خطبة الجمعة (212) 11 شعبان 1426هـ – 16 سبتمبر 2005م
مواضيع الخطبة:
الذنوب+ الانسحاب من قطاع غزّة +ماذا يجري في الجفير؟ + خيار التسجيل +المعارضة والمرجعية + العلماء بين النطق والصمت
وأقول عن نفسي أني مستعد كل الاستعداد أن أسمع وأدعم أي مرجعية يختارها المؤمنون في هذا البلد من أخوتي العلماء. وسأكون خادماً أميناً – إن شاء الله – صغيراً لأي مرجعية تُختار في الداخل على هذا الخط.
الخطبة الأولى
الحمدلله الذي بَعث في النَّاس رسلاً مبشرين ومنذرين، وهدى إلى الصّراط المستقيم، وأوضح معالمَ الدّين، وطرائق اليقين، وحذّر من الشيطان الرجيم، وحزبه الغاوين، وأنقذ من الضلالة، وأنجى من الغواية.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى لله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الخاطئة بتقوى الله، والتّمسك بعرى دينه، والاستضاءة بنور كتابه، وهدى سُنة نبيه وأوليائه المعصومين (سلام الله عليهم أجمعين)؛ فلا نور إلاّ من نوره، ولاهدى إلا هداه، ولادين إلا بالأخذ منه، والرجوع إليه، وإن الدين كلّ الدِّين أن نُقدِّم الله على من سواه، وطاعته على طاعة غيره، وأن لاتصعب علينا معصيةٌ صعوبة معصيته.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، واجعلنا من أهل محبتك وعبادتك وكرامتك ورضوانك، واجعل نصرتنا لدينك، وسعينا في سبيلك، وملازمتنا لتقواك، ودليلنا هداك، وتطلّعنا إليك، وتوكّلنا عليك، وخوفنا منك، ورجاءنا فيك ياكريم يارحيم.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فمع الحديث السابق في موضوع الذنوب:
ثالثاً: مفارقة وراءها سر:
يقول الحديث عن الإمام زين العابدين عليه السلام:”عجبتُ لمن يحتمي عن الطعام لمضرّته، ولايحتمي من الذنب لمعرّته” والحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام:”عجبتُ لأقوام يحتمون الطعام مخافة الأذى، كيف لايحتمون الذنوب مخافة النار؟”، وعن الباقر عليه السلام:”عجبتُ لمن يحتمي من الطعام مخافة الداء كيف لايحتمي من الذنوب مخافة النار”.
الأحاديث الثلاثة تصبّ مصباً واحداً، وتقرر هذه المفارقة العجيبة، في حين أن هذا التعجّب يشير إلى سرٍّ وراء هذه المفارقة. الإنسان بعقله الكبير، بحبّه لنفسه، بحرصه على وجوده، بحفاظه على حياته، بسعيه لمصلحته يهتدي لئن يحمي نفسه من الأذى في الدنيا، وهذا جميل، وهذا مطلوب، لكن أين العقل؟ أين عقل هذا الإنسان؟ أين حبه لنفسه؟ أين تطلّعه لخيره؟ أين حفاظه على مصلحته؟ أين شفقته على نفسه؟ وهو يسلك مسلك النار.
وأين سر المفارقة؟
إننا نعرف من شأن الدنيا ما لانعرفه من شأن الآخرة، وإن نظرنا يتركّز على الدنيا وتغيب عنه الآخرة، وإننا ننظر القريب ونعمى عن البعيد، إننا سطحيّون، لاننفذ إلى العمق، لاننظر إلى العواقب، لانقدّر الله، لانقدّر وعد الله ووعيده، ومن هنا كانت المفارقة، وإلا فكانت شفقتنا من عذاب الآخرة أكبر من شفقتنا من عذاب الدنيا، ولكان فرارنا من أذى الآخرة أكبر من فرارنا من أذى الدنيا، ولكانت الأسقام هنا، والأوجاع، والكوارث مذكّراً ونذيرا لما عليه خطر الآخرة.
ولذلك فإن من رأى الآخرة من الأنبياء والمرسلين والصديقين كان همّهم معلّقاً بالآخرة وكانت الآخرة تصرفهم عن الاهتمام بالدنيا، واهتمامهم بالدنيا إنما هو من وحي الرسالية، ومن وحي الواجب، ومن خلال النظر إلى الآخرة.
