خطبة الجمعة (156) 8 ربيع الثاني 1425هـ – 28 مايو 2004م
مواضيع الخطبة:
حضارة الإسلام (9) – مسيرة المقدَّسات – المفاوضات في الشأن العام – المال – القمة العربية
نشدِّد جداً على المطالبة بالتحقيق الدقيق الموضوعي للوصول إلى المسؤول بعينه عن الاعتداء بالقوة الغاشمة على المسيرة السلميّة المنضبطة ومعاقبته. أما أصل المسؤولية فهو أمر ثابت عياناً ولا يحتاج إلى تحقيق
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي وسعت رحمته كلّ شيء، وأفاض بجوده على كل شيء، وأحاط علمُه بكل شيء، وعمّت قدرته كل شيء، ولا يخرج عن قدرته شيء. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يبلغ قدرته قادر، ولا يحيط بعلمه عالم، ولا تُشبه رحمته رحمة راحم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلّغ فأدّى، وعلّم ففهّم، وربّى فزكّى، وحكم فعدل صلى الله عليه وآله وزادهم رحمة وبركة وسلاماً.
أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله والصبر على ما كتب، والرضى بما قضى، فإنه المحمود على كل حال الذي لا يصدر منه قبيح، ولا تأتي منه إلا الحكمة، ولا يكون منه إلا الحق، ولا يجري على يده إلا العدل، ويُرتقب منه التفضّل والإحسان، فلا تُصدّقُ عليه وسوسة النفس وخداع الشيطان، ولا يُقضى على قضائهِ وقدره بتزيينات الهوى، والنظر القاصر، وإيحاءات الظروف، وأماني الضلال، وتوهُّمات الخيال.
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد وأعذنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات من أن نُسيء بك ظناً، أو نزن بعدلِك عدلاً، أو نساوي بحكمك حكما، أو نقيس بإحسانك إحساناً، أو نشابه بتقديرِك تقديراً، وبخُبرك خُبراًً. اللهم اغفر لنا ولهم، وتب علينا إنّك أنت الغفور الرحيم، التواب الكريم.
ولنكمل الآن يا إخوة الإيمان الحديث عن (حضارة الذكر وحضارة النسيان):
سبق هذا العنوان الفرعي:
آيات وتأديبات:
{.. وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(1)
آيات الله عز وجل تترى إلى الناس على يد الرسل، ومنها آيات كونية لتذكّر هذا الإنسان، وتثير في داخله كتاب فطرته. وكتاب فطرته ناطق بذكر الله، مسبّحٌ باسمه الكريم، هادٍ لهذا الإنسان لما هي غايته القصوى، وما هو هدفه الأخير؛ وهو هدف الوصول إلى الله سبحانه وتعالى بعقله وقلبه وروحه حتى لا يبقى بينه وبين الله حائل يمنع نفسه من رؤية الله سبحانه وتعالى.
{… وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(2)
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}(3)
سبق الحديث حول هذه الآيات التي تذكّرنا بأن لله سبحانه وتعالى آيات من أجل إيقاظ النفس، ومن أجل وضعها على طريق هدايتها، وإزاحة أستار الشيطان، وغبار السيئات، وكل ما يمنع من رؤية الحق سبحانه وتعالى مما يأتي على النفس مما كسبت من شر، ومما أصغت إليه من حديث سوء، ومما دخلت فيه من باطل.
{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}(4)
سبق الحديث أن مما ينزله الله سبحانه وتعالى بعباده من نقص في المال، من نقص في الولد، من كوارث، مرّة يكون عقوبة وكسرا لغرور هذا الإنسان، ولئلا يضل من الناس كثيرا، لأنه لو استمرّ للطغاة نعم تعطيهم الانتفاخ وتعطيهم الانتفاش من غير أن يمسهم سوء أبداً ربّما تألّهوا في نفوس الكثيرين فأضلّوا أجيالا من الناس يريد الله عز وجل لهم الهداية.
فتأتي من هذا المنطلق دروس إلهية لا تنفع هذا الطاغية وإنما تُنقذ غيره من الوقوع في الغرور به، وهناك دروس أخرى وآيات أخرى تأتي لهداية الضال العاصي نفسه وردّه للطريق، ولو استمرت له عطاءات الخير، وتدفّقت عليه نعم الله دائما بلا بلاء لكان من أهل النار، ولكن لأن الله سبحانه وتعالى يريد بهذا الإنسان رحمة يُنزل عليه من البلاء ما يُنقذه ويجعل نفسه من بعد ضلالها مهتدية.
