خطبة الجمعة (172) شهر رمضان 1425هـ – 29 اكتوبر 2004م
مواضيع الخطبة:
حضارة الطين وحضارة الإنسان(23) +المجلس الإسلامي العلمائي
الشارع الذي لا مرجعية له يمكن أن يلعب بمشاعره، يمكن أن ينحرف بمشاعره، يمكن أن تؤثر عليه الشائعات والدعايات حتى يقاتل الأخ أخاه في الإسلام، فإذا وُجدت المرجعية الرشيدة احتطنا لمجتمعنا دون هذه المنزلقات الخطيرة.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي يمدُّ العقول بقدرة تفكيرها، والقلوب بهدى فطرتها، والأرواح بنور معرفتها، وهو الذي أعطى كل الخلائق هداها، ويسَّر سبلها إلى غايات أجناسها وأنواعها وحدّد مقتضاها.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراًً.
علينا عباد الله بتقوى الله، والرجوع عمّا يَبدر منا من الإثم، والتوبةِ من قريب، ومعاجلة الذنب بالتوبة؛ فإنَّ الذنب إذا ارتكب ولم يعاجل بالندم والتوبة ثلم من عصمة النفس، وأضعف من مناعتها بقدر ما يكون من الإصرار عليه. إذ الإصرار على الذنب نفسه ذنب يضاف إلى حالة حدوثه.
ولنجدّ في تنقية المشاعر من مادة السوء، وخبيث الصفات، ونبالغ في نزاهة الجوانح، فذلك هو الأصل في نظافة كل جارحة، وهو المطلوب الأول لتعاليم الدين القويم وتربيته الحكيمة، لأن الإنسان بروحه وقلبه ونفسه، لا بإذنه ويده ورجله.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين. اللهم نقِّنا من رذائل النفوس، وخبث الأرواح، ومرض القلوب، وسوء الطويَّة، وفساد السريرة، وأنر قلوبنا بأنوار معرفتك، واشغلها بجميل ذكرك، وأشواق قربك يا علي يا عظيم، يا كريم يا رحيم.
أما بعد فمع هذا العنوان من عناوين: حضارة الطين وحضارة الإنسان:
ب- حضارة الطين والعلاقات الإنسانية:-
1) على مستوى الرؤية الذاتية:
2) على مستوى الرؤية القرآنية:
3) على مستوى التصريحات الغربية:
4) على مستوى الواقع الغربي:
1- على المستوى الأول
الكلام على مستوى الرؤية الذاتية للحضارة الطينية، وما يمكن أن تفرزه هذه الرؤية من علاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان.
تفرز علاقات من النوع الإيجابي البنّاء، أم تفرز علاقات من النوع السلبي الذي يحطّم أوضاع الإنسان وإنسانيته؟ ويحول الحياة إلى شقاء؟
الحضارة المادية حضارة تنتهي في نظرتها الكونية للمادة، وتقف عندها على أنها الخالق والرازق والمدبّر والمنظّم والقائم بالأمر كلّه. المادَّة الجامدة تُرجِع إليها هذه الحضارة الخلقَ والرزقَ والتدبيرَ والتنظيم، وقيام أمر هذا العالم الضخم.
نظرة الحضارة المادية كذلك، أو أن نظرتها منقطعة عند المادة، ولا تسأل عن قضية الخلق والرزق والتدبير والتنظيم والقيام بمد هذا العالم وإدارة شؤونه.
فإما أن تفلسف هذا العالم المادي بالمادة نفسها، أو أنها تسكت عن فلسفة هذا العالم، وتصرف النظر عن طلب العلة الأولى له.
وحين يتجه النظر خطأً أو مغالطاً إلى إنكار الخالق الكامل، أو يتغافل عن قضية الإله الحق فالنتيجة أن لا قيم ولا خُلَق في ظل هذه النظرة، ولا مسؤولية حيث لا تكليف، ولا بعث، ولا حساب، ولا عقاب وراء هذه الدنيا، وكل القيمة منحصرة في لذتها ومتعتها.
