خطبة الجمعة (137) 24 ذي القعدة 1424هـ – 16 يناير 2004م

مواضيع الخطبة:

 

القناعة – بدايات لا بد أن تحتوى – هل البحرين فرنسا؟

 

لتكن البحرين هي البحرين بلد أخوة إسلامية عامة، ومحبة وترابط وتعاون على الخير. لا نريد للبحرين أن تكون من سياق النموذج الباكستاني؛ فهو نموذج لا يحتذى، نموذج مخيف، نموذج ابتعد كثيراً في صراعاته الطائفية عن الخط الإسلامي اللاحب

الخطبة الأولى

الحمد لله الأول قبل كل أول، الباقي الذي لا يفنى، الدائم الذي لا يزول، الحي الذي لا يموت، القادر الذي لا يعجز، القيوم الذي لا يعيا.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله و سلم تسليما كثيرا.
أوصيكم عباد الله ونفسي المخادعة لي بتقوى الله الذي لا غنى لأحد عن رحمته، ولا قِبَل لشيء بغضبه، ولا مفر من مملكته. ومن اتقى فإنما يتقي لنفسه، ومن طغى فإنما يجور عليها، ومن أراد الانعتاق من ملكات السوء.. وقبيح الصفات.. وينجو من هلكات يوم المعاد.. ويتحقق له هدف الحياة ويأمن من خسارة المصير، فليس له إلا أن يستمسك بالتقوى، ويكون من أهل خشية الله. وإن فيها لسداد الرأي، وصواب الخطى، وزاد الرحلة الشاقة ,يوم المعاد المقيم.

فمن نهج البلاغة: “إن تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من ملَكة (لا شك أنها ملَكة السوء)، ونجاة من كل هلَكة. بها ينجح الطالب، وينجو الهارب، وتُنال الرغائب”.

اللهم إنا نؤمن بك، ونستهديك، ونسترشدك، ونتوكل عليك. اللهم صل على محمد وآل محمد،
و اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

أما بعد أيها الملأ الكريم، والإخوة والأخوات المؤمنون الأعزاء..
فالحديث في صياغة الإسلام للنفس الإنسانية، صياغة تتجه بها إلى القناعة والرضا بالعيش الذي قد يضؤل في نظر الكثيرين ممن يتملكهم هوى المادة وشغف المال، بحيث لا يستريح لهم شعور، وإن كان لأحدهم ملءُ الدنيا ذهباً وفضة لا ينازعه في ذلك منازع. وإن لهذا التوجيه الإسلامي انعكاساته في حياة الفرد والمجتمع، وللتوجيه التربوي المضاد الذي يدفع للجشع مثل ذلك على تباعد شاسع، وتباين هائل، في طبيعة هذه الانعكاسات والآثار، بين ما لهذا التوجيه وذاك. ولنضع الحديث في أبعادٍ محددة، تمشياً مع عدد من النصوص.
الإسلام مع القناعة:
” مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ” / النحل 97.
سئل أمير المؤمنين عليه السلام عن قوله تعالى “فلنحيينه حياة طيبة” فقال : “هي القناعة”. فمن عاش حياته قانعاً كانت حياته طيبة، لأن نفسه هنا غنية وإن قل ما في يده، وليس أطيب من حياة يشعر المرء دائماً فيها بالغنى. وكثيراً ما تحطمت نفوس، وانهدمت بُنىً روحية، وانهدّت عقول، أمام طمع المادة، وجشع الدنيا، وكثيراً ما كان انتحارٌ سريع أو بطيء على مذبح الطمع.

