خطبة الجمعة (132) 10 شوال 1424هـ – 5 ديسمبر 2003م

مواضيع الخطبة:

 

قلوبنا بين الإصلاح والإفساد(4)  – العلاقات الحضارية

 

هناك غزو حضاري يستهدف أن يفرض كل شيء على الآخر بلا تمييز، ويسلبه أسباب أصالته واستقلاليته من أجل الاستغلال، ولا بد لهذا النوع من العلاقة أن يقاوَم بكل قوة وصمود وإصرار من جانب الفريسة ومن كل الأحرار.

الخطبة الأولى

الحمد لله حسبنا الله وكفى، سمع الله لمن دعا، ليس وراء الله منتهى، وليس بعده مبتغى، سبحان الله ربّ الآخرة والأولى.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله هادياً للسالكين، ودليلاً للمتحيرين، وضياء هدى للمستضيئين صلَّى الله عليه وآله الطاهرين.

أوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله إذ أنها تحمي من أذى الشيطان الرجيم “إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ”، وتُكفّر بها السيئات، وينال الأجر العظيم “وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً”.
ومن تقوى الله رعاية حقوق العباد، وكف اليد واللسان إلا ما كان بحقٍّ، ومن ظلم فإنّما نفسه أولاً ظلم، ومن أحسن فأول إحسانه لنفسه، فلنكن مِنْ ظُلِم أنفسنا على حذر، ولنطمع كثيراً في الإحسان إليها.

أما بعد أيها الأخوة والأخوات الكرام فلنختم الحديث عن القلب تحت هذا العنوان: قلوبنا بين الإصلاح ولإفساد
إنه ليعز على امرء عاقل أن يفسد منه العضو البسيط، وإن أحدنا ليبذل ما في وسعه لاستصلاح كل أعضائه، وإنه لحريص جدا على أن لا يفسد منه عضو واحد وإن خفّ وزنه في النظر، فما بالك بالقلب، القلب الذي يمثل معناك، وتتمثل فيه ذاتك، ويعني لبّ وجودك؟!
وإنَّه ليعظم شأناً صلاح أي عضو في الإنسان ويخطر أمر فساده بقدر ماله من شأن في نفسه، فالمخ والقلب النابض بالدّم لأن شأنهما في حياة الجسد أعظم الشأن كان صلاحهما وفسادهما من أخطر الأمر. ويزيد القلب في بعده المعنوي ومضمونه الإنساني، وبما يمثّل من الروح الإنسانية التي بحياتها يكون الإنسان، وبموتها لا يبقى منه إلا ما هو حيوان شأناً فوق ما لقلب البدن ومخِّه من شأن، وخطراً أبعد مما لهما من خطر.

وصلاح هذا القلب وفساده ليس بمنأى من إرادة الإنسان التي قد تتجه لخراب القلب أو إعماره، وإصلاحه أو إفساده، وموته أو حياته.
وملفت هذا الأمر أيها الأخوة وهو أن لنا إرادة في صلاح وفساد أبداننا، ولكن إرادتنا في فساد وصلاح قلوبنا أكبر، قد أعطينا من الإرادة ما نطلب به صلاح القلب أو فساده، والأمر كله بيد الله عز وجل أكبر مما أُعطينا من إرادة في إصلاح أبداننا وفسادها، وإن كان لنا قسط كبير فيما يصيب البدن من صلاح أو إفساد تتحمله مسؤوليتنا.

وقلوبنا لم توجد صالحة لا تقبل الفساد، ولا فاسدة لا تقبل الصلاح، وهي إذا صلحت أمكن أن تؤول بإرادة الإنسان إلى فساد، وإذا ما عرضها فساد أمكن أن يصير على يده بتوفيق ربه إلى صلاح “وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ”.

وقد جاءت النصوص الإسلامية بأسباب فيها صلاح القلب، وأخرى فيها فساده، وحمَّلت الإنسان أمانة الأولى، ومسؤولية

الثانية؛ فمع أمثلة سريعة للطائفتين:-

مصلحات:

“يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ”(1). موعظة الله كتابه، رسالته، نبيّه، هذا كله هدى، شفاء يوسّع الصدور، يجعلها تقبل الحق، تُقبل عليه.
“إن تقوى الله دواء داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء عشا أبصاركم”(2).