وعندئذ يكون الحكم في علاقات الأفراد والفئات والمجتمعات تابعاً لمصلحة الأنا في بعدها المادي القريب ولذتها الحاضرة.
والمصلحة المادية والأنا المنشدة إليها لا تحترمان أحدا، ولا تشفقان على أحد، ولا تراعيان عهدا، ولا تعترفان بذمة. المادة جامدة بلا إدراك ولا شعور ولا ضمير، والأنا شعور حاد وإيمان شديد بمصلحة الذات.
وإذا كانت الأنا في ظل هذا الشعور الحاد المتقوقع على مصلحتها لا تؤمن إلا بالمادة، وأن لا مسرح لها إلا في هذه الحياة، فهي لا تحرص على شيء، ولا تسابق على شيء غير ما هو مصلحة مادية، ومنفعة وشهوة في هذه الحياة.
وهي مستعدة أن تقاتل على ذلك، وتسرق وتنهب، وتتحايل وتخون، وتبيع كل شيء مما يعدّه الآخرون من المقدّسات والشرف والكرامة من أجل أن تترف وتتبذخ وتتقلب في ألوان المتع واللذائذ في المسافة الزمنية التي تعيشها على الأرض.
فروح الأنا ليست في عمى دائم عن مصالح الآخرين فحسب، وإنما تدفع أسيرها لتحطيم مصلحة الآخر من أجل مصلحة الذات المادية العاجلة، وتحرق كل الآخرين من أجل هذه المصلحة.
الأنا منغلقة على قضاياها ومصالحها وهمومها، وأكثر من ذلك أنها تنفتح بعين العدوان، وتمتد بيد الشر لتغتال مصالح الآخرين، وتستبيح حياتهم ووجودهم لا من أجل أن تبقى فحسب، وإنما من أجل أن تترف وتستطيل على من تحتاج إلى بقائه في استمرار مصالحها كذلك.
وروح الأنا بطبيعتها من غرس العدل الحكيم الرحيم في الذات البشرية(1)، وهي حافظة للنفس عند كل إنسان، ودافعة له لطلب خيره في الدنيا والآخرة.
وشأن هذه الروح شأن ما وهبه الله هذا الإنسان من قوى وطاقات ودوافع ونعم يبقى بها سعيداً المدة في هذه الحياة سعادة تطيقها طبيعة الدنيا، ويكمِّل بها ذاته فيها استعدادا للسعادة الحقيقية الأبدية في الآخرة.
روح الأنا نعمة من الله ولا تتحول نقمة إلا على يد الإنسان. وكل نعم الله عند الإنسان تحوّلها الإرادة الإنسانية السيئة نقمة تحطِّم حياته، وتنتقل به إلى سوء المصير.
والمنهج المادي المنحرف الفاشل هو الذي ينحرف بكل الطاقات والمواهب والدوافع والنعم عن خطها الوظيفي النافع الكريم الذي يرسمه المنهج الإلهي لتربية الإنسان وتنضيج إنسانيته وتكميل ذاته.
الله أغدق على هذا الإنسان نعمه، وضمّ إلى ذلك منهجا تربويا ناجحا، فحين يتخلى الإنسان عن المنهج الإلهي لابد أن تتحول النعم إلى أداة شقاء لا سعادة.
فالتربية في المنهج الإلهي تتحرك بالإنسان من روح الأنا في ذاته لمصالحه الحقيقية في الدنيا والآخرة بما يلتقي مع مصالح الآخرين، ولا يتقاطع معها لأن أي إحسان للآخر يتكفّل الله جزاءه حسب الوعي الإيماني والواقع فلا يضيع إيثار ولا إحسان ولا تضحية من أحد لفرد أو مجتمع بعد هذا الضمان من الله الذي يجزي على الحسنة بأضعافها، ويعطي المحسنين في الدنيا وفي الآخرة فوق كل ثواب وكل مكافآة مما يؤمله محسن عملاً.
