خطبة الجمعة (131) 19 رمضان 1424هـ – 14 نوفمبر 2003م
مواضيع الخطبة:
قلب يسمع ويرى(3) – ضبابية الشعارات…
الإنسان الباحث عن الحقيقة الذي يطلب الحوار لا من أجل الحوار وإنما من أجل أن يهتدي، ومن أجل أن يقارن ما عنده وما عندك، وهو مستعد إلى أن يسلّم بكلمة الحق، فهذا يُدخل في الحوار معه، وهذا يكون الانفتاح عليه، ويجب الانفتاح عليه.
الخطبة الأولى
الحمد لله المتجلي لخلقه بخلقه، والظاهر لقلوبهم بحجته، والباسط عليهم نعمته، والداعي إلى محجته، وطريق جنته برحمته. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله الذي إليه مرجع العباد، ولا شريك له في خلق، ولا رزق، ولا تدبير، ولا مفر من حسابه، ولا قِبَل لأحد بعذابه.
عباد الله ما أحرى بالإنسان أن يتفكر ويتأمل؛ ففي التفكر والتأمل هدى، وفي الغفلة الضلال. وليتأمل متأمل في أمر الدنيا والآخرة. ألسنا على يقين بمفارقة هذه الحياة، وأن العمر مهما امتد به الزمان فهو إلى نهاية؟! ثم ألا نحتمل آخرة، وحياة بعد ممات وحسابا وجزاء إن لم نكن من ذلك كلّه على يقين؟! في طول هذا اليقين أو الاحتمال هل يقضي العقل، وحساب المصلحة بالإقبال الكامل على الدنيا والإهمال التام للآخرة؟!
إن المحتمل عظيم؛ حياة خالدة في سعادة أبدية، أو شقاء وعذاب مقيم أليم، والوعد بالسعادة والوعيد بالشقاء منقول من أصدق أهل الصدق في الناس: الرسل والأنبياء والأولياء عمن لا يخلف وعده، ولا يملك أحد أن يؤخّر وعيده.
وهؤلاء النقلة معروفون بالصدق في عموم حياتهم عند من صدّق أو لم يصدّق برسالتهم، هذا مع ما دل من العقل على صدق الرسل والرسالات.
ولتكن الدنيا عظيمة في نظر أحدنا ولكن ألا يقلل في العقل من قيمة الإنكباب عليها، ويقبّح تقديمها على الآخرة اليأس من الظفر بها، واليقين بأنها لا تبقى لأحد، ولا بقاء لأحد فيها؟
اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا وأن يستبد بنا الشيطان الرجيم. اللهم اهدنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، واغفر لنا ولهم وارحمنا يا أرحم الراحمين.
أما الآن أيها الأخوة والأخوات في الله فإلى متابعة الحديث عن القلب وهذا العنوان:
قلب يسمع ويرى
هناك قلب يسمع ويرى، وقلب لا يسمع ولا يرى، وحين يفقد القلب سمعه وبصره يفقد الإنسان هداه، ويسقط عن موقع إنسانيته، ولا يجد لمعرفة الحق سبيلاً، ونقرأ تحت العنوان المختار شيئا من النصوص الهادية:
“ألا إن للعبد أربع أعين؛ عينان يبصر بهما أمر دينه ودنياه، وعينان يبصر بهما أمر آخرته، فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح له العينين اللتين في قلبه وأبصر بهما الغيب وأمر آخرته، وإذا أراد به غير ذلك ترك القلب بما فيه” عن زين العابدين عليه السلام.
العبد – أي عبد مؤمنا كان أو كافرا – له أربع أعين: هاتان العينان الحسيتان المعروفتان يبصر بهما أمر دينه ودنياه، فحروف القرآن الكريم نبصرها بهاتين العينين، وما يصلح أمر دنيانا نبصره بهاتين العينين، نبصر بهما في طلب دين وفي طلب دنيا، فالعينان كما يعينان على إصلاح أمر الدنيا يعينان على إصلاح أمر الآخرة حيث يضعهما الشخص موضعهما.