وفي نص آخر (و هو لأمير المؤمنين عليه السلام): “و لكن الله جعل رسله أولي قوة في عزائمهم، وضعَفَةً فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى”. مظهر خصاصة وحاجة يعيشها عدد من الأنبياء، ولكن مع هذا المظهر من الخصاصة والحاجة عظمة نفس.. قلب لا يعرف الشعور بالفقر إلا أمام الله سبحانه وتعالى، وهو من صلته بالله.. يشعر دائماً بالغنى. “قلوب تملأ العيون غنىً”، نفوس كبيرة، وقلوب سامية، تجاوزت المادة والدنيا بمسافات ومسافات.. فلم يعد شيء من الدنيا يستهويها، ولم يعد شيء من الدنيا قادراً على استعبادها، وأكثر من ذلك.. أنها لا تشتهي الكثير من الدنيا لتفوقها شعوراً وإحساساً بالسمو على أشياء الدنيا.

“انتقم من حرصك بالقنوع، كما تنتقم من عدوك بالقصاص”، الكلمة تصور الحرص عدواً لأنه يجر إلى المهالك.. لأنه يسحق الشعور بكرامة الذات.. لأنه يحول الإنسان إلى طفل صغير يركض وراء قطعة حلوى وإن كانت موهومة!

للقناعة مكاسب :

فعن مكاسب القناعة: “من قنعت نفسه أعانته على النزاهة والعفاف”.

الإنسان تتدنى نفسه، ويهبط شعوره، وتترجس أجواء ذاته في ظل الجشع.. في ظل الحرص، فيجد من نفسه أنه لا يستطيع أن يقاوم المادة، وأن يقاوم سحرها، يجد نفسه دائما مهزوماً أمام أهل المادة وأمام سحر المادة، أما الترفع والنزاهة والسمو وطهر الذات فذلك كله في قناعة النفس. والنفس تعف، ووتتنزه، وتتطهر عن أن تذل إذا كان ملؤها القناعة! القناعة تتقدم بمستوى الشعور، وتتقدم بمستوى النفس حتى لا يملك أحد من خلق الله أن يذل هذه النفس بما في يده!

“مِن عزِّ النفس لزومُ القناعة”، صاحب الملايين على طمعٍ ذليل! وصاحب الدينار على قناعةٍ عزيز، إنه قلعة لا تُقتحَم.. وحصن لا يؤتى.. ونفس أبية لا تُشترى! أما الملايين فلا تحمي نفس الطامع من أن يُشترى بمليون زائد وبأقل من مليون!!

“اقنع بما أوتيته يخفّ عليك الحساب”، تلك آثار دنيوية تتصل بالآخرة، وهذا من آثار الآخرة
السياق يأتي ما عن الصادق عليه السلام “من رضي من الله باليسير من المعاش رضي الله منه باليسير من العمل”، وكذلك ما عن أمير المؤمنين عليه السلام “أشكر الناس أقنعهم”، فليس أشكر الناس من رزق كثيراً وأنفق كثيراً .. أشكر الناس من شح رزقه وقابل ذلك بالقناعة والرضا بما رزق الله. “أشكر الناس أقنعهم، وأكفرهم للنعم أجشعهم!” لأن الجشِع كلما رزق خيراً كلما قل الخير الكثير في نظره؛ فيأتي من ذلك الكفر بالله وعدم الشكر له.

وهناك أثران؛ أثر للقناعة، وهو أثر اجتماعي ونفسي وسياسي وتربوي، وأثر آخر مثله للجشع..فإنه لو استغنى كل واحد بما يكفيه لوجد كل واحد في الدنيا ما يكفيه!! لم توجد الدنيا ضيقة عن إطعام أبنائها، وإن الأرض قد أودِعت كل ما يكفي للأجيال والإنسان أُعطي من قوة العقل وقدرة الإبداع والقدرة على الاكتشاف ما يحقق لنا واقعاً غنياً في الحياة، ويكفي كل الناس؛ لكن ذلك إنما يتم في ظل التربية الإسلامية الناجحة. وأي تربية مادية جشعة يمكن أن تحطم هذه المعادلة وتنسفها ليتحول الإنسان -الفقير منه والغني – إلى فقير دائماً، فقير بواقعه الخارجي، أو فقير بواقعه النفسي!

نعم إنه لو استغنى كل واحد بما يكفيه لوجد كل واحد في الدنيا ما يكفيه، فصار الكل أغنياء نفساً ويداً، وانتهىُ سببُ كبير للصراعات الجاهلية المدمرة، سواء كانت باسم الدنيا أو الدين، وسلم الناس على دينهم وأنفسهم، وأعراضهم وأمنهم، وعاشوا أخوة متحابين لا أعداء متقاتلين. وإذا كان الواحد لا يكفيه ما في يده، فإنه كما تفيد الأحاديث لن تكفيه الدنيا كلها! ومجتمع لا يكفي الواحد منه أن تكون الدنيا كلها بيده.. هو مجتمع فقير حتماً.

الجشع فقر:

تقول الكلمة عنهم عليهم السلام (و يكفي أن تكون عن أحدهم لتكون عنهم كما نفهم): “من كان بيسير الدنيا لا يقنع لم يغنه من كثيرها ما يجمع”. إذا كانت خمسة الدنانير التي تكفيك ليومك لا تكفيك.. وتبقى متضجراً من الله سبحانه وتعالى.. ساخطاً عليه في رزقه؛ فإن مثل هذه النفسية التي تجعلك ساخطاً أمام ما يكفيك يومك، أو ما يكفيك شهرك، أو ما يكفيك سنتك، لو تيسر لها كل ما في الدنيا ولم ينازعها فيها منازع فإنها ستبقى جشعة.. ستبقى ساخطة.. ستبقى قلقة.. ستبقى حزينة، غير راضية،ولا مطمئنة.

“إن كان ما يكفيك يغنيك.. فأدنى ما فيها يغنيك، وإن كان ما يكفيك لا يغنيك.. فكل ما فيها لا يغنيك”. إذا انفتح باب الشره.. باب الجشع.. باب الطمع.. فإن الدنيا كلها لو صارت بيد طامع لم تسد باب طمعه.

و مجتمعٌ كل أفراده فقراء لا بد أن يسوده النهب والغصب والاقتتال والافتراء والتسقيط والصراع والانحراف.و كيف يكون مجتمع كل أفراده فقراء؟ حين يكون أبناء هذا المجتمع كلهم جشعين ، أو حين يكون القادرون منهم على جشع.. هذا المجتمع يكون كل أبنائه فقراء. وليكن أن ما بيد كل إنسان من أبناء هذا المجتمع يكفيه لقرون.. لكن إذا كانت النفسية عند هؤلاء هي نفسية جشعة فإن أبناء هذا المجتمع كلهم غارقون في الفقر!! المجتمع الأمريكي – أو أي مجتمع مادي- لكن لو لم يكن فيه فقير واحد من ناحية الواقع الخارجي، وكان أبناؤه يعيشون نفسية الجشع والطمع ولا يقدسون إلا المادة، ولا يلوذون إلا بها، ولا يعرفون قيمتهم إلا من خلالها؛ فإن هذا المجتمع لا بد أن يكون مجتمع اقتتال.. مجتمع نهب.. غصب.. مجتمع صراعات!!

من أين القناعة؟ من أين تأتي؟ من أين تنبع؟

تقول الكلمة عنهم عليهم السلام: “من عقِل قنع!” وهذا يحتاج إلى شرح.. فأنا كم أحتاج في دنياي؟ أنا لي رب أو ليس لي رب؟ أنا رازق أو مرزوق؟ رزقي بيد أخي وصديقي وعدوّي أو رزقي بيد الله؟ كيف عشت في الرحم؟ كيف خرجت من العدم إلى الوجود؟ كيف صنعتني يد الإله القدير الحكيم؟ كيف أوجد الله سبحانه وتعالى في قلوب الأمهات والآباء عطفاً على الأبناء حتى يرعوهم؟ أسئلة يطرحها المرء على نفسه فتعطيه جواباً بأن يتكل على الله سبحانه وتعالى.
“من عقِل قنع”، “على قدر العفة تكون القناعة”. النفوس الكبيرة.. النفوس التي اكتشفت ذاتها في ضوء الصلة بالله عز وجل.. النفوس التي عرفت إنسانيتها.. تتقدس عن الجشع وتأخذ بالقناعة لأنها لا ترى أن قيمتها في المادة وإنما إنسانيتها هي التي تمثل قيمتها. “ينبغي لمن عرف نفسه أن يلزم القناعة والعفة”.

“أنظر إلى من هو دونك ولا تنظر إلى من هو فوقك في القدرة فإن ذلك أقنع لك بما قُسم لك”. وهذا مساعد للقناعة خارج الذات غير مفصول عنها تماماً.

يبقى سؤال وليس من وقت للإجابة عليه: ما صلة القناعة بقلة النشاط الاقتصادي؟ بعدم التقدم الاقتصادي؟ ربما يأتي إشكال هنا وأن المجتمع الذي يربَى أبناءه على القناعة تجره القناعة إلىهبوط في النشاط.. إلى تلكؤ في عملية الانتاج..إلى عزوف عن الدنيا حتى تُغلَب الأمة وتهزم في كل ميادين الحياة . هذا جواب سريع قد لا يشفي ولكن فيه إشارة وهو: أن هناك تكليفاً للانسان المسلم وهو تكليف النهوض بمستوى الأمة وطلب القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية وفي كل الميادين بما يجعل للأمة الإسلامية الريادة. إنه واجب إعمار الحياة؛ ولنأخذ مثلاً من بعض الأئمة عليهم السلام، وهو أنه جاء في سيرة الإمام زين العبدين عليه السلام فيما أتذكر أنه يقيم الولائم الكبيرة ويطعم الطعام الفاخر ، ولكنه مع ذلك يقنع والموائد بين يديه بما هو شيء قليل مزهود من الطعام ترويضاً للنفس وتسامياً بها ةقد يقيم الولائم الضخمة للمحتاجين وهو صائم لله.. فليس أن أتسامى أن يتعطل على يدي النشاط ، إني مسئول حتمية أو مسئولية أخلاقية في الإسلام بأن أكون على يسار حتى أكف عن وجهي عار السؤال، وحتى أستطيع أن أتوسع بالبذل على الجار والرحم القريب وكل محتاج، وأنا مسئول أن أسهم بكل ما أوتيت من نشاط من أجل بناء مجتمع قوي يفوق كل المجتمعات، ويفرض كلمة الحق عليها من خلال موقعه المتقدم القوي .

اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات، ولوالدينا وأرحامنا، ومن كان له حق خاص علينا من كل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة. اللهم أغننا وجميع أهل الإيمان والإسلام بغنى النفس، واكفنا الشح والحرص، وجنبنا الجشع، وابسط علينا من رزقك الحلال الطيب، واجعله خيراً لنا في ديننا ودنيانا يا كريم يا رحيم.

بسم الله الرحمن الرحيم
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}

الخطبة الثانية

الحمد لله الكريم الوهاب، مسبب الأسباب ورب الأرباب، ومالك الرقاب، رقيب فوق كل رقيب، وليس عليه رقيب، ملك لا ينازَع في ملكه، سلطان لا يُحَدّ سلطانه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وزادهم فضلا وبركة وسلاماً.

أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله المحيي المميت الباعث بعد الموت، المحصي لكل ما تكسبه الأيدي، وتضمره النفوس، ويختلج في الضمائر، وهو الحسيب المثيب المعاقب الذي لا طمع كما يُطمع في ثوابه، ولا خوف كما يخاف من عقابه. ألا من تذكر أن الله رقيبه، والموت لاقيه، والأجل يطلبه، والدنيا تلفظه؛ كان طريقه التقوى، ورفيقه العمل الصالح. والتقوى تتبع دائما صحوة النفس، ويقظة القلب، ونباهة الفكر. وغفلة النفس وسبات القلب وبلادة الفكر تربة المعصية، وأرضية الطغيان.

اللهم اجعلنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات من أهل التقوى، ولا تنسينا حقك أبداً، واغرس في قلوبنا من جليل عظمتك ما لا تنصرف معه إلى غيرك، ولا تلهو به عن عبادتك.

اللهم صل وسلم على البشير النذير والسراج المنير محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين وآله الطاهرين.. وصل وسلم على علي أمير المؤمنين وإمام المتقين.. وصل وسلم على كريمة نبيك وزوج وليك فاطمة الزهراء الطاهرة الزكية.. وصل وسلم على الحسنين السبطين الزكيين والإمامين الهاديين الحسن بن علي والشهيد الحسين.. وصل وسلم على أئمة الرشاد وأهل السداد علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، الأئمة الهداة الأمجاد.. وصل وسلم على وليك القائم العدل المنتظر، باعث الإسلام ومحيي القرآن محمد بن الحسن الإمام بن الإمام. اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه وأظهره على أعدائه، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً مبيناً قريباً، واجعلنا من جنده والمجاهدين جهاده، والسالكين طريقه، يا أكرم الأكرمين. اللهم المواليَ له، المعاديَ لأعدائه، المناصرَ لمنهجه، المعدَّ لدولته، والفقهاءَ العدول، والعلماءَ الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين العاملين في سبيلك وسائر أهل الإيمان، أيّدهم وسدّدهم وزد من فضلك هداهم، وارزقهم النصر والعزة والغلبة يا قوي يا عزيز.

أما بعد أيها الإخوة والأخوات المؤمنون الأعزاء..
فمحاور الحديث هي الآتي _ أتناول منها ما أمكن:
1_ بدايات لا بد أن تحتوى.
2_ هل البحرين فرنسا؟
3_ التأمينات والتقاعد.

بدايات لا بد أن تحتوى :
هي بدايات وليست ظاهرة .. ونتمنى ألا يؤول الأمر وتشب البدايات الخبيثة إلى ظاهرة فاحشة. البدايات: منازعات بين عدد قليل من هذه الطائفة وعدد قليل من تلك الطائفة على أرض مسجد، مضايقات من أبناء طائفة قليلين غير معروفين لأبناء طائفة أخرى في مسجد آخر. المعالجة لا بد أن تكون مبكرة، لأن المعالجة المبكرة لا تكلف الكثير، بينما المعالجة المتأخرة ستستنـزف جهداً كبيراً، وتأتي في العادة بعد خسائر كبيرة، وبعد أن يكبر الجرح، ويتفاحش الخرق.. وعندئذ يبقى في النفوس الكثير من المخلفات التي قد لا تكتسحها محاولات الترميم.

لتكن البحرين هي البحرين بلد أخوة إسلامية عامة، ومحبة وترابط وتعاون على الخير. لا نريد للبحرين أن تكون من سياق النموذج الباكستاني؛ فهو نموذج لا يحتذى، نموذج مخيف، نموذج ابتعد كثيراً في صراعاته الطائفية عن الخط الإسلامي اللاحب.

تطويق الظاهرة لابد أن يكون من خلال إرجاع مثل هذه المسائل الصغيرة إلى الدوائر الرسمية، وأن تتكفل بحلها حلاً عادلاً سريعاً وشرعياً وقانونياً متمشياً في ضوء الشرع . القضايا هذه تكون من مسئولية الدوائر الرسمية وقبل أن تنزل إلى الشارع، ويجب أن لا يُسمح لها بأن تنزل إلى الشارع أبداً.
و إن امتدادها الشعبي يعني ظاهرة غير صحية وأمراً ضاراً، ويعني تسامحاً على الأقل في أمن الوطن وحاضره ومستقبله. وإذا كان هناك خلاف من الشعب فليكن هذا الخلاف مع الدوائر الرسمية لا بين طائفة وطائفة أخرى. والعلماء هنا في مقدمة من يُسأل عن تبريد الأجواء، عن تنقية الأجواء، عن تهدئة الأجواء، وعن بث الهدايات الإسلامية الكافية التي تسد كل المنافذ على مثل هذه الحالة غير الصحية. ثم يأتي المعتدلون من أبناء المسلمين من الطائفتين الكريمتين ويتحملون مسئولية كبيرة في هذا السبيل. والشهادتان محصنتان شرعاً.. تجعل صاحبهما في حصن وأمن على دمه وعرضه وماله، والمسلم الذي لا يعرف هذا فكرا، أو لا يعرفه عملا عليه أن يراجع قيمة إسلامه!

