خطبة الجمعة (171) 7 شهر رمضان 1425هـ – 22 اكتوبر 2004م
مواضيع الخطبة:
حضارة الطين وحضارة الإنسان(22) + الأوقاف والقضاء+الشريعة وتصويت الشارع+ بطون وعقول
رابطة الدين، وأخوّة الإيمان دورها فاعل في توحيد الناس، ورعاية الحقوق، وتصحيح العلاقات والسموّ بها، على خلاف ما تؤدّي إليه نزعات الأرض، وما تترشح عنه الرؤى والمشاعر المنشدّة إلى المادة.
الخطبة الأولى
الحمد لله على هنيء عطائه، ومحمود بلائه، وجليل آلائه، وسبوغ نعمائه، وكثير إحسانه، وجميل عفوه، وعظيم ستره، وواسع مغفرته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الخاطئة بتقوى الله، وعدم الاغترار بإمهاله؛ فإنه إن يُمهل لا يُهمِل، ورُبَّ ممهَل كان إمهاله أشد عليه سوءاً. ورُبَّ عقوبة معجّلة لا نصبر عليها وهي خير لصاحبها لأنها منقذة له من النار لإرجاعها العبد الآبق إلى طاعة ربه ورحمته. ومن لا يصبر على عقوبات الدنيا لا يسعه أن يصبر على عقوبة الآخرة التي لا مفر له منها وقد أراده بها جبار السماوات والأرضين.
ألا فلنُشفِق على أنفسنا الضعيفة ولا نتعرض لسخط الله، وما أنا وأنت حتى نتعرض لسخط الخالق العظيم؟!
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وأعذنا من التعرض لسخطك، واستحقاق نقمتك، والدخول في أهل عقوبتك. إنا بك عائذون، وإليك لائذون، وبعفوك متعلقون، وبرحمتك مستغيثون.
أما بعد أيها الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات: فإن تسلسل الحديث السابق ينتهي بنا إلى هذا العنوان:
أ- حضارة الإنسان والإيمان:-
1) المنهج والتربية:
ويبحث عنوان: المنهج والتربية عن نوع العلاقات الإنسانية التي يدعو إليها المنهج والتربية في حضارة الإيمان، ويطالب إنسانه بها.
وعلينا أن نتابع دلالة بعض النصوص التي ترد تحت هذا العنوان:
قوله تعالى{فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ….}(1)
الشرك يعادي بين المؤمن وغيره ما دام ذلك الغير مشركاً، والشرك أمر اختياري يمكن التخلص منه وليس هو على حدّ اللون أو العرق لا خيار للإنسان فيه، ولا على حدِّ القطريّة والإقليمية التي لا يمكن أن تتسع لكل الناس، ولا على حد اللغة التي قد يكتسبها الفرد قبل وعيه وعلى يد غيره، ولا يُمثِّل فارقها الشيء المهم بالنسبة لعمق إنسانية الإنسان.
وحسب الآية الكريمة عندما يتخلى الطرف الآخر عن شركه يدخل في أخوة مقدّسة واحدة مع سائر المؤمنين، تجعل له ما لهم وعليه ما عليهم، ولا يفضلونه أو يفضلهم إلا بالتقوى، وهي أفضلية لا تعطي امتيازات في الحقوق الدنيوية إلا في موقع يرتبط فيه الحفاظ على مصلحة المجتمع الكبير بعنصر التقوى، فيكون ذلك الموقع مشروطاً بها.
ورابطة الدين، وأخوّة الإيمان دورها فاعل في توحيد الناس، ورعاية الحقوق، وتصحيح العلاقات والسموّ بها، على خلاف ما تؤدّي إليه نزعات الأرض، وما تترشح عنه الرؤى والمشاعر المنشدّة إلى المادة.
ونقرأ في هذا المجال قوله تعالى:{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً…}(2)
كانت النظرة الأرضية تمزق صفوفهم وتعادي بينهم، ويعيشون من منطلقها الصراع على الأشياء الصغيرة، والقضايا الحقيرة. والإيمان هو الذي وحّدهم بعد الفُرقة، وجمع شملهم بعد الشتات حتى صاروا الإخوة الذين لا يستعلي بعضهم على بعض، ويسوءه أن يصيبه مكروه، ولا يهنئه أن يغنى وهو فقير، وأن يشبع وهو جائع، وأن يأمن وهو خائف، وربما آثره على نفسه، وقدّم حاجته على حاجته.