ووجه آخر لثلمة في بعض النعم، لشيء من البلاء الإلهي يأتي على إنسان أو أمة، وهو أن تقام على هؤلاء العصاة الحُجّة، فقد يقول بعض العاصين ربنا إنك أعطيتنا فطرة، وجعلت لنا من هدايات الرسل، وهدايات الكون ما يكفي ولكن النفس أمارة بالسوء والإغراء والاستغراق في النعم قد ينسي، فيأتي الدرس القاسي ليوقظ، فحتى لو لم ينفع مع هذه النفس إلا أنه يكون حجة مضافة جديدة عليها.
فهذه الآيات ترجع بالنفس إلى الواقع، وإلى الحقيقة، وتخلّصها من الوهم، ومن الغرور، ومن الذهول الذي قد يعتريها بسبب توالي النعم، وعدم البلاء.
فالرفاه والنعمة والصحة والقوة قد تجرّ الإنسان إلى درجة من الغرور والنسيان لربّه الكريم.
{أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ}(5)
هؤلاء قد أُقيمت عليهم الحجة من خلال البلاء المتكرّر الذي لم يوقظ فيهم ضميرا، ولم يحيي قلبا، ولم يبعث فيهم شعورا حيوياً بحق الله سبحانه وتعالى.
فهناك موت للمشاعر، وفقد للاحساس، وتعطّل في جهاز الاستقبال قد يصيب الإنسان إلى حدّ أن لا تفيد معه النعم ولا النقم، وأعوذ بالله من هذه الحالة التي تفقد النفس فيها قابلية العودة إلى الله والأوب إلى رحمته تبارك وتعالى.
نتائج:-
للنسيان نتائجه، وللذكر نتائجه.
أ- النسيان: نقرأ من نتائج النسيان:
{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} (6)
الوضع الإنساني كلّه يُصاب بالتدهور، وتعمّ الفوضى الاجتماعية، وتتقطّع العلاقات بين الإنسان والإنسان، وتسود العداوة والبغضاء حين يُنسى الله، ويكون الانفصال عن المنهج الإلهي المربي.
المنهج الإلهي ضرورة لابدّ منها لاستقامة الحياة، فكما أن معاندة أي قانون من قوانين الطبيعة قد تُسبّب الهلكة أو المرض العضال فكذلك معاندة أي قانون من قوانين الاجتماع التي سنّها الله سبحانه وتعالى، وأي حكم من الأحكام الإلهية له نتائجه الوخيمة الحاضرة والمستقبلة.
تقول الآية الكريمة: { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} فهناك نتيجة دنيوية ونتيجة أخروية يشير إليها قوله سبحانه وتعالى {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ}.
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً} (7)
فهذا الإعراض عن ذكر الله في حياة الفرد، في حياة الأسرة، في حياة المجتمع الصغير، في حياة المجتمع الكبير يُعقب هذه النتيجة الواضحة من الآية الكريمة وهي الظمأ، الضيق، الاختناق. الحياة مهما كان فيها من نعم مادية، ومهما استطاع الإنسان أن يزيد من درجة الإنتاج الاقتصادي، ومهما تقدمت الوسائل الأمنية، والوسائل السياسية، ووسائل الإنتاج بيده إلا أنّ كل ذلك لا يمكن أن ينقذه من حياة الخناق، وحياة الضيق، وحياة الاكتئاب، وحياة الاضطراب والقلق، وفقد الثقة، والانشطار الداخلي عند النفس مما يُقلقها ويفزعها ويجعلها تعيش المعاناة. لا ينقذ من هذا السوء الدنيوي، ولا ينقذ من سوء الآخرة إلا منهج واحد هو منهج الله الذي يقوم على ذكره، ويقود الحياة في اتجاهه سبحانه وتعالى.
هذا جزاء دنيوي؛ وعن الآخرة:
{… وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} فلا تدخل اليوم في رحمة الله، وهو يوم الفزع الأكبر، يوم لا سند، ولا معتمد، في يقين النّاس إلا الله. في الحياة الدُّنيا وفي الآخرة لا سند ولا معتمد إلا الله، إلا أن النفوس تؤمن بهذا تمام الإيمان وتتيقّنه في يوم الآخرة حين ينكشف الغطاء، وتسقط كل الأصنام، وتذهب كل الأوهام، وتنحسر كل الأخيلة، ويبدو كل شيء عملاق كان يعبده الناس قزما بل لا شيء على الإطلاق، ويسفر في كل نفس أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
في ذلك اليوم يأتي الناسي لآيات الله في الدُّنيا الخطاب: {… وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}.
