خطبة الجمعة (177) 20 شوال 1425هـ – 3 ديسمبر 2004م
مواضيع الخطبة:
الإنسان في قوته وضعفه + مرجع دين وسياسة +لاؤنا أو لاء الله؟ نعمنا أو نعم الله؟
* إن الألسن البذيئة التي تعتدي على مقام المرجعية بعيداً عن أدب الإسلام وضوابطه الشرعيَّة، وأخلاقيته الرفيعة إنما تنال بالأذى كلَّ صالحي الأمة وأخيارها، وتنال من كرامتها وعزتها. وهو ما يفرض على الأمة أن تُدافع عن رموزها العملاقة وهو دفاع عن نفسها ودينها
*إن الصحيح للأعزّاء من الطلاب والطالبات الجامعيين أن يعلنوا بأن الرأي في ما أحلّ الله وحرّم، وأوجب، وحبَّب، وبغّض للشريعة لا لنا، وأن الحكم لله وحده لا لأحد من بعد حكمه.
هذا لمن أراد أن يكون جادّاً في إسلامه لا هازلاً.
لخطبة الأولى
الحمدلله الذي ليس لقضائه دافع، ولا لعطائه مانع، ولا كصنعه صنع صانع، وهو الجواد الواسع، سميع بصير لا يخفى عليه شيء، قدير لا يعجزه شيء، عظيم لا يحيط به شيء.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ،صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيراً كثيراً.
ألا فلنتق الله عباد الله فنعم الزاد التقوى إذ تفتح باب الهدى، وتزيد من البصيرة، وترفع من قدرة النفس على التحمُّل، وتُلهم الرضا، ويشرق منها القلب بالنور، وتُذهِبُ قبح السريرة، وتُكسبها الجمال، وتنأى بصاحبها عن النار، وتورثه الجنة.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وجمّلنا بالتقوى، وزيّنا بالعفاف، وأكرمنا بالطاعة، ونزّهنا عن المعصية، واعصمنا من النّار ياكريم يارحيم.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات، ففي سياق الحديث عن (الإنسان في قوته وضعفه) نقرأ عن أمير المؤمنين عليه السلام :”المؤمن وقور عند الهزاهز(الهزائز)، ثبوت عند المكاره، صبور عند البلاء، شكور عند الرخاء، قانع بما رزقه الله، لايظلم الأعداء، ولا يتحامل على الأصدقاء. الناس منه في راحة، ونفسه منه في تعب”.
ولنقف عند هذا الكلام الرفيع بعض وقت:-
1. كلمات شارحة:-
وقور عند الهزاهر: عندما تتعاظم الأحداث ويطغى موجها، تهزُّ كباراً من الرجال، وتتساقط عقول، وترتجف قلوب، وتذوب أفئدة، وتتراجع إرادات، وتتغير مسارات، ويتعرى ضعف، وينكشف الغطاء عن هزال شخصيات كانت تبدو متينة، ويتحول رجال إلى أطفال.
في تلك الأحداث يهتز الفكر، تهتز الكلمة، يهتز الموقف؛ ذلك لشدة الهول، وأليم الصدمة، وكبير الضغط، إلا أن من كان مؤمناً حقّاً، فإنه يبقى محتفظاً بوقاره واتزانه بلا اهتزاز، ولا قلق، ولا إرباك ،ولا اضطراب في رؤية ولا شعور.
ثبوتٌ عند المكاره: يصعب الموقف، ويتهدد بالفناء ،فيتقهقر المتقهقرون، ويولّي النَّاسُ الدُّبر، ويبقى المؤمن ثابتاً بشدة ورسوخ في الموقع المتقدم، لايهرب به فزع، ولا يولّي به رعب. يبقى مواجهاً مقاوماً مرابطاً ما اقتضى العقل والدين بلا نفاد للصبر وروح التضحية، وفي فداء لا يلين، وعزيمة لا تستكين.
