خطبة الجمعة (211) 4 شعبان 1426هـ – 09 سبتمبر 2005م
مواضيع الخطبة:
حديث في الذنوب + نشاط المعارضة في الخارج + العراق والدستور+ الشأن العام المحلي
ليس من الإخلال بالأمن ولامن الخروج على الوطنية أن تشرح المعارضةُ مواقفَها، وأن تُبديَ ظلامتها، وتدافع عن سُمعتها التي كثيراً ما تُشوِّهها الحكومات في الداخل والخارج.
الخطبة الأولى
الحمدلله الذي لايسبق قدرتَه سابق، ولا يعزبُ عن علمه فائتٌ ولا لاحق، ولا يتجاوز إرادتَه متجاوز، ولا يهرب من قضائِه هارب.
أشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلّم تسليما كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، وأن يكون وحده منظورنا الأول الذي لا يعدله منظور، ورضاه مطلبَنا الأكبر الذي لايصير إليه مطلب، وأن نصبر على المرارة في سبيله، ونستذوقَ الأذى على طريق طاعته، ونسلك الصعب لنيل رضاه.
هدانا الله بِهُداه، وثبّتنا على طريق جنته، وأنالنا ما يهوّن شدائد الحياة من الاطمئنان إلى كرامته، وسهَّل لنا سبل الخير، وجنّبنا الأذى، ووقانا سبيل المجرمين، وغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتاب علينا، إنه هو التواب الرحيم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واسلك بنا سبيلهم، وانهج بنا نهجهم، وألزمنا طريقتهم، يا أكرم الأكرمين.
أما بعد فهذا حديث في الذنوب تأخذنا إليه نصوص من كتاب الله عزّ وجل، ومن سنة المعصومين عليهم السلام.
وهو لا يستهدف أن يكون بحثاً متقيِّداً بركائزه ومنهجيته وآلياته، وإنما قصده الرئيس الإيقاظ والتذكير والتحذير بما يناسب المقام.
وإن الإنسان من كان منه معصوماً فدأبه التفكُّر والتأمُّل والتذكُّر وسيرته الأخذ بالتّحذُّر، ومن كان غير معصوم فلابد له من تذكُّرٍ وتذكير، وتبصُّر وتبصير، وتيقُّظٍ وإيقاظ، وتحذّر وتحذير.
ولنأخذ تِباعاً بالعناوين التالية:
النفس والذنب:
الذَنَبُ من الشيء جُزءٌ منه وخيم، وبه رذالة، والذَنْبُ في معناه له نسبة مع الذَنَبَ، فهو فعل وخيم ساقط، فيه دناءة ورذالة، والإثم هو الفعل المبطئُ بصاحبه عن الخير، والآثامُ في معناها الشرعي أفعالٌ تُُبطِّئ بالمرء عن الخير وتقعد بالنفس عن خيرها، وتُمثِّل اتجاهاً آخر على عكس ما هو اتجاه النفس الصاعد.
وإن رسالات الله جاءت لتزكية النفوس، ولتصنعها طاهرة نامية نماءً خيِّراً. فقد يبلغ المرء أشُدَّه ويبقى طفلاً من ناحيةِ نفسه، تتمرَّد عليه تمرُّدها على الطفل، ولا يمكن أن يضبطها على الطريق؛ فتراه صبياً صغيراً في كثير من تصرّفاته لعلّة في نفسه، ولخللٍ في معناه. وطفلٌ يتربّى بتربية إسلامية رصينة هادية ربما رأيتَ فيه رجلاً حكمةً، ودقةَ تصرٍُّف، وقدرة على الانضباط.
وليس ما يسمو بالنفس ويُزكِّيها إلا أن يتَّصل القلب بالله، ويستهدي بهداه، ويأخذ بالطريق الذي ينعكس من خلاله من أسماء الله الحسنى فيه ما يسمو به ويُطهِّره ويُعطيه الهدى والصلاح.
فطريقنا نحن البشر للتزكية:
هو أن نرتبط بالله… أن نتربى على ضوء أسماء الله الحسنى… أن نهتدي بمنهج الله في التربية.
