خطبة الجمعة (140) 14 ذو الحجة 1424هـ – 6 فبراير 2004م
مواضيع الخطبة:
الظلم(2) – الديموقراطية بين دعاتها والإسلاميين
نحن قد نؤمن بالديموقراطية عملياً بلحاظات موضوعية معيّنة ولكن هذا لا يعني أن نحتضنها دينا، وأن لا نناقشها فكرا، وأن نحاسبها منطلقا ونتيجة.
الخطبة الأولى
الحمدلله العادل في بريته، القاضي بالحق في حكومته، المتكفّل بالإنصاف في شريعته، المجزي بالجنة أهل طاعته، المتوعّد بالنار أهل معصيته. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وزادهم فضلا وكرامة ومقاما.
أوصيكم عباد الله ونفسي الخاطئة بتقوى الله وأن لا نبيع الآخرة بالأولى، وأن لا نشحّ بالدنيا من أجل الآخرة، فليس أحد ممن يوسَّعُ عليه في الدنيا من مؤمن أو كافر بمقيم فيها لما يوسَّعُ عليه من حطامها، وليس للعبد بعد استيفاء بلغته ومدته منها حاجة له فيها(1)، وليس من ثمن الجنة أن يخرج المرء من كل ما في يده ليبقى ملوما محسورا فيكون من الثمن المحرج، وليس في الامتناع عن محرمات الله في الدنيا ضيق على العباد، فما أكثر المتع المباحة الخالية من العواقب الوخيمة لما هو من الحرام من عواقب تهدّ القوى، وتسقم الأبدان، وتشقي الحياة، وتورث الندامة، وتكون وبالاً في الآخرة.
اللهم إنا نعوذ بك من أن نستبدل عن الحلال حراماً، ومن الجنة نارا، ومن الكرامة فضيحة وشنارا.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، واهدنا جميعا بهدى المتقين؛ فلا هادي لمن لم تكن له هاديا، ولا مضل لمن هديت يا رب العالمين، ويا أرحم الراحمين.
أما بعد أيها الأعزاء الكرام فيأخذ بنا الحديث إلى تتمة في موضوع الظلم.
الظالمون يوم العدل الأكبر:
“وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ” وأي عدول عن سبيل الرسول هو ظلم؛ ظلم للنفس، ويمتد ظلم النفس إلى ظلم الغير.
وانظر للآية ماذا تقول:” وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ..” في المعتاد أن يعض النادم على إصبعه، حتى قالوا يعض إصبع الندم، أما الآية الكريمة فتقول:”وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ” فإنه إذا كان ندم الدنيا يجعل النادم يعض إصبعه، فإن ندم الآخرة يجعل النادمين يعضّون اليدين معا؛ كل اليدين، وذلك فيه تعبير عن الندم الشديد البالغ جدا جدا.
إذا كانت خسارة المال، خسارة الولد لتفريط، وخسارة أي شيء من الدنيا لتساهل يُسبب ندماً يجعل النادم يعض إصبعا واحدة من أصابعه فإن خسارة الآخرة أكبر وأكبر.
وتقول الكلمة عن علي عليه السلام:”للظالم البادي غداً بكفّه عضّه” يعض كل كفّه ولا يعض إصبعا واحدا من أصابعه.
قال الله تعالى:(وعزتي وجلالي لا يجوزني ظلم ظالم ولو كف بكف، ولو مسحة بكف(2)، ونطحة ما بين الشاة القرناء إلى الشاة الجمّاء(3)، فيقتصُّ الله للعبادِ بعضهم من بعض حتى لا يبقى لأحد عند أحد مظلمة ثم يبعثهم الله للحساب). عن عليٍّ عليه السلام.
أي النتيجتين أخس:
تتحدث النصوص عن موقفين من الله عز وجل قبال الظلم والظالمين، فأي الموقفين من الله عز وجل يمثل عقوبة أكبر وأنكأ؟
تقول الطائفة الأولى من النصوص:
أ “وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ ” فالظلم هنا مستتبع إهلاك الله للظالمين بقانون ثابت كما تقدم في حديث سابق.
