كلمة سماحة آية الله قاسم في حفل التكليف الشرعي الثاني 2004
كلمة سماحة آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم
التي ألقاها في حفل التكليف الشرعي الثاني
الذي أقامه مشروع تعليم الصلاة والقرآن بالدراز
ليلة الاثنين 20 / 6 / 2004م بجامع الإمام الصادق (ع)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا النبي الكريم محمد وآله الطيبين الطاهرين ، بك نستهدي ربنا وبك نستعين .
السلام عليكم أيها الأحبة ورحمة الله وبركاته :
التكليف مقرون بالتكريم ، كرم الله هذا الإنسان بأن رزقه العقل ووهبه المشاعر العلوية التي تتجه به إلى الله وتدعوه إلى الكمال وأن يبني نفسه البناء الصحيح الرصين الطاهر الكريم الذي يسابق به ملائكة الله ، ولمّا كرّم الله عز وجل هذا الإنسان بالعقل والمواهب الكبيرة والروح المتطلعة حتى نسب نفخة الروح التي أودعها في كيان هذا الإنسان له سبحانه وتعالى بإضافة خاصة ، ونفخ فيه من روحه ، وكل شيء من الله وروح الحيوان من عند الله ، ما من روح إلا هي من عند الله عز وجل لكن إضافة روح الإنسان إلى الله عز وجل في الآية الكريمة جاءت لتعبر عن شرافة هذه الروح وعن منزلة هذه الروح ، وكرامة هذه الروح .
لما كرّم الله الإنسان بالعقل وبالمواهب الكبيرة والروح العلوية كلفه وجعله مسئولا ، ولم يكلف الإنسان ولم يكن المسئول عن عمله وعن مستقبله وعن مصيره ودوره في هذا الكون إلا بما أعطاه سبحانه وتعالى من كفائة وبوئه إياه من موقع .
ويوم التكليف هو يوم للتكريم في الحقيقة ، الله عز وجل كرمك بما وهبك وكلّفك بما كرّمك ، فهنيئا للإنسان المستقيم على درب التكليف ، لأنه إذا استقام على درب التكليف حفظ مستواه واستحق الكرامة التي وهبها إياه الله سبحانه وتعالى ، وإذا انحدر عن خط التكليف فقد انحدر عن خط التكريم ، ملازمتك خط التكليف احتفاظ منك بخط الصعود والكرامة .
انحراف أحدنا عن خط التكليف خسارة للخط الصاعد خط الكرامة ، الروح العلوية ، العقل المدرك للحقائق الكبرى ، المشاعر القدسية في داخل هذا الإنسان ، قيمتنا من خلال العقل المدرك لأمهات الحقائق ، وليس لهذه الحقائق الصغيرة أن ندرك حل هذه المعادلة الرياضية ، أن نكتشف هذه النظرية المادية البسيطة هذه عروض ، ولكن العلم الأشهر الأكبر أن نكتشف الحقيقة الكبرى التي تعطي لكل الحقائق الأخرى واقعيتها، وتعطي لكل الحقائق الأخرى وجودها .
هذا العقل الذي به امتاز الإنسان نخسره ، حين ننحدر عن خط التكليف ، فكل الذين يتعاملون مع التكليف تعامل غير مسئول تراهم يفقدون القدرة على إدراك أسطع حقيقة وأكبر حقيقة وأعظم حقيقة ( الله سبحانه وتعالى ) .
يخسر هذا الإنسان المشاعر الطاهرة حين ينحدر عن خط التكليف ، إذا تخلى عن صلاته ، تخلى عن صيامه ، تخلى عن زكاته ، عن حجه ، عن خمسه ، يجد نفسه شيئا فشيئا قد غاب نور الروح داخله، فلم يعد ذاك الإنسان المطمئن الواثق المستريح إلى ربه سبحانه، المستريح بقلبه بروحه بعقله إلى الله سبحانه وتعالى ، لم يعد يجد نفسه ذلك الواثق المطمئن المستريح الروح ، يتحول إلى إنسان كلما أفاق على حقيقة الوجود ووجد نفسه بعيدا عن الله كلما اضطر وقلق وتمزق في داخله ويئس ، النور الروحي المشاعر القدسية ، التطلعات البعيدة الأنس بالله الأنس بالآخرة ، الأنس بالعمل ، كل ذلك يفقده . فقد يصدر العمل من الإنسان ويحقق له مكاسب مادية لكنه يجد نفسه غير منسجم داخليا مع العمل، يجد نفسه غير كبير من خلال عمله ، لم يروي في إنسانيته من خلال العمل .
سرق فلان مليون دينار حقق مكسبا ماديا ، لكنه مع هذا المكسب المادي هل يجد رفعة في عمله ؟ هل يجد نفسه قد نمى كإنسان؟ قد تقدم كإنسان؟ قد فارق الأرض إلى السماء فارق أخلاقية الأرض ، فارق قبضة الطين ، فارق جمود الطين ، همود الطين ، بلاهة الطين إلى أفق الروح وإلى أجواء الروح . هل كبر أمله على المدى البعيد ؟ هل صار يطمئن ويجد في نفسه في داخله إنسان أكبر من الآخرين أن له إنسانية أكبر من إنسانية الآخرين ، إنسانية العابد من إنسان المضحي من إنسانية المنقذ للآخرين ، من إنسانية الذاكر لله من خلال سرقته .
