خطبة الجمعة (138) 1 ذو الحجة 1424هـ – 23 يناير 2004 م

مواضيع الخطبة:


“اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى ، وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى” _ لتأمينات والتقاعد


الدينار الواحد من التأمينات و التقاعد أينما وصل و أمكن استرجاعه من أي يدٍ وصلها يجب استرجاعه! و أي يدٍ -ولو كانت اليد العاشرة أو هي اليد
المائة- قد وصلها هذا الدينار لابد أن يُنتزع منها!

الخطبة الأولى:

 

    الحمد لله الواحد الأحد، حمداً ليس له عدٌّ و لا حد، ونشكره تبارك وتعالى شكراً لا مدى له ولا أمد. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و لا نِد، ولا ضد، ولا عديل، ولا خلف لقوله ولا تبديل.

 

 وأشهد أن محمداً عبده ورسوله جاء بالحق، ونطق بالصدق، وهدى إلى الطريق القويم، صلى الله عليه وآله الطيبين الطاهرين.

 

    أوصيكم عباد الله ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله، تقوى عبدٍ عرف نفسه وأنه لا يملك لها نفعاً ولا ضرا، وليس لها من دون الله من ولي ولا نصير، وعرف ربه وأنه الخالق الذي ليس من دونه خالق، والرازق الذي ليس سواه رازق، والمالك الذي لا يشاركه في ملكه مالك، ولا قدرة مع قدرته و لا سلطان مع سلطانه.

 اللهم صل على محمد وآله واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وأعذنا من كيد الشيطان الرجيم، واملأ قلوبنا بحبّك و شكرك و ذكرك، ونقِّها من كل شرك، وطهرها من كل رجس يا أرحم الراحمين.

 

  أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات فمع كتاب الله في قوله تعالى:”اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى” 17- 19 / النازعات.

 

1– ما الطغيان؟

 

    الطغيان في اللغة تجاوز الحد، فكل شيء تجاوز حده يكون قد طغى. والعبد له موقع العبودية، والرب له موقعالربوبية، وما من شيء في الكون مما خلق الله إلا وموقعه موقع العبودية. وأيما عبد تجاوز حد العبودية ودخله شيء من حس الربوبية، أو تجاوز موقع العبودية عملاً – بأن تصرف في نفسه أو في غيره التصرف الذي يرجع إلى رأيه من دون مراجعة لما يأذن به ربه- فقد طغى. أي خروج منا على موقع عبوديتنا يكون تجاوزاً ويكون طغياناً من حيثية من الحيثيات. فأن يأخذ العبد موقع الاستقلالية، وموقع التصرف الذي يرجع فيه إلى نفسه دون ربّه بهذا يكون قد طغى.

 

    ولذنوب العباد حد بحسب ضعفهم، ومن العباد من تكون ذنوبه عند الحد المتعارف، الذي لا يخلو منه عبد إلا من عصم الله سبحانه وتعالى، ومنهم من تأتي ذنوبه فوق ذلك بدرجات، حتى لا يرى منه الرائي إلا وكأنه ربٌّ في دعواه، وبحسب ما عليه من واقع الاستكبار في سيرته.. فهذا معنىً من الطغيان؛ هنا زيادة عن الحد المتعارف للذنب عند العبد. فرعون كان قد طغى الطغيان الأول والطغيان الثاني، والطغيان الثاني دائماً يستبطن الطغيان الأول؛ فهو قد طغى بدرجة عالية جداً. وفرعون في موقعه – و هو موقع الحاكم – طغيانه غير طغيان من دونه، فطغيان الحاكم له أثر غير طغيان المحكوم.

 

    كل طغيان مفسد، وكل طغيان مؤثر سلباً، وخروج شيء من مساره ومن موقعه يعني نوعاً من الفوضى، لكن طغيان الحاكم ينبسط أثره السلبي على الخلق والكون في دائرة من دوائر تأثير هذا الفعل من العبد. 2- كانت الرسالة لفرعون شخصياً -و الطاغون معه كثيرون -، إلا أن موقعه المتميز.. وشرّ طغيانه.. يفوق ما عليه الآخرون بكثير، وكثيرٌ من طغيان الآخرين جاء من طغيان فرعون؛ فإن في فساد الحاكم فساداً للكثيرين.

 

3– ومن اعتقد مالكية الأرض والثروة والناس فطغيانه من أكبر الطغيان! أنت عبد، لا تملك لنفسك ضراً ولا نفعاً، ولا تملك منها كثيراً ولا قليلاً، من أين لك ملكية الأرض؟ ومن أين لك ملكية الثروة؟ ومن أين لك ملكية الناس؟ من اعتقد الملكية الحقيقية فهو واهم، ومن اعتقد الملكية التشريعية الجعلية فهو فاقد للدليل.

     النبي الأعظم صلى الله عليه وآله لا يملك – تكويناً- من هذا الكون شيئا، وحينما تأتي الأحاديث لتقول بأن الأرض والثروة للنبي (ص) وللأئمة عليهم السلام، فنحن نفهم من هذا أن هناك جعلاً تشريعياً بأن هذه الأشياء في تصرف الحاكم المعصوم عليه السلام المرسوم شرعاً، وأن الشريعة تضع الأرض وثرواتها أمانة في يد أمينة؛ لتتصرف فيها التصرف الأمين الشرعي الذي حدده الله سبحانه وتعالى، وليس أن النبي صلى الله عليه وآله يملك من الأرض ذرة واحدة من ناحية تكوينية(1). والملك التكويني يعني أن هذه الذرة تتبع في وجودها وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنها لا وجود لها بدون وجوده.

 

    فهنا ملكيتان: الملكية التكوينية الحقيقية، وهي ملكيَّة الله عز وجل لكل ما خلق.. وهذه منتفية قطعاً عن غير الله سبحانه وتعالى. أما الملكية التشريعية فهي متعقَّلة.. ولكن تحتاج إلى دليل. وليس من حاكم في الأرض من دون المعصوم عليه السلام يستطيع أن يقول أن الأرض والثروة والناس قد جعلهم الله عز وجل أمانة في يده. نعم..بالنسبة للحاكم العادل(2).. هناك جعل وتشريع يجعل الأرض – التي تقع تحت حوزته – تحت تصرفه التصرف الأمين. إدعاء أن الأرض لي، وأن الناس لي، وأني أتصرف مستقلاً عن الرأي الشرعي في الأرض وفي الثروة.. هذا يلازم الشعور الكاذب بالملكية الحقيقية. المعصوم عليه السلام حينما يرى أن له التصرف.. لا يرى أن له التصرف المستقل، إنما يرى أن له التصرف المستند إلى إذن الله. والحاكم الشرعي حينما يرى أن له التصرف في الثروة البترولية، أو في الأرض أو في أي كنـز من كنـوز الأرض.. لا يـرى أن له التصـرف المستقل الذي يرجـع إلى رأيه الشخصي، إنما يرى أنه عبد لا يتصرف في شيء من الأشياء إلا بإذن ربه وبمراجعة الشريعة. الحاكم الذي يرى أن له أن يتصرف في الأشياء تصرفاً مستقلاً ، بلا مراجعة للشريعة.. ينصِّب نفسه رباً، ويعطي لنفسه موقع الاستقلالية في التصرف؛ لما وراء ذلك من شعور كاذب بالملكية الذاتية، أو لما وراء ذلك من غفلة عن ملكية الله سبحانه وتعالى لكل ما خلق.