وتقول الكلمة عن أمير المؤمنين عليه السلام:”من ظلم قُصِم عمره، ودمَّر عليه ظلمه” هذا الظالم قد يكون فردا وقد يكون أمة، يُقصم عمره، فيموت في الثمانين. بينما عمره الأصلي قد يكون مائة. والأمة قد يكون عمرها عشرة قرون إلا أنها تذبل وتسقط وتنتهي عند القرن الخامس من ولادتها. وعمر الأمم طبعا ليس مثل عمر الأفراد قصراً.
“بالظلم تزول النعمة”، “من عمل بالجور عجل الله هلكه” هذه نصوص تتحدث عن عقوبات دنيوية عاجلة تحل بالظالم والظالمين، أما الآية الكريمة الآتية فتتحدث بلغة أخرى.
ب “وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ “.
هذا موقف آخر وهو موقف الإملاء، موقف الزيادة في العطاء أو الاستمرار على عطاء الله للظالم الذي أغراه عطاء الله بأن يظلم.
هذا العطاء هل يمثّل كرامة من الله لهذا الظالم؟ لا، إنما يمثل استدراجا، “لِيَزْدَادُواْ إِثْماً”، وليواجهوا عذابا مهينا أليما يوم القيامة، أي النتيجتين أصعب؟ هذه أصعب.
أن يموت العاصي في العشرين من عمره خير له أن يبقى ليظلم أكثر فأكثر ليرتفع مستوى عذابه، فأي عذاب في الدنيا، وأي وفاة مبكّرة تساوي شيئا من عذاب الآخرة؟ لاشيء.
فمن أُملي له فهو مأخوذ بعذاب أشد، والعقوبة التي تواجهه في هذا الإملاء هي عقوبة أكبر من أن تعاجله العقوبة في الدنيا، خاصة وأنه جاء أن الله عز وجل لا يجمع عقوبتين على عبد لجريمة واحدة، فمن عاقبه في الدنيا على جريمته لا يعاقبه في الآخرة، فإذا أحل، به نازلة لجرم من جرمه في الدنيا لا يعاقبه في الآخرة، فلو أخذنا بهذا بالنص ومدلوله كان الإملاء والاستدراج هو العقوبة الأصعب من معاجلة العقوبة.
وتقول الكلمة عن أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام:”ظلامة المظولمين يمهلها الله ولا يهملها” وقد يمهلها كل العمر، ليأتي هذا العبد الممهل فيُفاجأ بعقوبة لم يحسب لها أي حساب، وذلك قد يراه عند معاينة الموت حيث تنفتح نافذة لنفسه على الأهوال التي يستقبلها وهو في لحظة موته.
توجيهات اجتماعية وسياسية تحملها النصوص:
كيف نقف من الظلم؟
الحديث عن المسيح عليه السلام:”بحق أقول لكم: إن الحريق ليقع في البيت الواحد فلا يزال ينتقل من بيت لبيت حتى تحترق بيوت كثيرة، إلا أن يستدرك البيت الأول فيُهدم من قواعده، فلا تجدوا فيه النار معملا(4) –وفي نسخة أخرى محلا- وكذلك الظالم الأول لو أُخذ على يديه لم يوجد من بعده إمام ظالم فيأتمون به(5) كما لو لم تجد النار في البيت الأول خشبا وألواحا لم تحرق شيئا”.
هنا توجيه؛ بأن يؤخذ على يد أول ظالم، وأن يؤخذ على يده لأول ما يظلم، فإن الظلم يؤسس للظلم، وهو مدعاة لنشر الظلم، والتساهل مع ظالم يغري كل من في نفسه أن يظلم. أن يتمادى في ظلمه.
وقد تقدم أن الظلم أساس يتنافى مع الإسلام تماما، وخلق يتضاد مع التوحيد، فإن الله عدل، ومن توحيد الله أن نعترف بعدله، فهذا الظلم المتنافي مع الدين لابد من مواجهته، يواجه في البيت، يواجه في المحلة، يواجه في القطر، يواجه في كل الدنيا.
“من أعان ظالما فهو ظالم، ومن خذل ظالما فهو عادل” هذا عن إمامنا الرضا عليه السلام، وهو يطالب المجتمع بأن لا يعين ظالما في ظلمه، معونة الظلم في ظلمه ليس بمعنى أن أشاركه الموقف، إذا شاركته الموقف فأنا ظالم أصلاً مثله، وصداق جلي للظالم، لكن معنى المساعدة في ظلمه، وعونه في ظلمه أن تُهيّئ له مقدمة من مقدمات الظلم ولو أن تُناوله قلما ليكتب قرارا فيه سفك دم حرام، مناولتك القلم له، ملؤك القلم له حبرا، هذه معونة للظالم، وتكون به أنت ظالما وشريكا في الظلم.
“من أعان ظالماً فهو ظالم، ومن خذل ظالماً فهو عادل” يجب أن تكف كل الأيدي عن معونة الظالم أياً كان، وهذا لا يتحدث عن الحاكمين فقط، وإنما يتحدث عن كل ظلم وعن كل ظالم.
وعن الرسول صلى الله عليه وآله:”من أعان ظالماً على ظلمه جاء يوم القيامة على جبهته مكتوب آيس من رحمة الله” وعرفنا أن عون الظالم يكون بمثل أن يناوله قلما يريد أن يكتب به ما لا يرضي الله. هذا يأتي، وعلى جبهته مكتوب آيس من رحمة الله.
“من أخذ للمظلوم من الظالم كان معي في الجنة مصاحبا” عن الرسول صلى الله عليه وآله. فلنكن رفاق الرسول صلى الله عليه وآله في الجنة، نقف مع المظلومين ضد الظالم على أي مستوى من مستويات المظلومين والظالمين.
ويقول الدعاء عن زين العابدين عليه السلام:”اللهم إني أعتذر إليك من مظلوم ظُلم بحضرتي فلم أنصره” هناك حق للمظلوم على المجتمع بأن يقفوا معه ويدفعوا عنه الظلم ويدرؤوا عنه الضيم، ويستردوا له حقه، ويحفظوا له كرامته.
تفريط المجتمع في الموقف الصارم من الظلم، واسترداد الحق للمظلوم والمحروم من الظالم والغاصب تخلّف عن وظيفة دينية ثابتة.
من وصية أمير المؤمنين عليه السلام المنقولة عنه للحسنين عليهما السلام:”كونا للظالم خصما وللمظلوم عونا” تعليم ثابت على القرون، وواجب حتمي على المجتمع الذي يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، لا تفرُّج في الموقف من الظلم أصلاً، الموقف المتفرّج من الظلم، ومن تعنّت الظالم، ومن استغاثة المظلوم وضيمه موقف حرام، موقف لا يرضاه دين الله. الموقف هو الذي تحدده الكلمة العالية من علي عليه السلام:”كونا للظالم خصما وللمظلوم عونا”.
الموقف الداعم للظلم مرفوض، الموقف السلبي من الظلم مرفوض.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وعاملنا بعفوك، ولا تحملنا على عدلك، واشملنا بالمزيد من رحمتك وألطافك الخاصة، وعنايتك المنقذة، وكرامتك التي مننت بها على عبادك الصالحين.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3))
الخطبة الثانية
الحمدلله أزلاً وأبدا؛ حمدا لا تحصيه الخلائق عددا، ولا تبلغه قدرا ولا أمدا، حمدا يرضاه ربنا تمام الرضا، ويوجب لديه الزلفى، ويرفع عنده المنزلة، ويحسن من العبد منقلبه. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله صلاة كثيرة زاكية.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، والخروج من معصيته واستكمال ما فيه تقصير من طاعته، فإنه سبحانه مثيب على الطاعة، معاقب على المعصية، وليس مثل مثوبته مثوبة، ولا مثل عقوبته عقوبة.
ومن أكرمه الله كرُم في نفسه، ومن أهانه هان في نفسه، ولن يجد غدا عذرا لها حتى منها، وويل لمن غدا لا يعذره عاذر وهو على نفسه من نفسه ساخط، ولها محتقر. ويوم القيامة المجرم ساخط على نفسه، محتقر لها، حاكم عليها بالهوان إلى جنب حكم الخلق كلهم بذلك عليه، وأكبر من ذلك الحكم من خالق الخلق عزَّ وجل.
عباد الله لحظات أو ساعات أو أيام أو سنوات هي الميدان الوحيد لصناعة مستقبل مديد، ومصير أبدي شقي أو سعيد، فلا إهمال ولا تواني ولا إغفال، فغدا لا ينفع الندم ولو تقطع القلب حسرات.
اللهم اعمر حياتنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين بذكر جميل لك لا يفارق قلوبنا، ولا ينفك عن ألسنتنا، وعمل صالح لا تكفّ عنه جوارحنا وتتعلق به جوانحنا، وجهاد في سبيلك ينتهي بنا إلى رضوانك والجنة.
اللهم صل وسلم على خاتم رسلك، البشير النذير، والسراج المنير محمد الصادق الأمين. اللهم صل وسلم على أمير المؤمنين علي إمام المتقين. اللهم صل وسلم على فاطمة الزهراء، التقية النقية المعصومة الزكية. اللهم صل وسلم على الحسنين الإمامين الرشيدين الحسن بن علي الزكي والإمام الحسين.
اللهم صل وسلم على الأئمة الهداة علي بن الحسين السجاد، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري القادة الأباة.
اللهم صل وسلم على صاحب العصر والزمان، الإمام القائم المنتظر محمد بن الحسن الأغر.
اللهم عجل فرجه، وسهل مخرجه، وانصره نصرا عزيزاً، ومكّن له في الأرض تمكينا، واجعلنا من أنصاره والمستشهدين بين يديه.
عبدك الموالي له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول والعلماء الصالحين، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين والمؤمنات أجمعين أيدهم وسددهم ووفقهم لصالح العمل، وسديد القول، وحقق على أيديهم نصر الأمة وعزها. اللهم آمين.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات فالحديث تحت هذا العنوان:
الديموقراطية بين دعاتها والإسلاميين
من مساحات الديموقراطية:
1. التشريع: فالتشريع تعتبره الديموقراطية مسرحاً لها، ومساحة من مساحاتها فتُعطي للشعب أن يشرّع، وللأمة أن تشرع لنفسها من دون أي وصاية من خارج الكون المادي أو من داخله، من داخل دائرة الإنسان أو من خارج دائرة الإنسان.
2. اختيار النظام: أن يكون جمهوريا، أن يكون ملكيا؛ أن تكون الملكية مطلقة، أن تكون الملكية دستورية، أن يكون النظام دينيا، أن يكون النظام علمانيا، هذا كله شأن من شؤون الشعب والأمة فهي التي تختار نظامها وتحدد منهج حياتها بالكامل.
3. اختيار القيادة: – كرئيس الجمهورية أو الملك مثلا – واختيار الحكومة، وفصل هذه القيادة، وهذه الحكومة حق من حقوق الشعب في الديموقراطية.
نسأل ما هو منطلق الديموقراطية أو أساسها الأول؟
نحن قد نؤمن بالديموقراطية عملياً بلحاظات موضوعية معيّنة ولكن هذا لا يعني أن نحتضنها دينا، وأن لا نناقشها فكرا، وأن لا نحاسبها منطلقا ونتيجة(6).
منطلق الديموقراطية أو أساسها الأول:
أساسها الأول هو الحرية المطلقة، وأن الإنسان حرّ لا قيد على اختياره ولا تصرّفه، وهذه الحرية لابد لها من خلفية. هذه الخلفية يمكن أن تكون هي إنكار الربوبية حيث لا يكون إله قد خلق الكون والإنسان، فهنا واضح جداً أن الإنسان يكون سيد نفسه، وليس لأي جهة من الجهات سلطة عليه، والفرد من الإنسان لابد أن يكون سيد ذاته أيضاً، فالإنسان أخو الإنسان والأخوة لا تعطي سيادة، فهي تعني أن الأخوين يقفان على صعيدين واحد، وهما من مستوى واحد في إنسانيتهما، وفي كونهما وُجدا من غير خالق، فأفراده مستوون، ويقفون على صعيد واحد، فليس لك سيادة عليَّ، وليس لي من سيادة عليك مطلقاً، إذا اخترت أنا أن أجعلك سيداً فذاك، وإذا لم أختر أن أجعلك سيدا فليس لك في الأصل عليّ سيادة، وأنا منك بهذه المنزلة أيضاً.
