خطبة الجمعة (136) 17 ذي القعدة 1424هـ – 9 يناير 2004م
الصدقة (3) – جمعياتنا الإسلامية (2) – الوحدات السكنية
المجتمع يطالب هذه الجمعيات بالالتزام بأهدافها. والجمعيات السياسية الإسلامية إتما كانت من أجل المطالبة بالعدالة، من أجل أن تقف مع المحرومين والمظلومين، وأن تكون في خدمة الشعب، وأن تقف مع كل القضايا التي تؤكد على الإنصاف والمساواة، وأن تقترب بالحياة العامة من الطرح الإسلامي، وأن تلتزم مسار الإسلام فيما تطرحه
الخطبة الأولى:
الحمد لله حمداً لا تزنه أوزان المخلوقين، ولا تبلغ كنهه أفهام المحدودين، حمداً يُنال به رضاه، وتحق به الكرامة عنده، وتتحقق الزلفى لديه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مصدر كل جميل، ومرجع كل نعمة، ومنتهى كل حسنة.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، هداه واصطفاه، ومن جزيل نعمه أولاه، وعظيم كراماته كساه، صلى الله عليه وآله سبل النجاة.
أوصيكم عباد الله ونفسي الخاطئة بتقوى الله، والمبادرة إلى الخير والتباعد عن الشر، فان لكل ما كسبته يد المرء مردوداً على نفسه، ففعل الخير يثبّت صفة الخير في النفس ويوسّعها، ويزرع فيها كرهاً للشر وتعلقاً بالخير، وبذلك تطهر وتزكو. وفعل الشر يركّز صفة الشر في النفس ويمتد بها، وينبت فيها حب الشر وبغض الخير .. وبذلك تنجُس وتنحدر. والنفس الطاهرة الزاكية لن تلقى عند ربها الكريم إلا خيراً، والنفس القذرة الهابطة لن توافي مما أعدته لنفسها وأفسدت من ذاتها إلا شرّا. وكيف يستوي خير وشر عند الله؟!!
نعوذ بك اللهم من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ونلوذ بك، ونتوكل عليك.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبداً، وأدخلنا في عبادك الصالحين يا رحيم يا كريم.
بعد هذا أيها الاخوة والأخوات المؤمنون والمؤمنات، ندخل الحديث عن الصدقة في حلقته الثالثة والأخيرة .
الصدقة عصمة من العصم :
تقول الآية الكريمة : ” الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ “. البقرة / 274
هم في أمن من الخوف الأكبر، ومن الحزن الأكثر شدة والأطول مقاماً.. حزن الآخرة.. وخوف الآخرة. وكل حزن وكل خوف مما عدا حزن الآخرة وخوفها مهما اشتد فليس بشيء بالقياس إلى ذلك الحزن والخوف.
عن ابن عباس: نزلت – الآية الكريمة السابقة – في علي بن أبي طالب عليه السلام، كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهماً، وبالنهار درهماً، وسراً درهما، وعلانيةً درهما، وهذا تعبير عن تغطية مختلف الحالات والأزمان، والآية الكريمة واردة فـي هذا النـوع من التغطيــة .. فصـدقتهم لا تتـوقـف علـى حـال دون حـال، ولا تقتصر على زمان محدد دون زمان.
وعلي بن أبي طالب عليه السلام النموذج الرفيع الأكثر رفعة بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله)، يجسد الإسلام في مختلف أبعاده وأحكامه وسلوكاته بما يبرزه قرآنا ناطقاً ينضم إلى القرآن الصامت الذي كوّن شخصيته وربّاه.
” إذا أصبحت فتصدق بصدقة تذهب عنك نحس ذلك اليوم وإذا أمسيت فتصدق بصدقة تذهب عنك نحس تلك الليلة ” عن الصادق عليه السلام.
فتستطيع أن تواجه حوادث تخافها من بداية يومك، وقد تحملها ليلتك بالصدقة في أول النهار، وفي أول الليل.