أرأيت كيف يقود تسطّح الطفل، ونظرته القصيرة، وقلّة خبرته وتجربته كيف يقوده كلّ ذلك إلى الاشتغال بلحظته من غير أن ينظر إلى المستقبل في تصرفاته وأفعاله وخطواته، إننا أطفال بمقدار كبير وإن كبرنا.
رابعاً: بين التخلية والتحلية:
قلنا بأن هم الأنبياء والمرسلين هو تزكية هذا الإنسان، تنميته، الارتفاع بمستواه، النقلة له من مستوى الاستعداد للخير إلى الخير الفعلي، ومن شأنية السموّ إلى فعلية السموّ، وكيف تتمّ التزكية؟
التزكية تحتاج إلى جنبتين: جنبة التخلية، تنظيف النفس من العوائق، كنس ساحة النفس من قذاراتها، من ذنوبها، من سيئاتها، من ضعفها، من غفلتها، من حسدها، من حقدها، من شركها الخفيّ، من أمراضها.
أنت تريد أن تزرع التربة وفي طريق زرعك التربة لايكفي أن تسقي بالماء الصالح، ولايكفي أن تسمد الأرض بما يناسب، لابد من تنقية، لابد من تخلية، لابد من كنس، لابد من تنظيف، لابد من القضاء على العوائق.
نفسك تربة إنسانية خصبة لكي ينمو فيها الخير، وتشبّ فيها الفضيلة، وتسمو وتتعملق سموّا لابد من تخلية، لابد من تخليص مما يعيق حركتها إلى الأمام، إلى الله تبارك وتعالى.
ثمّ يأتي من بعد ذلك دور التحلية، وتحلية النفس بفضائلها، تحلية النفس بمكارم الأخلاق، تحلية النفس بأن يحل حب الله وحب أوليائه محل حب الشيطان وحب أوليائه، أن تحل نية الخير محل نية الشر، أن تتبدل النفس من سوئها إلى خير، ومن جمودها إلى حركة صالحة، ومن مسارها المنحرف إلى مسار مستقيم، ومن كل رذيلة إلى كل فضيلة، وهنا حديث يقول لنا:”اجتناب السيئات أولى من اكتساب الحسنات”.
أيّ حسنات؟ ربما كانت هذه الحسنات من الحسنات المترتبة على الفعل المستحب، وإن ترك الواجب من السيئة. فلا أذهب إلى هذا المعنى وهو أن اجتناب شرب الخمر أفضل من الصلاة، لا، لأن ترك الصلاة جريمة كبرى، وسيئة عظمى، فلنبدأ مع إلزام النفس بالواجبات الشرعية، ولنعطي الاهتمام الكبير لهذا الجانب، ولجانب مقاومة النفس عن الشّر، عن المعاصي، وبهذا نكون قد اجتنبنا السيئات، وهذا الاجتنبات للسيئات أولى من كل نشاطاتك الجانبية، ومن كل المستحبات التي تقوم بها، وكثير منا من يوغل في المستحبات إلا أنه بعدٌُ لم يجرِ التخلية اللازمة لنفسه ويخلّصها من سيئاتها ومن عظائم ذنوبها.
والحديث الآخر يقول:”جدُّوا واجتهدوا وإن لم تعملوا فلاتعصوا فإن من يبني ولايهدم يرتفع بناؤه وإن كان يسيرا” صاحبنا هذا يبني، ولو كان مقتصرا على الواجبات، ولكنه لايعصي فيرتفع بناؤه، والآخر يبني كثيرا ويأتي بمستحبات إلا أنه من جانب آخر يقيم على المعصية فكلّما بنى هدم، ومن كان دأبه البناء ثمّ الهدم لايقوم له بناء. “وإن من يبني ويهدم يوشك أن لايرتفع بناؤه”.
خامساً: تفسير:
عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:”من حاول أمرا بمعصية الله كان أبعد له مما رجاه، وأقرب مما اتقاه” وعن الصادق عليه السلام:”كتب رجلٌ إلى الحسين صلوات الله عليه عظني بحرفين(1): فكتب إليه: من حاول أمرا بمعصية الله كان أفوت لما يرجو، وأسرع لمجيء ما يحذر” قسمٌ من الناس يطلب الغنى، يطلب الشهرة، يطلب الموقع، يطلب هذه الدنيا بمعصية الله، إلا أن سعيه كلما كثر تباعد به عما أراد. هذا قسم قد يكون مؤمنا، ويريد الله به خيراً، يريد أن يُريَهُ أن سعيه على خلاف مرضاة الله لايوصله إلى هدفه حتى ييأس من هذه الطريق ويرجع إلى طريق الله عزّ وجل ويطلب الخير منه، وعلى طريقه، وبالطريقة التي أذن بها سبحانه وتعالى.