وأخوة الإيمان التي تستشعرها القلوب، وتجد معناها النفوس، ويعرفها وجدان الإنسان المؤمن يزيدها الجعل الشرعي رسوخاً في العقل والقلب {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ….}(3)
ولا تتخذ حضارة الإيمان من تعدد الشعوب والقبائل، أو تعدد الجنس واللون وما شابه ذلك سبباً للصراع بل تُحلّ محلَّه التعارف والتآلف، وتفتح باب السباق في الخيرات، والكمالات الإنسانية الرفيعة، والكرامة عند الله المرتبطة بتقواه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(4)
فإذا كانت غاية خلق النَّاسِ شعوباً وقبائل هي التعارف، فغاية التشريع الحقّ لا تختلف عنها بل تتطابق معها.
وخطاب القرآن لرسول الله صلى الله عليه وآله أنه رحمة للعالمين، ولا يكون كذلك إلا بهداهم وتوحيدهم، والمساواة بينهم في العدل، ووضعهم جميعاً على طريق الصلاح والفلاح والسعادة بعيداً عن الاعتبارات العنصرية والقومية والجغرافية واللغوية وغيرها {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }(5)
2. اعتراضان:-
الدعوى بأن حضارة الإيمان لا يترشح عنها إلا علاقات إنسانية إيجابية خيّرة، وأن حضارة الطين والمادة المترشّح عنها علاقات سيئة، علاقات تناح وصراع وتكالب على الدونيات،أمامهااعتراضان:
أ- حضارة الإيمان تُقسِّم الناس إلى مسلم وكافر، وإلى تقي وفاجر، ومؤمن وفاسق… وتثير المسلم ضد الكافر. وهذا صراع تثيره هذه الحضارة.
وللإجابة على هذا الاعتراض يُذكر التالي باختصار:-
1. الكفر يعني جحود الحق، وتغطية الحقيقة ومعاندتها. معنى الكافر أنه مغطّي الحقيقة، والذي يهضم الحقيقة حقّها.
الشمس حقيقة ساطعة، إذا كفر الإنسان بها غطّاها بقوله ودعواه إنكارا لوجودها. الله عز وجل أظهر شيء، وظهور كل شيء بظهوره سبحانه وتعالى. الكافر يستر هذه الحقيقة التي هي أكثر الحقائق سطوعا، بل لا حقيقة من دونها إلا بها، يسترها بإعلامه المضلل، بدعاواه الكاذبة، بخططه الخبيثة، بدوره المفسد للعقول والفطر. هذا هو الكفر.
2. وهو وضعية مصادمة لخط الكون والفطرة الذي هو خط العبادة لله والخضوع لإرادته.
كل شيء في الكون ناطق بحمد الله، بتسبيح الله، شاهد بعظمة الله، والحاجة إلى الله، وكل شيء في الكون خاضع لإرادة الله، آخذ إلى غايته على المسار الذي حدده الله سبحانه وتعالى إليه، حتى الإنسان الكافر في جانبه غير الاختياري عابد لله، مسبح باسمه، حامد له، متعلق بذيل كرمه وجوده.
فالكفر، وهو انحراف عن الله، واستدبار لأمر الله ونهيه وهو قبل ذلك خروج إنكار لمعرفته، وضعية مصادمة لخط الكون والفطرة الذي هو خط العبادة لله والخضوع لعبادته.
3. وهو – أي الكفر – أرضية للظلم بعد أن كان يمثل خروجاً على أكبر حق على الإطلاق. ماذا يساوي حقك من حق الله حتى إذا خرج الكافر على حق الله لا يخرج على حقك؟
4. وهو أرضية للانحدار السلوكي بعد أن كان مفتقداً لأساس القيم الذي لا يبقى منه شيء بعد الإنكار لله، والمصادمة للفطرة. بعد أن ينكر المرء الله عز وجل، ويخرج على الفطرة ويصادمها يكون قد خرج على القيم كلها، لأنه لا مصدر في الأساس للقيم إلا أن الله موجود وكامل، وبالدرجة الثانية إلا هذا الصوت المجلجل في داخل الفطرة بالقيم الخلقية من غرس يد الله المبدعة الحكيمة الرحيمة.