على أن الصدقة التي ندفعها قد ندفعها بغرض دفع البلاء وبأغراض دنيوية أخرى، وربما كانت الصدقة التي تترتب عليها الآثار المذكورة هي صدقة خالصة لوجه الله الكريم – والله أعلم -، وأنّى لنا أن نُصِيب مثل هذه الصدقة !! فدفع البلاء .. الشفاء .. إدرار الرزق يترتب على الصدقة، لكن على أي صدقة ؟! هل على الصدقة التي أدفعها بنية أن أسترزق؟ بنية أن أشفى؟ أو الصدقة التي أدفعها قربة خالصة لله سبحانه وتعالى؟! لئِن كانت الأولى تعطي.. فإن الثانية أعطى وأعطى!(1)
الساعون في الخير :
” من مشى بصدقة إلى محتاج كان له كأجر صاحبها من غير أن ينقص من اجره شيء “. أنت لست صاحب الصدقة، ولكن أنت موصل لها .. ولك أجرٌ مثل أجر صاحبها من دون أن ينقص شيء من مُخرِج الصدقة أصلاً.
” لو جرى المعروف على ثمانين كفاً لأُوجِروا كلهم من غير أن ينقص عن صاحبه من أجره شيئا”.
وهكذا هو السعي بالخير في الأرض، فما استطعت أن تكون واسطة خير فارتقب أجراً عظيما من الله. كن واسطة خير بالكلمة .. بالسعي بالرجل، بأي موقف من المواقف حتى بإشارة العين، فان ذرة من ذرات العمل الخير لا تضيع عند الله!!
الصدقة ليس لحد الفقر:
الإسلام لو طالعناه في مختلف أحكامه لوجدناه مثالياً من جهة.. يقدّر القيم.. يركزها في نفس
الإنسان .. يربط حركة الإنسان بالقيم العالية، ويلفت اهتمامه إلى جانبه الروحي ويسعى به إلى
التأكيد على ربط سعيه بالآخرة. ولكنه واقعي أيضاً.. لا يهمل الحياة وحاجاتها.. وضروراتها وخواطرها وهواجسها التي تخالط نفس الإنسان، فيعالجها المعالجة الحكيمة التي تقدر لهذا الموضوع ضروراته وحاجاته، من غير أن تفتح له باب السرف وتخريب الروح.
” ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا “، والإحسار كما عن الصادق عليه السلام الفاقة .
فتصدق ولكن ليس إلى الحد الذي يصل بك إلى الفاقة وخلوّ اليد، ” وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ” / البقرة (219)، ومن تفسيرات العفو هنا ما قاله صاحب الميزان وأنه التوسط في الإنفاق .
من وصايا رسول الله (ص) لأمير المؤمنين عليه السلام : ” أما الصدقة فجهدك ” وعن رواية الكافي ( فجهدك جهدك تأكيداً ) حتى تقول قد أسرفت، ولم تسرف “.
يدفع الحديث إلى الإكثار من الصدقة، والبذل السخي في هذا السبيل حتى يستنفذ الإنسان جهده وطاقته، والى حد أن يرى نفسه أنه قد أسرف، ولكن هذه الرؤية يصححها الحديث بذيله فيقول: ولم تسرف، وكيف نجمع بين هذا وما سبق ؟ يأتي إن شاء الله .
ربما احتمل ” معنى قد أسرفتَ ولم تُسرف ” المشارفة على الإسراف وليس الوصول إلى حد الإسراف، وقد يكون المعنى أن الإسراف في الصدقة لا يُعد إسرافاً.
” لو أن رجلا أنفق ما في يديه في سبيل من سبل الله ما كان أحسن ولا وُفّق “،
هذا أنفق ماله كله في سبيل من سبل الله، إلى حد لم يبق في يده شيء. يحكم عليه الحديث بأنه ما كان أحسن ولا وفق ويسلب عنه صفة أنه أحسن، وصفة أنه وُفق ! كيف نجمع بين هذا وبين ما سبق ؟!
تمام الحديث: ” أليس يقول الله عز وجل ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين، يعني المقتصدين ” عن الصادق (ع)، وفي الاستشهاد بالآية بيانٌ أنه لم يوفق لأنه ألقى بيده إلى التهلكة، وأنه لم يحسن لأنه تجاوز حد الاقتصاد.
الحديث الأول إما أن يكون للمبالغة .. وأنك في مورد الصدقة بالغ في الإنفاق بما لا تبالغ به في الموارد الأخرى، حتى كأنك أسرفت، وإما لأن حد الإسراف في الصدقة يختلف عن الإسراف في الموارد الأخرى ! أنا لمّا أعطي ديناراً زائداً على حاجة البطن أكون قد أسرفت، أما حين يكون في مقدوري أن ادفع ألف دينار .. أو ألفي دينار .. أو ثلاثة آلاف دينار .. بحيث لا يبقى عندي إلا ما يقوّم حياتي وحياة عائلتي ولا يرجعني إلي حد الفقر، إذا كان هذا في الصدقة فليس هو من السرف. فتجاوز الحد المتعارف في مثل حاجة البطن، وحاجة الظهر وما ماثلهما يعد إسرافاً، أما تجاوز الحد المتعارف اجتماعياً في الصدقة فانه لا يعد إسرافاً.
يمكن أن نجمع بين الحديثين بهذا الجمع .. فان اختلاف المورد يخالف بين حد الإسراف، الإسراف هناك غير الإسراف هنا، على انه لا تنافي بين هذا الحديث الذي يقول ” جهدك .. حتى تقول أنك أسرفت ولم تسرف ” وبين ما ينفي الإحسان وينفي التوفيق حين يكون البذل في الصدقة لكل ما في اليد. الإسراف لا يعني أن يبذل كل ما في اليد، فإذا كان يُقبل في الصدقة التجاوز في الإنفاق .. إنما هو إلى الحد الذي يصل للإسراف وليس إلى الحد الذي يصل إلى التصفية النهائية للمال وخلوّ اليد.
” لا تبذل لإخوانك من نفسك ما ضره عليك اكثر من منفعته لهم”، ضابطة في البذل في مجال المال وغير مجال المال، وهذا البذل غير صحيح لا في ميزان الدين ولا في ميزان العقل، جلبُ مضرة أكبر للذات، لمنفعة أقل للغير غير مقبول لا عرفاً ولا عقلاً ولا ديناً.
الكرامة أولى :
كرامة الفقير مع العذر أولى من إعطائه في إهانة ،
“قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ”/ البقرة (263)، العناية بالشخصية قبل العناية بالشخص، والشخصية هي لب هذا الإنسان، والشخص والهيكل اللحمي والعظمي صورة خارجية له. (2)
حاجة البطن والظهر ينبغي أن تُسَد، وينبغي إنقاذ الإنسان من الهلَكة .. لكن تبقى هلكة البدن على ضررها البالغ أخف من هلكة الروح! فلا تُسقَط شخصية الإنسان المؤمن.. ولا يُنال من كرامته لصدقة تبلغ الملايين.
” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى ” / البقرة ( 264).
هناك ما يعقب الصدقة فيفسدها وهو المنّ، وهناك ما يتقدم الصدقة – وقد يذهب بقيمتها – وهو المطل والتسويف .. ففيه إذلال للفقير، فلا يُرتكب ما لم يكن هناك موجب واقعي للتريث.
” المن يهدم الصنيعة ” عن الصادق عليه السلام.
” ثلاثة لا يكلمهم الله عز وجل : المنان الذي لا يعطي شيئا إلا بمنّة ” ( أحد الثلاثة )، عن الرسول (ص).
” المطل عذاب النفس “، “المطل والمن منكِّد الإحسان”.
لا بطالة في الإسلام:
“إن الصدقة لا تحل على غني”، ( ومن هو الغني ؟ صاحب الملايين ؟! لا .. من يجد الكفاية.. من يجد القدرة على التعيش الوسطي )، “إن الصدقة لا تحل على غني، ولا لذي مِرَّة سوي، ( مِرّة : قوة، وسوي : صحيح الجسد)، إلا لذي فقر مدقع، أو غُرم مفظع “.
وإذا جئنا للفقر المدقع فهو فقر دون حد التوسط (3)، والغرم المفظع هو حالة تنتاب من كانت معيشته دون الحد الأوسط (4).
“ومن سأل الناس لثري به ماله كان خُموشاً في وجهه يوم القيامة، ورضفاً يأكله من جهنم، فمن شاء فليُقلّ ومن شاء فليُكثر “.
حديث مؤدِّب لصنف يتظاهرون بالحاجة وهم لا يعيشونها. هذا يسأل الناس لا ليقضي حاجته، وإنما ليصل إلى حد الثراء، وليكتنز المال، ما جزاؤه ؟ يقول : كان خموشاً في وجهه، الخموش الخدوش، هذا السؤال يُظهر خموشاً .. وعلامات ذلة كذلك.. وعلامات جريمة في وجهه يوم القيامة، أذاها ليس جسديا فقط، وإنما أذاها نفسي، وهي محقرة مذلة مهينة.
و رضفاً يأكله من جهنم، الرضف الحجارة المحماة، فهذا المال يتحول حجارة محماة يأكلها من جهنم. فمن شاء فليُقل من سؤاله ليقلل من خموشه، فلا يسأل وهو على غير حاجة، ومن شاء فليُكثر، فليكثر السؤال هنا ليأكل من الحجارة المحماة في جهنم بكمٍ أكبر !!
” إن الصدقة لا تحل لمحترف، ولا لذي مرة سوي قوي فتنزهوا عنها “. ذي مرة سوي قوي وهو يجد العمل، أما أن يكون ذا مرة سوياً ولكنه لا يجد عملاً فهو محل الصدقة بلا إشكال.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ولوالدينا وأرحامنا، ومن كان له حق خاص علينا من المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
اللهم اجعل أعمالنا وأعمال إخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين من أهل الإيمان والإسلام خالصة لوجهك الكريم، وإحساننا لمن أمرت بالإحسان إليه خالياً من المن، واجعلنا جميعاً من المسارعين في الخيرات المسابقين إلى المكرمات، بلا ملل ولا كسل ولا مطل يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين
بسم الله الرحمن الرحيم
{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)}
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً لا يعدله حمد، ولا يزنه حمد ولا يبلغه، نحمده حمداً لا يليق به غيره، ولا يكون لأحد سواه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وبارك عليهم جميعاً كثيراً كثيرا.
علينا عباد الله بتقوى الله، الذي سفِه رأيُ من لا يخشى عدلَه وقدرته، وعمي قلب من لا يدرك آيات قهره وجبروته، ويتساهل أمام بطشه وغضبه، والوجود ناطق أبداً بآيات القهر والجبروت، والحياة تتحدث دائماً بدروس من البطش الماحق والغضب الساحق الذي يحل بأودية الجبارين، وبدروس أخرى واعظة، من موت الأقوياء، ومرض الأصحاء، وفقر الأغنياء، وآلام شديدة، وويلات ثقيلة، ومصائب مرهقة، وفي ذلك اعتبار لمعتبر، وذكرى لمتذكر، بأن الله كما هو رحمن رحيم .. قهار جبار شديد العقاب، وأن وعيد الآخرة له في الحياة صورة مصغرة.
اللهم لا حول لنا ولا قوة إلا بك، ولا طاقة بنا لتحمل عقابك، ولا لجأ لنا إلا إليك، واجعلنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين في درعك الحصينة التي تجعل فيها من تريد، وأخرجنا من كل سوء، وارزقنا عافية الدنيا والآخرة، يا من لا يملك الضر والنفع إلا هو، يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم على البشير النذير والسراج المنير محمد خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين، اللهم صل وسلم على علي أمير المؤمنين وإمام المتقين، اللهم صل وسلم على فاطمة بنت نبيك الطاهرة المطهرة المعصومة، اللهم صل وسلم على الحسنين الزكيين الإمامين الوليين إمامي المسلمين وهدى المتقين، اللهم صل وسلم على الأئمة الأطهار علي بن الحسين السجاد، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري الهداة الأطياب، اللهم صل وسلم على وليك المنتظر العدل القائم محمد بن الحسن الأغر. اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه وانصره نصراً عزيزاً ومكن له تمكيناً يا كريم. عبدَك المواليَ له المعد لنصرته الممهد لدولته والفقهاء العدول والعلماء الصلحاء والمجاهدين الغيارى والمؤمنين والمؤمنات أجمعين أولِهم رعايتك وأدخلهم في حفظك وكلاءتك، وبلغهم أملهم في طاعتك، وفي نصرة دينك يا عزيز يا حكيم.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات في الإيمان، فرجوع إلى مواضيع سابقة استكمالاً للحديث عنها.