 

4– أمر الله عز وجل موسى (ع) أن يطرح على فرعون هذا السؤال: “هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى”؟ سؤال هادئ ليس فيه فرض التزكية على فرعون، إنما يقول له هل لك رغبة – كما يفسرون – ؟ هل لك إرادة؟ هل لك ميلُ أن تتزكى؟ لكن هذا السؤال الهادئ، هو سؤال هادرٌ في نفس الوقت.. مثير.. فيه صدمة عنيفة لكبرياء فرعون! فرعون الذي يرىمن نفسه أنه رب.. والذي تتعامل معه البطانة وكثير من شعبه وأمته على أنه رب.. يحتاج إلى أن يتزكى؟ إلى أن يتطهر؟ يتزكى من رجسه؟ يتزكى من نجسه؟ يتزكى من طغيانه؟ يتزكى من جهله؟ يتزكى من كبريائه؟ يتزكى من ظلمه؟ يتزكى من تعنته؟

 

    مواجهة فرعون بعرض التزكية عليه.. يعني أنه يعيش في حالة من الرجس، وهو فعلاً يعيش حالة عميقة سيئة من وحَل الرجس. إذا كانت قذارات البدن تُنفّر وتعيب؛ فإن من استيقظ يرى من قذارة روحه ما هو أكثر عيباً. حينما يهبط الوعي ويهبط الشعور لا نرى إلا قذارات البدن.. وحينما نستيقظ فكراً وشعوراً ونفيق على إنسانيتنا.. نرى من عيوب الروح الكثير، ونرى أن عيب الروح بشاعته أكبر.

 

فرعون برغم مركزه المتقدم وغناه، وبرغم ما قد يكون له من وعي سياسي، ومن قدرة على إدارة المجتمع، والتقدم الاقتصادي به، برغم ما قد يكونه له من ذلك.. إلا أن موسى (ع) يأتيه بأمر الله عز وجل يعرض عليه أن يتزكى!لأن إنسانية الإنسان ليست في علمه السياسي والاقتصادي، وليست في موقعه الاجتماعي، وليست في أي شيء من المظاهر، إنما إنسانيته في مستوى روحه.. مستوى شعوره.. مستوى أهدافه.. مستوى طموحاته، في نقاء قلبه، في طهره، في صدق رؤيته الكونية، في توفره على الارتباط بالحقائق الكبرى.

 

5– هنا أكثر من إلفات، من أصر على رجسه والإقامة على استكباره لا يعرف الله معرفة نافعة مربية ومؤدبة ومكملة ومقربة. هناك معرفة سطحية بالله.. أعرف إجمالا وبشكل لا يكاد يحضر في النفس إلا لمما.. أن لهذا الكون خالقاً، هذه المعرفة لا تكاد تبني.. تربي.. تصنع.. تصوغ. هناك معرفة من مستوى آخر، معرفة الله عز وجل خالقاً لا خالق معه، فاعلاً لا فاعل معه، فاعليته يقوم بها الكون كله، علمه حاضر، قدرته ممتدة إلى كل شيء، ولا شيء إلا بقدرته، فِعلي في الأخير مستند إلى إرادته، كل شيء في هذا الكون راجع إليه، لا شيء يمكن أن يقع في الكون أبداً من دون إذنه. أرى الله عز وجل علماً مطلقاً، فاعليةً شاملة، أرى الله سبحانه وتعالى تدبيراً حكيماً، حكمةً بالغة، أرى الله سبحانه وتعالى كاملاً كمالاً مطلقاً، ولا شيء من الوجود إلا وهو راجع إليه، أرى الله عز وجل نوراً لا ينطفئ، وأن الكون شيء بسيط من نوره.. لا بقاء له لحظة عين لولا مدد الله ولولا فاعليته، أرى الله عز وجل معي في يقظتي ونومي.. في شدتي ورخائي، أرى كل شيء محتاجاً إلى الله سبحانه وتعالى من ضعيف ومن قوي، أرى الله عز وجل مالكاً ملكية ليس لها حد ولا منتهى. هذه المعرفة هي التي تصنع.. هي التي تربي.. هي التي تصوغ.. هي التي تكمّل.. هي التي ترتفع بمستوى الإنسان حتى يرى نفسه لا يساوي شيءٌ من هذا الكون المادي نَفَساً تسبيحياً منها، ويرى أن كل سعادته في ارتباطه بالله سبحانه وتعالى. هذه المعرفة تحتاج إلى تزكية، و لا يمكن أن تتأتى لنفس تقارف الذنوب وتصر عليها.