هل البحرين فرنسا؟
في المساحة الأوسع من الصحافة نعم.. هي فرنسا. تجد في الصحافة المحلية سخرية بالإسلام.. بتعاليمه.. هجوماً وتقولاً عليه.. استهزاءً بالمسلمات المؤمنات المحتشمات.. دفاعا عن شيراك.. مناداة صارخة بالعلمانية.. تنديداً بانتساب الدولة إلى الدين.. وذلك من حماة الدستور. إذا طالب أحد بتعديل الدستور، وبالنظر في الدستور، أو بالمقايسة بين الدستور وبين مقتضيات الميثاق، ضج هؤلاء الصحفيون شبه الرسميين، ولكن تجدهم من ناحية أخرى ينددون بمملكة البحرين.. بدستورها.. لأن الدستور ينص على أن دين الدولة الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي من مصادر التشريع، نعم يشجبون الدستور لأن الدستور لم يحول الدولة إلى دولة علمانية صارخة !

هل البحرين واقعاً فرنسا؟ البحرين في المساحة العريضة من الصحافة فرنسا كما سبق، لكن هل البحرين في الواقع الخارجي فرنسا؟ تجيب على ذلك المظاهرات الاحتجاجية على موقف شيراك من الحجاب وهي احتجاجات نسائية، الواقع الإيماني الملتزم، المساجد التي تزخر بالمصلين، المؤسسات الدينية الأخرى، الجمعيات الإسلامية التي تفوق في عددها وفي قوّتها كل الجمعيات الأخرى، النُخَب المؤمنة والشارع التمسكان دائماً بالإسلام، ولهما مواقفهما الإسلامية الواضحة، الرجل والمرأة هما على خط واحد من الاعتزاز بالإسلام ونصرة القضية الإسلامية في أي مكان، المظاهرات الحاشدة التي تشهدها البحرين كلما مُسَّت كرامة الإسلام وكلما جرح الإسلام أو المسلمون.

كل ذلك وتاريخ البحرين العريق، وتمسكها المعروف بعرىالايمان يقول لهؤلاء العدد القليل من الصحفيين إنكم غرباء.. إنكم دخيلون بفكركم.. بما تطرحونه من آراء بعيدة عن أجواء هذا البلد، وعن عرف هذا البلد، وعن خط هذا البلد.

من أين المفارقة بين الصحافة وبين الواقع؟ الصحافة تقول أننا في فرنسا، الواقع يقول أننا في مكة رسول الله يومَ رسول الله الله صلى الله عليه وآله.. في مدينة رسول الله يومَ رسول الله صلى الله عليه وآله بمقدار وآخر. فمن أين هذه المفارقة؟ تأتي المفارقة من وجود كتاب علمانيين يعيشون بأجسامهم هنا ولكن عقولهم.. وتفكيرهم.. وأمانيهم.. وأهدافهم.. وتوجههم.. وكل ثقافتهم.. فرنسية، أمريكية، انجليزية.. فهم غرباء حقاً.

ثم أسأل أين الصوت الإسلامي في الصحافة؟ أترى المشكلة أن هنا إسلاميين بلا صحافة؟ أقصد هنا إسلاميين لا يملكون الكلمة الصحافية؟ ولا يجيدون أن يكتبوا؟ وليس لهم قلم معبّر؟ أم هنا إسلاميون يغنون بالكلمة، ولقلمهم دورٌ فعال قادر، ولكن لا صحافة ولا حرية صحافية عند الإنسان المسلم؟! أؤكد أن السبب الأكبر هو أنه لا صحافة عند الإسلاميين.. ولا حرية صحافية أمامهم لحد الآن.