هاتان عينان، أما العينان الأخريان فهما لإبصار أمر الآخرة، ولإبصار الغيب، عينان في القلب، مساحتهما ليست المساحة الحسية إنما مساحتهما مساحة الغيب، والآخرةُ من الغيب، فمن تمتّع ببصر القلب أطل به بصره على الغيب وأوصله إليه، ورأى منه ما رأى، ومن ذلك الغيب أمر الآخرة وهو عظيم.
يقول الحديث “فإذا أراد الله بعبد خيرا فتح له العينين اللتين في قلبه وأبصر بهما الغيب وأمر آخرته”. هاتان العينيان لم توجدا مغلقتين كما يظهر(1)، هما كنعمة وجدتا مفتوحتين لكن العبد بسوء ما يفعل قد يغلقهما، والله بما يوفّق وبما يرحم قد يزيد في بصرهما، فيفتح الله على عبد استجاب لنداء ربّه من بصيرة قلبه أكثر ما يفتح من بصيرة عبد مدبر عن الله، ومن اقترب من الله شبرا اقترب الله منه باعاً.
حين يفتح الله لعبد بصر قلبه يجد رؤية جديدة فوق ما اعتاد، فحين تتوجه عناية خاصة من الله عز وجل لعبد مطيع من عباده فيزيد في بصر قلبه يرى ما يراه الآخرون غيبا شهادة، فتلتحم نفسه بما رآه شهادة من الغيب، ويعظم ذلك الغيب في نفسه بحيث لا يبقى للشهادة ما يشدّه كما يشده ما رآه مما هو غيب في نظر الآخرين، وإذا أراد به غير ذلك ترك القلب بما فيه.
الله عز وجل لا يفعل بأحد شرا ما لم يفعل العبد بنفسه الشر، هناك قوانين إلهية بمقتضاها يستتبع شري الذي كسبته يدي شرا أكبر على نفسي. كلما ارتكبت شرا كلما سددت على نفسي طريق الخير، وكلما دمرت المشروع الإنساني الطاهر والكفوء في داخلي، واصطنعت حجبا بيني وبين الحقيقة ترك الله عز وجل قلب أنا العبد بما فيه. وفيه فطرة هادية ولكن فيه مكتسبات تطفئ النور، وتسد منابع الفيض، ومنابع الهدى فتركه بما فيه نوع من الخذلان. وإنّ عبداً يتركه الله عز وجل بما هو عليه لا يقطع طريق النجاح، دائما نحن نحتاج إلى الفيض، ودائما نحتاج إلى العناية.
في حديث آخر عن الصادق عليه السلام:”إنما شيعنا أصحاب الأربعة الأعين” وكأن الأربعة بلحاظ تذكير لفظ العين، والله العالم “عين في الرأس وعين في القلب(2)”، “ألا والخلايق كلهم” – كذلك، ليس الشيعة فقط هم الذين لهم عينان في الرأس وعينان في القلب، وإنما هي منحة عامة – “ألا وإن الله فتح أبصاركم وأعمى أبصارهم” – والشيعي هو المتابع لهم عليهم السلام. وبصر الكافر يرى الأخضر أخضرا، والأصفر أصفرا، وبصر المؤمن يرى الأخضر أخضرا، والأصفر أصفرا، ولكن قراءة الكافر للأشياء تقف عند حدها الحسي أو أنها تتجاوز ذلك إلى التحليل النافع في الدنيا، ولا يذهب بصر الكافر به إلى ما وراء هذا البعد، أما المؤمن فيرى السماء كما يراها الكافر، يرى الأرض كما يراها الكافر، يرى النبات يرى الحيوان يرى مظاهر الموت والحياة والمرض والصحة لكنه لا يقف عند الحد القريب منها، إنما تكون له سبب استجلاء لحقائق كبرى، تقوم عليها نظرات حاضره ومستقبله، من ناحية معنوية، فتختلف حياة مؤمن عن حياة كافر لما ذهب إليه المؤمن من استنتاج، ولما قصر عنه الكافر من ذلك الاستنتاج.