 

     هل لك إلى أن تتزكى؟ “وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى؟”. أهديك هذه الهداية التي تعرفك بالله سبحانه وتعالى المعرفة العميقة المستقرة التي تخرجك من رجسك وترتفع بك، وأنت لو عرفت الله لخشيته. أمر الهداية من هذا النوع.. مترتب على التطهر والتزكي من الرجس.. من الإصرار على الذنب.. من الإقامة على معصية الله سبحانه وتعالى. وفرعون كان يقيم على معصية الله ويكابر، فكان عليه – حتى ينفتح أمامه باب الهداية الخاصة- أن يخرج من الإصرار على الذنب، من الإقامة على مكابرة الله سبحانه. وهكذا كلّ من أصر على رجسه والإقامة على استكباره لا يعرف الله معرفة نافعة مربية، ومؤدبة ومكملة ومقربة.

 

6– وعجيبٌ كل العجب ألا يعرف المربوب ربه!! كيف؟ أنا مربوب يعني كل لحظة من وجودي هي من عطاء ربي، وكل شيء من قواي هو من مدد ربي. الطفل يعرف أمه وهي تحتضنه، ويعرف حاجته إليها، ويرتمي في حضنها. النبتة تحس بحاجتها إلى الأرض التي ترتكن إليها. وأن ليس هناك مستند.. ليس هناك مرجع لوجودي.. ليس هناك فاعلية تمدني بالوجود وبالعطاء إلا فاعلية الله سبحانه وتعالى. كيف يغيب عني هذا؟ أنا أحس بالأرض التي لي بها نوعُ علاقةٍ أخفُ من علاقتي بالله.. أحس بقيمة شجرة التفاح التي تعطيني التفاح.. أحس بقيمة الدينار الذي في جيبي والذي ييسر لي أن أُشبِع به بطني.. كيف لا أشعر بعلاقتي بالله؟! نعم.. وعجيب أن لا يعرف المربوب ربه، ولكن الحاجب عظيم والقلب قد عمي!

    ومن عرف الله وقره وشكره ورجاه وخافه واستقام. “هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى” تترتب على المعرفة نتيجة الخشية، والخشية مصدرها التوقير، ومصدرها الرجاء، ومصدر كل ذلك الشكر، ومصدرها معرفة عظمة الله، والخشية تثمر الاستقامة.

 

7– سؤال للنفس: هل نخشى الله في مختلف المواطن وفي الضيق والسعة؟ لماذا لا نخشاه؟ أو أن خشيتنا ناقصة؟ لأننا لا نعرفه المعرفة الحقة! ولماذا لا نعرفه المعرفة المثمرة المنتجة؟ لأننا ومع الأسف الشديد نصر على الذنب ونقيم على المعصية!

 

    اللهم صل على محمد وآل محمد واغفر لنا ولأهل الإيمان والإسلام، ولوالدينا ومن كان له حق خاص علينا من أهل ملتك، واسترنا بسترك الجميل، وبارك لنا في ديننا ودنيانا، وأذهب ما بنا من سوء، واجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، يا أرحم من استُرحِم، وأكرم من سئل، يا غفور يارحيم ياكريم.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) “.

 

الخطبة الثانية

 

     الحمد لله الذي أرسل الرسل مبشرين و منذرين، و أنزل الكتب هدىً و بصائر للعالمين، وأقام الحجة وبيّن المحجة، و أنار السبيل و دل على الصراط القويم، و دعا إلى النور المبين.

     أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أشهد أن محمداً عبده و رسوله، صلى الله عليه و آله وسلم تسليماً كثيراً.