كونه سرق مليون دينار ، قبل لحظة يده كانت خالية من مليون دينار ، الآن صارت يده مليئة بمليون دينار ، هذا المليون الدينار هل يرفع من معنوياته، كما يرفع من معنويات المصلي أن وجد نفسه قد صلى صلاة فيها ذكر وفيها حضور ، الصائم يصوم فيجوع ويعطش ، وربما ضعف ووهن في جسمه، ولكن لا ينتهي اليوم ويحقق شوط اليوم الصيامي حتى يجد جوا روحيا جديدا في داخله ، يجد معنوية أكبر ، يجد أنه قرب ممن تطمئن إليه النفوس وتهوى إليه القلوب من الله سبحانه ، من الحقيقة الأزلية الأبدية ، هذا اليوم الصيامي رفع من المستوى المعنوي لهذا الإنسان جعله يحس بمعنوية أكبر جعله يشعر بقيمة أكبر ليس في جسده ، وليس في أمواله ، لازال فقيرا لكنه يشعر أن نموا ما قد حصل لإنسانيته ، قد حصل لإرادته ، أن خيرية أكبر حصلت في داخله فصار يجد نفسه أكثر خيرية مما لو أفطر ، من أنه لو عصى .
قبل الصلاة يجد الإنسان نفسه مضطربا يشعر بالمسؤولية أنه مطلوب ، أنه مكلف ما لم يصلِّ ويتوفق ولو بعض الشيء لأن يحسن صلاته حتى يجد أنه قد تحقق له مكسب جديد وأنه قد أدّى شيئا واجبا ، وفي أدائه هذا الواجب وجد إرادة ووجد روحيته صائبة ووجد أنه على طريق صحيح ، أنه قد غدّى زادا داخلي .
يسعى الساعي فيقتل شخصا يربض على كنز من ذهب وفضة ، فيستأثر القاتل بذلك الكنز .. حقق مكسبا ماديا كبيرا ، ولكن هل يشعر أنه حقق مكسبا إنسانيا ؟ هل أن معنوياته ، هل أن روحياته صعدت؟ هل يجد صعودا أم يجد هبوطا ؟
وهل يجد من إنسانيته أنها إنسانية منهزمة ؟ صحيح يجد نفسه إرادة شيطانية وبؤرة شيطانية لكن هل يجد في داخله إنسانية متبلورة ؟ إنسانية صافية .. قوّة في إرادته الإنسانية .. شموخا في إرادته الخيّرة . لا يجد هبوطا ، يستوحش – لو أفاق بعد حين – من نفسه لقلّة شأنه في نظره . بينما المصلي الصائم المؤدي للحقوق ، الماسح لدمعة اليتيم ، المنتصر للمظلوم على الظالم ، لم يحصل في يده على شيء جديد ، لكن يجد في داخله أن إنسانيته متنبهة ، وأنه إنسان أقرب إلى الكمال وأنه راضٍ لنفسه بما فعل ، يعطي مليون دينار خمسا ، فيخسر ماديا في الظاهر لكنه يجد لذة الانتصار على الذات، على الأنا، على الشح، على البخل ، يجد نفسه أقوى على الدنيا التي تريد أن تملكه ، يجد نفسه أن له إنسانية ما يستطيع أن يبرهن على القوى والصمود والإرادة الخيّرة ، بحيث أن هذه الإنسانية تهزم ما دونها من المادة ولا تهزم ، فنحن في أدائنا الأعمال التكليفية ننتصر .. نحقق نموا .. نحقق تقدما .. نحقق تقدما إنسانيا .. نحقق قفزة روحية ندفع ببعض أجسامنا ولكن نحقق لأنفسنا وأرواحنا درجة من الصعود من خلال ما نؤديه من تكاليف ، من خلال تضحيات بدنية ومن خلال تضحيات مالية ومن خلال تضحيات بالوقت ومن خلال تضحيات بالشهرة في سبيل الله سبحانه وتعالى .
اليوم بدخولكم التكليف أيها الأبناء الكرام الأعزة تكونون قد دخلتم حياة المسؤلية ودخلتم حياة المواجهة للتحدي الشيطاني ، وللتحدي المادي ، وللتحدي الجاهي لكل الإغراءات ولكل زخارف الدنيا . أنتم اليوم بدأتم امتحانا طويلا وهو امتحان الإرادة الإنسانية، امتحان الإرادة الإيمانية، امتحان أنكم تمتلكون ذواتا إنسانية رائعة راقية ، أم إنها غير ذلك ، كما استطعتم أن تؤدوا الصلاة برضى، أن تؤدوا الصوم برضى، أن تقوموا بواجباتكم الإلهية ، اعرفوا أنكم من المختارين في الأرض وأنكم من النخبة في الأرض وأنكم من عباد الله الصالحين ، الذين بشرهم بجنات عرضها السماوات والأرض .
غفر الله لي ولكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .