خطبة الجمعة (124) 16 جمادى الثانية 1424هـ – 15 أغسطس 2003م

مواضيع الخطبة:

الجهل – الأوقاف الجعفرية – رواتب الجماعة والجمعة – الجريمة وقاية وعلاجاً (سجناء جو )

المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية يمثل هيمنة واضحة صريحة على مَقْدُرات الدين ومقدّراته، وتدّخلا في الحرية المذهبية بشكل فاضح.

ونحن نتحدث عن خطورة أن تخضع أئمة الجماعة والجمعة للقيود والشروط المترتبة على أخذ الرواتب نتحدث عن هذا ونحن ندري أن الحكومات تجيء وتذهب

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي تجلى للقلوب بالعظمة، واحتجب عن الأبصار بالعزة، واقتدر على الأشياء بالقدرة، فلا الأبصار تثبت لرؤيته، ولا الأوهام تبلغ كنه عظمته، ولا ضميمة تحتاجها قدرته. تنزّه عن الافتقار إلى الأعوان والأنصار، وتعالى عن مجانسة الأغيار، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، من تخلّف عنه هلك، ومن تقدمه هوى، ومن تبعه نجا، صلى الله عليه وآله أئمة الهدى، وقادة الورى.

أوصيكم عباد الله ونفسي المحتاجة إلى التقويم بتقوى الله والاتعاظ بما اتعظ به عباده الصالحون، والتخلق بما تخلق به عباده المتقون، فما انتفع أحد بحياته، وما كان له نفع في الناس، ودور في إصلاح الحياة كما يكون من اتعظ بوعظ الله، وانتهج نهج رسله، وكان في عباده الصالحين والمتقين قدوتُه، ومن أخلاقهم خلقه، إذ كانت حياتهم لأنفسهم بناء صالحا، وعملهم رابحا، وسعيهم مفلحا، وعمروا الحياة خير إعمار، وهدوا وأصلحوا، وجاهدوا ألا يأتوا إلا جميلا، ولا يخلفوا إلا ذكرا حميدا، فودّعوا الدنيا إلى رب كريم، وثواب عظيم، تسعى بين أيديهم بشراهم، لا يخافون بطمأنة من الله أن تلحقهم تبعة من ذنب، ولا حسرة من تفريط.

اللهم صل على محمد وآل محمد، واجعل حياتنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين عامرة بذكرك، مبذولة في سبيلك، واصلة بنا من فضلك إلى رضوانك، منتهية بنا إلى كريم ثوابك، وجزيل عطائك يا كريم يا رحيم.

أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات..
فالجهل عمى، وكثيرا ما يضل الأعمى غايته، وينتهي سعيه بهلكته، ومن علم وخالف ما علم كان أضل سبيلا، وأسقط رأيا، وأسفه عملا، وأبعد عن العذر، وأبين غيّاً. وكلما استجمع الإنسان علما بحقائق حياة يومه، وأخذ بعلمه كلّما كان أقرب إلى الصواب وأبعد عن الزلل، وأكثر نيلاً للمطلوب.

والحقائق التي تدخل في بناء مواقفنا لنصيب التصرف لو رُوعيت، أو نُخطئ لو أُهملت منها ما يتصل بالمواقف العابرة كمعرفتي بأن في الطريق قذارة علي أن أجتنبها، أو ريحا طيباً ينفعني أن أقصد إليه، ومنها ما يتصل بالمواقف الثابتة كمعرفتي أن نوع من يدعوني إلى الكسل عدو، ونوع من يدعوني للجد في الخير صديق، ومن هذه الحقائق ما يتصل بحياة نعيشها على ظهر الأرض، ومنها ما يتصل بحياة تدوم.

ولا شك أن الجهل بحقيقة تنعكس بالأثر على موقف عابر لا يطول أجله، ولا يمتد أثره، ليس مثل الجهل بحقيقة يحتاجها الموقف الثابت والحركة المتصلة، وكل الحقائق التي تنتهي آثار جهلها بانتهاء هذه الحياة لا تقارن بحقائق في جهلها أو إهمالها خسارة الأبد. فرق بين حقيقتين: حقيقة انعكاسها على هذه الحياة، وتنتهي انعكاساتها بانتهاء هذه الحياة، وحقيقة أخرى تظل انعاكساتها ثابتة طول الأبد.
فلنضع ما تريد الأسئلة الآتية الوصول إليه نصب العين، وعلينا أن نقيس أنفسنا في ضوء الحقائق التي تشير إليها، وفي ضوء الكليَّات المتقدِّمة.

ألا نعلم أن حياتنا في الدنيا فانية؟! أو لم نؤمن بأن لنا حياة بعدها باقية؟! وبأن أعلانا أفضل من أسفلنا؟! – من لم يدرِ بأن أعلاه أفضل من أسفله كان أضلّ من الحيوان سبيلا – وأن العقل والقلب والروح لا يساويها بطن وما شابه؟! وبأن الآخرة خير لمن اتقى من الأولى؟! وبأن الله أعظم حقاً، وأكبر من كل المجزين أجرا؟! وأن وقت العمل محدود وزمن نتيجته ممدود؟! وأن من دعا لتقديم الدنيا على الآخرة فليس على هدى، ومن دعا لتقديم الآخرة على الأولى فهو أصدق وأولى؟! وأن الله لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأنه لا يضيع عنده عمل عامل؟! وأن كل نفس بما كسبت رهينة؟! وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى؟! وأن من رضي لنفسه ثمناً دون الجنة فقد بخسها؟! ومن وقف بها دون غايتها من الكمال فقد ظلمها؟! ومن قدم المخلوق على الخالق، أو ساوى بينهما فقد أجحف وسفه؟!

هذه وأمثالها وأشبابهها من القضايا حقائق كبرى لا يسوغ لمؤمن أن يجهلها، ولا يرى له عقله تجاهلها وإهمالها. فقدْ فَقَدَ الحكمة من قاسها بغيرها، أو من قدّم في مشاعره ومنهج حياته وحساب ربحه وخسارته ما عداها عليها، أو من عاقلٍ وقد علم أن الوظيفة الفلانية أدرّ عليه رزقا من غيرها، وأقل نصبا، وأشرف موقعا، وأنفع خبرة يقدم عليها غيرها؟! أو من صاحب حكمة يقدم في إرادة زواجه امرأة وضيعة جاهلة بذيئة مؤذية قبيحة على أخرى هي مثال في الشرف والعلم والخلق والجمال وهو عالم منهما كل ذلك؟!

إننا من موقع العقل والمصلحة نحاول دائما أن نلمّ بكل الحقائق الموضوعية المؤثرة في خياراتنا الدنيوية ونبني خيارنا على ضوء هذه الحقائق، وهذا منهج سليم، ولا نرضى لأنفسنا أن نقدم القليل على الكثير، والقبيح على الحسن، وما يفنى سريعا على ما يبقى طويلا، وما يتعب على ما يريح، وما هو أشد أذى على ما كان أقل في أذاه، أليست هذه حقائق بديهيات؟

فنحن نطلب الحقائق في أمور دنيانا لا لنهملها في بناء المواقف وطلب المصالح ودفع المحاذير، وهي التي نقدم على أساسها ونؤخر، ونفعل وندع، ومن أقدم على الخسارة عالما، وعلى الضرر عارفا، وترك الربح الظاهر، والنفع الكبير، ملتفتاً أسميناه مجنونا أو سفيها، وأسقطنا مقامه من بين أهل العقل والحكمة وحسن التديبر.

ومن كثر جهله بأمور دنياه ومصالحها ومضارها، وما تصلح به حياته أو تفسد انخفض شأنه في الناس، وأهُمل رأيه، وكثرت عثراته، وساءت حاله، وأصيبت مقاتله.

هذه خسارة الجهل بالحقائق في أمور الدنيا، وهذا مقام من لم ينتفع بها عن علم، فماذا ستكون خسارة من جهل الحقائق الكبرى المتصلة بأمر الآخرة؟!

علينا أن نتعلم الحقائق الكبرى، وعلينا أن نراجع ذاكرتنا، وأنها هل تحتفظ بهذه الحقائق الكبرى دائما؟
إننا نراجع معلوماتنا الرياضية، ومعلوماتنا الصحية، ومعلوماتنا لهذه الحياة، فعلينا وبدرجة أكبر أن نراجع معلوماتنا المتصلة بحياة الأبد.
وماذا نسمي من عرف الحقيقة من تلك الحقائق المتصلة بحياة الأبد واستخف بها؟! أليسوا مجانين؟ سفهاء؟ جهلاء؟! صمّاً بكماً عمياً؟! كالأنعام بل هم أضل سبيلا؟!

إذاً، فلأقس عقلي وحكمتي وقيمتي إلى مدى علمي بالحقائق الكبرى، ومدى أخذي بها.
افرضني فيلسوفا فقيها، عالما فلكيا، عارفا بمداخل الدنيا ومخارجها، غالبا فيها، متقدما في ربحها… افرضني أكثر من ذلك، ولكني أجهل أن الله أكبر مما خلق، وأنه المعبود وحده، وأن الدنيا تذهب والآخرة تدوم. وأجهل حقائق كثيرة في هذا السياق أو أني لا أقيم لها وزنا وأستخف بها عملا، فهل تراني عاقلا حكيما رشيدا بصيرا إليّ أن أتقدم الآخرين وأقود مسيرتهم؟! أنا المجنون السفيه، أنا الساقط، أنا الذي لا أعرف مصلحتي لي أن أتقدم الآخرين وأقود حياتهم، وأرسم درب مسيرتهم؟! أومن غلبه أسفله على أعلاه يكون هذا الرشيد الحكيم القائد؟! لا أظنك تختار ذلك.

اللهم صل على محمد وآل محمد، وأرنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين الحق حقا فنتبعه، والباطل باطلا فنجتنبه، وارزقنا البصيرة التي نقدم بها من تقدمه وما تقدمه يا رب، ونؤخر من تؤخره وما تؤخره يا رب، يا أحكم الحاكمين، ويا أبصر المبصرين، ويا أسمع السامعين، واغفر لنا ولجميع أهل الإيمان والإسلام ولمن كان له حق خاص علينا منهم ووالدينا وأرحامنا وأزواجنا وجيرننا يا كريم يا رحيم.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ
(وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر.)

الخطبة الثانية

الحمد لله شاهد كل نجوى، موضع كل شكوى، منتهى كل حاجة، عالم كل خفية، المحيط بكل شيء ولا يحيط به شيء، كل شيء مقهور له، محكوم لأمره، مدبر بتدبيره، مضطر إليه، ومصيره بيده. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا.

عباد الله ألا فلنتق الله فلا سبيل إلى مرضاته إلا بتقواه، ولا سعادة لأحد إلا برضاه، وليس سعيدا من أثرى ورُزق صحة وولدا وجاها في الدنيا لينتهي به ذلك كله إلى النار، ونَصَبُ الحياة ليس شقاء إذا كان معراج كمال، وطريق خلود في النعيم. وكيف يشقى كادح في سبيل الله حتى في دنياه وهو أرضى الناس بما هو عليه، وأغبطهم على معاناته؟! وكيف يسعد بالدنيا عاقل لا يطمئن على بقائه يوما ولا ما هو دون يوم، بل لا يدري أيمتد به أجله إلى ما بعد لحظة أو لا يمتد؟!

اللهم خلصنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين من غرور الدنيا، واكشف عن بصائرنا غشاوة خداعها حتى لا نختارها على الآخرة.
اللهم صل وسلم على حبيبك وصفيك، البشير النذير، والسراج المنير، محمد بن عبد الله الصادق الأمين وآله الطاهرين، وصل وسلم على علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وصل وسلم على أمتك الطاهرة، فاطمة الزهراء الصديقة الصابرة، وصل وسلم على الإمامين الزكيين، الحسن بن علي ابن أبي طالب وأخيه الحسين.

وصل وسلم على أئمة المسلمين، وهدى المتقين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري الهداة الميامين، وصل وسلم علىمحيي السنن، ومميت البدع، الناطق بالصدق، الداعي إلى الحق، محمد بن الحسن القائم.
اللهم عجل فرجه، وسهل مخرجه، وانصره نصرا عزيزا، وافتح له فتحا قريبا، وأقضَّ به مضاجع أعدائك، وأقر به عيون أوليائك يا قوي يا عزيز.