أساسها الثاني: أن يكون هناك خالق، ولكن هذا الخالق نقلّص حقّه، ونحدّ صلاحياته، ولا نعطيه حاكمية على ما خلق في المساحة التي نستطيع أن نحدّ حقه فيها، وهي المساحة التي وهب لنا فيها القدرة على الاختيار.
إذا قلنا بأن الله عز وجل خلق الكون، خلقنا وخلق كل ما عندنا وهو صاحب النعمة، ولكن ليس له أن يشرع لنا، ليس له أن يتدخل في حياتنا، فهذا أيضاً أساس يمكن أن تقوم عليه حرية الإنسان التي تُمثل أرضية الديموقراطية في عرضها العريض، وفي صورتها الأكثر تمامية، في الصورة الغربية التي يتبناها الغرب ويعيشها في أغلبه.
أساسها الثالث: أن نقول بأن الله خالق، وله الحق في أن يتدخل في حياتنا؛ في التشريع، في الحكومة، في أي شيء، ولكن جاء منه تفويض للإنسان بأن تصرّف كيفما تشاء. هذا أساس صالح لأن يتمتع الإنسان بحريته في مسألة نظامه وتشريعه وحكومته وقيادته.
أساسها الرابع: الفرض الآخر الذي يمكن أن يكون أساساً للحرية المطلقة عند الإنسان هو ليس انتفاء الإلوهية، وليس تحديدنا لحق الله، وليس تفويض الله المطلق الصريح لنا، ولكن لكون الله عز وجل لم يرسل رسلا ولم ينزل كتبا فنحمل هذا على أن لنا الحرية التامة في التصرّف في شؤوننا الخاصة وفي الشأن العام. وهذا لون من التفويض بلغة سلبية يقابل اللون الأول من التفويض الذي يأتي بلغة إيجابية.
والآن نتحدث بشكل بسيط عن الإرادة التكوينية والتشريعيّة لله سبحانه والاختيار التكويني والتشريعي للإنسان.
ببساطة: نحن بما أننا مسلمون معتقدون تماماً من منطلق توحيدنا بأن شيئا في هذا الكون لا يمكن أن يحدث بلا إذن تكويني من الله، بمعنى أن قدرةً وقوة وعلما وحكمة يحتاجها الكون في تسييره لا توجد من مصدر آخر غير مصدر الله سبحانه وتعالى، هذه السماوات تقوم بإرادة الله، هل هي إرادة افعل، أو لا تفعل أو إرادة كن فيكون؟ بإرادة كن فيكون.
قيام السموات، استمرار الأرض، استمرار الحياة كل ذلك بمدد من الله سبحانه وتعالى عن طريق الخلق المستمر، عن طريق تدفق الفيض الإلهي المستمر، عن طريق تنزّل الوجود، عن طريق تنزل الحياة على ما في الوجود وعلى ما في الحياة. هذا الفعل من الله ماذا نسميه؟ نمسيه فعلا تكوينياً.
مرة يريد منك الله أن تصلي بالإرادة التكوينية فيثبّتك في المحراب، يُطلق لسانك قهراً عليك، يُسجدك، يُركعك، يجعلك تأتي بكل الأذكار قهرا عليك وبلا إرادة، هذه صلاة منك كتبها الله عليك بالإرادة التكوينية قهرا جبرا.
ومرة يقول لك صلِّ، أعطاك قوة الصلاة، وأعطاك قوة عدم الصلاة، أعطاك إرادة أن تصلي وإرادة أن لا تصلي، وقال لك صلِّ، هذا هو التشريع، هذا هو الجعل، هذا هو القانون على حدّ قوانين الأرض. مثال: مرة يدفعك الرجل دفعا إلى النقطة التي يريد أن تصل إليها وهذا تحريك تكويني وبالإرادة التكوينية، ومرة يقول لك اذهب إلى النقطة الفلانية، وهو هنا قد حرّكك بالإرادة التشريعية، والأمر هنا جعلي تشريعي قانوني.
فهناك إرادتان، ولاشك أن إرادة الله التكوينية لايتخلف عنها متخلف، إذا أراد الله شيئا بالإرادة التكوينية لا يمكن أن يتخلف شيء آخر، هذه الإرادة التكوينية ثابتة بلا إشكال عند كل متديِّن.