يا أهل المكيالين.. يا أهل التهافت.. يا أهل التناقض.. ألستم تريدون من الدين أن يسمح لكل من يشتهي أن يشرب الخمر علناً أن يفعل؟ ولمن يحب أن يملأ الدنيا طرباً ورقصاً وأن يتعرى ما شاء له ذوقه الهابط أن يتعرى؟ فلماذا لا تطالبون علمانيتكم أن تسمح لمن تريد الحجاب أن تتحجب؟ ونسأل هل الحجاب كل الإسلام؟ (أنا أشير بهذ السؤال الأخير إلى مقالة الأخ الدكتور جابر الأنصاري) الجواب لا.. ولكن الإسلام بلا الحجاب الذي قررته الشريعة إسلام ناقص. والحل الشامل للمشكلة البشرية في الإسلام الكامل وليس في الإسلام المجزوء الخاضع لمقص الهوى البشري، والتقلبات الثقافية وتأثيرات الثقافة المستوردة. أنا أقول أن الصلاة ليست كل الإسلام، ولكن لا قيام للإسلام بلا صلاة، وأقول العدالة الإقتصادية ليست كل ما في الإسلام، ولكن الإسلام قاصر ومشوَّه بلا عدالة اقتصادية، وعلى هذا النسق أقول لك بأن الحجاب ليس كل الإسلام، ولكن حين تقتص الحجاب من الإسلام سيكون إسلاما ناقصاً، وستظهر لذلك آثار خطيرة على الاقتصاد.. على الأمن.. على الخُلُق.. على نفسية إنسان المجتمع، وفي كل المجالات. ولغة أن الإسلام أعظم من مسألة الحجاب لا تنتج -كما قد يُراد- رفعَ اليد عن الحجاب وإسقاط قيمته، فكون الإسلام بما هو كلٌ أكبر من كل جزء فيه أمرٌ مسلَّمٌ، ولكن لا يلغي ذلك قيمة الأجزاء؛ فإن الكل بكل جزء من أجزائه، وحين يفقد الكلُ جزءً لم يعد ذلك الكلَ الجميل المتناسق الوافي القادر على أداء هدفه.

والعقيدة – وهي أساس الإسلام- لا تمثل الإسلام كله .. وعظمة الإسلام كاملةٌ يدخل في التعرف عليها التعرفُ على كلٍّ من بنيته التحتية والفوقية، فهل يعني هذا أن العقيدة ليست لها قيمة؟! ومعلوم ما يفعله التبرج الجاهلي من انفلات جنسي، ومن جرائم وتخريب للمجتمعات، وهدمٍ للدول. ولا يُدرَى أي احتشام وأي عفة سيحتفظ بهما المجتمع بعد أن تنتشر ظاهرة عرض الجسد ومفاتنه. والمرأة المبدية لفتنتها لا يعفيها ولا يرفع مسئوليتها أنها لا تستجيب للفاحشة الكبرى. صحيح أن امرأة قد تبدي فتنتها ولكنها لا تستجيب للفاحشة الكبرى، ولكن هذا هل يعفيها ويسقط مسئوليتها؟ أقول لا .. فإن ما تثيره من روح الفاحشة وما تشعله من نار الشهوة المحرمة – خاصة لمن لا يجد فرص الحلال مفتوحة أمامه- فيه من المسئولية ما فيه، ومن الإضرار بسلامة المجتمع ما لا يخفى.

يبقى موضوع التأمينات والتقاعد لضيق الوقت.. وغفر الله لي ولكم..

اللهم صل وسلم وزد وبارك على الحبيب محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا وكل من أحسن إلينا من مؤمن ومؤمنة .اللهم سلم لنا ديننا ودنيانا وأنقذ هذه الأمة من كيد الأعداء على كل المستويات، ولم َّالشمل على الهدى والتقوى والحمد لله رب العالمين.

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}

زر الذهاب إلى الأعلى