والذنبُ ليس أنه يُفوّت على النفس زكاتها ونموها الصالح فقط، وإنما الذنب يعني سقوطاً للنفس، وفقدا لهداها، وتميّعاً في إرادة الخير في داخلها، ووهنا يتخلل من خلاله الشيطان للنفس بحيث تتحول إلى صورة شيطانية سافلة.
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم:{بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(1).
لك نفسٌ مفتوحةٌ على الهدى، لك قلبٌ تطلُّ به فطرته على هدايات الله، وأمامه طريقٌ لاحب لأن يهتدي، وأن يصلح، وأن يستكمل.
لكَ نورٌ في قلبك من أصل خلقتك، ولك نوافذ على نور الله في خارجك، وحين يُذنبُ أحدنا ويرتكب الخطيئة تُحيط به خطيئتُه، يقع القلب في الخطيئة أسيراً لها، تنسدُّ كلُّ نوافذ النور المفتوحة للقلب على هدايات الله بالخطيئة، يقوم جدارٌ سميك عازلٌ للقلب من كل جوانبه عن أن يرى نوراً، يبقى القلب في ظلمة، يبقى القلب بلا بصر، يبقى القلب بلا طريق لمعرفة الحق{َأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ} إحاطة تامة لا تبقي منه منفذاً إلى نور.
أرأيت ماذا يفعل الذنب في القلب؟ إنها ليست مسألة خارج، إنها ليست مسألة أن ظلمتُ أحداً من الناس خارجاً، وبقي زادي من الهدايات في الداخل على ماهو، وبقي قلبي سليماً قابلا للنهوض كما كان.
الذنبُ يفعل في القلب سوءاً، ينحدر بمستوى القلب، يثلم من قيمة النفس، وإذا صعد الذنب للشرك فهو الخطيئة التي تحيط بالقلب، وتسدّ عليه كل منافذ الهدى والنور والصلاح.
ونقرأ من الحديث:
“ألا وأن الخطايا خيلٌ شُمس نفور، حُمل عليها وخُلِعت لُجمها، فتقحّمت بهم في النار” أرأيت أن لو ركبت خيلاً فيها عنف وشراسة وسوء خلق، ثمّ خُلِع لجامها، كيف تكون؟ إنها ستسلك بك كل مسلك خطِر، ولن تملك من نفسك على ظهر تلك الخيل أمراً، وحين نركب الخطيئة فالخطايا خيلٌ شمس، فيها سوء خلق، وفيها شراسة وعنف، ولاتنتهي بصاحبها حتى تتقحّم به النار.
الخيل الشرسة ربما تقحّمت بصاحبها نار الدنيا، وإنّ الخطايا تتقحّم بصاحبها نار الدنيا والآخرة.
“الذنوب داء والدواء الاستغفار، والشفاء ألاتعود”. الذنوب لاتصدر إلا من نفس فيها مرض، وكلّما سقُمت النفس كلّما اشتدّت ذنوبها، والذنب نفسه داءٌ يُضاف إلى داء النفس حيث يحدث فيها هبوطاً في المستوى، ووهما في القابلية على الخير، وتراجعاً عن طريق الصلاح.
إن الذنب ليأكل من النفس من هداها، من صلاحها، من قابلية الخير فيها، كما تأكل الأسقام من الأبدان قواها.
عن رسول الله (ص):”احذر سكر الخطيئة(2)، فإن للخطيئة سكرا كسكر الشراب بل هي أشدّ سكرا منه”.
ويقول الله تعالى:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}(3).
“الخطيئة تُفقد الإنسان سمعه، وبصره، وفهمه”. الخطيئة تأسُر، الخطيئة تسلب اللّب، الخطيئةُ تُنهي اليقظة.