صبور عند البلاء: البلاء إذا ثقل وطال يقضي على الصبر، ويسلب النفس تماسكها، ومن فَقَدَ صبره فَقَدَ كلَّ راحته ودينه وموقعه واتزانه وانضباطه ووزنه. والمؤمن يزداد على البلاء صبراً، وعلى طول المعاناة تجلُّداً. وربما زاده كلُّ يوم من البلاء قوَّة، وإلى مناعة نفسه المؤمنة من الانهيار مناعة.
شكور عند الرخاء: وفتنة الرخاء والسراء قد لا يصمد فيها قادرون على الصمود في فتنة البلاء كما مرَّ في الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله؛ فكم قد غرَّت النِّعمةُ وأبطرت وأسقطت وأهلكت، وحوّلت رجالاً أطفالاً، وأتقياء فجَّاراً.
وصاحب الإيمان الحقّ لاتستخف منه النِعمُ عقلاً، ولا تفسد شعوراً، ولاتُنسيه حقّاً، ولا توقعه في باطل، فهو يقابل ما أنعم به عليه ربّه الكريم بما استطاع من الشكر الجزيل قولاً وعملاً، سرّاً وجهراً ؛لأن النعمة لم تغيّر عليه من عقل ولا دين إن لم تزد في دينه وعقله.
قانع بما رزقه الله: له غنى في نفسه من ربّه لا يستقل معه ما في يده، ويستعلي به عن أن يمدَّ بصره إلى ما في يد غيره، ويحميه من التبرُّم والتضجُّر والابتئاس وإن قلَّ ما في الجيب، وما هو من خير العاجلة إيمانه بربه، ويقينه بكرمه وحكمته ولطفه ورحمته.
لا يظلم الأعداء: يحكم انفعالاتِه، ولا تحكمه انفعالاته، إذا انفعل لا يغلب انفعالُه عقلَه، ولا يغيِّب في موقع الشعور والنطق والفعل دينَه، ولا يميل به عن الحقِّ، ولايفسد عليه رؤيته. فالعداوة بينه وبين غيره، ولا تكون لباطل من جانبه لا تركبه ظلماً، ولا تُحدِث منه جوراً، فلا يلحق عدوَّه منه عدوان، وتجاوز لحقٍّ يقدر عليه.
ولا يتحامل على الأصدقاء: نفس يحكمها تسامح الدين، وخُلُق القوة، وطهر السريرة، فتغضي عن السيئة، وتصفح عن الخطيئة، وتذكر حقَّ الأخوة، ولاتسرع إلى القطيعة. إنّها النفس المترفِّعة التي لاتقف عند سقطات الإخوان، وزلات الأصدقاء، وتلتمس لذلك عذراً من ضعف الإنسان وغلبة الغفلة عليه.
النّاس منه في راحة، ونفسه منه في تعب: لا يسمح للشر أن يقوم في نفسه ؛ليجري منه الشيء السيىء على يده، وله من خير النفس وفعل الخير ما يُسرُّ به غيره، وتصل نفحاته العبقة إليه. أما نفسه فهي منه في تعب لا ضرر ،وفرق بين ما هو تعب وما هو ضرر، وفي جهد لا ظلم ولا إساءة. إنه ليس ممن يظلمون أنفسهم، إذ تعب نفسه منه لبنائها وطهرها وكمالها، فمن تعبها هذا تقوى وترقى، وتسمُق وتعظم وتتقدَّم.
الإمام (عليه السلام) في هذه الكلمات المشرقة يرسم صورة عن نفسه الكريمة ،وشخصيته الإيمانية القوية، ولسانه (عليه السلام) يغترف من قلبٍ يزخر بالخير، وروح تشرق بالكمال، من شخصية فولاذية قويّة ليس لها إلا طريق واحد، وهو الطريق الصاعد إلى الله سبحانه وتعالى ،إنه يرسم للناس الشخصية الإنسانية المتكاملة التي يجدها متجسدة فيه صلوات الله وسلامه عليه.
2. هذه هي الشخصية القويَّة:
فالقوي من ملك نفسه بعقله ودينه لا من ملك غيره بظلمه وقهره، كون المرء يملك الكثير من الأشياء، ويسيطر على الكثير من الناس،لا يعني أنه القوي. القوي أن يملك أحدنا نفسه، أن يكون عقله ودينه سيد قراره.
المجنون يمكن أن يُسكت العاقل، وطفل بيده سلاح ناري يمكن أن يفرض موقفاً خارجياً على عدد من الناس لا يساوي منهم شيئاً عقلا وحكمة وقوة. فلا تعني قوة الخارج أن الشخصية قوية،قوة الخارج قد تكون بيد شخصية مهزوزة قلقة مرتجفة عابثة مهزومة في داخلها.
الشخصية القوية هي شخصية يفرض كمالها احترامها، لا ظلمها وبطشها،تسلُّطها وهيبتها. الظالم والطاغي والمفسد مهزوم من داخله، ضعيف أمام نفسه، والآخرون يخافون منه هذا الضعف. الآخرون يخافون من الطغاة ضعف أنفسهم، حيث إن الطاغية لا يملك نفسه، لا يملك شهوته، لا يملك السيطرة على الشرّ في داخله، فإنما يخاف الطاغية؛ لأنه لا يملك هواه، وهواه يملكه.
الشخصية القوية هي الشخصية التي لاتملك الأحداثُ أن تذِلَّها أو تبطرها، ولاسبيل إليها لإذابتها، ولا يملك الآخرون أن يأسروها في داخلها، ويقزِّموها في شعورها بذاتها،(1) ويسلبوا منها إحساسها بكرامتها، ويُفقِدوها إيمانها بهدفها ورسالتها على أن تكون غير واهمة ولا مخدوعة ،واقعة في أسر الخيال والخرافة.
3. كيف يصنع الإيمان القوَّة؟
الإيمان – فكراً وشعوراً وعملاً- يقود إلى الله، يشد النفس إليه، يصنعها قوية كبيرة عظيمة في ضوء أسمائه الحسنى… فالمؤمن متعلق بأسماء الله الحسنى، منشد إلى جمال الله، إلى كمال الله، عاشق له..
الإيمان وهو يقود فكر المؤمن، وشعوره وعمله يلهمه رؤية الله، يغذّيه بالشعور بعنايته ورحمته ومدده ولطفه ودعمه ونصره، والله أقوى قوي، وأغنى غني، وأعظم عظيم، وأرحم رحيم، فلا يبقى بعد هذا كله ما يجعل نفس المؤمن تنهزم في داخلها، أو تحتقر ذاتها، أو تضعف أمام الأحداث والأشخاص والجهات وتنهار.
4. التحصين الخارجي والتحصين الداخلي:
نحن ضعاف شئنا أم أبينا، ولابد لنا من تحصين، ولا نقوى إلا بالتحصين، والتحصين منه ما هو خارجي، ومنه ما هو داخلي، فأي التحصينين أقوى؟، وأيهما أحمى؟
الغذاء، المال، والسلاح، والجاه، وقوة الجند والعشيرة مثلاً تحصينات خارجية، وهي عاجزة عن التأمين الكامل للإنسان وسدِّ كل أبواب المتاعب والشرور.
إننا لا نستطيع أن نملك الطبيعة، والتصرف فيها بالكامل، وإننا لا نستطيع أن نملك تصرف كل الآخرين ؛لتكون تلك التصرفات على ما نهواه. لابد أن تصلنا الكلمة المؤلمة، أن توجه إلينا سهام أعداء، يأتينا في يوم من الأيام خذلان من أصدقاء.