فَتَحَ أبصاركم بما استجبتم له سبحانه، وبما استفدتم من هداياته الأولى عندكم، وكلما استجاب الإنسان من هداية من هدايات الله وفَّرها له، كلما فتح الله عليه باب هداية أكبر، أما الذين يهزأون من رصيد الهدايات في النفس، ويقصدون إلى تدمير منابع الهدى في داخلها فإنهم ينسفون قدرتهم على الإبصار، ويسدون على أنفسهم منابع النور، وهذا إعماء منهم خاضع للقوانين الكونية الموضوعة من الله.
فهم يعمون أنفسهم، يعمون أبصارهم، ولكنه عمى موضوع نتيجة من نتائجَ يقود إليها قانون إلهي.
عن الرسول (ص):”لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت” أي ملكوت؟ الملك الأعظم الذي نظر إليه إبراهيم عليه السلام فزاد اطمأناناً، وكان على اليقين.
الشياطين يحومون ولكنهم لا يجبرون، الشياطين يزينون… يغرون… يصغرون… يكبرون… يقبحون حسنا، ويحسنون قبيحا، ويلوحون لك بالدنيا ويكبرونها في نظري ونظرك إلا أنهم لا يملكون مصيرك بالكامل، وليست إرادتك مقهورة مقسورة لشياطين الإنس والجن، فأنت تملك من خلال ما أعطاك الله عز وجل من إرادة أن تواجه الشياطين، وأن يكون لك رفضك القاطع لدعوة الشياطين. إن لك مواهب من الله من عقل وحكمة وخبرة وتجربة وتقدير للمصلحة وآيات يعج بها الكون العريض، وكلها تعطيك رصيدا لأن تواجه به دعوات الشياطين. لولا أن الشياطين تحوم على قلوبنا ولولا استجابة منا للشياطين لنظرنا إلى الملكوت، فكان في ذلك استقرار واطمئنان وغنى وشعور كريم بقيمة الذات.
عن أمير المؤمنين عليه السلام:”إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك” وهذا مطلب يكون جهاد العبد في دنياه كلّها من أجله فإن حصل له فذلك أمر عظيم.
“إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك” بحيث يكون فكري، شعوري، اهتمامي، تطلعي، خوفي رجائي، ثقتي فيك لا في أحد غيرك.
لا أستعظم سواك، ولا أرى كبيرا إلا أنت، وليس في قلبي أحد سواك، هذا مطلب أمير المؤمنين عليه السلام، “إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك” أين الولد؟ أين الزوج؟ أين المال؟ لا شيء يملك من همّ ذلك القلب الطاهر الموصول بالله شيئا إلا ما كان متصلا بذلك الحبل المتين. ما يملك من القلب شيئا هو ما كان من ذلك الشوق، هو كان من ذلك الخوف، هو ما كان من ذلك الهم، ما وقع على طريق الله.
“إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك” ولن يستضيء قلب ما لم ينظر إلى الله. النظر إلى الله مضيء للقلوب، طارد للوحشة، مغنٍ عن طلب أي نور، وهل من نور إلا من نور الله؟!
“.. حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدِن العظمة، وتصير أرواحنا معلقة بعز قدسك”
في آيات الله، وإضاءات خلقه، وآثار فيضه جمال وجلال ولكنه ليس المطلوب، مطلوبُ قلبِ العبد الصالح الواعي هو الله، ولا يريد قلب علي عليه السلام أن يشتغل أو أن يحط عند الآيات وعند الأنوار والإشعاعات الصادرة، إنما يريد قلبه أن يلتحم شعورا، أن يلتحم إكبارا، أن يلتحم خضوعا وخشية من مصدر النور.
والحمد لله رب العالمين.
اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وقراباتنا وجيراننا وأصدقائنا ومعارفنا من المؤمنين والمؤمنات أجمعين ومن أحسن إلينا منهم ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
اللهم اجعل لنا وللمؤمنين وللمؤمنات ذكرا من ذكرك يهدينا، ويغنينا ويؤنسنا ويشفينا، وبارك لنا ديننا ودنيانا.
ِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3))
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا مضلّ لمن هدى، ولا هادي لمن أضلّ، ولا مفقر لمن أغنى، ولا مغني لمن أفقر، ولا مذلّ لمن أعزّ، ولا معزّ لمن أذلّ، بيده الأمر كلّه وهو على كل شيء قدير، ولا قادر إلا بقدرته، ولا مالك إلا بتمليكه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله كثيراً كثيراً.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله في كل الموارد، ويوم العزّ والذل، وعند مثار الشهوات، وتأجّج الرغبة، وفي الخوف والأمن، وحال الفقر والغنى، فنعم العون على الاستقامة التقوى، وهي نِعْمُ ما وقى من الزلل، والسقوطِ في شَرَك الشيطان اللعين.
عباد الله لنا حياة واحدة على ظهر هذه الأرض، من اغتنمها فاز، ومن أهملها ندِم. وغنمك فيها أن تخرج منها وقد أعددت نفسك فيها ليوم اللقاء العظيم، أما من أمضاها وقد بنى وعمّر بهدم نفسه، وإهدار إنسانيته فقد جعل حياته عليه مغرما، ونصيبه منه عذابا وهوانا وغمّاً.
نعوذ بالله من سفه الرأي، وخسارة الحياة، وسوء العاقبة، ونستعينه ونستهديه ونسترشده. اللهم افعل بنا وبإخواننا المؤمنين والمؤمنات ومن يعنينا أمره ما أنت أهله من خير الدنيا والآخرة، واكفنا ما نحن أهله من شر الدنيا والآخرة.
اللهم صل وسلم على البشير النذير، والسراج المنير، خاتم النبيين والمرسلين محمد الصادق الأمين وآله الطاهرين. وصل وسلم على علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين. وصل وسلم على الهادية المهدية، فاطمة الزهراء الطاهرة المرضية. وصل وسلم على إمامي الرحمة، وقائدي الأمة الحسن بن علي الزكي، والحسين بن علي الشهيد. وصل وسلم على أئمة الهدى، وأعلام التقى علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري الحجج على أهل الدنيا.
وصل وسلم على الإمام الرشيد، والقائد السديد، ولي المؤمنين، والأمل من الله للمستضعفين محمد بن الحسن المنتظر قرة عين المنتظرين.
اللهم عجل فرجه، وسهل مخرجه، وانصره نصرا عزيزا، واملأ به الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا يا قوي يا عزيز.
الموالي له، المناصر لقضيته، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الأخيار، والمجاهدين الغيارى، والمؤمنين العاملين في سبيلك أيدهم وسددهم وادرأ عنهم وانصرهم على مناوئيهم يا عز المؤمنين وملاذ المستضعفين المظلومين، يا رحمن يا رحيم.
أما بعد أيها الأخوة والأخوات في الإيمان فالحديث تحت عنوان:
1. ضبابية الشعارات:
كثيرا ما تطرح في ساحتنا الفكرية والثقافية – الساحة الإسلامية عامة – شعارات تكتنفها ضبابية وغموض متعمّدان. وكثيرا ما يفقد العقل دقّته أمام هذا الغموض، ويتم التضليل المقصود لأصحاب هذه الشعارات. واحد من هذه الشعارات المضللة بفعل إجمالها وغموضها شعار الانفتاح على الآخر. والانفتاح كلمة معسولة ولها جاذبيتها في بادي النظر إذا قُوبلت بمعنى التقوقع والانغلاق والنفور والتوحش والانطواء على الذات.
ولكن علينا أن نطرح أسألتنا أمام كلمة الانفتاح، وكلمة الآخر لنكون أكثر وعياً بما وراء الكلمات، ولئلا يختلط علينا ما هو حق وباطل، وما هو ضار ونافع، وما يمكن أن ننسجم معه في ضوء العقل والدين والمصلحة، وما يكون الاستسلام له سذاجة في العقل، وسفهاً في نظر الدين، وميزان المصلحة. وعلينا أن نطرح دائما أسئلتنا العلمية والدينية والموضوعية الواعية أمام كل الصيحات والشعارات والمشاريع الحضارية المستوردة لئلا نكون الأمّعة نفعل ما يفعل الناس، ونردد معهم ما يرددون.
