خطبةالجمعة (143) 6 محرم 1425هـ – 27 فبراير 2004م
مواضيع الخطبة:
الحبّ والبغض(3)– بين أهل البيت والأمة.. أمس واليوم – لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه
أرجو أن لا يكون الموقف موقف غضب آني، وأن لا يكون موقف أفراد، وإنما يجب أن يكون الموقف موقف شعب رافض لأن تمسخ هويته، ولأن يُسلب دينه، ولأن يؤخذ على يده من أجل التهويد والتنصير بل العلمنة.
الخطبة الأولى
الحمد لله له الأسماء الحسنى، والنعم والآلاء، ومنه المبدأ، وإليه الرجعى، وليس لكماله حدٌ ولا منتهى، ولا يبلغه خيال ولا نُهى.
أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ووليه وصفيه وحبيبه، صلى الله عليه وآله، وزادهم جميعاً بركة وتحية وسلاما.
أوصيكم عباد الله ونفسي التي تدعوني إلى الإثم بتقوى الله، الذي ما عقِل امرؤٌ إلا واتقاه، وما أفاقت نفسٌ إلا وخشيته، وما صنع شيءٌ نفساً مهدية رشيدة صالحة كما تصنع تقواه، وما أنقذ أمرٌ من الهوى وبراثن الشيطان كما تنقذ خشيتُه، وما بُني مجتمع على أشد صورة من الإحكام والرصانة، وعمق المودة والاحترام، وأهلية الرقي كما يُبنى بطاعته، ولا يُبلغ خيرُ دنياً ولا آخرةٍ عن طريقٍ كما يُبلغ بمتابعة أمره والانزجار بنهيه.
عباد الله ألا إنه لا رب غير الله، ولا إله سواه فلتكن تقوانا منه، وتعلقنا به، وطاعتنا له، فإنه لا نفع ولا ضر بيد مُطاعٍ غيره، ولا خير ولا شر بيد معبودٍ سواه.
اللهم صل على محمد وآل محمد، وأعذنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين من سلطان الهوى، وغلبة الشيطان، وسحر الشهوات، واجعل لنا حاجزاً من تقواك دون مواقعة معصيتك، وصارفاً من حبك عن الميل إلى ما لا يرضيك، وأنت أرحم الراحمين.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات في الله فلا يزال الحديث في موضوع الحب.
اعرف منزلتك عند الله:
عن الصادق عليه السلام: “من أراد أن يعرف كيف منزلته عند الله فليعرف كيف منزلة الله عنده، فإن الله يُنزل العبد مثل ما يُنزل العبدُ اللهَ من نفسه”.
عبدٌ يُنزل الله من نفسه أنه الرب الذي تجب طاعته، ويتحتم تعظيمه، ويوقَف عند نهيه، ولا يُتخلَف عن أمره، الرب الذي لا رب سواه، والمعبود الذي لا معبود غيره، وأن أمراً ما في الكون كله لا يحدث إلا بإذنه، وأن كل الأسباب المنظورة إنما تكون لها السببية وتكون لها الفاعلية بفيض منه سبحانه، فالفاعل الحقيقي هو لا غيره. هذا العبد المعظم لربه، المطيع لمولاه، له منزلة عند الله سبحانه وتعالى، هي منزلة العبد المستسلم لربه. و العبدُ المستسلم المطيع الواثق، إذا كان الرب هو الله أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وهو على كل شيء قدير، فلن يكون من أمر هذا العبد ما يحتاجه مما ينفعه إلا وسيجده، وسيكون في حراسة الله، وفي رعايته وكلاءته، وهو سعيد دائماً بفيض الله ومدده.
أما عبدٌ آخر يُنزل الله تبارك وتعالى – على عظمته وجلاله وجماله المطلق– منزلة في نفسه هي أقل من منزلة طفله، هي أقل من منزلة زوجه، هي أقل من منزلة جاره، ويقدم كل الطغاة، ويقدم كل الآخرين من عدوٍ وصديق على الله، ، يهاب العدو بما لا يهاب به الله، ويحب الصديق بما لا يحب به الله، ويعطي الطاعة من نفسه ليزيد دون أن يعطيها لله سبحانه وتعالى.. فماذا ترون له من منزلة عند الله؟ ماذا ترون من منزلة لهذا العبد الطاغي الجافي الجاحد عند الله سبحانه وتعالى؟ إنه يطرد نفسه من رحمة الله عز وجل.. فلابد أن يطرده الله!
وعن علي عليه السلام: “من أراد منكم أن يعلم منزلته عند الله …”، أريد أن أجد نفسي كريماً عند الله أو لئيماً؟ من أهل جنته أو أهل ناره؟ من أهل رضوانه أو غضبه؟ من أهل عنايته أو إهماله؟ فلأعرف منزلة الله عندي. إن كنت مهملاً لأمر الله، معظماً لغيره، محقراً لما يأتي عنه، داعية لفكر الغرب والشرق، مواجهاً للفكر الإسلامي ولكلمة الوحي، فيتحتّم علي هنا أن أعرف أني من أهل النار، ومن أهل غضب الجبار.
“من أراد منكم أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله منه عند الذنوب”. لله هيبة في نفسه تردعه عن الذنب؟ أو أن الشهوة تكبر في نفسه بمقدار يسحق هيبة الله فيها؟ وأن الدينار والدرهم لهما من البريق في قلبه ما ليس لمعرفة الله.. ما لجلال الله وجمال الله من وزن في هذا القلب؟ “فلينظر كيف منزلة الله منه عند الذنوب”، أيجد إلهاً رادعاً أم يجد إلهاً يستخف به؟ ويجد أن كلمة ساقطة من ماجنة تسحره بحيث تنسيه الله؟ نعم.. فلينظر كيف منزلة الله منه عند الذنوب.. كذلك منزلته عند الله تبارك وتعالى.
كيف حب الله :
يأتي أن الله يحب العبد الذي يحبه، فكيف حب الله لعباده؟ الله عز وجل منزّه عن الانفعالات. ما يملك مكاناً في قلبك فيؤثر عليك هو سلطانٌ عليك، وأنت مغلوب له، ضعيف أمامه، مهزوم أمام تأثيره. والله عز وجل أقوى من أن يهزمه شيء، ومن أن يؤثر على إرادته شيء. أنا أريد الشيء، وتأتي منك كلمة.. ولأن لك مكاناً في نفسي.. قد أعدل عنه. أنت هنا غلبت إرادتي، فهل تُغلَب إرادة الله من شيء؟! الله عز وجل لا يقبل الانفعالات، فاعلٌ غير منفعل، يفعل عن غير انفعال، فكيف حب الله إذن؟؟
عن الرسول صلى الله عليه وآله قال: “قال الله (الحديث على هذا قدسي): ما تحبب إليّ عبدٌ بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وإنه ليتحبب إليّ بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به…” وسمع الله لا يخطئ.. سمع الله علمه بالمسموعات، فليس لله سمع ولا بصر. حين يقال بأن الله سميع بصير..أي أن الله عليمٌ بكل ما يُسمَع، عليم بكل ما يُبصَر، وليست لله جارحة سمعٍ ولا بصر، ولا أي جارحة أخرى.
“فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، إذا دعاني أجبته، وإذا سألني أعطيته”. يؤسِف أن بعضاً من المسلمين يمر على مثل هذا الحديث الذي يقول: “كنت سمعه.. كنت بصره.. كنت يده.. كنت رجله…، وقد يُثبت به لله رجلاً ويداً، وسمعاً وبصراً، وكأن اللفظ أكبر من العقل، وأن العقل لا يشكل قرينة على اللفظ!
هذا العبد الذي يكون سمعُ الله سمعَه، وبصرُ الله بصرَه – وسمع الله وبصره لا يُخطئان – فهو لا يُخطئ، فعلم الله دائماً يحول بين هذا العبد وبين أن يُخطئ في سمعه فيتلقى بسمعه بأن يتلقى فؤادُه من خلال سمعه ما يضل. الحديث يقول بعصمة هذا العبد الذي يحب الله، فحب الله للعبد هو أن يعصمه، هو أن يفعل به أحسن ما يفعله محبٌ بمحبوبه. معنى حب الله للعباد هو أن يفعل بمن أحبه من عباده أحسن وأتقن وأنفع وأجدى ما يفعل محبٌ بمحبوبه. هذا معنى حب الله عز وجل. ليس معنى أن يحبك الله أن ينفعل بحبك، وإنما أن يفعل بك خير ما يفعله محبٌ بمحبوبه. ومَن مِن عباد الله إذا أحبك فعل بك مثل ما يفعل الله؟!
حب النبي و أهل بيته عليهم السلام:
عن الرسول صلى الله عليه وآله: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه، وأهلي أحب إليه من أهله، وعترتي أحب إليه من عترته، وذريتي أحب إليه من ذريته”. فلنقس مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وأهل بيته في قلوبنا ونفوسنا. كم تملك على سُلم الحب من قرب لهذه القمة من الحب؟ أن يكون هو أحب إليك من نفسك، عترته كذلك…
وعنه صلى الله عليه وآله: “لا يؤمن عبد حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه”، والقضية مربوطة بالإيمان؛ لأن من آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يجد في نفسه حبل نجاة، ولا سبب سعادة بعد الله كرسول الله صلى الله عليه وآله, ولم يجد قمة كمال بشري أرفع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يخف من خسارةٍ لعداوةِ أحدٍ بعد الله كما يخاف من الخسارة المترتبة على عداوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فكل أسباب الحب من رجاء.. ومن خوف.. ومن عشق.. متوفرة في رسول الله صلى الله عليه وآله أكثر مما تتوفر في الأهل وفي الذات.
وعنه صلى الله عليه وآله: “لا يؤمن عبدٌ حتى أكون أحبَ إليه من نفسه، ويكون عترتي أحبَ إليه من عترته، ويكون أهلي أحبَ إليه من أهله، ويكون ذاتي أحبَ إليه من ذاته”.
و عنه صلى الله عليه وآله وسلم: “من أحب أن يركب سفينة النجاة، ويستمسك بالعروة الوثقى، ويعتصم بحبل الله المتين.. فليوالِ علياً بعدي، وليعادِ عدوه، وليأتمّ بالأئمة الهداة من وُلده”. لو سألت أي مسلم في الأرض من غير أهل النصب الصريح: هل تحب علياً وأهل بيته عليهم السلام؟ فإنه لن يتأخر عن أن يقول نعم وبكل تأكيد. والمسلمون جميعاً كلهم يدّعون حب رسول الله صلى الله عليه وآله، لكن أقولها باختصار: إن حب علي عليه السلام ليس حب الأطفال! إن حب أهل البيت عليهم السلام ليس حب الصبيان، إنه حب الأفذاذ، إنه حب القادة، إنه حب القدوات الهادية، إنه الحب لسفينة النجاة، والذي لا يتحقق إلا بمتابعتهم في الفكر والشعور والموقف العملي. نحن لما نأخذ كل علمنا.. كل فتاوانا.. كل فقهنا.. كل حلول مشاكلنا في موارد الاختلاف.. من غير علي وبنيه صلوات الله عليهم أجمعين، وكلما وُجد قولان.. قولٌ لأهل البيت عليهم السلام، وقول لطرف آخر.. نأخذ بقول الطرف الآخر، هل هذا هو الحب المعني؟! فهل هنا حب؟ وهل حب أهل البيت عليهم السلام يتحقق بالشعور الباهت؟ يتحقق بالادعاء؟
لحبهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين برهان، وأكبر برهان على حبهم هو المتابعة في الموقف النظري والموقف العملي. إذا اختلف أهل العلم كان القول الفصل عند محبّهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هو قولهم، وإذا اختلف الموقف العملي كان الحب قاضياً بأن يكون الموقف هو موقفهم.
على المسلمين أن يراجعوا أنفسهم أمام جملة الآيات القرآنية، والروايات الكثيرة، وما أجمع عليه كل المسلمين من حب أهل البيت عليهم السلام ومودتهم، فإن مودتهم كما سبق لا تتحقق بمستوى المودة للصبي والطفل.
الطفل حين تحبه تقدم له هدايا مادية بسيطة، أهل البيت عليهم السلام لا يرضون بمآتمنا، لا يرضون منا بعزائنا حين يكون مجرد مظاهر، يرضون منا بسلوك جاد، والتزام عملي في كل ما نستطيع من مساحات الحياة. العزاء حين يأتي إحياء لأمر أهل البيت عليهم السلام هو مقدّر، المواكب والحسينيات حين تأتي إحياء لأمر أهل البيت تكون أمراً مقدراً عندهم، وهي تمثل حباً عميقاً فعلاً؛ لكن المظاهر نفسها من غير أن تكون وراءها نية صالحة فهي لا تمثل حباً لأهل البيت عليهم السلام. (1)
اللهم صل على محمد وآل محمد واغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ومن أحسن إلينا منهم، وداو داء قلوبنا وأبداننا بلطفك، وأصلح لنا أمر ديننا ودنيانا برحمتك، واجعلنا عندك من الأوفرين حظاً، والأقربين مقاماً بكرمك، يا أكرم من كل كريم ويا أرحم من كل رحيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
(قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ، وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا ييأس من رحمته المذنبون، ولا يخرج من حقه المحسنون، ولا يبلغ نعماءه العادّون، ولا يُرد عن بابه السائلون، مصدر الخير كله، ولا درأ للشر إلا به.
أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله علينا بتقوى الله، والوقوف عند محارمه، والأخذ بما أوجب، والحب لمن أحب، والبغض لمن أبغض، والتمسك بدينه وإن أنكره المنكرون، وحاربه الجاهلون. وتقوى الله إنما يُرزقها عارفٌ مجاهد، فمن عرف الله، ووجد من عظمته ما وجد لم يملك إلا أن يتقي الله، ومن جاهد نفسه فهيأها لأن تتزكى، وجد نفسه على طريق التقوى.
اللهم أعذنا وإخوننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين من مضلات الفتن، ومتابعة الهوى، والوقوع في الشبهات، والانزلاق في الضلالات.
اللهم صل على عبدك وخاتم رسلك من عبادك، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم، اللهم صل وسلم على إمام التقى من بعد رسول الله ونور الهدى علي أمير المؤمنين، اللهم صل وسلم على فاطمة الزهراء الزكية النقية، اللهم صل وسلم على السبطين الدليلين على الجنة الحسن والحسين، اللهم صل وسلم على الأئمة الهداة، والقادة الأباة: علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري سفن النجاة، اللهم صل وسلم على إمام العصر، ترجمان القرآن، والإمام من الرحمن، محمد بن الحسن القائم المنتظر.
اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً مبيناً، واجعلنا من أنصاره في غيبته وحضوره. اللهم عبدك الموالي له الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، أيدهم وسدّد خطاهم، ووفقهم لمراضيك، وانصر بهم دينك، وأعز بهم المستضعفين من عبادك ياكريم.
والآن أيها الأحبة في الله مع ما يتسع له الوقت من الموضوعات التالية:
أولاً: بين أهل البيت والأمة.. أمس واليوم:
1- أهل البيت موقعاً:
الكلمة عن الحسين عليه السلام: “إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا ختم”،
فتح الله على الإنسانية كاملها بهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، بداية برسول الله صلى الله عليه وآله، واستمراراً بذريته الطاهرة، فالرسالة خُتمت برسول الله صلى الله عليه وآله، والإمامة خُتمت بهم، فهم ختام الرسالة والإمامة. ولا تختم الرسالة والإمامة إلا بمن يكفي.
2- أهل البيت (ع) موقفاً:
“ويزيد رجلٌ فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحرمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله”.
كان انقلابان: انقلابٌ على يد رسول الله صلى الله عليه وآله: انقلابٌ على الجاهلية العمياء، على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، اجتث البنية الجاهلية على مستوى الفكر والشعور والواقع العملي. كان الإنسان طيناً، فنقله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى شعاع ونور – في فكره، وفي شعوره، وفي واقعه العملي – من هدى الله. وارتباطه بالطين كان ارتباطا ً توصلياً فقط، أي كان يتخذ من الطين وسيلة لبناء الروح والذات الإنسانية. عَمَر الطين بما لا تستطيع أن تعمره حضارة أخرى ولا أطروحة أخرى، ولكن لم يقف بالإنسان عند الطين. الفارق الكبير هو أن مستوىً متقدماً شيئاً ما من لون الطين وريحه وأثره.. لا يمتلك إنسانُ غيرِ الإسلام نفسَه أمامه، وإنسان الإسلام يتقدم بالطين مسافات عما يتقدم به غيره، ولكنه لا ينهزم أمام القصور، وأمام الحقول، وأمام التكنلوجيا المتقدمة، وحتى الجنة لو جاءت في الدنيا ما انهزم الإنسان المسلم أمام جانبها المادي إذا كان على إسلام كامل.
انقلابٌ حدث على يد رسول الله صلى الله عليه وآله، تبدلت فيه القيم، تبدلت فيه الأفكار، تبدلت فيه أسس المنهجة الحياتية عند الإنسان، وتبدلت فيه الرموز الخارجية. الطبقة الجاهلية المتحكمة بعقليتها العفنة، بأطماعها الشرهة، بتطلعها الطيني، بأننانيتها الضيقة.. نُسِفت! وجاءت مكانها رموزٌ من أهل العلم، والإيمان والتقوى، والتي لا تبيع علاقتها بالله عز وجل بكل ما يملك الإنسان وبكل ما في الأرض. فحين تتقدم هذه الطبقة في المواقع تحت حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تجد ما تشتهيه وما يستهويها في يد الإنسان حتى تظلمه. لحظة واحدة ينسى فيها المؤمن إيمانه تُعقبه أسفاً طول الحياة، وتعذبه كل بقائه على الأرض، فهو يعز عليه أن يفارق إيمانه لحظة، وأحرص ما يحرص عليه أن يبقى مع إيمانه في كل المواقف.
جاء انقلاب آخر هو انقلاب الجاهلية على الإسلام على يد بني أمية! كان انقلاباً صريحاً صارخاً ومع ذلك يرفع لافتة الإسلام، وأخطر ما فيه – على خطورته البالغة في ذاته – أنه يرفع هذا الشعار، ويتستر بهذه اللافتة. وكان المقدّر أن لا تبقى الأمة، وأن يمحى الدين. نُسِف الفكر.. جاءت ثقافة جديدة، ثقافة جاهلية، ملأت مكة والمدينة، حل اللهو والطرب والغناء المستورد والغناء المحلي المدعوم محل القرآن في أماكن عامة وفي أماكن خاصة. الرموز الإسلامية التقية طوردت، جرى فيها القتل البشع الشنيع، والتهجير، ولوحقت في المعاش ولقمة الحياة، وطوردت أيما مطاردة.
الملخص: أن بُنية شادتها يد رسول الله صلى الله عليه وآله على مستوى الفكر والشعور وعلى الأرض.. نسفها الحكم الأموي! ولا يتم لدولة من الدول أن تستعبد الناس وأن تسترقّهم كل الاسترقاق إلا بأن تفصلهم عن دينهم وهداهم ووعيهم وصحوتهم. وما هي الوسائل لذلك؟ التضليل الفكري، التغريب الثقافي، إغراق الساحة باللهو والمجون والدعاية له، وربط الاقتصاد تدريجياً وبكل جدية وقوة باللهو والعبث والمجون والرقص والفحشاء؛ حتى إذا احتُج على الفحشاء في يوم من الأيام، واحتُج على اللهو.. جاءت الأصوات تتنادى انهدم الاقتصاد. أين الاستثمار؟ خربتم المجتمع، قطعتم لقمة الرزق، وكأن أسباب الحياة وأسباب الرزق قد حُصرت في الطريق الحرام!!
انقلاب خطير جاء على يد الحكم الأموي، ولم يكن له إلا البيت العلوي وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. بيت أخلص لله، وأخلص للمسلمين ولكل للإنسانية من خلال إخلاصه لله بما لم يعرفه ولن يعرفه بيت آخر، وتنكر له المسلمون بما لم يتنكروا به لبيت آخر. كلما برز الشرك كلُه، أو الجهل كله، للإسلام كلِه من خلال رمز من رموز الجاهلية كيزيد.. برز الإسلامُ كله من خلال رمز من رموز أهل البيت عليهم السلام للشرك كلِه ليصرعه. وكما برز الإمام علي عليه السلام للشرك كله يوم الخندق، فكان مقتل الشرك على يده.. برز الحسين عليه السلام للانحراف كلِه يوم الطف ليقطع على هذا الانحراف أن يبلغ أهدافه، وأن يمحق الدين، ويقضي على الأمة. فكم هي مدينةٌ هذه الأمة للحسين عليه السلام! وكم سيجازي رب الدين تبارك وتعالى الحسين عليه السلام!! ما نسمع من جزاء الله تبارك وتعالى للحسين عليه السلام وإن بلغ ما بلغ.. فإنه مع كرم الله وتضحيات الإمام الحسين عليه السلام، وما أعقبته تضحياته من إبقاء خط الدين الأصيل لا يكثر في النظر المؤمن.
لو دخلوا جُحر ضبّ لدخلتموه:
كلمة كانت تقال على لسان رسول الله بأكثر من تعبير للمسلمين في علاقتهم مع النصارى واليهود. دخول جحر الضب من شخص.. من مجتمع.. من أمة.. ماذا يمثل؟ فقدٌ للعقل، سفاهة، قصور في النظر، فساد في الشعور، ضلالة تامة. أمة بكاملها تدخل جحر ضب؟! شخص واحد يدخل جحر ضب على ضيقه واختناقه.. خيارٌ سفيه، خيار مجانين، لكن هذه الأمة حسب الكلمات الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله تدخل جحر الضب حيث يدخله اليهود والنصارى.
النصارى واليهود يدخلون جحر الضب من خلال الاقتصاد الجاهلي، ومن خلال السياسة الجاهلية، ومن خلال التدهور الخلقي، ومن خلال زواج المرأة بالمرأة، و الرجل بالرجل، ومن خلال كل المنكرات متخلين عن منهج الله المنهج اللاحب، اليهود والنصارى يدخلون الجحر بسفههم، وبضلالتهم ابتداءً، والأمة الإسلامية في الكثير منها تدخل جحر الضب متابعة، فهي ترتكب خطأين:
الخطأ الأول: السفه الذي تشارك فيه الأمم الأخرى، والضلالة التي تغرق مع الأمم الأخرى فيها.
الخطأ الثاني: إن هناك تنازلاً عن الشخصية.. عن الهوية، انسلاخاً عن الذات الحضارية، نسيان قيمة الذات، التبعية الهزيلة، الاستخفاف بالنفس، الدونية في الشعور بالقيمة الذاتية لهذه الأمة، الانبهار المجنون، السقوط أمام الآخر، الحكم على النفس بالدونية أمام الآخر، وأي آخر ذاك؟ أخر ساقط، سفيه، ضال، فاقد للتقدير الدقيق. “لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه”.