 

     عباد الله.. أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، و رعاية حرماته، و الوقوف عند حدوده، و الوفاء بحقوقه و حقوق عباده، التي هي من حقه، و أن لا تظلم نفس نفساً شيئاً، و أن لا يبخس أحد أحداً قدرا. ألا فالعدل العدل، و ما أصعب العدل مع النفس, و ما أصعب العدل مع الغير، على أن النجاة من النار.. و الفوز بالجنة.. و السبق إلى منازلها الرفيعة بقدر العدل!! و لا عدل إلا بالأخذ بما أمر الله و الانتهاء عما نهى، فإن أحكامه موازين عدل لا تجور، و قسط لا يجارى.

اللهم اجعلنا و إخواننا المؤمنين و المؤمنات أجمعين ممن سمع القول فاتبع أحسنه، و عرف العمل الصالح فلزمه.

     اللهم صل على البشير النذير، و السراج المنير، النبي الكريم محمد بن عبد الله الأمين و آله الطاهرين، اللهم صل وسلم على علي بن أبي طالب أمير المؤمنين و إمام المتقين، اللهم صل و سلم على فاطمة الزهراء الهادية المهدية الزكية الرضية, اللهم صل و سلم على الحسنين الطاهرين الزكيين إمامي المسلمين.. الحسن بن علي و أخيه الحسين، اللهم صل و سلم على أئمة المسلمين و حجج الله على العالمين علي بن الحسين زين العابدين، و محمد بن على الباقر، و جعفر بن محمد الصادق، و موسى بن جعفر الكاظم، و علي بن موسى الرضا، و محمد بن علي الجواد، و علي بن محمد الهادي، و الحسن بن علي العسكري حججك على الناس بعدهم أجمعين، اللهم صل و سلم على وليك المنتظر، النور الساطع والسيف القاطع، محيي القرآن و باعث الإسلام، محمد بن الحسن إمام الزمان، اللهم عجل فرجه و سهل مخرجه، و انصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً قريباً، و اجعلنا من جنده و الآخذين بنهجه، يا رحيم يا كريم. عبدك المناصر له، الممهد لدولته، و الفقهاء العدول، و العلماء الصلحاء، و المجاهدين الغيارى، والمؤمنين و المؤمنات أجمعين.. أيدهم و سدد خطاهم و بلغهم في الخير مناهم، و انصرهم بنصرك و أعزهم بعزك يا قوي يا عزيز.

 

     أما بعد أيها المؤمنون و المؤمنات الكرام.. فالحديث في محورين: التأمينات و التقاعد، الإسلاميون والديمقراطية.

 

التأمينات و التقاعد:

 

     ما تتناقله الصحف و كلمات النيابيين – عن موضوع التأمينات و التقاعد- هو تصرفات من المؤسف جداً أن نقول عنها بأنها صبيانية، تستخف بالثروة.. بالإنسان.. بعرَقه.. بجهده، تمثل أنانية مقيتة، لا تقيم وزناً لمجتمع كبير في حاضره و مستقبله، تنسى حاجة اليتيم إلى الفلس الواحد، تنسى حاجة الأرملة, تتآمر على مستقبل يتيم و أرملة و ضعيف.

 

     المال مصدراً هو من كنوزٍ موهوبةٍ من الله سبحانه و تعالى.. يضاف إلى ذلك جهد عقلي، و إبداع فكري، مع جهد عضلي مضنٍ. المال نتيجة أعمارٍ بُذلت فيه، جاء عن نَصَب و رهق و عرق، هذا هو مصدر المال.

 

     و المال وظيفةً هو قوامٌ و قيام.. قوامٌ كما تعبّر الآية الكريمة، و ليس من تعبير أدق و أغنى.. و أكثر سعة وأبعد مضموناً.. و أسمى و أشرف.. من تعبير القوام عن وظيفة المال، و من تعبير القيام. إن به الحركة.. إن به الحياة..إن به قوام الأنفس، و قوام العقول، و قوام الأبدان. المال مرتبط ارتباطاً وثيقاً شديداً مؤثراً بما عليه مستوى حاضر الإنسان و مستقبله، و سعادة الإنسان في الحاضر والمستقبل.. هذا واضح إذا أخذنا أن الفقر كفر ( أي مسبّبٌ للكفر).