إنك لا تستطيع أن تقف في وجه كل الرياح بمالك وسلاحك وجاهك وعشيرتك، ولكنك تستطيع أن تتحصن في داخلك من ذلك، بأن توثِّق العلاقة بالله، تُصحِّح صلتك عبداً به ربّاً، تعمل لرضاه فتقوى به، بيقينك بمعيته لك، وقوفِه معك، دفاعه عنك، بدعمه، بمدده، بحمايته ووقايته وحفظه،وحين تكون في داخلك شاعراً بالقوّة، شاعرا بصحة الموقف، شاعرا بالدعم الإلهي فلن يغلبك شيء، ولن يهزمك شيء.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وارحمنا بمحمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
اللهم اكفنا ما أهمنا من أمر دنيانا وآخرتنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، واجعل علينا واقية باقية، ولا تسلبنا صالح ما أنعمت به علينا، وارزقنا من فضلك رزقاً واسعاً حلالا طيباً يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3)}
الخطبة الثانية
الحمدلله الحليم الذي لايعجل، الجواد الذي لايبخل، الصادق الذي لايُخلِف، الوهَّاب الذي لايَمَل، القاهر الذي لايُغلَب، العظيم الذي لايوصف، العدل الذي لا يحيف، الغنيِّ الذي لا يفتقِر، الكبير الذي لايَصغُر، الحافظ الذي لايَغفُل.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً كثيراً، وزادهم بركة وتحية وسلاماً.
علينا عباد الله بتقوى الله فإنَّها لاتحرِمُ من خير، ولاتُوقع في شرٍّ، فما حجزت عنه التقوى فإنما هو الرجس والإثم وما بطن من الفواحش وما ظهر، وما دعت إليه فإنما هو مما يحفظ للحياة دورها الكريم، ويبني الإنسان السوي، ويقيم العدل، ويحيي روح الإحسان، ويُسعد الدُّنيا والآخرة.
وما المُتَعُ الحرامُ التي تمنع منها التقوى إلا شرٌّ لو علم النَّاس {… وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}(1). ومَن أهمّته وأغرقته هذه المُتع الآثمة فقد ظلم نفسه ورضي بما هو دون قدره {… وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}(2).
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين. اللهم اصرفنا عمّا لايرضيك إلى مايرضيك، واصرف عنا السوء إلى من يحاربك ويعاديك.
اللهم صل وسلم على المصطفى خاتم أنبياء الله وَرُسُولِه محمد بن عبدالله، الصادق الأمين. وعلي علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين. وعلى فاطمة الزهراء الصديقة المعصومة.
وعلى الأئمة الهداة المعصومين الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم عجّل فرج ولي أمرك القائم المنتظر وحفّه بملائتك المقربين، وأيّده بروح القدس يارب العالمين. اللهم انصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً مبيناً.
اللهم عبدك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والعاملين في سبيلك من المؤمنين والمؤمنات، وسائر المؤمنين والمؤمنات ادرأ عنهم كل سوء، وأجرِ على يدهم الخير، وحقِّق نصرهم وعزَّهم ياقوي ياعزيز.
أما بعد أيها الملأ المبارك فمع بعض الكلمات:-
مرجع دين وسياسة:(*)
إن سماحة المرجع الكبير آية الله العظمى السيد السيستاني مرجع دين وسياسة ذلك لأن السياسة جزءٌ من الدين، ولايمارس الفقهاءُ في ظل الحكومات الوضعيَّة القائمة ولايةً فعليَّة في المساحة الأهم من الأمور، فهم أحرص ما يكون على وحدة الأمة وأمنها.
لكن إذا حكمت الضرورة وأعمل الفقيه ولايته الشرعية في مورد من الموارد التي تمثِّل مُنْعَطَفاً خطيراً يهدِّد إهمالُ الأمر فيه الدين والأمة كان لابد من متابعة رأيه، وإنفاذ أمره من قبل المكلّفين الذي يقعون في دائرة ذلك الأمر.
والفقيه الكفؤ الورع المتأدب بأدب الرسالة، المستقي وعيه وهداه من هدى رسول الله وأهل بيته صلَّى الله عليه وعليهم قيادة إسلاميَّة عامة لا شيعية فحسب من حيث الرعاية لمصلحة الأمة ووحدتها واستقلالها وسلامة انتمائها.
ويستحيل في حقِّه وهو كذلك أن ينطلق رأيه من منطلق التساهل بقضايا الأمة وعزتها واستقلالها ووحدتها، أو الإضرار بمصلحة طائفة من أبنائها، واستباحة الظلم لطائفة من طوائفها.