وللحديثين تفسير آخر في نظري وهو: أن للإنسان حتى الكافر هدفا من هذه الحياة بحسب واقعه الإنساني، وبحسب فطرته التي فطره الله عزّ وجل عليها، وإن هدف الإنسان من هذه الحياة كبير، وهو أن يتخرج من مدرسة الحياة إنسانا سويا كاملا، معدّا لجنة الله الخالدة.
والذين يجمعون المال ويتحصلون على الشهرة، ويسعون إلى المواقع، ويجمعون دنياً عريضة عن طريق الحرام لايقرّبهم ذلك إلى هدفهم الحقيقي أبدا. إنما يرجوه الإنسان بحسب فطرته أكبر من ذلك، إنما يرجوه بحسب فطرته مصلحته العليا، وسعادته الأبدية، وكل هذا السعي المتباعد عن الله يباعد صاحبه عن هدفه الحقيقي.
سادساً: جريمة على جريمة:
هكذا تقول لنا هذه الطائفة من الأحاديث:
“المذيع بالسيئة مخذول، والمستتر بالسيئة مغفور له” عن الرضا عليه السلام.
ولايلزم من هذا أن من تستّر بشرب خمره لاذنب عليه، وأن من زنا في ستر لاذنب عليه، لا، ولكنه لو زنا لاستحق عقوبة الزنا عند الله، واستتاره يعفيه من فضيحة الدنيا، ويعفيه من الحدّ، أما إذا تجاهر فضحه الله وأسقط شرفه، وأنزل به ما أنزل من عقوبة مضافة.
فالذي يذيع بالسيئة مخذول من قبل الله عز وجل، والخذلان يقابل النصر والعناية والإمداد، فيخلي الله عز وجل بينه وبين نفسه ليفتضح ويسقط، ويضاف إلى عقوبته الأصلية عقوبة لأنه هنا قد ارتكب جريمتين؛ جريمة الزنا، ثمّ جريمة الإعلان بزناه. الإعلان بالزنا جريمة أخرى تفعل في المجتمع فعل السوء، وتشارك في هدم المجتمع المؤمن وتمييع التزامه(2).
“مجاهرة الله سبحانه بالمعاصي تُعجّل النقم” هذا المجرم كأنه يستعرض عضلاته أمام الله عز وجل على منظر من الناس، وكأنه يبارز الله سبحانه وتعالى.
وهنا حكاية سمعتها من أحد الاخوان العراقيين الذي لا أظن فيه إلا أنه صادق، وهو: أنه في رحلة إلى زيارة الإمام الرضا عليه السلام يوم أن كانت على الجمال حطّوا في قرية من قرى إيران أو مدينة من مدنها وكان فيها من يسمّى بالبهلوان، وكان يستعرض عضلاته في ساحة عامة يوميا حتى قال أين الله؟ يريد أن يبارز الله سبحانه وتعالى. ذهبت القافلة إلى الإمام الرضا عليه السلام ثم عادت فلم يجدوا صاحبهم، فسألوا عنه: فقالوا إنه مريض، فأصرّوا على زيارته فوجدوه طريح الفراش يدخل فأرٌ في جحر ويخرج ليأكل من أصابع رجليه ولايستطيع حراكاً.
هذا مجاهر، مبارز، إذا لم يذلّ ربما افتتن خلق كثير، وإلا فإن الإجرام كثير ولايعجِّل الله سبحانه وتعالى عقوبته على كل مجرم.
“إياك والمجاهرة بالفجور فإنها من أشد المآثم”.
وعن الصادق عليه السلام:”إني لأرجو النجاة لهذه الأمة لمن عرف حقَّنا منهم إلا لأحد ثلاثة: صاحب سلطان جائر، وصاحب هوى، والفاسق المعلن”.
اللهم صل على محمد وآل محمد وسلّم عليهم تسليماً كثيراً، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ومن أحسن إلينا من كل مؤمن ومؤمنة إحساناً خاصاً.