وما ضحى عبد بشيء من أشياء الدنيا للآخرين في سبيل الله إلا عظم أجره في الآخرة، وكان مردود عمله فوق أمل الآملين. وإن الإحسان من الإنسان في الدنيا يبني له ذاته في ظل تربية الله.
أنت تسمو وتتكامل من خلال عمل الخير على يدك، وكلما أحسنت، أحسنت لنفسك، لأنك تنشئ في داخلك حب الخير، وحب الفضيلة وتسمو من خلال هذه الممارسة.
وأما الجزاء الإلهي في الآخرة فهو مما لا أذن سمعت، ولا عين رأت.
ففي ظل هذا الوعي الإيماني لا يبقى عطاء مما تعطيه الغير من غير جزاء، والجزاء المحتوم من الله لمن أحسن عملا يفوق كل عطاء. والأخذ بغير حق خسارة كبرى في ظل هذا الوعي لأنه سقوط للعبد في عين الله، وعاقبته وخيمة في الآخرة.
فروح الأنا في ظل الوعي الإيماني تصنع عدلا لا ظلماً، ومحبة للخير لا للشر، واندفاعا للإيثار لا الأثرة، وتمسّكاً بالإحسان لا العدوان.
أما التربية في المنهج المادي فتنشئ في النفس التقديس للمصلحة المادية الآنية وتركّزه.وتأخذ بحب الذات وروح الأنا على خط الصراع الشرس على المصالح المادية الدنيوية بما يبيح الأثرة، والنهب، والغصب، والفتك، والخيانة، وكل دناءة وعدوان طلبا وحماية للحالة الترفية، والموقع الاستكباري، والبذخ المادي المجنون.
روح الأنا في ظل الإيمان تدفع كل إنسان إلى رعاية إنسانيته، وسمو روحه التي يرى فيها معناه الكبير، وقيمته العالية. وهذا الاتجاه يجعله مضحيا لا نهّاباً، بينما هي في ظل النظرة المادية تدفعه إلى الاقتتال، والاستغلال، واستباحة كل قبيح من أجل أن يكون الأكثر حظاً في هذه الحياة إلى الحدّ الذي لا يبقي في داخله أي فاعلية لروح رحمة أو إحسان أو عدل أو إنصاف.
وبكلمة موجزة إن وعي الإيمان ينفتح بروح الأنا على رعاية مصالح الآخرين، ونظرة الطين تنفتح بروح الأنا على نهب مصالحهم وامتصاص دمهم.
2 – على المستى الثاني:-
ماذا تقول الرؤية القرآنية عن علاقات تنشأ في ظل الرؤية المادية؟
الكلام في الآية التي سأقرها عن الفاسقين، والفاسقون جماعة خرجت عن تعليم الله، مالت عن خط السماء، ارتبطت بالأرض، تكلّست مشاعرها مع الأرض.
{الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }(2) ماذا يعطي الفسق؟ ماذا يعطي الكفر من نتائج عملية في ساحة الحياة؟
عهد الله موثّق، مؤكّد في العقول، في الفطر، في النفوس، ليس عهدا مكتوبا على ورق، عهد معجون بالفطرة، عهد مكتنز في الذات، عهد مختلط بالدم، عهد تتشرب به كل المشاعر الفطرية عند الإنسان وتحمله الدوافع المعنوية في ذاته، هذا العهد أيبقى عهد بعد نقضه؟! من نقض هذا العهد ماذا تساوي العقود المكتوبة على الورق عنده؟ لا شيء.
فإذاً هي حضارة نقض العهود، والتنكّر للذّمم، والخلف بالوعد، والخروج على الشرط، وحضارة هذا أولها لا يمكن أن تقوم فيها علاقات إنسانية صحيحة.
{ َيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} الكامل يأمر بوصل ماذا؟ بوصل ما فيه كمال الإنسان، بما هو عدل، بما هو حق، بما هو صلة رحم، بما هو رعاية حقوق، وهذا كله مقطّع، كله مبعثر في حضارة المادة.