نهيٌ شامل:
والدين الذي جاء ليُزكّيَ النفوس يرى لتزكية النفوس أن تجتنب الذنب كلَّ ذنبِ {وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}(4) ومن تفسيرات الإثم الظاهر أنّه إثمٌ تُدرك إثميته العقول والعقلاء، ويُدين قبحه لبُّهم، أمّا ماهو باطن الإثم فهو إثم وقبيح في ذاته، كما هو الإثم الظاهر قبيح في ذاته. ولكن ليس كلّما كان قبيحا في ذاته أدركه العقل، القبيح في ذاته ربّما أدركه العقل، وربما خفي على العقل، أما الله عزّ وجل فلا يخفى عليه شيء، ومنه نتلقّى أنّ أكل الميتة إثم، وأن شرب الدّم إثم، وأن النظرة الحرام إثم، وأنّ الكلمة الجارحة للمؤمن في ظهر الغيب إثم، ويُدرك العقل أن القتل بغير حق إثم، وأن الإفساد في الأرض إثم. ولايكفي أن نذر ماتدركه عقولنا من الإثم ثمّ نقف متردّدين أمام ما بيّن اللهُ أنّه كذلك إثم. فاحبس نظرك، احبس سمعك، احبس كل جارحة من جوارحك، وكل جانحة من جوانحك عمّا جاء عن الله، وعن رسل الله، وعن شريعة الله أنّه إثم.
{وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}(5) وقد كرّه الله الكفر والفسوق والعصيان في فطرة الإنسان، وقد كرّه الله الكفر والفسوق والعصيان في شرائعه، وما خاطبنا الشرع إلا بما تفهم الفطرة خطابه، وما في الفطرة أصلٌ نابتٌ إلاّ وينسجم مع نهي الله وأمره.
يقول الحديث عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:”إيّاك أن تدع طاعة وتقصد معصية شفقة على أهلك لأن الله تعالى يقول:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} (6)”.
غفر الله لي ولكم، وتولّانا برعايته، وكفايته، وكلاءته.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واهدنا سواء السبيل، وامنن علينا بفضل منك ورحمة لاينقصنا معها خير، ولايلحقنا شر، ولانشكو ضرّا، ولانخاف أحداً.
اللهم اجعل مأوانا في الآخرة الجنة، وجوارنا مع النبيين والشهداء والصديقين يا متفضل ياحنان يامنان ياكريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) }
الخطبة الثانية
الحمدلله خالق كلِّ شيء ورازقه ومدبره. به تقوم السماوات والأرض, ولا قيام لشيء منها إلا به، ولا يذهب ذاهبٌ إلا بإرادته، ولايجدّ جديدٌ إلا بقدرته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاماً.
علينا عباد الله بتقوى الله ففيها زكاة النفس ونجاتها، وفي الفجور الهلاك. وما خسر امرؤٌ قد ربح نفسه بتقواها، وما ربح امرؤٌ قد خسر نفسه بفجورها. ولاتقوى إلا بترك الإثم ظاهره وباطنه وهي غايةٌ ما أبعدها، وما أشدّ الجهاد على طريق الوصول إليها.
ألا فلنجاهد النفس، ولنكثر من جهادها عسى أن تستقيم، ولاحول ولاقوّة إلا بالله العلي العظيم.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وانصرنا على أنفسنا، وقوّمها بلطفك ورحمتك في سلامةٍ وعافية حتى تستقيم على طريقك، ولاتعدل أبداً عن رضاك.
اللهم صل وسلم على خاتم النبيين والمرسلين، محمد بن عبدالله الصادق الأمين، وعلى علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة الطاهرة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين المعصومين الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن القائم المهدي.
اللهم عجل فرج ولي أمرنا القائم المنتظر، وحفه بملائكتك المقربين، وأيّده بروح القدس يارب العالمين.
عبدك وابن عبديك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم على طريقك، وادفع عنهم ياكريم.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فمع هذه الوقفات القصيرة:
نشاط المعارضة في الخارج:
ليس من الإخلال بالأمن ولامن الخروج على الوطنية أن تشرح المعارضةُ مواقفَها، وأن تُبديَ ظلامتها، وتدافع عن سُمعتها التي كثيراً ما تُشوِّهها الحكومات في الداخل والخارج.
للمعارضة أن تقول كلمتها المدافعة عن حقوقها ومطالبها؛ مطالب الشعوب وحقوقها، في الداخل والخارج في الصورة التي لاتستهدف زعزعة أمن الداخل.
وبرغم ذلك فإن صرف جهود كبيرة لكسب موقف وديّ من الحكومتين (الإمريكية والانجليزية) في غير محله وهو ضياع؛ لأن الحكومتين صديقتا مصالح وحكومات، وليستا صديقتي حقوق وشعوب.