ماهو الانفتاح؟ له أكثر من مضمون، وقد يقصد به أكثر من معنى:
1) الانفتاح بمعنى التعرف على ما يقوله ويريده الآخر والاستماع له إلى الحد المعقول؟
2) الانفتاح: ذلك مطلقا حتى لو سمعناه ألف مرة واستمعنا إليه وأمعنا في مراده، أم مع احتمال الجديد؟
3) الانفتاح: الاستماع والنقد والمحاكمة أم الانبهار والتسليم لأنَّ الفكرة جديدة، ولأنها مستوردة من بلد التقدم التكنولوجي؟
4) الانفتاح: الانبطاح أمام فكر الآخر لحالة الفراغ والخواء الذاتي؟
5) الانفتاح: التعايش بل العيش والاحتضان الفكري والسكينة النفسية، والرضا الروحي بالباطل على حدّ ما هو الحال بالنسبة للحق؟
6) يراد أن نستذوق ونسعد بطعم الفواحش والموبقات التي يمارسها الآخر كما لو صلى وصام وصدَق وتصدَّق؟
7) يراد بالانفتاح أن نُقدّر للناس حق اختلافهم معنا في ما يمكن أن تختلف بشأنه الأنظار، ويؤثر فيه تفاوت البيئات، وأن ندخل الحوار مع أصحاب الشبهة بصبر كبير؟
8) الانفتاح: أن نفتح كل الأبواب والنوافذ والشبابيك لثقافة نعرف جاهليتها، ونتيقن سقوطها على عقول أبنائنا وبناتنا ونفوسهم وأفئدتهم؟
هناك أنواع ومستويات من الانفتاح بعضها مقبول، وبعضها مرفوض بلا نقاش. إذا أرادوا الانفتاح بكل هذه المعاني فعلينا أن نكون واعين وأن لا نقبل بالانفتاح بكل هذه المعاني نحن نقبل بالانفتاح بالمعنى الذي يخدمنا ويخدم الإنسانية ويوصل إلى الحق.
ومن هو الآخر الذي يُطلب الانفتاح عليه؟
1- هناك آخر مهاجم فكري ومثير للشبهات عن عمد لتضليل الساحة وجرّها إلى الضد الحضاري الذي نعلم انحرافه وعداوته.
2- هناك آخر باحث عن الحقيقة ومحاور علمي.
3- آخر صاحب شبهة يريد أن يتحقق من شبهته.
4- آخر عميل فكري متآمر على الأمة وحضارتها.
5- آخر غاصب للأرض والثروة، أو غازي حربي.
6- آخر مهادن ومصالح ومواطن مقبول المواطنية.
7- آخر مايع متحلل.
8- آخر صاحب نظريات علمية نافعة.
9- آخر صاحب دعاوى كبيرة كاذبة يدس أنفه في صف أهل الاختصاص، ويحشر نفسه معهم بلا حق.
10- آخر يطرح الشبهة ويجاب عليها ألف مرة ولا يزال يطرحها إما لأنه لا يعرف الجواب، أو لأنه يعاند.
11- آخر يشن الحرب الفكرية بعد الحرب، ويهاجم ويسب ويشتم من أجل باطله ويطالب الآخرين بالاستماع إليه والمزيد من احترامه.
لابد أن نفرق في الانفتاح بين آخر وآخر.
أنواع من الآخر في نظر القرآن الكريم:
القرآن الكريم طرح لنا أنواعاً من الآخر، وأراد لنا أن ندخل في حوار مع بعض أنواع الآخر، وأن نقاطع أنواعا من الآخر، وأن ننهي الحوار مع أنواع من الآخر.
وهذه بعض الأمثلة:
” وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا (3)إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ” 88/يونس.
الآخر الذي لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم، ما فائدة الحوار معه؟ أنفتح عليه؟ أسلم له أمانة ولدي وبنتي؟ أمكّن لثقافته في أرضي؟
” وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ (4)بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ” 179/ الأعراف.