اللهم اكشف كروبنا، واستر عيوبنا، وشاف مرضانا، واغن فقراءنا، وارحم موتانا، وأصلح أمورنا، وزوّج عزّابنا وعزباواتنا، وآمن أوطاننا، ونجّنا من المحق، ولاتسلمنا للفتن يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}
الخطبة الثانية
الحمدلله الموجود بلامُوجِد(3)، الحيّ بلا مُحيي، الإله بلاشريك، الربّ بلامعين، الأول بلاحدوث، والدائمِ بلازوال، الغني بلافقر، والقويِّ بلاضعف، بريءٌ من التركيب، متنزّه عن التحديد، لاتدرك ذاته العقول، ولاتحيط بكنهه القلوب. جلّ عن نقص الممكنات، ومحدودية المخلوقات.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
علينا عباد الله بتقوى الله، وأن نصارع الهوى، ونغالب الشهوة، ونُكابر خاطر المعصية، وقد جاء عن أبي عبدالله عليه السلام:”لاتدع النفسَ وهواها فإن هواها (في) رداها(4)، وترك النفس وماتهوى أذاها، وكفُّ النفس عمَّا تهوى دواها”. وماحدّثت به النفس على خلاف دين الله من الهوى، ومادعت إليه مما يباين شريعته ضلال. والأهواء أعداء، وحصائد الألسن من غير هدى الدين مُوقِعةٌ في النار. والكلمة عن الصادق عليه السلام تقول:”احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم؛ فليس شيءٌ أعدى للرجال من اتباع أهوائهم، وحصائد ألسنتهم” فلنكن أهل دين لاتملكنا أهواؤنا، ولاتزلُّ بنا ألسنتُنا، ولانكون حصائد لها في قعر جهنّم.
أعاذنا الله وجميع المؤمنين والمؤمنات من متابعة الهوى، والوقوع في خُدَع الشيطان، والاشتغال بالدنيا، ونسيان الآخرة، وفوات الفرصة، ومرارة الحسرة. اللهم اغفر لنا ولكل مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة إنك أنت الغفور الرَّحيم.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد بن عبدالله خاتم النبيين والمرسلين، وعلى علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة، وعلى الحسنين؛ الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد.
والأئمة الهادين المعصومين: علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن القائم المنتظر المهدي.
اللهم عجل فرج ولي أمرنا القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيّده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك الموالي له، الممهٍّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفّقهم لمراضيك، وسدّد خطاهم على طريقك، وادفع عنهم ياكريم.
أما بعد أيّها الأخوة والأخوات في الإيمان فإلى بعض كلمات:
أولاً: الانسحاب من قطاع غزّة:
* بعد ثمان وثلاثين عاماً من حياة الاحتلال الإسرائيلي البغيض يتم انسحاب إسرائيلي ذليل تحت الضربات الموجعة للمجاهدين الفلسطينيين. وكان انسحاب مخزٍ آخر من جنوب لبنان بضربات مهلكة أخرى على يد مجاهدين هناك.
* وفي هذا دروس: لابد من جهاد – لابد من مقاومة – لابد من تضحية – لابد من صبر – لابد من نفسٍ طويل. فإنه قد يطول الجهاد والمقاومة ولكن لابد من النصر. والقعود لايُعطي أبداً مايعطيه الجهاد. وأيُّ شعبٍ قاعد يبقى بعيداً عن غايته مسافة شاسعة.
* هذا هو الجهاد وحين نتحدث عن جهاد الفلسطينيين، وعن جهاد اللبنانيين، وعن جهاد كل بلد مسلم محتلّ فنحن نتحدث عن جهاد إسلامي، فهذا الجهاد الذي ينزل الضربات القاصمة بالمعتدي هو الجهاد، وليس جهاداً ذلك التقتيل والتجزير والتمزيق لأجساد المئات والألوف من المسلمين المسالمين الأبرياء على جسر الأئمة وفي الكاظمية وفي كل ناحية في العراق.
* وتلك المجازر جريمة كبرى، وجريمة مثلها أن تسكت الأمة على هذه الفضائح والمخازي، وعلى هذا الاستهتار بدماء المسلمين والمؤمنين. جريمة السكوت جريمة تستحق بها الأمة المحق من الله.
والجهاد بمعناه الخاص له مساحاته وشروطه ومقتضياته – وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ساحاته، وميادينه.
وكما للجهاد شروطه ومقتضياته وأهله فإن للأمر بالمعروف شرائطه ومقتضياته وأهله.