نعم، قد يأتي من الموقف الأمريكي أنه يواجه حكومة من الحكومات ولكن الخلفية وراء هذه المواجهة دائما إحساسٌ أمريكي بأن مصالح أمريكا ليست في استمرار هذه الحكومات.
أمريكا تعادي حكومات تُحافظ على مصالح شعوبها، وتعتزُّ بأصالة حضارتها، وتذود عن كرامة وحِمى بلادها، وتحرص على الحفاظ على مصالح شعبها وثرواته.
الحكومتان (الأمريكية والإنجليزية) ضدّ هذه الحكومة، وهي مستعدة لأن تستثير شعوب هذا النوع من الحكومات إلى أقصى حدٍّ، وأن تخصص الموازنات الضخمة من أجل إحداث أعمال شغب في بلدان حكومات لاتحافظ على المصالح الأمريكية.
أما إذا وجدت الحكومتان (الأمريكية والبريطانية) من أيّ حكومة تعاوناً واستجابةً ومحافظةً على المصالح الأمريكية فهما مع هذه الحكومة، وضدّ شعبها.
نعم توصيل المعارضة صوتها إلى شعوب العالم وأحراره من أجل أن تتفهم الحق، وتقف معه، وتناصره، وتُنكِرَ على السالبين له؛ أمر معقول ومقبول ومطلوب.
على أن التعويل بعد الله إنما يكون في الأكثر على يقظة الشعوب وتلاحم الشعب الواحد والشعوب المجتمعة، واستمرار المطالبة بالحقوق بعقلانية وحكمة، وعلى نشر ثقافة الحقوق والمطالبة بها.
والمُستهدف فيما ينبغي دائما إنما هو حل المشكلات لاتأزيمها وهكذا هو دأب المعارضة في هذا البلد الكريم.
العراق والدستور:
1- البلدان ثلاثة:
أ- بلد بلا دستور: وحياته السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية محكومةٌ في هذا الحال بقبضة حديدية فردية أو حزبية أو أنها مُنتهبة للفوضى والإضطراب. فلابدّ من دستور.
ب- بلدٌ يحكمه دستور مختلف عليه أساساً ومنذ البداية، والحالة تقترب من حالة عدم الدستورية، والحياة في هذا الفرض تقترب جداً من حياةٍ بلا دستور.
فالمطلوب دستورٌ وأن يكون الدستور محل توافق وتعاقد بغض النظر عن نسبة ما فيه من عدل وظلم، وإن كان عدل الدستور مطلباً أساساً لابدّ منه.
ج- بلد يحكمه دستور هو محل التوافق. وهذه الحالة تُوفِّرُ شرطا أوليّاً ضروريّاً من شروط حياة الاستقرار وحياة التقدم وحياة الأخوّة.
وكلما كان الدستور المتوافق عليه أقرب إلى العدل وروح الانصاف، وأكثر أخذاً بما فيه المساواة كلما تمتعت حياة المجتمع بلونٍ أكبر من الاستقرار ومن روح الأُخوّة والتقدم(7).
ولن تجد عدلاً ولا صدقاً ولا أساساً لحياةٍ كريمةٍ في أي دستور في العالم يبتعد عن دين الله، والدساتير الغربية والشرقية التي لها نصيبٌ من الإيجابية إنما إيجابيتها بمقدار ما تقترب بطبيعتها من مقرّرات دين الله.
والعراق اليومَ يقترب من الحياة الدستورية، ويتمنى له أن يكون له دستوره المتوافق عليه، ولايعني التوافق على الدستور أن يُصوِّت في صالحه كل فرد فرد فذلك أمرٌ يُشبه المستحيل.
ولكن مع ذلك يُتمنى أن يكون الدستور العراقي محِل توافق طوائفه وشرائحه الكبيرة بصورة إجمالية ليجد هذا الدستور فاعليته على الأرض ويكون له احترامه.
وهل يُقارن الدستور العراقي اليوم بأي مستوى من مستوياته بدستور الأمس الذي كان من صياغة صدّام وحده؟
للعراقيين أن يطالبوا بحقوقهم، وأن يطالبوا بدستورٍ منصف، ويراعي كل الطوائف على قدر المساواة بحسب الأحجام، وبحسب القابليات إلا أن ليس لهم أن يختلفوا اختلافا ممزِّقا ينتهي بهم إلى الدمار.