حضارة المادة ترمي بالعدل جانبا، تدوس الحق، تقطع الرحم، تبتر العلاقة الإيجابية الصحيحة بين الإنسان والإنسان.
وما هو الناتج المترتب على ذلك بعد نقض عهد الله وقطع ما أمر الله به أن يوصل؟ {ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون} خاسرون في ذواتهم، وخاسرون في الحياة الدنيا، وخاسرون في الحياة الآخرة. مجتمع الشقاء، ذلك المجتمع الذي تبنيه النظرة المادية، وشقاؤه هنا قبل أن يكون في الآخرة.
وتجدون أن فساد الدنيا كلّه من فساد الإنسان {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ}.
وماذا عن المنافقين والمنافقات وهم اخوة الفاسقين والفاسقات؟
{ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }(3) والمنكر ما ينكره العقل والفطرة والدين القويم، والمعروف ما يحتضنه العقل والفطرة والدين القويم، وهؤلاء يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويقبضون أيديهم. الكافر قد يدفع من ماله، ولكن إما أن يدفع من منطلق تجاري، أو يدفع من منطلق اضطراري، أو يدفع إعلاما، أو يدفع تحت تأثير دافع آخر ليس هو الدافع المادي. فقد تدفعه بقية فطرة في داخله، أو تسرب تعليم ديني إلى نفسه من بيئته لأن يبذل شيئا في سبيل الآخر.
{نَسُواْ اللّهَ} مركز السوء، مركز الفساد، منطلق الفساد في العلاقات وتحطم العلاقات، وسوء العلاقات هو أنهم نسوا الله فنسيهم. { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }. وليس أنسى لله من الاتجاه المادي.
أقرأ الآية الثالثة وأكتفي.
{ إنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ(4)وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}(5)
وفرعون كافر مادي. والحضارة المادية الكافرة فيها فرعون المتعالي كذباً وزوراً، وطرفٌ أخر وهو طرف المستضعفين. الاستكبار والاستضعاف يلازمان الحضارة المادية بأنانيّتها المقيتة. لابد في هذه الحضارة من استكبار من فئة قليلة طاغية واستضعاف للملاين.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا ومن أحسن إلينا إحسانا خاصا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة.
اللهم كما أكرمتنا بالإيمان فثبتنا عليه، وكما وفقتنا لطاعتك فلا تفرق بيننا وبينها، وكما وقيتنا وكفيتنا فلا تكلنا إلى أحد من خلقك طرفة عين، وجنبنا كل سوء، ولقنا كل خير يا كافي ولا كافي غيره، ويا منعم ولا منعم سواه.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)}
الخطبة الثانية
الحمد لله والحمد حقّه كما يستحقه، وهو أحمد شيء، والحمد له وحده. خالق كل مخلوق، ورازق كل مرزوق، وربّ كل مربوب. لاشريك له في خلق أو رزق أو تدبير، وليس له شبيه ولا نظير. لايفي بحقِّه حمد، ولا يوازي نِعَمه شكر، عقوبته للمسيئين، وهي عدل وحق، وثوابه للمحسنين وهي تفضّل منه ومنّ. ومن مزيد تفضّله ومنّه، وكرمه وجوده أن كتب على نفسه للمحسنين المثوبة، ودعا أهل المعصية للتوبة، ووعد بالتجاوز والمغفرة.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا كثيرا.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله، وطلبِ العمل الصالح الذي هو أعود بالخير على الذات منه على الغير، وإن كان فيه قضاء حاجة ذلك الغير، ورفع ضرورته، ودفع الضرر عنه. فما أصاب أحداً من صنعك الخيرَ ما تصيب منه لنفسك، وكل خير يصل الغير من عملك يكون لك ما هو أكبر منه في نفسك إذا كان القصد وجه الله الكريم.