وليست كل الساحات سواء فيما يستوجبه أمرُ إقامة الدين، والدفاع عن الحق.
ثانياً: ماذا يجري في الجفير؟
اهتراء خلقي، وتسافلٌ ذريع، وإجهازُ على القيم، وفحش وعهر مكشوف، واستئصال للحياء، وقضاء على العفّة، ووأدٌ للحشمة، واستهزاء بالفضيلة، وتبديل موازين، ونجاسة ورجس، وعربدة رذيلة، وسحقٌ لإنسانية الإنسان، وإذلالٌ للمرأة وتسقيط فعليٌّ مخزٍ لها، واستهانة بالدين ومحاربة لله كل ذلك يتم في الجفير كما تصف الصحافة المحلية، وكل ذلك يجري تحت نظر المسؤولين، وبتمرير منهم.
متاجرة بالمرأة، بالرجل، بالدين، بالخلق، بالوطن، بكرامة المواطنين، بأمن الإنسان لجيوب المترفين الذين لاتنطوي أفئدتهم على شيء من هدى ولانور.
ولكن عليك أن تُصدق، وعليك أن تُذعن بأن هذا ليس إخلالاً بالأمن، ولاتآمراً بالوطن، ولا إضراراً بالنّاس، ولامنافياً للمصلحة، ولاتعطيلاً لمسيرة الإصلاح، ومظاهرةُ جياع يبحثون عن العمل تتحمل مسؤولية إقلاق الوضع كلّه، وتهديم البيت على ساكنيه.
وهناك مؤشر انحدار خطير في لغة المواطنين الذين تحدثوا عن هذه جرائم الفساد هذه والتحلل في الجفير، ماذا قالوا؟
ما كاد قلمٌ من الأقلام التي كتبت في الموضوع أن يُنكر على أصل الجريمة، وإنما كانوا يشكون المضايقة من هذه المظاهر، ويطلبون أن تبتعد عنهم بعض أشبار أو بعض أمتار من أجل أن لاتقلق راحتهم وتسبب لهم الإحراج.
أهكذا المسلمون؟ نعم، لقد جاء عنهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أنه يأتي زمن تُرتكب الفاحشة فيه على الطريق، فمن كانت له غيرة من المسلمين يأتي اعتراضه بهذا المستوى ألا تنحّيتم عن قارعة الطريق؟ وهذه اللغة بنفس المستوى لتلك التي كشفت عنها أحاديث القرن الأول الهجري على لسان المعصومين عليهم السلام.
لابد من مقاومة هذه المظاهر، مطلوب من أي منطقة أن تُستفزّ بالكامل، وأن تقوم لالتقعد حتى تنتهي هذه المظاهر منها، والبحرين كلها منطقة واحدة، البحرين منطقة صغيرة جداً. هذه سياحة أو هي مهنة قوادة؟! أليس الجمع بين الزاني والزانية قوادة؟ تُجّار يجمعون بين الزناة والزانيات ويقال عن هذا سياحة؟! وتتم القوادة بشكل مكشوف تحت نظر حكومة مسلمة؟!
من بقي بلااستفزاز؟ من لم تستهدفه تصرفات الحكومة بالإغضاب؟ العمال مغضبون، العاطلون مغضبون، الصحافة مغضبة، المثقفون مغضبون، المؤسسات السياسية مغضبة، المؤمن الذي يشفق على إيمانه، الغيور الذي يشفق على عرضه مغضب، كيف تنسجم كل هذه التصرفات مع نداء الاستقرار، ومع نداء الأخوة، ومع نداء السلام، ومع نداء الإصلاح، قولوا لي؟
ثالثاً: خيار التسجيل:
خلاف بين المؤمنين من الصف الواحد من أهل الجهاد، والذين يُفدّيهم المرء بنفسه، من أخوة كرام، على مسألة من مسائل الساحة السياسية هي مسألة تسجيل الجمعيات تحت القانون الظالم الجديد.
قد تختلف الآراء، ولن يأتي يوم على الناس لاتتعدد فيه الرؤية، ولايختلف فيه الرأي، وقد اختلف الناس في ظل حاكمية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وخيار التسجيل الذي أخذتُ به في الأسبوع السابق لايُزكّي قانون الجمعيات بل يدينه، ولايعفي الجمعيات والمجتمع عن مقاومته ومقاومة أي قانون مجحف بحقوق الشعب بالطرق القانونية، والأساليب المناسبة للظروف الموضوعية.