هذه مصلحات للقلب، الأخذ بالكتاب، الاقتداء بالمعصوم، التقيد بمنهج الله، الاستفادة من آيات الله، الرجوع إلى فطرة الله في الأنفس، الاستضاءة بكلمات الوحي، التبصّر بمواقف المعصوم عليه السلام، الاقتداء بالصالحين كل ذلك فيه صلاح قلب المرء، والمنهجة الإسلامية كفيلة لمن اتبعها لئن تصنع له قلبا خالصا ليس فيه مكان للأمراض والأحقاد والحسد والشك والريب والاضطراب والقلق.وتقوى الله التى هي الدواء والبصر بعد العمى لا تنفصل عن الأخذ بمنهجه وتباع دينه.

وعن علي عليه السلام “لقاء أهل الخير عمارة القلب” اختر صديقك، اختصر جليسك، اختر صفَّك، فإن أردت قلبا سليما فاطلب أهل سلامة القلب، ومن أراد غير ذلك فإن في أوباش الناس، وإن في سقطتهم وسفلتهم ما يصنع له قلبا خبيثا منكوسا.
“عليكم بالفكر فإنه حياة قلب البصير ومفاتيح أبواب الحكمة”(3). تمضية الأيام في غفلة، تعطيل العقل، شل الفكر، إطلاق طاقة الهوى كل ذلك يأخذ بالإنسان بعيدا عن صناعة قلب سليم، ويجعل هذا القلب الذي هو محل لاستقبال قبسات من نور الله سبحانه وتعالى قلبا مظلما موحشا مقفرا.

“من وصايا أمير المؤمنين لابنه الحسن عليهما السلام:”أوصيك بتقوى الله – أي بني – ولزوم أمره وعمارة قلبك بذكره”.

أحدنا إما أن يشتغل بذكر الله، وإما أن يشتغل بذكر غيره منصرفا عن ذكره، فمن انصرف بقلبه عن ذكر الله لم يجد ما يصنع قلبه قويا طاهرا متقدّسا، ومن اشتغل بذكر الله سبحانه وتعالى لم يجد من ذكر الله إلا ما يعلي شأنه، ويطهر قلبه، ويصفي ذاته، ويبلور روحه، ويضيء نفسه، ويقدم منه الشخصية الكبيرة، والقلب المضيء والروح المنفتحة على الحق المنغلقة عن الباطل، العامرة بأنس الله التي لا تعرف الوحشة التي تفرض نفسها على كل البعيدين عن الله.

عن الباقر عليه السلام:”تعرض لرقة القلب بكثرة الذكر في الخلوات” رزقنا الله ذكره في الخلوات، فذكر الله في الخلوات صنّاع، وذكر الله في الخلوات بنّاء، وذكر الله في الخلوات عمّار، فمن أهمه أن تعمر ذاته، وأن تنبني صحيحة عمارة ذاته فليلجأ إلى ذكر الله في خلواته.

“إن الله سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن…. وما للقلب جلاء غيره”. فما لنا نفتش عن إنتاج الإنجليز والأمريكان والروس أيها الأخوة؟! مالنا نركض وراء كتابات العلمانيين؟! هذا كتاب الله وما للقلب جلاء غيره.
عن الرسول صلى الله عليه وآله “إن للقلوب صدأ كصدأ النحاس، فاجلوها بالاستغفار”.
عن علي عليه السلام “أصل قوة القلب التوكل على الله” كثيراً ما نشكو الضعف أم المحن، أمام المغريات، أمام الشدائد والمصائب، أمام أنفسنا، أمام أولادنا وأزواجنا، أمام أصدقائنا وأعدائنا، فهل منا من يطلب قلبا قويا يثبت في كل المواقف؟ “أصل قوة القلب التوكل على الله”.

عن الصادق عليه السلام “النظر في العواقب تلقيح القلوب” لِمَ لا نرمي ببصرنا بعيدا، لم نحبس البصر عند القدم، حين نحبس البصر عند القدم لا نطل على المسافة التي سنقطعها وعلى الطريق الذي علينا أن نقطعه إلى الهدف، الهدف لا يرى إلا في آخر الطريق، والذين يحبسون نظرهم على أول الطريق وعند الأقدام فاقدون للبصر من ناحية فعلية والبصيرة.

مفسدات:

ذاك شيء مما يصلح، وهو كثير، وهو لب ما يصلح وأساس ما يصلح، وإن فاتت فاتت أمثلة أما الركائز فهي هنا.
أما المفسدات:
} في قوله تعالى”خَتَمَ اللّهُ …” الختم هو الطبع على قلوب الكفار على كفرهم، كما قال عز وجل” بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلاً{ عن الرضا (ع).

الكفر درجات، ومن الكفر ما هو عقيدي، ومن الكفر ما هو عملي، وكل كفر عملي قد يرجع في الأخير إلى درجة من الكفر النظري. وبداية الكفر بداية الطبع، وبداية الختم، فأي درجة من الكفر هي سبب لختم أو طبع على القلب، ومعنى أن قلبه قد ختم لا يسمع، لا يبصر، لا ينفذ إليه نور، انفصل عن عالم الرحمة، انفصل عن عالم الضياء الإلهي، انفصل عن نور الفطرة، انغلق عن الخير، ما أخطر المسألة أن يختم على قلب.

“كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ”(4).
السبب: التكبر، التجبر، النظر إلى الذات على أنها عملاقة، والنظر إلى نفسي على أني شيء… النظر إلى نفسي على أني أملك لنفسي نفعا أو ضرا، فيه تكبر، وفيه تجبر، الآية تقول: “كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ”.
“كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ”(5) فلا عدوانية أيها الأخوة في قاموس الإنسان المسلم المؤمن.
“كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ”(6)
وتأتي أسباب في سياق مفسدات القلب عن علي (ع):”محادثة النساء تدعو إلى البلاء وتُزيغ القلوب” لا تطمع، لا توغل، لا تكثر، لا تتجاوز الحاجة في محادثة النساء.

القلوب صانعها أعلم بها، والله يعلم ما بين الرجل والمرأة من أمر، وما تعنيه كثرة المحادثة للنساء في قلب المرأة وفي قلب الرجل، ونحن بشر ونعلم بمقدارٍ ما في أنفسنا، وما يداخلنا في مثل هذه الأمور، الاحتراس الاحتراس.
ليست المحادثة ممنوعة نهائيا، ولكن يؤخذ منها ما تفرضه الحاجة فقط أيها الإخوان.
“محادثة النساء تدعو إلى البلاء وتُزيغ القلوب” تميل بالقلب عن خطه الذي أراده الله سبحانه وتعالى، عن الاشتغال بالهدف إلى الاشتغال بما فيه تلهٍّ وبما فيه قضاء رغبات صغيرة.

عن علي (ع) “ماجفّت الدموع إلا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب” ما جفت الدموع في موضع ينبغي أن يجري فيه الدمع… في موضع الرقة، في موضع الرحمة. إلا لقسوة أصابت القلوب، “القلوب إلا لكثرة الذنوب” عُود على عودٍ تجتمع منه حزمة كبيرة، وحزم الذنوب هي حواجب البصيرة، وركامات الذنوب هي حجب عن رؤية أنور النور، عن رؤية نور الله سبحانه وتعالى، هذه الذنوب تعمي عن رؤية الحق الجلي، وتجعل ما هو جليّ غير مبصَر، وتحول بين القلب وبين أن يرى ما تراه القلوب السليمة.
عن الرسول (ص) “إياك وكثرة الضحك فإنّه يميت القلب” لا يريدك الإسلام عبوسا مقطبا، ابتسم، كن البشوش، كن المرح الذي لا يخرج عن الأدب والوقار، أتحف إخوانك بالفكاهة التي تسر ولا تسيء الأدب، ولا تحولك إلى فكاهيٍّ رخيص، وهذا كله غير ما هي كثرة الضحك والإسراف في الضحك.

عن علي (ع)”لا وجع أوجع للقلوب من الذنوب” القلوب السليمة، القلوب الصحيحة تحس بالأذى عند الذنب، ويوجعها الذنب ولكنها من بعد حين تستكين إلى الذنوب ويسكن الجرح وتسر بالذنب.

عن علي (ع)”كثرة المال مفسدة لدين مقساة للقلب” وهو مال يطلب من الحرام، وتقبض عليه اليد، ولا تبذله في سبيل الله، أو أن يتحول ولو كان حلالاً إلى المهمة والهدف الذي يستوعب الساعة واليوم والشهر والسنة والعمر.(7)
اللهم صل على محمد وآل محمد، يا من بيده حياة القلوب وموتها، وهداها وعماها، أحيي قلوبنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات بحياة الإيمان والتقوى واهدنا ولا تضلنا، وآمنا ولا تفزعنا، وتب علينا ولا تردنا يا تواب يا كريم.
اللهم اغفر لنا ولأهل الإيمان والإسلام ولوالدينا وأرحامنا ولكل ذي حق خاص علينا من مؤمنة ومؤمنة ومسلم ومسلمة يا أكرم من سئل، وأرحم من استرحم، وأجود من أعطى.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3))

الخطبة الثانية

الحمد لله رب الملائكة والروح والنبيين والمرسلين، وقاهر من في السماوات والأرضين، خالق الأولين والآخرين، بارىء الخلائق أجمعين، مالك يوم الدين.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله رحمة للعالمين، ونجاة للمهتدين صلى الله عليه وآله الطاهرين.
أوصيكم عباد الله ونفسي القاصرة بتقوى الله التي لا صلاح للحياة الدنيا، ولا نجاة في الآخرة بدونها، ولا يقوم مجتمع ناجح مع التخلي عنها. والتقوى تدعو إلى العلم والمعرفة، وتورث الرشد والحكمة، وتنأى بصاحبها عما يُنزل القدر، ويسبب الفساد، ويهبط بمستوى الحياة، ويسيء للعباد، وترفع من التطلع، وتمد في النظر، وتُكسِبُ المستقبل.

ففي الكلمة عن أمير المؤمنين عليه السلام:”للمتقي هدى في رشاد، وتحرج عن فساد، وحرص في إصلاح معاد”(8).
وما من عقل اهتدى، وقلب تيقظ، ونفس تمّ لها رشدها، يرتقب لها أن تفارق طريق التقوى.

اللهم إنا نعوذ بك أن نضل، أو نغفل، أو تسفه نفوسنا فنفارق التقوى، اللهم أعذنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات من الأخذ بمعصيتك فنذل ونخزى. اللهم اغفر لنا ولهم ولكل ذي حق خاص علينا منهم يا كريم يا رحيم.

اللهم صل وسلم على القائد الرشيد، والولي السديد، والنبي السعيد، رسولك المصطفى، وحبيبك المرتضى، محمد بن عبد الله أبي القاسم والزهراء. وصل وسلم على علي أمير المؤمنين وإمام المتقين. وصل وسلم على فاطمة بنت رسول الله الهادية المهدية الرشيدة الرضية. وصل وسلم على إمامي الهدى، وعلمي التقوى الحسن بن علي الزكي، والحسين الشهيد الأبي. وصل وسلم على أئمة المسلمين، وهدى المتقين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري قادة الدنيا والدين.

وصل وسلم على إمام العصر، الموعود بالنصر، محي الإسلام، ناشر الإيمان، باعث السلام والأمان، محمد بن الحسن المنتظر القائم.
اللهم عجل فرجه، وسهل مخرجه، وانصره أتم النصر، وأعزه أكمل العز، ولا تبقي به خوف مؤمن، ولا ذل مستضعف يا قوي يا عزيز، يا من هو على كل شيء قدير.

أما بعد أيها الأخوة الأعزاء من المؤمنين والمؤمنات فهذا حديث عابر عن شيء من العلاقات الحضارية.

وعلاقة حضارة بأخرى، وأمة بثانية، ومجتمع إنساني بمجتمع إنساني مقابل لا تتمثل في صورة واحدة.

فهناك غزو حضاري يستهدف أن يفرض كل شيء على الآخر بلا تمييز، ويسلبه أسباب أصالته واستقلاليته من أجل الاستغلال، ولا بد لهذا النوع من العلاقة أن يقاوَم بكل قوة وصمود وإصرار من جانب الفريسة ومن كل الأحرار.

وهناك هيمنة حضارية فرضت على الآخر، وتعمل على إلغائه حضارة وثقافة ومصلحة، وهذه لابد أن يُثار عليها إلى أن تتحطّم ويتم الانعتاق.

وهناك انبهار حضاري بالآخر تعيشه شريحة سطحية من أمة أو مجتمع لا تفرق بين ضار ونافع، ولا بين خطأ وصحيح، ولا بين حق وباطل. وهي حالة تحتاج إلى ترشيد وتوعية وتصويب، وقبض على اليد التي تريد إغراق السفينة، وهدم سقف المنزل على رؤوس ساكنيه.

وهناك تغرير حضاري يزين حضارة هي في طريقها إلى السقوط وقاية لها من اكتساح حضارة الآخر الناهضة الصالحة ولابد لهذا التغرير أن يُعرّى، وتكتشف خلفيته الأنانية المتخلفة.

وهناك تآمر حضاري لابد أن يفضح ويضرب.

وهناك انسحاق وذوبان حضاري لا يختاره إلا من فقد أصول الحضارة الصحيحة ومقومات الوجود الإنساني القوي.
وهناك تفاعل حضاري، كل طرف فيه يدرس ما عند الآخر، ويقيّمه، ويختار مريداً بارادة حرّة مستقلة واعية ما توافق عليه مباني حضارته ومبادؤها ومقرراتها التي ثبتت صحتها عنده سلفاً بعد الدراسة والتمحيص والمقارنة.

هذا النوع من العلاقة الحضارية هو ما يصح أن يكون مورداً للانفتاح، ولو من جانب واحد في نظرنا(9)، وهو ما يمكن أن يوافق شرف الحضارة الإسلامية العملاقة ومنزلتها الرفيعة ورياديتها.

وهذا الانفتاح إنما هو لاستقبال الجيد من الفكر والناتج العلمي والتجارب الإنسانية الغنية والخبرة الميدانية مما عند الآخر مما يتوافق ومبادئ الدين ومقررات الشريعة، وتحتاجه مسيرة الحياة، وينفع في تعزيز مصالحها.

وإذا كان الأمر كذلك احتاجت عملية الانفتاح إلى دراسة وتشخيص دقيق من أكثر من فريق من المختصين، وفي مقدمتهم فقهاء الأمة، وعلماء الشريعة الأكفّاء المؤمونون.

لكن أليس هذا الكلام عن التحكم في عملية التفاعل، ومدى الانفتاح على الآخر كلاما خارج العصر؟ وبعيدا عن رؤيته وفهمه ومعاناته؟ فهل بقي لأحد أمام الفاعلية الكبيرة لوسائل التوصيل، واقتحام القنوات الفضائية كل بيت أن يختار ما يستقبل من الآخر وما لا يُستقبل وأن يتأثر أو لا يتأثر؟ هذه إشكالية تُطرح في هذا المجال.

الجواب:
1. لا زال بيد الأفراد بعض مفاتيح عملية الاستقبال لما يريد أن يوصِّله الآخر، ويعتمد استعمال هذه المفاتيح على إرادة المستقبِل. فليست هناك يد سحرية لحد الآن تمد يدك إلى القناة الفضائية المعينة التي تحمل الغث وتحمل الضار من الفكر والثقافة والسلوك لتجبرك على فتح هذه القناة. هذا مثال، وهناك أمثلة، والمكان ليس محل التفصيل.

2. فرق بين سياسة رسمية تروّج للآخر باسم الانفتاح(10)، وسياسة أخرى تتعقب فكر الآخر وإعلامه بالنقد والمحاسبة، وتقدم البديل عن سيئه.
3. إذا بنينا على الانفتاح المطلق على الآخر، والانفعال الاستسلامي بحضارته بلا قيد استتبع ذلك أن نربي الأجيال على إكبار الآخر(11)، والاستجابة الطوعية لفكره وإعلانه ومواقفه بلا تحفّظ ولا حدود.

وإذا قدّرنا أن الصحيح التمييزُ بين انفتاح وانفتاح، ومادة فكرية وأخرى، وهذا النوع من البرامج وذاك كان علينا أن نُعبء مجتمعاتنا بروح المقاومة لما يقتحم عليهم معاقلهم من فكر وبرامج مرفوضة.

والله عزّ وجل أعطى للشيطان أن يُسمع صوته للإنسان(12)، لكن فرض عليه – أي على الإنسان – أن يقاوم وسوسته وتزيينه بعد أن أعطاه القدرة على المقاومة. صحيح أعطيت الحضارة الغربية السيئة أن تُسمعنا صوتها، ولكن أعطينا أيضا القدرة على مقاومة سيء هذه الحضارة، والمقاومةُ لما يهجم به الشيطان على قلب الإنسان تمثل لوناً من غلق الباب، وعدم الانفتاح عليه.

والحملة القوية التي يشنها إعلام الكتاب الكريم، والسنة المطهرة ضد الشيطان تمثل مقاومة من الإسلام للآخر القذِر وإن أسمع صوته للإنسان. الآخر القذر وهو الشيطان قاومه الإسلام في كتابه وسنته؛ وهي مقاومة على خلاف سياسة الانفتاح على الشر وإن تعملَق، وعلى خلاف سياسة الاستسلام للشر إذا استطار. فلا انفتاح على الشرمطلقا، ولا استسلام له، وعلينا أن نوسع دائما تحريضنا ضد الشر، وندعو لمعاندته رغم ما يمتلك من آليات متطورة.

وإذا صحّ الفكر، وترسّخ الوعي، وتركّزت الرؤية، ورُبّيت إرادة الخير في النفس استطاع الإنسان أن ينتصر في معاركه مع الهوى والشيطان وجنده من الصغار والكبار، والأمة التي توجد فيها التربية الخيّرة المقاوِمة يمكن أن توفر في الكثير من أبنائها كل تلك المقومات.
أريد أن أقول بأن تقدم وسائل التوصيل بصورته الواسعة لم يُسقط قدرة المقاومة للشر، ولم يترتب على ذلك براءة الذمة من التكليف بالمواجهة والتدخل في تربية أبناء الأمة وبناتها، ولم يقض بالتسليم بالهزيمة، والانهزام الفعلي أمام مخططات الأعداء.

اللهم صل وسلم على محمد آل محمد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا وأصدقائنا وأزواجنا ومن كان له حق خاص علينا من المؤمنين والمؤمنات يا كريم.
اللهم إنا عبيدك، وأكثر الناس اعترافا بالحاجة إليك، فارحم اعترافنا، وخذ بيدنا إلى طريقك القويم، وأخرجنا من كل شر من شر الدنيا والآخرة، وأدخلنا في كل خير من خير الدنيا والآخرة.

{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1
 – 57/ يونس.
2 – يراجع نهج البلاغ ح198
3 – راجع بح ج 78 ص308
4 – 35/ غافر.
5 – 74/ يونس.
6 – 101/ الأعراف.
7- هذا المال لا يجعلك ترى قيمتك من علاقتك بالله، وإنما من حجم رصيدك المالي، والمال المعبود بما دينه وجفافه من عقل نابه، وشعور كريم، وهدف صاعد، وحكمة رويّة لا ينعكس على القلب المتولّه به إلا بالقسوة والصلابة والصلادة وخسارة الحياة.
8 – ميزان الحكمة ج 10 ص 627 من الغرر.
9 – حتى لو لم ينفتح الآخر على حضارتنا بهذا المعنى من الانفتاح فإننا مستعدون أن ننفتح على حضارته من هذا المنطلق.
10 – مرة تبني على الانفتاح المطلق فإذا بنينا على الانفتاح المطلق كانت لنا سياستنا كأمة وكدولة وكشعوب، ومرة نبني على الانفتاح المدروس وعلى الانفتاح الذي يميز بين ما هو حق وبين ما هو باطل، وخير وشر، على الانفتاح الذي يختار لهذه الأمة ما يناسب خطها الحضاري الذي لا يوازيه خط حضاري رقيا وأصالة وإثمارا.
11 – إذا رأينا في الآخر الوجود الكبير، إذا رأينا في حضارته الحضارة الإنسانية اللائقة، إذا رأينا الخير عنده فعلينا أن نسلك سياسة في تربية أجيالنا، وإذا رأينا في حضارته خيرا وشرا ورأينا فيها حقا وباطلاً كانت لنا سياسة أخرى تحاسب الآخر وتتعقب فكره، تنتقده، توافق على شيء، ترفض شيئا آخر.
12 – الحضارات المادية السيئة أُعطيت أن تُسمع صوتها قبل ذلك، الشيطان رب هذه الحضارات السيئة قد أعطاه الله عز وجل أن يسمع صوته لنا، لكن هل إعطاء الشيطان القدرة على أن يسمعنا صوته يلغي دورنا؟ ويلغي مسؤوليتنا ويجعلنا مجبورين أمام الشيطان؟ الأمر ليس كذلك يا إخوان.

زر الذهاب إلى الأعلى