وإن ذواتنا تنقى وترقى ويكبر شأنها عند الله العلي العظيم بما نَوَتْ من صالح، وبما عَمِلت من خير لوجه الحي الذي لا يموت. ويعظم أجرُ الذات عند بارئها بمقدار ما عظمت وكرمت في ميزان عدله الذي لا يجور، وعلمه الذي لا يضل.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، وارزقنا النية الصالحة، وتوفيق الطاعة، وحبَّ الخير، وأجرِ على أيدينا نفعَ العباد والنصيحة لهم بما يرضيك يا مالكَ الخير، وولي النعم، يا رحمن يا رحيم.
اللهم صل وسلم على محمد بن عبدالله عبدك وحبيبك وصفيك، وخاتم أنبيائك ورسلك، وعلى علي أمير المؤمنين، وعلى فاطمة الزهراء الصديقة المعصومة، وعلى الحسنين الزكيين، وعلى علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، ومحمد بن الحسن المهدي المنتظر القائم.
اللهم عجّل فرج وليك المنتظر، وحفّه بملائكتك المقربين، وأظهر على يده دينك، وعدل شريعتك يا علي يا عظيم، ياعزيز يا حكيم.
عبدك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى وفقهم لمراضيك، سدد خطاهم وسائر المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
أما بعد أيها الأعزاء المؤمنون والمؤمنات فالحديث يتجه إلى موضوع واحد:
المجلس الإسلامي العلمائي
نشأ مجلس إسلامي علمائي في البحرين على يد ثلّة من العلماء الأفاضل، وطلاب العلوم الدينية الأعزاء، وذلك قبل أيام يسيرة.
1) المجلس ولادة:-
كان وراءه شعور طلابي بالتبعثر، وعدم وجود جهة راعية من داخل المذهب بالدرجة الكافية بالشأن الطلابي. ومعاناة ثقافية واجتماعية وغيرها تعيشها الساحة لغياب مثل هذا المجلس.
وكان وراءه الضرورة المذهبية المرتبطة بحاجة التعليم لأحكام المذهب والتبليغ والترشيد والتوجيه لأبناء الطائفة على الخط الذي يلتئم بهم في طريق الوحدة الإسلامية الكبرى ورعاية مصالح الإسلام واهتماماته.
وراءه كذلك شعور أصحاب الطاقات العلمية بعدم وجود المشروع الذي يستوعب هذه الطاقات ويفعِّلها مما يصيب الكثير بخيبة الأمل والملل والسآمة، ويحول حياة الطالب والعالم إلى حياة هامشية في هذا المجتمع.
هذا في الوقت الذي لا يمكن للدوائر السياسية أن تتحمل هذه الأمانة بما تُوافق عليه تعاليم المذهب وثوابته. ولا يمكن لأي مذهب أن يوكل أمر رعايته إلى طرف آخر، فما عرف هذا أحد في العقلاء على مدى التاريخ كله.
2) المجلس أهدافاً: وهذا ما اعتمد فيه على نظام المجلس نفسه:-
المادة الرابعة في نظام المجلس تقول: يسعى المجلس لتحقيق الأهداف التالية:-
1. “المحافظة على وحدة المجتمع وخدمته”. وحدة المجتمع كله، وخدمة المجتمع كلّه. لكم أن تبحثوا عن الطائفية بين سطور هذه الأهداف وكلماتها وحروفها فإن وجدتم فاقطعوا يدي.
2. المحافظة على الهوية الإسلامية للأمة من الطمس والتشويه والدفاع عنها أمام جميع أشكال الغزو الثقافي.
3. “تنمية الوعي الإسلامي الشامل للمجتمع”.
4. الدعوة إلى الله تعالى – بالسيف، بالرمح، بالقنبلة، بالحارقات، بالاغتيالات؟! لا – بالتي هي أحسن… والإسهام في بلورة رؤى الإسلام….