وخيار التسجيل لايصح أن يُتّخذ ذريعة لإنهاء المواجهة لقانون التجمعات وأمثاله بل ينبغي أن يكون مدخلا قانونيا لمواجهتها من خلال الممارسة القانونية للجمعيات، ولا علاقة لهذا الخيار بالمشاركة أو المقاطعة للانتخابات البرلمانية القادمة، فقد يُشارك من لايُسجّل، وقد يقاطع من يسجّل، ولا علاقة للأمر نهائياً بمسألة المشاركة والمقاطعة.
وهذا التسجيل لايمثّل مدخلا طبيعياً ولاقانونيا لأيٍّ منهما.
وخيار التسجيل الذي صرتُ إليه لايمكن أن يكون انتصارا لأخوة على أخوة، ولأبناء على أبناء، وإنما هو نصيحة رأيت أن عليّ أن أقولها.
رابعاً: المعارضة والمرجعية:
* معارضة بلامرجعية فوضى. بيتٌ بلا مرجعية فوضى، قبيلة بلا مرجعية فوضى، مؤسسة بلامرجعية فوضى، فئة اجتماعية بلامرجعية فوضى، بلد بلامرجعية فوضى.
* والمرجعية مرجعيتان: مرجعية تشريع، ومرجعية على مستوى مركز القرار. والتشريع تشريعان: تشريع وضعي (بشري)، وتشريع إلهي. فأي مؤسسة وأي دولة لابد أن تركن إلى إحدى المرجعيتين؛ مرجعية التشريع الإلهي أو مرجعية التشريع الوضعي.
فمؤسساتنا ليست بدعاً في هذا الأمر، فلابد لها من مرجعية تشريعية فإما أن تأخذ بالمسار الفقهي والتشريع الإلهي، أو تأخذ بمسار التشريع الوضعي ولو من عند نفسها.
وعن مرجعية مركز القرار مهما قيل عن الديموقراطية فإنها تُثبت المرجعية، فالديموقراطية لاتعني الفوضى، ولاتعني أن الشارع يتخذ القرار(5)، ولاتعني النزاعات التي لاتنهيها كلمة فصل، وإنما رأي الأغلبية على مستوى الديموقراطية هو منتهى القرار. صوت زائد على الطرف الآخر، وبغض النظر عن قيمة هذا الصوت وقد يكون أضعف عقلا في المجموعة، وأقصر رؤية، وأقل نزاهة، إلا أنه مادام عضوا في المؤسسة أو في الحكومة أو في الحزب فإن زيادة رأيه مرجّح، هذه مرجعيّة.
والمرجعية المتّسقة مع خط أهل البيت عليهم السلام مرجعية صاحب رأي فقهي وعدالة.
* وفي الساحة علمانيون وإسلاميون، والعلمانيون صريحون ومنسجمون مع خيارهم. فإنهم لايأبهون بالدين، ولايقيمون له أي وزن – كما يصرحون بذلك – ولو في المسألة السياسية على الأقل. فما بال الإسلاميين؟ عليهم أن يحددوا موقفهم، إما أن تكون لهم مرجعية من التشريع الإسلامي أو لاتكون.
والفقه اختصاصٌ عميق، ولاينكر أنه من الاختصاصات الكبيرة المتعبة، فإذا قلنا بأن مرجعية أي مؤسسة إسلامية هي التشريع الإلهي فيلزم من ذلك أن يكون الراجعون إلى التشريع قادرين على فهم التشريع، على فهم الفقه أو يرجعون إلى من يفهم الفقه، ولايسيرون أمورهم لمجرد قرار الأغلبية، فإن الأغلبية مرة توافق مقتضى الفقه ومرة تخالفه.
ولسنا نريد أن نختار للساحة ولكن الله عزّ وجل قد اختار للمؤمنين، وأن عليهم أن تكون مرجعيتهم دائماً من مرجعية خط أهل البيت عليهم السلام.
وهذه المرجعية معروفة، لايمكن أن يتقدّم فيها صاحب الاختصاصات الأخرى على أصحاب الاختصاص الديني، والمرجعية لاتفرض نفسها إنما تُختار.