 

     فالتصرف هنا – التصرف الصبياني العابث- تصرف فيما هو عُمر الناس.. فيما هو نتاج عقولهم.. فيما هو نتاج نصبهم.. فيما هو قوامٌ و قيام.. فيما هو ضرورة من ضرورات الحياة للناس.

     والمال في الفقه الإسلامي يتمتع بحرمة من الحرمات الكبرى الشرعية. الدماء و الأعراض و الأموال حرمتها حرمة ضخمة، و هي محل الاحتياط في الشريعة، فإذا كان الاحتياط واجباً أو كان مستحباً ففي هذه الموارد هو آكدوجوباً و أكثر استحباباً عند الفقهاء. و قد لا يحتاط الفقيه في المساحات الأخرى و لكنه يحتاط في هذه المساحة الخاصة، و لذلك تُدرأ الحدود بالشبهات!

     وفقهياً كذلك يد الأمانة لا تَضمن. من ائتمنته على مالك.. فوقع بهذا المال ما أتلفه، و ادعى الأمين بأنه قد تلف المال من يده قهراً أو كرها.. فإنه لا ضمان عليه ما لم يكن لك دليل على خلاف ذلك. لكن التساهل في الحفظ – فضلاً عن التصرف غير المأذون به من المؤتمِن – يُلحق يد الأمانة بيد الخيانة من حيث الضمان. فمن أؤتمِن – و إن كان من كان، و إن كان الأمين الحق- إذا تساهل في حفظ الأمانة فضلاً عن أن يتصرف فيها من غير إذن المؤتمِن..فإنه ضامن حتى لو تلفت منه بسبب قهري بعد رجوعه عن ذلك كما عند بعضهم.

 

خزانة الأمانة مفتاحها يكون بيدك لا بيدٍ أمينة أخرى.. ليس لك أن تعطي مفتاح الخزانة التي أؤتمنتَ عليها يداً أمينة أخرى؛ و إلا كان في هذا تصرفٌ غير صحيح يضمّنك لو تلفت الأمانة!

 

     وفي مسألة التأمينات والتقاعد وما حدث من تلاعب بالأموال لابد من ضمان، والضمان لا يكون من المال العام..لا يكون من أموال الحكومة لأن أموال الحكومة أموال الشعب. فلا يكون الشعب هو الخاسر و هو الضامن! لا يكون هو المؤتمِن و يتحمل خيانة المؤتمَن! و مع الضمان لابد من إسقاط الأهلية قانوناً؛ لأن واقع هذا التصرف غير المسموح به قد أسقط هؤلاء الأمناء قبل عن منزلة الأمانة!! هؤلاء الأمناء لم يعودوا أمناء!! فليس للدولة أن تأتمنهم ثانية على أموال الناس! و ليس من حق أحد أن يساوم على ما تفرضه العدالة، لا المجلس النيابي و لا غيره. العدالة تفرض الضمان، و تفرض الطرد من الوظيفة، و التسامح لا يكون إلا من المؤتمِنين أنفسِهم، و المجلس النيابي لم يفوَّض هذا التفويض في التصرف في حقوق الناس من غير رضاهم.

 

     يقول أمير المؤمنين عليه السلام فيما جاء عنه في نهج البلاغة – عن قطائع قد أقطعها عثمان لآخرين، ولم يكن هذا الاقتطاع في فقه أمير المؤمنين عليه السلام و عدله عدلاً-، تقول كلمته عليه السلام: “و الله لو وجدته قد تراجع وتزوّج أو تزوِّجت به النساء و مُلِك به الإماء لرددته؛ فإن في العدل سعة، و من ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق“!

 

     الدينار الواحد من التأمينات و التقاعد أينما وصل و أمكن استرجاعه من أي يدٍ وصلها يجب استرجاعه! المطلوبأولاً أن يُسترجع عين المال، فإن لم يمكن.. استُرجِع عوضه. و أي يدٍ -ولو كانت اليد العاشرة أو هي اليد المائة- قد وصلها هذا الدينار لابد أن يُنتزع منها! و إذا كان قد وصلها ثمناً فإن العوض على من غشها و غرّر بها.