لا ننسَ الله، لا ننسَ الآخرة. اللهم لا تنسنا ذكرك، ولا تصرف وجوهنا عن وجهك الكريم، ولا تصرف وجهك الكريم عنا.
{فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.
كان عملهم عملَ الناسي لله، الناسي لنعمه، الناسي لعظمته، الناسي لحقّه، الناسي لقدرته، الناسي لجبروته وقهره، الناسي لجماله وجلاله وكماله.
{.. رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا..} هنا مؤاخذة على هذا النسيان، مؤاخذة دنيوية، ومؤاخذة أخروية، والعبد الذي يفيق على خطئه، ويلتفت إلى تقصيره يُنادي: {.. رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا..}.
نتيجة أخرى: {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}
من يعمى ويلهو وينسى ذكر الرَّحمن يكونُ الفريسة السهلة للشيطان وجند الشيطان، يستولي عليه ضلال مغطّ مظلم كموج فوقه موج من الظلمات لا يُبقي له بصيص نور، ولا يهتدي معه إلى حق.
النفس تقع في فخ الشيطان، في زنزانة الشيطان حين تنسى الله سبحانه وتعالى، والشيطان له جنده، وله عمّاله، وهذه النفس تكون صيدا سهلا لجند الشيطان وعمّال الشيطان.
هذا وللذكر نتائجه، والحمدلله رب العالمين.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، اللهم أسعدنا جميعاً بذكرك، وامنحنا نعمة شكرك، ولا تُفرّق بيننا وبين طاعتك، وجنبنا مواقعة معصيتك، وهب لنا من لدنك رحمة تسد نقصنا، وتداوي داءنا، وتنقذنا من فقرنا وضعفنا، وهمنا وغمّنا وذلّنا، وسوء حالنا في ديننا ودنيانا يا رحيم يا كريم.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}
الخطبة الثانية
الحمد لله الواحد الأحد القهَّار، العزيز المتكبّر الجبَّار، ربّ الليل والنهار، ومالك الأخيار والأشرار، العليم بالأسرار والإجهار. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. له الوحدانية الكبرى، والشأن العظيم المتعال، وله الجلال والجمال، وليس ككماله كمال. وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله؛ هدى إلى الصراط، ودلَّ على النجاة صلَّى الله عليه وآله الهداة.
علينا عباد الله بتقوى الله، ولا تقوى إلا بما وقى، فلنطلب منه وقايته عن معصيته، ولنسأله التوفيق لطاعته، ولتكن تقوانا بأن نتعلم من دين الله ما نجهل، وما علمناه منه يكون للعمل؛ فعن الرسول صلَّى الله عليه وآله “تمام التقوى أن تتعلم ما جهِلت، وتعمل بما عَلِمت”.
اللهم أقبل بقلوبنا وقلوب إخواننا المؤمنين والمؤمنات عليك، واسلك بنا جميعاً طرق الوصول إليك، وذُدنا عن موارد معصيتك، وباعد بيننا وبين موجبات مَقْتِك ونقمتك، وما يحرمنا عفوَك ويسلب عنا نعمتك.
اللهم صلّ وسلم على النبي الكريم، ذي الخلق العظيم، خاتم النبيين والمرسلين، الرؤوف بالمؤمنين محمد بن عبد الله الهادي الأمين، وآله الطاهرين.
وصل وسلم على عليٍّ أمير المؤمنين، وإمام المتقين. وصل وسلم على فاطمة الزهراء، النقية الزكية المعصومة.
وصل وسلم السبطين الطاهرين، والإمامين المعصومين الحسن بن علي بن أبي طالب وأخيه الشهيد الحسين.
وصل وسلم على أئمة المسلمين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري القادة الميامين.
وصل وسلم على إمام العصر، الموعود بالنصر، محمد بن الحسن المنتظر القائم.
اللهم عجل فرجه، وسهّل مخرجه، وانصره نصرا عزيزا، وافتح له فتحا مبينا، ومكّن له دينه، وانشر به عدلك وسلامك وأمنك على عبادك.