5. فيه تعطيل للغاية من خلق الإنسان وهو كماله وسعادته الأبدية التي لا يمكن أن تتحقق إلا على الخط الإلهي، و بالارتباط بالله، والانصياع إلى الله سبحانه وتعالى.
وعلى هذا كله تكون مناهضة خط الكفر، ومدرسته السافلة من صميم الحفاظ على الصالح الإنساني كله بلا تمييز بين إنسان وآخر، ومقدّمة ضرورية لخلق علاقات إنسانية شريفة. ولأنه لا يمكن أن تسلم العلاقات الإنسانية الإيجابية العادلة الكريمة على خط الكفر كانت محاربته عين الدفاع عن هذه العلاقات ونموها وثباتها.
على أن الإيمان لا يدفع لظلم أحد حتى الكافر {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
ب- الاعتراض الآخر: أننا نرى من حضارة الإيمان، وفي داخل الدين الواحد والملة الواحدة والمذهب الواحد أنها غير قادرة على تحقيق علاقات إنسانية رائعة، تلك العلاقات التي تتحدثون عنها، فالحسد والحقد والتقاطع والتدابر والظلم والاستعلاء على الآخر والكيد كلّه نجده في الدائرة الإيمانية الواحدة.
وما يردُّ هذا الاعتراض هو أننا لا ندّعي بأن الانتماء الاسمي للدين قادر على خلق الواقع الصحيح على الأرض، وأن الدين يعمل في صناعة أوضاع الحياة والإنسان بعيداً عن إرادة الإنسان نفسه.
فما نراه هو أن الدين بعقيدته ومفاهيمه ورؤاه وأحكامه وأخلاقيته وتربيته وقيادته للحياة، يُضاف ذلك إلى استجابة الإنسان له قادر على أن يعطي أكبر النتائج الإيجابية على مستوى صناعة الإنسان وأوضاعه وعلاقاته الإيجابية الراقية المتميزة.
الدين ليس فاعلاً حيّاً مريداً ينفِّذ إرادته الحديدية بقهر، ويعطي النتائج المطلوبة له على نحو الجبر، وعلى معزل من إرادة أبنائه، وإنما يعطي من هذه النتائج بقدر أخذهم به، وتحلّيهم بمطالب تربيته.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا، ومن كان له إحسان خاص علينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم باعد بيننا وبين من يؤذينا وما يؤذينا، وأخرجنا من كل سوء، واجعل علينا واقية تنجينا من الهلكات، وآونا إلى رحمتك، واكفنا بكفايتك، و أغننا بإحسانك يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ(4)}
الخطبة الثانية
الحمد لله جاعل الليل لباساً، والنهار معاشا، والأرض مهادا، والجبال أوتاداً. تدبيره فوق كل تدبير، وتقديره لا يشبهه تقدير، وهو المحيط بكل كبير وصغير.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وزادهم تحية وبركة وسلاما.
أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله التي لا تأخذ بأهلها إلا إلى الخير، ولا تنأى بهم إلا عن الشر، ولا تعقب يوما ندامة، ولا تورث يوماً حسرة.
ولا تقوى لمن لا يراقب نفسه، وينظر في عمله، ويرجع عن خطئه، ويعرف للنّاس حقوقهم فلا يبخسهم من حقّهم شيئاً. ويعظم حق المرء بإيمانه، وبه تكبُر حرمته عند الله، ويعلو مقامه.
فلنتق الله في حرمات المؤمنين وإلا فقد صغّرنا الكبير عند الله، وحقّرنا ما هو عظيم عنده. وما يحدث ذلك من مؤمن بالله بحقٍّ.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، واجعل تعظيمنا لما عظّمت، وتصغيرنا لما صغّرت، وسعينا لما أمرت، وإدبارنا عما نهيت، ورغبتنا في ما رغّبت، وزهدنا في ما زهّدت يا حنّان يا منّان يا جواد.