 

     فمسألة تعاقب الأيدي عند الفقهاء تقول: المال المغصوب أينما وصل يُسترجع، و كل يد ترجع إلى اليد التي غررت بها من قبل فتضمّنها.

 

     ولنعرض لأمر مهم بهذه المناسبة فلقد قالوا ظلماً و زوراً بأن الإسلام أخلاقيات و عبادة و مسألة ضمير فحسب، و الحق أن كل أسس النظام السياسي والقضائي والاقتصادي والإداري والتربوي والاجتماعي.. وكل نظم الحياة الإنسانية الأخرى تغنى بها النصوص و القواعد الإسلامية الثابتة، مع عدد وافر من التطبيقات و الفروع، و قد ترك الإسلام للقادرين على الاجتهاد -لا المتطفلين على العملية الاجتهادية- أن يواجهوا الوقائع المستجدة باجتهاد فني علمي رصين أمين منضبط.. يتحرك في إطار الثابت و القواعد الإسلامية العامة المقررة. كما ترك الإسلام للاختصاصات العلمية المختلفة أن تتقدم بعلم الإدارة و السياسة و الاقتصاد و الاجتماع و غيرها من العلوم النافعة.

 

     هذا مع ضرورة التفريق بينما هو المذهب السياسي و ما هو علم السياسة، أو المذهب الاقتصادي  و ما هو الاقتصاد مثلاً. فالمذهب يرتبط بتقدير العدل و المصلحة مما يتصل بحاضر الإنسان و مستقبله، الدنيوي والأخروي، و فرده مجتمعه، و جسمه و روحه، وطبيعة تكوينه و دقائق ذاته، و موقعه وغايته، و مشتركات نوعه و مفترقاته. أماالعلم فيتصل باكتشاف القوانين بما يطور من آلية الإنسان وأساليبه في السيطرة على الظروف المحيطة به، و تمكينه من تحسين أوضاعه العملية، و التغلب على مشكلات حياته، و التقدم بمستوى معيشته، و الوفاء بحاجات بدنه و راحته و حمايته، وعلاج أمراضه من جسمية ونفسية وعقليَّة.

 

     والملاحَظ أن انفصال الحركة العلمية المتقدمة عن المذهب السياسي و الاقتصادي و التربوي السليم مثلاً.. يضاعف من مشكلات الإنسانية و يؤزمها. كما أن تعطل الحركة العلمية المادية يجعل الأوضاع المعيشية راكدة متخلفة.. و يوجد عدداً كبيراً من الأزمات الصحية و الاجتماعية و غيرها.. على أن هذا التعطل يمثل تخلفاً واضحاً عن المسار الإسلامي الصحيح و ضروراته الثابتة، و منهجه التربوي والسياسي و الاقتصادي و سائر مناهجه التفصيلية القويمة. الإسلام يصر دائماً على التقدم في الحركة العلمية المادية و هو يكيّف هذه الحركة العلمية المادية تربوياً بما يصب في صالح الإيمان و بناء الإنسان.

 

     اللهم صل على محمد و آل محمد و اغفر لنا و للمؤمنين و المؤمنات و المسلمين و المسلمات، اللهم ارزقنا الصبر و النصر و الفوز و الظفر في الدنيا، و ما وعدت به الصالحين من عبادك و أهل الكرامة لديك في الآخرة يا أكرمالأكرمين و يا أجود الأجودين.

 

{وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}النحل/90

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1وليس أن الأرض وما فيها وما عليها ملك شخصي له (ص) حتى بالجعل الشرعي.

2وهو من رضيه الله ودلَّت الشريعة على تنصيبه ولو بالتنصيب العام أي الذي ينصبُّ على الوصف لا الشخص.

زر الذهاب إلى الأعلى