والدستور العراقي صار يثير غيظ العالم المسيحي والأنظمة الوضعية في قضية واحدة هي قضية رفضه التشريع على خلاف الثوابت الإسلامية المُجمع عليها عند المسلمين، فصار يُستكثرعلى العالم الاسلامي أن يحترم ثوابته، أن يحترم ركائز وجوده الحضاري، وكلنا على هذا الطريق إذا لم نتثقف بالثقافة الإسلامية، وإذا روّجنا للديمقراطية في صورتها البعيدة عن الاسلام، وسيعيش الإسلام غربة فينا عميقة جداً إذا ضيعنا الفهم الإسلامي، وإذا لم نُفرِّق بين ما يقتضيه الموقف العملي وبين ما هو الحق في الأصل.
وكثيرٌ من الذين يصلون ويصومون ويتهجدون ويقومون بالنشاطات الإسلامية سيواجهون الإمام القائم (عجل الله فرجه) بالإنكار إذا تغرَّبت ثقافتهم.
الشأن العام المحلي:
هناك نوعان من القضايا؛ نوع خاص يرتبط بالفرد، ونوع عام يرتبط بالمجتمع.
والناس مسلمون وغير مسلمين، والذين في إطار الإسلام مسلمون وإسلاميون – إذا صحّ التفريق -؛ مسلمون عقيدةً ولكن لايتقيدون بالإسلام، وإسلاميون مسلمون على كل الأصعدة ويرون أن حياتهم لابدّ أن تتقيّد في صغيرها وكبيرها بالإسلام.
والإسلاميُّ أيها الأخوة لايُفتي نفسه في شؤونه وقضاياه الخاصة مالم يكن مجتهدا فضلا عن أن يفتي غيره وفي مسائل الشأن العام، أليس كذلك؟
ولكني أقرأ وأسمع وتصلني بعضُ الرسائل التي لاتشرح الموضوع الخارجي فحسب، ولا تكتفي بإعطاء وجهة نظر في الموضوع الخارجي وإنما تُثبت الحكم مع ذلك وتفتي لي ولغيري من شاب كريم أحترم فيه إيمانه ووعيه وغيرته لكن لاأُعطيه الحق في أن يفتي في حقي وفي حق غيري، وهو بإسلامه لا يعطي لنفسه الحق في ذلك.
الإسلاميون الأعزاء المخلصون والغيارى قد يقعون في خطأ وهم يُفتون فتاوى جماهرية وإن لم تكن باسم الفتوى. أنت حين تُشخِّص الموضوع المرتبط بالشأن العام وتُصدر الرأيَ المتناسب مع تشخيصك، وتُوجّه الجماهير إلى هذا الرأي، وتدفع بهم دفعاً للأخذ به، فماذا تفعل؟ أنت هنا تفتي وتعمل على تنفيذ فتواك، سمّيتها فتوى أو لم تسمها.
للكل أن يُنظّر، أن يُعطي وجهة نظره في الموضوعات الخارجية، ولكن بحيث لايرقى بالأمر إلى حدّ أن يدفع بالناس دفعاً حثيثاً في اتجاه ما يراه.
هناك مسائل يكفي فيها أن تعرف الحكم الكُلّي وفتوى الفقيه وأن يتشخّص عندك الموضوع فتعمل بالفتوى، وهناك أمورٌ لا تكفي فيها الفتوى بل تحتاج إلى حكم ولائي والممارسات القائمة تتجاوز حدّ الفتوى إلى مايرقى إلى حدّ الحكم الولائي.
هل هناك فرق بين القرار السياسي والخطاب السياسي؟
في قناعتي لا يصحّ للخطاب السياسي أن يُشرّق، وللقرار السياسي أن يُغرّب، ولا أن يصعد أحدهما إلى السماء، وأن يغوص الآخر إلى عمق التراب.