3) المجلس والطائفية: الطائفية أن تضر بالطائفة الأخرى لا أن تعالج مشاكل طائفتك، وتحاول الارتفاع بمستواك ومستواها. الطائفية أن تفرض سلطتك على رجالات طائفة أخرى بأن لا يتحركوا لرفع مستواهم وخدمة أبنائهم. الطائفية أن تضرب بيد من حديد على إرادة طائفة أخرى حين تتجه إرادتها إلى الاهتمام بشأن نفسها ومذهبها.. الطائفية أن تفرض قرارك على طائفة أخرى في مؤسساتها وفي أحكامها وفي قناعاتها.
وسمعتم من أهداف هذا المجلس ما يقول: المحافظة على وحدة المجتمع وخدمته. (1 من م4)
وتقول المادة التي تتحدث في الأساليب:”لا يأخذ المجلس بالأساليب والوسائل غير الشرعية…” (م5)، وأسلوب تفتيت وحدة المجتمع من أخبث الأساليب وأكثرها حرمة في الإسلام.
ويقول هذا النظام في بند من بنود إحدى مواده”… والتعاون مع المؤسسات الرسمية والأهلية مما يحقق الأهداف الإسلامية والوطنية الصالحة المشتركة” (3 من م5)
وإن الهدف من هذا المجلس يدخل فيه:”تيسير حالة التفاهم والتقارب مع الأخوة في الدين من أهل السنة المحترمين حتى لا تترك مشاعر الشارع – السني والشيعي – لتقلبات الظروف في الداخل والخارج فتنشأ مشاعر الشك والكراهية والبغضاء بين اخوة الدين الواحد.
الشارع الذي لا مرجعية له يمكن أن يُلعب بمشاعره، يمكن أن تُحرف مشاعره، يمكن أن تؤثر عليه الشائعات والدعايات حتى يقاتل الأخ أخاه في الإسلام، فإذا وُجدت المرجعية الرشيدة احتطنا لمجتمعنا دون هذه المنزلقات الخطيرة.
وأنا شخصيا مع مجلس علمائي أهلي مشترك واحد بين السنة والشيعة مستقل… وقد عرضت هذا على وزير الشؤون الإسلامية قبل ما يقرب من سنتين، وطرحته بديلا عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية ذي الصفة الرسمية البحتة.
وأرى أن هذا المجلس ضرورة، وأنا أول من يتقدم لعضويته أيّاً كان من يطرحه، إذا كانت أهدافه وحدوية. وإذا لم يتسع صدر السياسة لهذا المجلس الإسلامي الواحد المشترك، وأظن صدر السياسة في كثير من بلداننا يضيق عن ذلك فإن الضرورة تفرض وجود مجلسين متعاونين ينسق بعضهما مع البعض الآخر، ويدرءان عن الشارع المسلم شر الفتن.
هناك تجارب بسيطة سابقة: كان يُتفق على الندوة في مثل هذا الجامع لتعقبها ندوة في جامع سنّي، فتكون الندوة هنا وتتوقف الندوة هناك، ونحن نتهم – زأقولها مع الأسف الشديد– بعض التحركات السياسية وأنها الخلفية وراء ذلك.
4) المجلس والناحية الأمنية:-
سمعتم من بنود هذا النظام:”….. والتعاون مع المؤسسات الرسمية والأهلية بما يحقق الأهداف الإسلامية والوطنية المشتركة” (3 من م5).
هذا المجلس فيما أراه صمّام أمان عن التدهور الأمني، وليس مثاراً الفوضى الأمنية. نحن غير مستعدين أن نكون شرطياً للحكومة، ولكننا في نفس الوقت لا يمكن أن نكون أداة شغب في وجه الحكومة. نحن قوة موازنة إذا اقتضى الأمر وتطلّبت المنعطفات الخطيرة، وإنّ منطلقنا الأول وهمنا الأول هو خدمة هذا الدين والمجتمع.
والشاهد على أننا لسنا فوضويين، وأننا أحرص من يكون على الأمن الموقف الفعلي لهذه الفئة من العلماء الذي جربته الساحة شعبا وحكومة.
