج3 ص479.
9 – ميزان الحكمة ج3 ص479.
10 – رجاء الرحمة يدفع إلى الطاعة.
11 – ميزان الحكمة ج3 ص479.
12 – الريح الحارة.
13 – 53/ الإسراء.
14 – إذا احتُلّ عقلنا احتلالاً صهيونيا وأمريكياً فعقلنا غير صالح للمقاومة، إذا احتُلّت نفسيتنا فنفسيتنا غير صالحة للمقاومة.
15 – وحياتنا اليوم تُحتل بشكل سافر من قبل الفكر الصهيوني والأمريكي، ومن قبل الأخلاقية الصهيونية والأمريكية.
16 – هتاف الجماهير بـ (معكم معكم ياعلماء) و(نحن مع الإسلام فليفهم الحكّام).

 

زر الذهاب إلى الأعلى