عبدك الموالي له، السائر على منهجه، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين العاملين، وكل مؤمنة ومؤمنة وفقهم لمراضيك، سدد خطاهم، بلّغهم مناهم مما يسعدهم ويرضيك.
أما بعد يا إخوة الإيمان والهداية فأكثر من وقفة مع أكثر من محور:-
مسيرة المقدَّسات:-
1. إن ضرب المسيرة العلمائية لحماية المقدَّسات مثَّل بكلِّ المقاييس الموضوعيَّة مفاجأةً مذهلة، ويصعب تفسيره إلا بحمله على تعمُّد عملية تخريبية للوضع القائم، وحرف المسار إلى (180 درجة) من الناحية الأمنيَّة وذلك بلحاظ خصائص المسيرة من حيث العدد ونوعية المشاركة والغرض الذي كانت من أجله، وما كان يُتوقع أن يحدثه الهجوم الشرس عليها من قتل لا يهدأ الشارع بسببه لسنوات، ولا تفيد معه التبريرات والمعالجات لمنع التفجّرات الخطيرة المترتبة عليه.
2. وقد حدثت اختناقات وقتية ورضوض وأكثر من إصابة وبصورة شاهدة على العمد والتربُّص.
3. نشدِّد جداً على المطالبة بالتحقيق الدقيق الموضوعي للوصول إلى المسؤول بعينه عن الاعتداء بالقوة الغاشمة على المسيرة السلميّة المنضبطة ومعاقبته. أما أصل المسؤولية فهو أمر ثابت عياناً ولا يحتاج إلى تحقيق.
وحين لا يُعيّن التحقيق الشخص المسؤول فذلك يمثّل على أقل تقدير عجزا في التحقيق، وفشلا في هذا الأمر.
4. حتماً علينا شكر المؤمنين على شعورهم الديني الدفّاق واندافعهم بقوة وإخلاص للمشاركة في مسيرة المقدسات تلبية لنداء الواجب، وكذلك على انضباطهم وحرصهم على أمن البلد وسلامة ممتلكاته. والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
5. إن الخطوة التي اتخذها ملك البلاد لاحتواء ذيول الحادث وتداعياته تعبّر عن موقف ذكيّ وحكيم، وتنمّ عن حرص على حماية الوضع العام عن التدهور، والرغبة في الأخذ بأسلوب الحوار وسدّ باب الفتنة، ونحن نقف مع هذا التوجه وما يستلزمه من موقف عادل في هذه القضية والقضايا الأخرى، ومن تسريعٍ لخطوات إصلاحيَّة تشكل خطاً ثابتاً متصلاً يصح أن يطلق عليه بحق أنه خط للإصلاح. نتمنى أن تتوالى خطوات متصلة ومتوالية بحيث تؤكّد على الأرض أن هناك خطّا إصلاحيا جاداً.
وسيبذل الشعب كل ما في وسعه لتشجيع هذا الخط بالتمهيد له والتفاعل معه وحمايته.
6. لا يعني تغيير الأشخاص في أي موقع وفي أي وزارة شيئاً مهما للنَّاس إلا بمقدار ما يعنيه من اقتراب السياسة الجديدة في هذا الموقع لمصلحتهم واعتبار كرامتهم وأمنهم وحقهم في التعبير الحر النافع الذي يُفصح عن الشكوى والنقد والمقترح، ويطرح المطالبة العادلة، بالأسلوب اللائق.
ويمكن لوزارة الداخلية أن تكون الوزارة المحبوبة إذا ظهر أن هدفها أمن المواطنين لا رعبهم، وخيرهم لا شرهم، وإذا رُؤي من سيرتها أنها لانتصار المظلوم على الظالم، ومنع كل المنتسبين إليها من الاحتماء بالموقع واستغلاله في الانتهازية والنفعية وتصفية الحسابات الشخصية مع الضحايا البريئة من مستضعفي الشعب وبعض الفئات الأخرى، وإذا رُؤي منها أنها تبدأ محاسبتها العادلة لهؤلاء المنتسبين والمقرّبين قبل محاسبتها لأي شخص آخر.