اللهم صل وسلم على نبيك المصطفى محمد بن عبدالله، وعلي علي أمير المؤمنين، وعلى فاطمة الزهراء، الصديقة المعصومة.
وعلى الأئمة الهادين الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، والإمام المنتظر المهدي.
اللهم عجل فرج وليك القائم المنتظر، وحفّه بملائكتك المقربين، وأيده بروح القدس يا رب العالمين، وانصره نصرا عزيزا، ومكّن له تمكيناً كبيراً.
عبدك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، وسائر المؤمنين والمؤمنات وفقهم لما يسعدهم ويرضيك.
أما بعد أيها الملأ المؤمن فإلى هذه الموضوعات:-
1. الأوقاف والقضاء:
مؤسستان كل منهما محتاجة إلى الإصلاح، فبِمَ تصلح هاتان المؤسستان؟
أ- الأوقاف:
1. الأوقاف ذات طبيعة أهلية واضحة فلا يرد أبداً أن تسلخ عنها طبيعتها.
2. وهي محتاجة إلى جهاز إداري لا تعيّنة المحسوبية والولاءات الشخصية التي يمكن أن تتسلل إلى التأثير على قرار التعيين ولو بوسائط، وإنما تعيّنه كفاءته وأمانته المفتقرة دائماً إلى تقوى وعدالة، أو وثاقة تتناسب وطبيعة الوظيفة المسندة إلى الشخص.
3. ولابد من التوفر على القدر الضروري من الفقه الذي يمكّن هذه الإدارة من ممارسة وظيفتها على هدى الشريعة، والذي يولد عندها السؤال عن الحكم الشرعي في المسائل المجهولة، فإن تولد السؤال في مورد معين قد يحتاج إلى خلفية فقهية وحسّ فقهي، وإلا لم يرد السؤال على الذهن أصلاً.
4. لابد من وجود التوجيه والإشراف الفقهي الذي يضمنُ دقة المحافظة على الأحكام الشرعية المتعلقة بالأوقاف في مختلف الشؤون التي تضطلع بمسؤوليتها، المؤسسة المذكورة، وتطبيقها تطبيقا أمينا.
وهذا الشرط لا يغني عنه سابقه الذي يتحدث عن درجة من الإلمام الفقهي دون مستوى التخصص.
5. والتعامل الرسمي مع الأوقاف لابد أن يكون بوصفها مؤسسة أهلية مستقلة كما تفرض طبيعتها بكل وضوح، وإن كان للدولة أن تشرف عليها على حدّ إشرافها على المؤسسات الأهلية الأخرى ذات الطابع الاجتماعي.
هذا، هو الرأي في الأوقاف.
ب- القضاء:
مما يتطلبه إصلاح القضاء هو الآتي، والكلام في القضاء الشرعي الجعفري:-
1. قضاة أكفاءٌ من ناحية علميّة، أمناء عدول، تُغطّى الحاجة إليهم محليّاً ما وسع الأمر، ولم يعطِّل ذلك المرافق الدينية الأخرى كالحوزة العلمية، ويستعان مع عدم استيعاب الحاجة عن هذا الطريق بالخارج، على أن يتم الإعداد الجاد للتغطية الكاملة من الداخل. وهذا لا يعني عدم وجود كفاءة وأمانة في القضاء الآن على الإطلاق.
2. لا يُعيّن غير المجتهد إلا بأن يكون حائزاً على إجازة للقضاء من المرجعية الفقهية العامة في النجف الأشرف مثلاً خروجاً من الخلاف، وضماناً لإحراز المتخاصمين شرعية قضاء القاضي.
3. وأن يرأس القضاء فقيه عادل مطلق مسلَّم له أنه كذلك.
4. ولابد من إشراف إداري محكم ونزيه يلاحق التجاوزات والقصور والتقصير.
5. أما الشكوى من عدم التقنين لأحكام الأسرة الذي يُسهِّل على القاضي والمحامي والمتخاصمين، ويوحّد الأحكام القضائية الصادرة في القضايا المتماثلة كما يقال فسأترك التفصيل في موضوعها والمناقشة المستوعبة لهذا الأمر في هذا المقام لأنها غير داخلة في الغرض هنا بالفعل.
ولكن يمكن القول بطرح بديل لا تسجَّل عليه إشكالات التقنين الوضعي ويعالج موضوع هذه الشكوى باعتماد فتوى المرجعية العامة في النجف الأشرف مثلاً في أحكام الأسرة، ووضعها في لغة قانونية مع الحفاظ على مضامينها تماماً، وذلك بعيداً عن المجلس الوطني، وأي مؤسسة تقوم مقامه في وظيفة التشريع لو كان، وتعتبر هذه الأحكام بعد أن تُصبّ في لغة قانونية مدوّنة خاصة بالمحاكم الشرعية الجعفرية على أن تكون خاضعة لتعديل المرجعية المعنية أو أي مرجعية عامة مستكملة للشروط عندما تأتي بعدها.
وأي قاض وافق اجتهاده أو تقليده هذه الفتاوى المصوغة بلغة القانون، والمحتفظة بقيمتها الشرعية فقضاؤه بين المتخاصمين على أساس رأيه الموافق لا إشكال فيه، وشرعية حكمه مستمدة من رأيه المتعبّد به لا من موافقته لرأي المدوّنة.
أما من اختلف رأيه عن اجتهاد أو تقليد مع رأي المدوّنة فعليه ترك القضاء في مورد الاختلاف لغيره ممن يتوافق رأيه مع فتواها.
أما اعتماد مدوّنة ملفّقة من فتاوى العديد من الفقهاء على مر التاريخ، – كما قد يكون مطروحا – وفرضها بصورة دائمة، وإلزام القضاة الموافقين والمخالفين لرأيها بالحكم على أساسها ففيه أكثر من محذور لأنه أشبه بالعملية الانتقائية التلفيقية التي تستجيب للضغوط الخارجية على حساب الناحية الشرعية، وفيه أن حكم القاضي المخالف في رأيه للمدوّنة طبقا لها بلا مستند شرعي في نظره، بل مستنده مخالفٌ هو الحكم الشرعيّ في حقِّه.
2. كما أن في ذلك حرماناً للأمة في هذا الباب من ثمرات الاجتهاد المستجد، وإلغاء للقيمة العملية الاجتهادية في هذه المساحة الخاصة.
2. الشريعة وتصويت الشارع:
مرة تطرح الشريعة للتصويت في المجالسِ النيابية، حتى لا يكون الحكم الشرعي المتنزّل من عند الله سبحانه وتعالى ماضيا إلا بإمضاء عبيده، ومرة يأخذ التصويت نحوا آخر، بأن تُطرح الأحكام الشرعية لتصويت الشارع.
تحت هذا العنوان الشريعة وتصويت الشارع يأتي هذا الكلام:
طريقة إثبات الهلال، حضانة الأولاد، تعدد الزوجات، الاستنساخ؛ هذه الموضوعات وغيرها كثير من الموضوعات الخاضعة للحكم الشرعي تُطرح في بعض البرامج الإذاعية وغيرها كالمجلات لتصويت الشارع العام عليها من حيث الحكم صحة وفساداً، وحرمة ووجوباً وإباحة. فما هو الغرض؟
واضح أن الشارع المسلم لحدِّ الآن وفي الكثير من أبنائه لا يعتبر الرأي العام والأغلبية في الأصوات مرجعية مبرئة للذمة في مجال الأحكام الشرعية. فعليه لا تستهدف المحاولة أن تحدث نقلة سريعة هائلة مفاجأة من المرجعية الشرعية إلى مرجعية الشارع.
لكن مطلوب هذا الطرح للأحكام الشرعية للتصويت العام:
1) تذويب قدسية الحكم الشرعي في نفوس المسلمين. وإنهاء الارتباط العملي للمرجعية الشرعية في هذه الأحكام المتمثلة في الفقهاء العدول المستوفين للشرائط بصورة تدريجية وعلى المدى المتوسط أوالبعيد.
2) خلق الجرأة على أحكام الشريعة بإعطاء حق القول فيها لكل المستويات. طالب ابتدائي يُسأل: في هذه المسألة الشرعية، وتلك المسألة الشرعية؟ تعطي صوتك لها، أو تعطي صوتك ضدها؟
3) هناك هدف وهو: فتح الطريق لتسلل مرجعيات مصطنعة عميلة من الشرق أو الغرب لمواقع الإفتاء بديلاً عن الفقهاء العدول المأمونين من أصحاب الغيرة على دين الله والذين لا يشتريهم مال ولا دنيا.
وهذه الإذاعات والصحف والمراكز التي تطرح الأحكام الشرعية لرأي الشارع وبصورة سوق للانتقاص العلني هي نفسها ترى أن للقوانين الوضعية مختصِّين وخبراء وأساتذة لا يصح أن يحل محلهم في وظيفة التقنين أهل الاختصاصات الأخرى فضلا عن العامة.
والكثير من أبناء المسلمين ينساقون من غير حساب وراء الكيد بالإسلام الذي تدير عمليته مثل هذه المصادر. والصحيح أن يأتي على لسان المسلم جواب واحد في مثل هذه الحالة: مصدرنا الكتاب والسنة ونظر الفقهاء العدول هو المعتبر.
3. بطون وعقول:
الناس بطون وعقول وأرواح. ومطالب البطون اللقمة وهي تفرض نفسها على الإنسان كما تفرضها على الحيوان، فتدفعهما على حد سواء لطلبها، والمقاومة والحرب من أجلها. فمن لم يُشبِع البطون وهو قادر على ذلك فضلاً عن مستلبها يعرّض نفسه للحرب.
وللناس من حيث عقولها وأرواحها حاجات معنوية متميزة لا يحمل الحيوان همّها، وهي تحرك المجتمع الإنساني في اتجاه التوفر عليها والدفاع عنها والتضحية في سبيلها؛ ومنها العلم والدين والحرية والكرامة والعزّة.
وكلما كان المجتمع أكثر وعياً ونضجاً في الدين وارتباطاً به كلما كان أكثر التحاماً وتطلباً لسدّ هذه الحاجات وإحساساً بمأساة مصادرتها. ولا يرضى أبنا مثل هذا المجتمع أبداً أن يُتنكر لهذه المعنويات أو تمس بسوء وإن أغدقت عليهم الدنيا ما أغدقت.
ومن حاول أن يشتري رضا المؤمنين بتضييع هذه القيم بغذاء البطون فقد أمعن في إهانتهم. أعطني قيما، ولا تعطني لقمة. وإن كنت سأحارب من أجل اللقمة بدافع من جوعة البطن، ولكني سأحارب بوعي أكبر، وبإصرار أكبر، وبعزة أكبر من أجل القيم. والمساومة على الدين بالدنيا بكل لذائذها وتسهيلاتها ومشاريعها وخدماتها مع هؤلاء أكبر ضربةٍ توجَّه لكرامتهم.
فلا يمكن أن يُقابَل الدين في ضمير المؤمن بأي صفقة دنيوية، وبأي صورة راقية معيشية في الحياة، ولا يُقابل الخبزُ الكرامة(6)، ولا مواقع الجاه، والمال والسلطان العزّة بالله، ولا التقلب في لذائذ المادة وشهواتها الحرية.
غفر الله لي ولكم، وتاب الله علينا وهو التواب الرحيم.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا وأصدقائنا ومن كان له حق خاص علينا من مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة.
اللهم لا تسلبنا نعمة من نعمك التي مننت بها علينا، ولا ترمنا ببلية وقيتنا منها، ولا تضلنا بعد الهداية، ولا تفقرنا بعد الكفاية، ولا تسلمنا بعد الوقاية، وما كان بنا من سوء دنيا أو آخرة فأنقذنا منه يا قدير يا كريم يا رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – 11/ التوبة.
2 – 103/ آل عمران.
3 -10/ الحجرات
4 – 13/ الحجرات
5 – 107/ الأنبياء
6 – لا يقابله وزنا.