ولكن مع ذلك لايُطلب للقرار السياسي أن يتشّبع بكل خصوصيات الخطاب السياسي، ولايلزم أن يبلُغ طموحَه، وإلا لكان الإسلام كاملاً على الأرض لأول يوم من دولة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التي كانت خطاباتها خطابات عالية، ولكانت الدولة في بداياتها بمستوى الثورة في نهاياتها من حيث الطموح وبُعد الطرح. ولست تجد على الأرض دولة تكون من أول يوم في مستوى طموح الثورة والخطاب.
وللخطاب وظائفه الخاصّة، ومعالجاته والتفاتاته ومسؤولياته، وللقرار مسؤولية أخرى، وخصوصية أخرى. فلابدّ من فرق.
هل يقال كل شيء بحجة أن الكلمة كلمة حق؟
أقول: كلمة الحق من أجل خدمة الحق، وكلمة الحق عند سلطان جائر من أفضل الجهاد لما تُصلحه من أمر الحق. ولا يكفي لأن أقول الكلمة بأن أعرف أنها كلمة حق ما لم أعرف أنها كم ستنفع الحق أو تضرّ الحق.
إذا كان في كلمة الحق إجهازٌ على الحق حرُمت.
هل السكوت على كل المطروح إقرار وعجز؟
نسمع الكثير ونقرأ الكثير ويصلنا الكثير، ولكني شخصيا قد أسكت، وخطأٌ أن يُفسّر السكوت بأنه إقرار لكل ما يطرح أو أنه عجز عن الردّ على ما يطرح، ولي حكمة في السكوت تتصل بمصلحة هذا المجتمع ولمقتضيات الإيمان والإسلام.
سيُطالب العلماءُ الناسَ بأن يُتّبعوا إذا طالبهم الناس بأن يتحركوا، على أنّ تحرّك العلماء واجب طالبهم الناس بذلك أم لم يطالبوهم، ولكنّ التحرّك الذي يدفع إليه الناسُ يكتب على الناس أن يُعطوا وعداً صادقاً بالاتّباع، ولاتُطالبني بأن أتحرك وأنت تقول لي حين يختلف رأيي مع رأيك اذهب وحدك وأني أقف ضدك.
إذا كان القرار – أقولها صراحة- بالأغلبية فمن يُطالَب بالمواقف هم الأغلبية، ومن يتحمل المسؤولية هم الأغلبية سواء كانوا أغلبية جمعية أو أغلبية مجتمع وما إلى ذلك.
إذا كان رأي العلماء سيبقى محكوماً بأغلبية جمعية أو أي أغلبية أخرى فالعلماء لايتحملون المسؤولية، وإنما الذي يتحمل المسؤولية ويُلام بعد ذلك هم الأغلبية، وإشعار الناس العلماء بأنهم معهم مع التخلف في الموقف العملي تغرير وخيانة ومضرة للدين والمجتمع.
هناك استظهاران من رجلين عزيزين كريمين حبيبين لي عن كلمة كانت تتصل بمسألة حلّ الجمعيات نفسها احتجاجا على قانون الجمعيات، والاستظهاران مختلفان ولا غرابة في أن يختلف استظهار مع استظهار آخر لكلام ليس نصاً في معناه.
ولكن ليسمح لي الحبيبان بأن يكون لي فهمي أيضاً، وإذا كان استظهاري لكلامي غير مقدم على استظهارهما فإن تفسيري لمرادي ينبغي أن يكون مقدما على تفسيرهما لأني أعلم بما أردت، وكلمتي لم تكن قراراً في حق الوفاق لأن تتخذ موقفا معينا، ولم يكن الخطاب مقصورا على الوفاق، إنما كان الخطاب خطابا لكل الجمعيات.
وكانت في خطابي إشارة للحكومة، وإشارة للجمعيات بأنها قادرة على إسقاط القانون أو أنّ حلّها لنفسها سيكون بدرجة من الضغط الذي يُمثِّل وزناً كبيراً في هذا الاتجاه، سواء أدّى ذلك إلى إسقاط القانون أو لم يؤدِّ، وأنا أعرف أني لا أملك أن أقرّر للوفاق، وبعدُ لم أعرف أني أستطيع أن أقرر للمجتمع، أنا صوتٌ واحدٌ ولأقدر أنّي صوتٌ واحد.