أمّا اختلاف الفقيه الكفؤ الخبير العدل التقي كالسيد الكريم مع رأي الآخرين فأمر وارد بلحاظ أن نظره الفقهي الدقيق قد يأخذ إلى الرأي الذي لايلتفت الآخرون إلى خلفيته من هذه الجهة، وإن كان يلحظ ويُقدِّر كل ما يلاحظونه من سلب وإيجاب يتعلق بالقضية التي يختلفون في رأيهم حولها معه.
وأما الإخلاص والوفاء للأمة، وتحمُّل ثقل الأمانة، وعدم المحاباة للغزاة الكفرة والمفسدين فأمر لا يمكن للآخرين من أهل الدنيا وطلّابها الدخول في مزايدة عليه مقابل الفقهاء الذين صاغت شخصيتهم الشريعة، وصقلتها التقوى، وسما بها حبُّ الله.
وبورك للمؤمنين في العراق عشائر، وأحزابا، ومؤسسات، ومستقلين، وجماهير عامة هذا الالتفاف والانقياد للمرجعية الدينية الكفوؤة، والنائب الأهل من نواب الإمام القائم عجّل الله له الفرج.
إنّه الموقف(3) الرشيد فقهيّاً الذي يستجيب للتكليف الشرعي، ويتعامل مع الحدث من منطلق الرؤية الإسلامية الصافية.
وهو الموقف الذي يعلّم الأمة في كل أقطارها أن تتوحّد دائماً وراء كلمة الدين ورأي الشريعة، وتأخذ بنصح علمائها الواعين الربانيين.
ثم إن الألسن البذيئة التي تعتدي على مقام المرجعية بعيداً عن أدب الإسلام وضوابطه الشرعيَّة، وأخلاقيته الرفيعة إنما تنال بالأذى كلَّ صالحي الأمة وأخيارها، وتنال من كرامتها وعزتها.
وهو ما يفرض على الأمة أن تُدافع عن رموزها العملاقة وهو دفاع عن نفسها ودينها، وتحمي تلك القمم من أن تطالها كلمة السوء بظلم وخبث نية مقيت… تدافع عن تلك القمم، عن نفهسا، عن كرامتها، عن دينها بالكلمة الجريئة، والأسلوب القادر، واللسان المبين، ولكل حادث حديث، ولكل موقف ما يناسبه.
لاؤنا أو لاء الله؟ نعمنا أو نعم الله؟(*)
لانقول بأن كل تواجدٍ من الجنسين في مكان واحد محرَّم. ولكن الاختلاط بينهما بالصورة التي تسودها أجواء التبذُّل والتميّع، والكلمات الهابطة، والحركات المشبوهة، والنظرات المغرضة، والملابس المثيرة، والممازحات المسترسلة المتلهيّة، والمداعبات والتحرشات مما لاشك في تحريمه.
فإذا كنا مصدّقين وراضين بالشريعة الإسلامية فأمر هذا النوع من الاختلاط محسوم. وإلا فلنقل بصريح العبارة أن الإسلام مرفوض في هذه الدائرة من تصرفاتنا على الأقل.
ونسأل: هل وضع الاختلاط في الجامعة من الاختلاط النظيف النزيه الذي لاتشوبه شائبة، ولا يتخلل أجواءه محرَّم؟ الجواب: من ألف شاهد وشاهد من أبناء وبنات الجامعة أن الأمر ليس كذلك.
وسيُجادل البعض في تحريم المحرَّمات التي تسود أجواء الاختلاط في الجامعة، ويقول هذا البعض كل شيء بالتصويت. وهذه قضية مفصلية، ومنعطف خطير.
حدِّدوا أننا نريد الإسلام أو لانريده، نحترمه أو لا نحترمه، فالإسلام له تشريعاته الواضحة، ومصادره المعلومة، وكلمته القاطعة، ومراجعه الكفوءة.