المفاوضات في الشأن العام:
1) المفاوضات التي انفتح بابها بصورة أولية والخاصة بالشأن العام والمسألة الدستورية، وقضية المشاركة والمقاطعة في الانتخابات النيابية القادمة جديتها وسرعتها وتوقيتها أمرٌ مهم جداً لمصلحة الوطن وينبغي أن لا يميّع بالتسويف وتوسعة الأطراف المشاركة في الحوار؛ حيث إن الخلاف الجذري في وجهة النظر منحصر بين الجمعيَّات المعارضة وجانب الحكومة، ومع اتفاق هذين الطرفين لن يكون هناك خلاف من سائر الجمعيَّات السياسية وأي مؤسسة أخرى من نوعها على المستوى العملي مع ما ينتهي إليه الحوار من نتائج متفق عليها بين الطرفين؛ طرف الحكومة والجمعيات السياسية المعارضة.
فالمصلحة والاقتضاء الموضوعي يفرضان أن يكون الحوار ثنائيا بين الحكومة وبين المؤسسات السياسية المعارضة.
المال:-
المال له دور أصيل، وله دور محرّف، وله دور تافه.
1. المال له دور أصيل: فهو يصنع علما وقوة صالحة، ونهضة خيرة شاملة، وسعادة حالية وممتدة. المال يبني أمما. يبعث بعد موت، يحيي من مات، يُوجع الحق إلى نصابه. المال إذا وُظّف التوظيف الصحيح أعطى نهضة متقدمة، وحياة سعيدة، وآخرة رابحة.
من خلال المال يتعلم الجاهل، ويُرشد الضال، وتتقوّم النفس، وتتزكّى، وتنهض الإرادة، وتصحّ حالة الإنسان.
2. والمال كما له هذا الدور، يمكن أن يكون له دور آخر محرّف فهو يصنع ترهّلا، يسقط إرادة، يُفسد أخلاقاً، يُحطّم أمما، يوجد عدوانية، يُشقي دنياً وآخرة، يفسد نفوساً، عقولاً، يهدم بيوتا، يحطّم أمماً، يُحوّل خط الإنسان من خط صلاح وفلاح إلى خط ضلال وفساد وانحطاط.
3. والمال يمكن أن يكون له دور تافه، يمكن أن يخضع المال لسياسة الاستهلاك العشوائي، إلى تغذية الحالة الترفية، أن يكون من أجل الاستهلال للاستهلاك استجابة ساذجة للمخططات التجارية الاستنزافية الكافرة بالقيم، والعابثة بجهد الإنسان وكرامته.
مثلاً: لماذا التماثيل الكثيرة تملأ زوايا البيت والمتجر والمعرض وغيرها؟ لماذا مئات الألوف من الدنانير لساعة واحدة تُبذل في ثوب العروس؟ مئات الألوف من الدنانير، أنت لا تنظر إلى عروس واحدة، انظر إلى جميع الزيجات التي يُبذل فيها المال لهذه الممارسة، وهل ليس هناك وجه آخر يمكن أن يوظّف فيه هذا المال توظيفاً مُنتجاً؟ ولماذا صباغة وجه لساعة واحدة أو ساعتين ثم تُمسح كل هذه الصباغة وهي تستنزف مئات الألوف من الدنانير كذلك؟
مبالغ باهضة تُنفق في ملابس تملأ خزائن متعددة نسأل أيضا لماذا هذا كله؟ فلنطلب المال ولا نُقصّر في طلبه ولكن لصنع النهضة، ولتقدّم الأمة للعلم، لبناء المجتمع، للموقع السياسي الجيد، لحماية الأمن، لتثبيت العقيدة، للقوة الصالحة من أجل العدل والقيم والإصلاح وسعادة الإنسان. لتكن القوة المطلوبة للهدف الصالح لا كالتي بيد أمريكا والكفر العالمي حيث توظّف للفساد والإفساد للأرض والإنسان، ومن أجل الرعب والظلم والغطرسة الجاهلية.
وعلى طريق طلب المال الحلال من أجل البناء الصالح على طلّابنا أن يُجهدوا أنفسهم في دراساتهم المدرسية، ومن أجل الرشد والهدى والصواب عليهم أن يبذلوا ما بوسعهم في دراساتهم المسجدية، في تنسيق بين المسارين من أجل أن يكونوا رجال دنيا ودين، وإيمان وخبرة، ومعرفة وقدرة.
ثم إنه على أي قادر أن يطلب المال لإصلاح شأنه وشأن أهله ومجتمعه وأمَّته.