والإرادة التشريعية عبّرت عنها الأوامر والنواهي التي نزلت بها الكتب وجاءت الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ونسأل الآن: هل نحن مجبورون مقهورون بالإرادة التكوينية على الأخذ بمنهج معيّن؟ طبعا لا، نحن مختارون، كل الناس يستطيعون أن يختاروا هذا المنهج أو ذاك المنهج، هذه الحكومة أو تلك الحكومة، هذا النظام أو ذاك النظام، فنحن أحرار بالإرادة التكوينية، يعني لسنا مقهورين من الله، لسنا مجبورين من الله على سلوك درب معين، لكن بعد أن أسلمنا، وآمنا بالله ورسله وكتبه هل نحن أحرار من ناحية تشريعية؟ لا. يعني هل جوّز لنا الله عز وجل أن نطيعه أو نعصيه بلا فرق؟ وقال لنا أطعتم أو عصيتم فلا عقاب ولا ثواب؟ وأنا أساوي بين مطيعكم وعاصيكم؟ هذا تخيير تشريعي.
يقول لك في المباحات لك أن تشرب ما في هذا الوعاء أو لا تشرب. حرية تشريعية، ولك أن تشرب الماء في هذه اللحظة إذا كانت حياتك لا تتوقف على شربه ولا يضر بك عدم الشرب ضرراً بالغاً غير مسموح به في الشريعة فأنت في هذا المورد لك أن تشرب، ولك أن لا تشرب بالإرادة التكوينية، وكذلك أن تشرب أو لا تشرب بالإرادة التشريعية، فأنت مخيّر، ومسموح لك من ناحية التشريع بالشرب وعدمه.
لكن هل تأتي شريعة الله ورسل الله أمام قتل النفس المحترمة البريئة فتقول لك مباح لك أن تفعل، وسواء قتلت أو لم تقتل فموقف الله منك سواء؟ طبعاً هذا ليس موجوداً.
نقول: نحن مريدون بالإرادة التكوينية يعني نستطيع، ونملك القدرة بين أن نطيع ونعصي، بين أن نأخذ بمنهج الله، أو لا نأخذ به، بين أن نأخذ بهذا الطريق أو بذاك الطريق، هذا من ناحية تكوينية.
ولكن من ناحية تشريعية قد حدد الله لنا منهجا وطريقا وسلوكا وحكومة أيضاً.
أريد أن نفرق بين هاتين الإرادتين، وإننا حين نتحدث عن أننا أحرار أو لسنا أحرارا إنما نتحدث في ذلك على مستوى الإرادة التشريعية(7). الإمامية والمعتزلة تقولان بالإرادة التكوينية، للإنسان وأن مساحة معينة يتمتع فيها بالحرية التكوينية، وأنه مريد. وهناك من المذاهب الإسلامية ما يرى أن الإنسان مجبور. أما نحن الإمامية فلا نرى الإنسان مجبورا ولا مقهورا، وهو يتحمل مسؤولية موقفه الاختياري، هذا على المستوى التكويني.
أما من ناحية الحرية التشريعية للإنسان فنحن نعتبر أنفسنا مخاطبين من الله سبحانه وتعالى بخطاب يُلزمنا ويطوق رقابنا.
غفر الله لي ولكم. اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولجميع إخواننا المؤمنين والمؤمنات، وأعذنا من أن نشرك بك أحدا، وأن نتخذ مع دينك دينا، أو نختار على منهجك منهجا، أو نعدل عن ولائك، ونسلك غير صراطك، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}النحل/90
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – أي في هذه الدنيا.
2 – كأنه ولو صفقة بكف على كف، وأكثر من هذا ولو مسحة كف بكف، بأن تمسح كفك عل كف أخيك ظلماً، تبتغي سوءاً به.
3 – التي لا قرن لها.
4 – أي شيء تعمل فيه وتؤثر فيه.
5 – ربما كانت في المصدر الأصلي “يؤتم به”.
6 – وأن لا نردَّ منها ما يردُّه العقل والدِّين.
7 – بمعنى هل نحن أحرار في ما أقدرنا الله على فعله وتركه بأن نختار ما نشاء من ذلك بلا أن يكون لله أمر ولا نهي في هذه المساحة، أو بأنه لا يكون له حق الطاعة علينا في ذلك؟