أولاً : جمعياتنا الإسلامية.
ثانياً : توزيع الوحدات السكنية.
ثالثاً : بدايات لا بد أن تُحتوى.
أولا : جمعياتنا الإسلامية (2):
هل جمعياتنا الإسلامية تمثل مرجعية نهائية مستقلة لأعضائها ومنتميها ؟! أم أنها مؤسسات تقع على طريق المرجعية ؟؟
لا شك أن جمعياتنا لا تعتبر نفسها مرجعية مستقلة ونهائية، ولا يدخل في ذهنها هذا أبداً، فيتحتم أن تكون مؤسسات تعمل على طريق المرجعية الأخيرة النهائية.
و مرجعية المسلم أولاً وبالذات هو ربه الكريم تبارك وتعالى، يأتي من بعد ذلك بالإذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يلحقه أئمة أهل البيت عليهم السلام، يليهم من بعد ذلك الفقهاء العدول ( والكلام عن خط الفقهاء وليس عن فقيه معين ).
فمرجعية جمعياتنا الإسلامية لابد أن تكون منتهية إلى خط الفقهاء .. لتنتهي إلى مرجعية الأئمة عليهم السلام.. إلى مرجعية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.. إلى المرجعية الحق التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها مرجعية الإله العظيم؛ الله سبحانه وتعالى.
المرجعية هنا مرجعية مدرسة وليست مرجعية شخص، كل المسلمين – الملتزمين بالإسلام – مرجعيتهم الإسلام، ومن رأى أن له مرجعية تنتهي لغير الإسلام فهو – على إسلامه – ليس بالمسلم الحـقّ الملتزم. وفي الإسلام مدارس، والجمعيات التي تنتمي إلى مدرسة أهل البيت عليهم السلام لا تكون من هذا الخط حتى تكون مرجعيتها مدرسة أهل البيت عليهم السلام، ولا نعرف في الأرض ولا في الدين تمثيلاً لخط مدرسة أهل البيت عليهم السلام يُتيقن بأنه تمثيل مرضي عند الله غير تمثيل الفقهاء العدول الذين أوصى بهم وبمرجعيتهم أهلُ البيت عليهم السلام.
فيتحتم على جمعياتنا الإسلامية من هذه المدرسة لتكون كذلك أن تبرهن دائماً على أن لها مرجعية، وأن مرجعيتها تتمثل في مدرسة أهل البيت عليهم السلام وفقهاء هذه المدرسة العدول.
الجمعيات والتثقيف:
التثقيف داخلي وخارجي. وحين تختار أي جمعية شعار أنها جمعية إسلامية يفرض عليها هذا الأمر واجب أن يكون أعضاؤها يفهمون الإسلام.. يعيشون الإسلام.. يطرحون الطرح الإسلامي.. يخلصون للإسلام.. يتحركون على خط المصلحة الإسلامية. وأعضاء الجمعيات منهم أبناء العشرين وأبناء الثانية والعشرين وما هو فوق ذلك، وقد يكون العضو الذي ينتمي إلى الجمعية ابن الثلاثين والخامسة والثلاثين إلا أنه ليس على كثير فهم من أمور دينه، وليس على التركز المطلوب لمسألة الدين، فهنا – حتى تكون الجمعية جمعية إسلامية – لابد أن يتثقف أعضاؤها على الإسلام، ولابد أن يكون من صلب وظيفة أي جمعية إسلامية أن تثقف أعضاءها على الإسلام في أبعاده المختلفة.. العقيدية والمفاهيمية والفقهية والوجدانية. ولا أريد من ذلك أن يتخرج أعضاء الجمعيات الإسلامية فقهاء وعلماء كباراً متخصصين في هذا المجال أو ذاك المجال، وإنما أريد أن أطالب الجمعيات الإسلامية بأن تكون شخصيات أعضائها شخصيات إسلامية، وأن تكون للعضو شخصيته الإسلامية الواضحة حتى لا يهدم الإسلام باسم الإسلام من خلال ما ينتمي إليه من جمعية إسلامية.
و التثقيف مرة يكون مبدئياً ومرة يكون وظيفياً، فإذا كانت الجمعية ثقافية فلا بد أن يكون أعضاء هذه الجمعية على تقدم واضح من ناحية الثقافة. وإذا كانت الجمعية سياسية فلا بد أن يكون للأعضاء نضج سياسي واضح وتقدير سياسي ملحوظ، ومعايشة واضحة للفهم السياسي الدقيق من غير أن يبتعد بهم ذلك عن التثقيف على الخط الأول – وهو الأهم في نظري – وهو التثقيف الذي يهتم بتكوين شخصية إسلامية واضحة المعالم.
التثقيف السياسي يكون تثقيفاً على الحقوق، فلا بد من عضو الجمعية السياسية أن يكون أسرع من غيره وأفهم لما هي حقوق المواطن وحقوق الشعب، ثم يكون التثقيف على المطالبة بالحقوق. فأَن نفهم حقوقنا .. هذا أولاً، وأن نطالب بهذه الحقوق .. هذا ثانياً، وكل منهما مطلوب. وهناك تثقيف آخر: تثقيف على أساليب المطالبة، وأدواتها وآلياتها، على شرعية المطالبة، قانونيتها، مناسبتها للوضع الميداني الخاص والعام، المحلي .. الإقليمي .. العالمي، أولويات المطالب، وكل ذلك مما يجب أن يكون أعضاء أي جمعية سياسية إسلامية على وفرة كافية بالنسبة إليه.
و هناك التثقيف على الوظائف والواجبات، وأن لا يتعلم العضو أن يطالب فقط من دون أن يشعر بأن عليه واجبات لوطنه، وأن هناك حدوداً تحد حركته نابعة من حق الدين وحق المجتمع.
التصدعات والانقسامات :
الجمعية – أي جمعية إسلامية – تصدعها وتشققها وانقسامها ربما أحدث انقساماً في المجتمع وتصدعاً وشرخاً، فالمجتمع له حق أن يطالب أي جمعية إسلامية بأن تعمل على سد أي باب من أبواب هذا التمزق وهذا التبعثر والتصدع والانقسام. ليس من حق أي جمعية ولا من حق أي تيار في أي جمعية أن يحدث شرخاً، وأن ينقسم ما لم تكن هناك ضرورة واضحة جداً تستطيع أن تقنع المجتمع بأن هناك موجباً لتأسيس جمعية أخرى. نحن نطالب جمعياتنا الإسلامية بالتماسك وبأن تبني نفسها متينة، وبأن تبقـى الأخـوة فيها صـادقة، وتتحاشى كلـما أمكن أي انقسام خطير. وسيحاكم المجتمع أي انقسام، وستكون له كلمته الحاسمة في هذا الانقسام.
المجتمع يطالب هذه الجمعيات بالالتزام بأهدافها. والجمعيات السياسية الإسلامية إتما كانت من أجل المطالبة بالعدالة، من أجل أن تقف مع المحرومين والمظلومين، وأن تكون في خدمة الشعب، وأن تقف مع كل القضايا التي تؤكد على الإنصاف والمساواة، وأن تقترب بالحياة العامة من الطرح الإسلامي، وأن تلتزم مسار الإسلام فيما تطرحه .. وفيما تدخل فيه من تحالفات .. وفيما تتحرك وفيما تترك أو تفعل. المجتمع المسلم يراقب هذه الجمعيات، ويطلب منها الالتزام بالوقوف مع الشعب ومع قضاياه ومشكلاته. وهذا لا يعني أن نشن حرباً في وجه الحكومة وأن نخلق عداوة مستمرة مع الحكومة، إنما نحن نطالب بأن تقف هذه الجمعيات مع قضايا الشعب، ومع قضايا المظلومين والمحرومين، في أساليب وفي فعاليات، وفي صور حكيمة ومؤدّية وموصلة, وأن تقدر لأساليب الحوار قيمتها، وأن تقدّر لأمن البلد وظروفه وضعها الخاص، على أن لا يكون ذلك على حساب الحق والعدل.