وأقول بأن حفل المثليين – وهو دعوة لمنكر قوم لوط –، واستيراد نانسي عجرم، واستيراد كل بدعة – ومنها الأخ الأكبر–، والحفلات الراقصة الماجنة التي قد لا تخلو البلد منها ليلة واحدة، وكل هذه المنكرات، والاستيراد غير المدروس لفكر الآخر، والسقوط في المستنقع الجاهلي الذي يسقط فيه الآخر، كل ذلك دخول في جحر الضب متابعة لدخول الآخرين فيه. وإن البلد المسلم ليرفض تمام الرفض أن يُربط اقتصاده بهذا الدرب الحرام.
أمطعمة الأيتام من كدّ فرجها
لكِ الويل لا تزني.. ولا تتصدقي!!
لا تُشبعوا بطون الشعب من المال الحرام، يا تجار البلد، ويا بعض الوزارات، ويا كل من رضي وشارك. هنا إباء.. هنا دين.. هنا قيم.. هنا نفس عزيزة تبذل كل المال من أجل العرض ومن أجل الدين، وأنتم تريدون أن تقنعوا الشعب بأنكم وظّفتم مائتي عامل في مثل هذه المشاريع القذرة؟؟ وهل من الجميل أن توظفوا شبابنا في مثل هذه المستنقعات لتفسدوهم؟
صحافة تقيم الدنيا ولا تقعدها إذا تكلم نائب أو غير نائب بكلمة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، هناك جيش من الصحفيين، وجيش من هواة الغرب يحدثون في كل مرة زوبعة لا تقف حتى يقف المشروع الباطل على قدميه! إنه دخول في جحر الضب، وإنه ارتماء في أحضان أعداء الله، وإنه لتبعية سفيهة أن يحذو البلد المسلم المؤمن حذو البلد الكافر في كل ما يصير إليه. المطلوب ليس استجواب وزير، المطلوب مناقشة شاملة لهذا الوضع المأساوي الذي يبيع الدين، والقيم، والإنسان بثمن بخس لا يصب في جيوب المستضعفين، وإنما يصب في جيوب المستكبرين المترفين، وليتحول أرصدة في سويسرا وفي لندن ونيويورك. وليست هذه الأموال أموالاً للسوق البحريني، و ليست هذه الأموال أموالاً لجيوب المستضعفين من الباعة الصغار، ومن المتجولين الذين لا يجدون قدرة على أن يستقروا في مكان واحد ليسترزقوا.
لابد من مقاومة شعبية لهذا الغزو الثقافي، لابد من كلمة جريئة واضحة، لابد من الاحتجاجات السلمية التي توقف مثل هذه التصرفات الشائنة. قولوا لي هذه المئات من الألوف مواطنون أو لا؟؟ استفتوا. هذا الوطن كله لخمسة تجار؟؟!! لخمسة متنفذين؟! أم أنه وطن الجميع؟ تحرق ديني، وتحرق قيمي، وتضل أبنائي وبناتي من أجل جيبك؟!
أرجو أن لا يكون الموقف موقف غضب آني، وأن لا يكون موقف أفراد، وإنما يجب أن يكون الموقف موقف شعب رافض لأن تمسخ هويته، ولأن يُسلب دينه، ولأن يؤخذ على يده من أجل التهويد والتنصير بل العلمنة.
اللهم صل وسلم وزد وبارك على حبيبك المصطفى محمد وآله أهل الوفاء، ربنا آتنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
اللهم صل على محمد وآل محمد واغفر لنا ولوالدينا ولأرحامنا وللمؤمنين والمؤمنات أجمعين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) معلوم جداً أن المودة التي ترضي أهل البيت عليهم السلام والمفروضة لهم ليست المودة الادعائية والقولية ولا أي مودة أخرى شكلية مع تقديم غيرهم عليهم في مقام العلم والريادة الذي هم أولى به.