أما بعدَ أن صار اتجاه كلِّ الجمعيات الإبقاء على نفسها ولايُتوقع إلا لجمعية الوفاق أن تُقدِم على الحل أو أن يكون معها جمعية العمل الإسلامي فالحل بلاشكٍّ لن يؤدّي للنتيجة المطلوبة.
وللوفاق بأغلبيتها، إدارة أو جمعية عمومية من ناحية الخارج وما هو على الأرض أن تخالف حتى الرأي الفقهي الصريح وهي تملك إرادتها ولكن ليس على العلماء أن يقولوا لها نعم، وليس لأحد أن يطالبهم بمتابعتها.
وهذا ليس استكباراً لأن كثيراً من العلماء وطلاب العلم وأنا واحد من طلاب العلم لاعضوية لي في الوفاق تلزمني بالأخذ بقرارها.
ورأي الأغلبية في ساحة الفتوى وفي ساحة الحكم الولائي محتاجة إلى مراعاة الفتوى وإلى مراعاة الحكم الولائي ولايقوم رأي الأغلبية مقام الفتوى ولا مقام الحكم الولائي.
ولو كان خطأ في قرار الأغلبية فلن يتحمله ابن التاسعة عشر عند بروز العاقبة وإنما سيتحمله العالم المُتابع، وأنا لست مستعدا أن أتحمل تبعة قرار الأغلبية لتخرج الأغلبية بسلامة ويتحمل أمثالي المسؤولية بكاملها أمام الناس وأمام الله الذي هو المنظور الأول إن شاء الله.
ثم لو سألتني ما هو رأيك في الحل بعد أن لم يكن قراراً مرتقبا إلا للوفاق تقريبا أو معها العمل الاسلامي؟ لقلت لك: لا حلّ، وهذا رأيي الشخصي وكانت الأمنية أن تُجمع الجمعيات أو أغلبها على الحل وأن يُساندها الشعب لإسقاط القانون الظالم.
ولرفع كل الغموض والتساؤلات الأخرى أقول: إن تعاملك مع أي وضع تقديرا للمصالح والمفاسد وموازنةً بينها لا يعني الاعتراف بالشرعية ولايمنع من مقاومة الخطأ لتصحيحه.
وكثيرة هي الأوضاع الشاذة والخطأ التي يتعامل معها الفاسق والمؤمن ويتعامل معها حتى المعصوم (عليها السلام) من غير أن تكون محل اعتراف له ولا يعطيها الشرعية.
وأذكر للأخوة العاملين (حفظهم الله وباركهم وأيدهم وأعزهم) بأن الواقعية بلامثالية ولارسالية كفر، وبأن المثالية بلاواقعية على الإطلاق خيال، والصحيح هو الواقعية المحكومة للرسالية ومن أجل المثالية.
والإسلام وسيرة أهل الهدى والعصمة (صلوات الله عليهم أجمعين) ثرّان بالدروس في هذا الموضوع، فلقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجمع في منهجه بين المثالية والواقعية وكل معصوم من المعصومين (عليهم السلام) يجمع في منهجه وفي سيرته بين المثالية والواقعية.
لا أدري كم يتحمل هذا المجتمع الصراحة من شخص كثيراً ما تحفظ، وكثيراً ما سكت، وكثيرا ما تلقى الأذى من غير أن يردّ.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على محمد وآل محمد، واغفر لنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم ياوهاب هب لنا من لدنك رحمة ورأفة، واكشف ما بنا من سوء، واجمع كلمتنا على التقوى، ولاتسلك بنا سبيلا غير سبيلك، ولاتجعل لنا رأيا غير رأي دينك، ولامتبوعا من خلقك على خلاف رسلك وأوليائك يارحمن يارحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 81/ البقرة.
2 – إنك في صحوة من فطرتك، إنك في يقظة من دينك، إنك في نباهة من عقلك، إنك في رشدٍ من الطريق فاحذر أن تخسر كلّ ذلك بسكر الخطيئة.
3 – 18/ البقرة.
4 – 120/ الأنعام.
5 – 7/ الحجرات.
6 – 33/ لقمان.
7 – ودستورٌ يتأسّس ظالماً فإنّه حتماً إلى الفشل، ولايقوم عليه بناء صالح.