والحركة الاجتماعية والثقافية العامة الصالحة تحتاج إلى مال كثير وبذل واسع، وكلما ازداد المعوزون انصرف المال لسد حاجات الأفراد والأسر المحتاجة دون مشاريع النمو الثقافي والاجتماعي.
ومرد العوز في بعض حالاته إلى روح الكسل وقلة الخبرة، وضعف التحصيل العلمي المنتج في المسار المادي، وهو في حالة من الحالات يرجع إلى سوء التدبير، وفقد الحكمة في التصرف، وروح الاستهلاك غير الهادف والرشيد.
وأنبّه في هذا المجال بأن مناسبات الزواج في مختلف الأوساط حتى الفقيرة تستهلك مالا كثيرا بصورة غير مبرّرة شرعا أو عرفا في الوقت الذي نفتقد فيه مشاريع علمية وإصلاحية جمة.
نحن مجتمع بلا مشاريع، نحن غائبون علميا، غائبون اجتماعياً، غائبون في تثبيت مشاريع تخدم تاريخ هذه الأمة، وتنشر الهدى. لا نتوفر على حوزة لائقة، لا نتوفر على جامع كبير لائق، لا نتوفر على مكتبة عامة لائقة، لا نتوفر على جامعة، لا نتوفر على مجلات تنشر الهدى وتنطق بالكلمة القرآنية المشعّة، وهذا خلاف الرشد والإحساس الكريم العنيق. إنفاق المال في الحالات الترفية، وتضييعه في كثرة اللباس الضائع، وفي الأصباغ الضائعة، وفي تبدّل الموضات كلّ ذلك خلاف الرشد، والإحساس بالمسؤولية الذي يجب أن يتحلى به المجتمع المسلم.
القمة العربية:-
أطرح هذا السؤال: أمن المقبول والصحيح أن يكون موقف القمة العربية من العربدة والعبث الأمريكيين في فلسطين وبلاد الرافدين شجبا لفظيا على حدّ الشجب اللفظي الذي يملكه إمام مسجد قابع في زاوية من زوايا مجتمعنا؟ أو كاتب في صحيفة، أو رجل عادي في الشارع؟ الرجل العادي في الشارع يشجب أمريكا لفظيا، والقمة العربية أيضا تشجب أمريكا لفظيا وكفى؟!
طاقات الأمة ومواقع قوتها التي تحت يد القمة لا تعطي إلا كلمة شجب لا واقع يصدّقها قبلها أوبعدها؟! وهي كلمة يطمأن بالموافقة الأمريكية عليها وإلاّ لم تتجشّم كلفتها، ولم يكن هناك امتلاك جرأة كافية على نطقها.
الشجب في فرض القمة لا يصدق إلا بأن يأخذ موقفاً ضاغطاً فعلاً على الإرادة الأمريكية الظالمة، ويقول لها بأن هنا أمة، وهنا إمكانات، وطاقات، وإرادة قادرة على الصمود والفعل.
وهل فقدت القمة كل القدرة المادية على الضغط والانتصار ولو الجزئي لقضايا الأمة؟ أو المفقود الوزن النفسي المطلوب والقدرة الإرادية الضرورية، والتوحّد في الموقف أمام الغطرسة الأمريكية وهو توحّد كثيرا ما يحصل عند العديد من دول العالم العربي ضدّ حق الشعوب؟! هذا التوحّد نجده كثيراً ضدّ حق الشعوب، ولكن لا نجده مرة ضد الإرادة الأمريكية الظالمة، شيء مؤلم جداً.
إن المحاذرة شديدة جدا دون تكدير الخاطر الأمريكي ولو حدثت التصفيات الواسعة لأبناء الأمة وديست كرامتها بإذلال الرجال وانتهاك النساء والاستهانة المتعمدة بالمقدسات.
أما قرار الإصلاح فعلى ضبابيته فهو بلا إلزام ولا آلية ولا وقت محدد.
وعلى الأرض لا شيء من أجل الفلسطينيين ومحرقتهم، ولا العراقيين وتقتيلهم وإذلالهم واللعب بهم وبمصيرهم، ولا من أجل الحرمات والمقدسات.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا ومن أحسن إلينا إحسانا خاصاً.
اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة، تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – سورة البقرة ، الآية 221
2 – سورة إبراهيم: 25
3 – سورة الزمر ، الآية 27
4 – سورة فرعون: 130
5 – سورة التوبة: 126
6 – سورة المائدة: 14
7 – سورة طه: 124، 125