وأقول عن نفسي أني مستعد كل الاستعداد أن أسمع وأدعم أيَّ مرجعية يختارها المؤمنون في هذا البلد من اخوتي العلماء. وسأكون خادماً أميناً – إن شاء الله – صغيراً لأي مرجعية تُختار في الداخل على هذا الخط.
وأقول: علينا من حيث إننا إسلاميون أن لانرتكب خطأ المغالطة والاستغفال لقواعدنا المؤمنة، علينا أن نكون صريحين إما أنه يسعنا الظرف أن نكون إسلاميين فنقول بأننا إسلاميون ونلتزم بخط الإسلام تماماً، أو أن نقول أننا ديموقراطيون على الطريقة الغربية فنريح أنفسنا.
وعلى الأقل إذا لم تكن لنا مرجعية نراجع عنها مذهبنا، وقادتنا أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، على الأقل علينا أن نأخذ بمالا يمزّقنا وإن لم يكن في ذلك مرضاة الله تبارك وتعالى كما ينبغي، إلا أن التمزق ربما كان أبغض إلى الله عزّ ووجل، ولا أريد أن أرتكب أو مسؤولية الترجيح، ولكن أقول: إذا لم نرَ أن نراجع أهل البيت عليهم السلام في مثل هذه الأمور فعلى الأقل فليلتزم الأخوة العاملون بمسألة مرجعية الأغلبية، ويرتكنوا إليها ويخرجوا من خلافاتهم على أساسها بعدما يذهب بهم الرأي إلى الأخذ بها.
خامساً: العلماء بين الصمت والنطق:
* أسأل هذا المجتمع الكريم: المجتمعُ بِم يُطالب العلماءَ؟
1. بالنطق أو الصمت؟ صمتوا فأعبتم، ونطقوا فغضبتم، ماذا تريدون؟
تريدون التدخل في السياسة أو الاعتزال؟ الحكومات تقول اعتزلوا، الغرب يقول عليكم الاعتزال، الخطط الأجنبية والمحلية في كثير من البلدان قائمة على قدم وساق من أجل إقصاء المسجد وتعطيل دوره في الحياة السياسية بالكامل، هل تشاركون في طرح الاعتزال للعلماء؟ قولوا لنا اعتزلوا.
أتريدون التدخل أو الاعتزال؟
التدخل له ضريبته على العالم وعلى المجتمع.
2. أتريدون النطق المشروط أو الحر؟ قد يقول المجتمع للعلماء: انطقوا، قولوا كلمة الحق، تدخّلوا ولكن بشرط أن توافق كلمتكم وموقفكم توجه الرأي العام أو النخبة المثقّفة.
اعرضوا هذا الشرط على الله، على رسوله، على الكتاب، على السنة، أمير المؤمنين عليه السلام لم يوافق على البيعة بشرط التقيّد بمسيرة الشيخين.
يا عالم انطق، وتدخّل، ولكن لاتخالف رأينا، أشرط معقول؟ يرضاه عاقل؟ يرضاه دين؟ لاتخالف شرع الله، هذا شرط صحيح.
اقتراحُ النطق المشروط مرفوض من قبل العلماء، ولسنا مع خيار الحكومات، وعلى العلماء أن ينظروا إلى الحكم الشرعي ومايقتضيه؛ اقتضى السكوت فعليهم أن يسكتوا، اقتضى النطق فعليهم أن ينطقوا. هكذا إذا استطعنا الانسجام مع ديننا. الحكم الشرعي هو المنظور، وهو الحاكم، ومع تقديري لصفوف المؤمنين ولجماهير الأمة إلا أننا لايكون لنا وزن ولاشأن عند الله حتى نذعن لتشريعه.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولوالدينا ولأخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وأحسن عاقبتنا، واجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، ولاتعدل بنا عن طريقك القويم، ولاتزل لنا قدما عن صراطك المستقيم، وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – مبالغة في الاختصار.
2 – ثم إن المستتر بالمعصية أقرب إلى المغفرة من المتجاهر بها لأن الثاني مستهين بها، معين على تفشّي السوء في المجتمع، وضعف الدِّين.
3 – ومن يوجد الوجود الحق؟! وهل بعد الوجود الحق إلا العدم؟ وهل بعد الوجود الحق إلا موجود بوجود؟ فلا تسأل كيف وُجِد الله، فإن الله هو الوجود الحق المبين.
4 – أي هلاكها.
5 – في تفاصيل الأمور الدقيقة التي تحتاج إلى نظر ممعن وتقليب للأمور.