كافر معاند، علماني شهريا يتسلم راتبا من أمريكا، طبعا ليس كل العلمانيين يتسلمون راتباً من أمريكا، ولكن من استلم راتبا أو من لم يستلم راتبا فمن هذا ومن ذاك من هو على ضلال إلى الحد الذي لا يناقش لا يدخل معه في حوار فيه تقدير له، طبعاً تواجه أفكاره، يرد على شبهاته عند المؤمنين، ولكن لا يعترف به ويعطى موقعا ويدخل في نقاشات مباشرة تفيد فكره معنويَّة. أحيانا يتطلب الأمر إهمالا، وأحيانا قد يتطلب الأمر إلجامه.
” أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ” 44/ النساء.
” وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ” 6/ لقمان.
هناك أنواع من الآخر لا يصح الانفتاح، ولا فتح أبواب البيوت، الحسينيات، المساجد، أبواب القلوب بكل ترحيب وتكريم أمامه. أتفتح أبواب الحسينيات، المساجد، البيوت، الجمعيات، أبواب القلوب الفارغة البريئة أمامه ليملأها بالزاد الخبيث؟! أمَّا من الآخر فما تقول عنه الآية الكريمة”…. بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ” 83/المائدة.
الإنسان الباحث عن الحقيقة الذي يطلب الحوار لا من أجل الحوار وإنما من أجل أن يهتدي، من أجل أن يقارن ما عنده وما عندك وهو مستعد إلى أن يسلّم بكلمة الحق فهذا يُدخل في الحوار معه، وهذا يكون الانفتاح عليه، ويجب الانفتاح عليه.
حوار يائس:
هناك حوار يائس، فينتهي الحوار عند اليأس من النتيجة:
” فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ” 88/ النساء.
نحن مع الانفتاح الذي يرضاه الله ورسوله، ويمثل أخلاقية رفيعة، ووعيا رشيدا، وتقديرا للمصلحة الإسلامية.. ومع الحوار العلمي والإنساني المثمر.. ولسنا مع الانفتاح بمعنى الذوبان والانبطاح والانبهار والهزيمة.. ولا مع الحوار العقيم الذي يستهدف تغييب فكر الصياغة وثقافة البناء الإسلامي، وإشهار الفكر الآخر والدعاية له وتركيز النظر عليه… هناك سياسة شغل الساحة الإسلامية بالحوارات العقيمة حتى تنسف الثقافة الأصيلة، وحتى نكون على انقطاع عن منابعنا الفكرية ومصادرنا الثقافية المغذية، وحتى نلهو عن بناء ثقافة رصينة متكاملة لأجيالنا الصاعدة. هذا اللون من السياسة لون خبيث يتمرر على كثير من العقول فإذا بك قد بعدت بعد حين عن منابعك الأصيلة وعن الصياغة المتكاملة للشخصية الإسلامية مشتغلاً بالرد على هذه التفاهة وعلى تلك التفاهة من غير أن تقدم فكرك للآخرين.
القرآن بكنوزه والسنة بكنوزها يَظلاَّن معطلين إلا ما جاء جوابا على هذا أو جاء جوابا على ذاك، ويراد لنا أن نقدم القرآن والسنة فكرا متكاملا وصرحا كبيرا ليبهر العقول وتهوي إليه الأفئدة.
ولسنا مع التقوقع والانغلاق والخوف من الطرح العلمي والبرهاني الدقيق.
اللهم صل على محمد، وآل محمد، واغفر لنا ولأهلينا وآبائنا وأمهاتنا وأزواجنا وأرحامنا وجيراننا ولأخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
اللهم افتح أعين قلوبنا وآذانها على معرفتك، واجعل خوفنا منك ورجاءنا فيك وثقتنا بك وسعينا إليك.
{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1– وإلا لما تمت بها الحجة.
2- لعلّك تقول هاتان اثنتان إلا أن العين هذه المعني بها في ما يظهر بها الجنس، جنس عين في الرأس، جنس عين في القلب، العين التي في الرأس هي هذه العين الحسية. فالحديث هذا يلتقي مع ذاك، في الرأس جنس عين له مصداقان وفي القلب جنس عين له مصداقان.
3- أقول هذا آخر، يتحدث عنه موسى عليه السلام، هذا الآخر ننفتح عليه نحتضنه.
4- أنا آخذ تيس أحاوره؟ أقول أدخل في حوار مع تيس؟ مع غنمة؟