والإسلام يقول في كتابه الكريم {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ…}(4) وليس أن حكمه ليد ترفع مع لا، ولا لأخرى ترفع مع، لا يقوى بها الرأي الرافض، أو نعم يقوى بها الرأي الموافق.
ويقول {…. فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ….}(5). وليس الردّ في الآية الكريمة لرأي هذا أو ذاك من النَّاس مهما كانوا.
ومالنا نعطي حق التصويت في قضايا الشريعة للطالب والطالبة الجامعيَين، ولأبناء وبنات الثانوية والابتدائية في الموارد التي قضى الله فيها لكننا نُستثار ونُستنفر، ونتحرك لندمِّر أمن البلد كله إذا نطق ناطق بملاحظة سياسية حسَّاسة، أو طالب مطالِبٌ بمجلس نيابي له بعض الصلاحيات المعقولة في دائرة الشأن السياسي؟!
وكيف يَقُدم طالب جامعي أو طالبة جامعية ينتسبان للإسلام ويعلنان إسلامهما على أن يردّا على الله ورسوله حكمهما، ويقولا نعم في المورد الذي تقول فيه الشريعة لا، ويقولا لا في موردٍ قولُها فيه نعم؟!
بل كيف يعترف الطلاب والطالبات في الجامعة بحقّ التصويت لهم في مورد الحكم الشرعي بعد إسلامهم، والإسلام تسليم إلى الله وإلى الرسول؟!
أوَ هل يرى الطلاب والطالبات أن لهم حق الاجتهاد والفتوى؟ على أن التّعدّي والتحرَّش الجنسي والكلمات الساقطة، وما ماثل هذه الأمور مما يُعكِّر أجواء الجامعة حرمتُه ليست محِلاً للاجتهاد حتى ممن له أهلية الاجتهاد.
إن الصحيح أن يردَّ الكلُّ الأمر إلى الشريعة التي أعلنوا الانتماء إليها، وعند الشك في الحكم فالمرجع أهل الاجتهاد والتقوى من علمائها.
أما طريقة التصويت على الأحكام الشرعية فتعني الإلغاء لقيمة الشريعة، وانفصال العملي عنها، والاستخفاف بها، تعني هذه الطريقة القول لله سبحانه: التشريع عندنا لا عندك، التشريع لنا لا لك.
فينبغي للطلاب والطالبات وهم مسلمون أن لا يقعوا في هذه المخالفات.
إن الصحيح للأعزّاء من الطلاب والطالبات الجامعيين أن يعلنوا بأن الرأي في ما أحلّ الله وحرّم، وأوجب، وحبَّب، وبغّض للشريعة لا لنا، وأن الحكم لله وحده لا لأحد من بعد حكمه.
هذا لمن أراد أن يكون جادّاً في إسلامه لا هازلاً.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا، ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة إحسانا خاصاً.
اللهم اجعل أوقاتنا في الليل والنهار بذكرك معمورة، وبخدمتك موصولة، وأعمالنا عندك مقبولة، وسعينا إليك، وتوكلنا عليك، وثقتنا بك ياكريم. اللهم إنا نسألك عافية الدنيا والآخرة وخيرهما ياخير المسؤولين، وياخير المعطين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – قد تقيد من الأبي رجلاه، وتغلّ يداه، إلا أنه يبقى الأبي في داخله، الكبير في شخصيته، الواثق بنفسه، المطمئن إلى خطّه فتجد فيه الشخصية القوية، وتجد في جلاده الشخصية الضعيفة المهزوزة.
1 – 187/ الأعراف.
2 – 169/ الأعراف.
3 – موقف المؤمنين في العراق.
4 – 10/ الشورى.
5 – 59/ النساء.
* – هذا الموضوع جاء ردّاً على الهجمات الشعواء في الصحف والتلفزيون على سماحة آية الله العظمى السيد علي السيستاني.
* – هذا الموضوع جاء نتيجة للمسيرة التي انطلقت في جامعة البحرين (الصخير) بيوم الإثنين 27 نوفمبر 2004م المطالبة بعدم الفصل بين الجنسين.