5) المجلس والشرعية والدستورية القانونية:-
1. الأمر هو ترتيب وضع بيت داخلي لطائفة معيّنة تعيش حالة الفوضى في وضعها، وحالة التبعثر، وتحتاج إلى لمّ الشمل المتفرق، وهل لم الشمل المتفرق للمؤمنين حرام ديناً، ممنوع دستوريا وقانونياً؟!
أنا أريد أن أنظم بيتي الداخلي، أنا وأخوتي في حراب، في شتات، أو في ضياع، أريد أن أحتاط عن انتشار الفتنة داخل هذه الدائرة من الأخوة، وداخل الدائرة الأوسع، أتحرّم علي ذلك؟!
2. الفتوى التي قالت بالتحريم تحتاج إلى كتاب غير كتاب الله، وإلى سنة غير سنة رسول الله صلى الله عليه وآله، وإلى عرف غير إسلامي، فتوى بالتحريم؟! المجلس غير قائم من ناحية شرعية؟! وهذا ما كنا نخاف من المجلس الأعلى، فتوى تصدر من المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية تقول بتحريم لملمة الشمل في دائرة خاصة من المؤمنين لتكون لملمة الشمل في الدائرة الأوسع من المؤمنين بالله ورسوله صلى الله عليه وآله، ومن أجل الله، ومن أجل المجتمع، ومن أجل الأمن، ومن أجل الوحدة.
المجلس العلمائي في الحق مقدمة لواجب كفائي، هنا وجوب كفائي بإنقاذ دين الناس، بنشر الأحكام الإسلامية، بتثبيت العقيدة الإيمانية، والمجلس الذي تتوقف عليه هذه العملية بعد وجوبها ماذا يكون؟ واجبا بالوجوب العقلي أو الوجوب الشرعي بما أنه مقدمة لواجب.
أما فتوى الحرمة فتحتاج كما سبق إلى قرآن وسنة ورسول من نوع جديد لا تعرفه رسالات السماء والكتب المنزّلة.
العمل التبليغي السلمي والدعوة إلى الله بالتي هي أحسن والآلية السلمية لهذا الأمر يحرّمها الله؟!
وكيف للدستور أن يمنع ذلك فيخرج على أقدس مصدر له وهو الشريعة الموجبة لهذا العمل، حيث يعتمد الشريعة الإسلامية مصدرا رئيسا من مصادر التشريع. أي تناقض هذا وتهافت؟! وإذا كان القانون دستورياً فلن يسعه أن يمنع ذلك، وإذا لم يكن دستورياً فلا عبرة به في حساب القانونيين.
هل يمكن لقانون في مجتمع مسلم يحترم إسلامه بعض الشيء أن يشرّع تحريم الصلاة والصوم والحج حتى يحرِّم التبليغ بالكلمة الطيبة، والدعوة إلى الله بالحكمة، والمجادلة بالتي هي أحسن؟
حرام على علماء طائفة معينة أن يُرتِّبوا علاقاتهم ويتفاهموا على اختيار الطريق المناسبة للتربية الدينية السلمية لأبناء هذه الطائفة في الإطار الذي يحافظ على وحدة المسلمين ويسعى لتركيزها؟!
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ومن أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة.
اللهم اسلك بنا أقرب الطرق إليك، وسهل لنا طلب مرضاتك، وأعنّا على أنفسنا، وادحر عنّا الشيطان الرجيم، ولا تردّنا بذنوبنا عن بابك خائبين، واجعلنا من عبادك الصالحين.
اللهم أصلح لنا أمر ديننا ودنيانا، ولا تكلنا إلى أنفسنا، ولا إلى أحد من خلقك طرفة عين يا كريم يا رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – هذه الذات من غرسها في كيان الإنسان؟ غرسها البارئ العدل الحكيم الخبير سبحانه وتعالى.
2 – 27 البقرة
4- 3 67 / التوبة
5 – 4/ القصص.