و يجب أن تكون المطالبة بالحقوق مستمرة، والشعب كل الشعب مع هذه الجمعيات إذا التزمت خط هذه المطالبة وبعقلانية ضمن الإطار الحكيم والذي يؤكد على الفهم والوعي السياسي والالتزام الديني.
أيضاً تُطالَب هذه الجمعيات بالتأكيد على هويتها الإسلامية , ولن يُقبل من هذه الجمعيات أن تهمل جانب التثقيف الداخلي، على أنه يجب عليها أن تشارك في التثقيف الإسلامي الخارجي.
ثانيا : الوحدات السكنية:
أنا لا أجد من حقي هنا الخوض في جزئيات مسألة لا أملك معلوماتها الدقيقة، ولا أحاول أن أدس أنفي في كل ما أعلم فضلاً عما لا أعلم، لكن المطروح هنا هو أمر عام.
* يجب اعتماد مقياس عادل واضح ومثبت إلى مدة معينة في مسألة توزيع الوحدات السكنية – وكذلك القسائم السكنية والأراضي – لتسهيل الاحتكام إليه، ويمكن أن يكون هذا المقياس مركباً من أكثر من نقطة.
* هذا المقياس يجب أن يكون عادلاً ويمكن أن يرتكز إلى أكثر من لحاظ : مثل قِدم الطلب وضرورة الحاجة والمناطقية، كل هذا يمكن أن يجتمع ليكوِّن مقياساً واضحاً يُعتمد إلى مدة معينة، ويكون مطروحاً أمام الجميع، ويكون الاحتكام إليه.
* و حين نتحدث عن المناطقية : الصورة الواضحة لاعتبار المناطقية هنا هو أن الطلبين المتزامنين أحدهما يكون من المنطقة والآخر يكون من منطقة أخرى، فيكون التقديم في هذه الحالة للطلب الأول، وكذلك بالنسبة للطلبين المتقاربين زماناً بفاصل شهور مثلاً.
* هذا المقياس يجب أن يُشهَر، وأن تكون هناك دقة في التطبيق، وأمانة بالغة، يجب إعلان تفاصيل التطبيق لتسهيل التظلم والاحتكام.
* يجب تعيين جهة تظلم وشكاوى للبت فيها بعدالة.
* و هناك ضرورة للعمل السريع على إيجاد حل للمشكلة القائمة لأصحاب الطلبات الذين بخسوا حقهم في التوزيع الأخير، دون أن يُفرض عليهم الانتظار إلى الدفعة القادمة، فهذه مسألة مستقلة يجب معالجتها خارج جدولة الإسكان والتوزيع والأزمنة المحددة لذلك.
اللهم صل على محمد وآل محمد واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجميعن ونور قلوبنا، وزكِ أرواحنا، وداو أسقامنا وأمراضنا، وآمنا في أوطاننا، وامنع النائبات أن تحل بنا، وثبّتنا على الطريق الذي ارتضيته لصالح عبادك يا كريم يا رحيم.
{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-ويظهر من الحديث الذي يفيد أن الإمام عليه السلام إذا أملق تاجر مع الله بالصدقة أن الصدقة وإن كانت بدافع معالجة الوضع تعطي أثراً موضوعياً .
(2)-و إن كان الحفاظ على الشخص مقدمة الحفاظ على الشخصيّة .
(3)-(4)- بل الفقر المدقع هو الفقر الشديد المذّل ، و الغرم المفظع ضرر كبير محرِج في المال