اللهم الموالي له، المعادي لأعدائه، المؤمن بمنهجه، الممهد لدولته والفقهاء العدول، والعلماء الأخيار والمجاهدين الغيارى وفقهم لمراضيك، وسدد خطاهم، وحقق للمؤمنين بهم آمالهم ومناهم، وزدهم صبرا على الصبر، وإخلاصا على الإخلاص، ووفاء لدينك على الوفاء يا رحمن يا رحيم.

أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات فما نقف عنده من موضوعات في هذا الحديث هو الآتي:-

موضوع الأوقاف:-

الموقف مما أعلنه المدير السابق من وجود إخلال بأمانة المال في دائرة الأوقاف أن نقول هذا خبره، وليس لأحد أن يقضي إلاّ بعلم بوجود هذا الخلل أو عدم وجوده، ولكن للناس المؤمنين والأمر متصل بهم وبدينهم أن يطرحوا أسئلتهم في هذا المجال ويطالبوا بتحقيق دقيق موضوعي وافٍ.

ثم إن الأوقاف إنما وقفها أصحابها طلباً لمرضاة الله سبحانه وتعالى، ورضاهم بالتصرف في الوقف يتبع أن يكون التصرف مرضيا لله سبحانه وتعالى، وأن يكون في مصلحة الشريعة والمؤمنين، وأن يتقيد هذا التصرف دائما بالحكم الشرعي، ومن هذا المنطلق يتوجب أمران:
أمر أن تكون الإدارة إدارةً أمينة، نظيفة الذمة، عفيفة اليد، قوية الإيمان، قوَّة ترتفع بها عن أن تمسّ فلسا واحداً من خزانة الإسلام والمسلمين، ومن المال الذي وظف لخدمة دين الله وعباده المؤمنين.

وهذه الإدارة الأمينة لابد لها من ثقافة فقهية، فكل وظيفة تحتاج إلى الثقافة المتصلة بها، ووظيفة الإدارة للأوقاف بجنب ما تحتاجه من فن الإدارة، ومن فن متصل بكل اختصاص من اختصاصات موظفيها تحتاج إلى فهم فقهي يمكّن هذه الإدارة وكل موظَّفيها من التصرف الذي يتناسب وغرض الوقف وقصد الواقف والحكم الشرعي.

الأمر الثاني: لابد من إشراف علمائي لضمان مطابقة الاستثمار، وسائر التصرفات للناحية الشرعية، وما ذكرته من وجود توفّر إدارة الأوقاف وموظفيها على إلمام فقهي لا يلغي دور الإشراف العلمائي المتخصص، فإن الثقافة العامة الفقهية لا تقوم مقام التخصص الفقهي المتضلّع، فلا بد من رجوع هذه الإدارة في مهمات أمورها وفيما يتصل بتسيير المال وتصريفه واستثماره إلى مختصين من العلماء الشرعيين.
وهذا الجهاز واضح جداً أنه جهاز مستقل عن الجهاز القضائي، فالجهاز القضائي له وظيفة لا تتداخل مع وظيفة الإشراف على الأوقاف وإدارتها، فوجود القضاء وإن كان قضاءً نزيهاً لا يعني الاستغناء عن إشراف علمائي على الأوقاف وهو دور آخر غير دور القضاء، والقاضي الذي يمكن أن يدخل في لجنة الإشراف العلمائي يدخل لا بصفته قاضيا إنما بصفته عضوا من هذه الهيئة.

رواتب الجماعة والجمعة:-

حينما نتحدث في هذه المشكلة أو في أي مشكلة أخرى لا نتحدث من منطلق المعارضة السياسية، فإن لنا وظيفة شرعية تحتم علينا الكلمة قبل أن نفكّر تفكيرا سياسيا.

من كان من العلماء الماضين والحاضرين لم يقرأ ولا يقرأ عن السياسة ولا يدخل في مشكلاتها كلما وقف على منكر أنكره، وكلما وجد تخلفا عن معروف أمر به حينما تتوفر شروط هذا الأمر والنهي، ووظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفة لا تفارق عالم الدين الذي يحاول أن يطابق بين موقفه وبين الحكم الشرعي.

فليس الدافع للعلماء هو الهاجس السياسي، وإنما الدافع للكلام هنا وفي كل مكان هو الأمر الإلهي مع التوفيق.
ومشروع نظام الرواتب لأئمة الجماعة والجمعة يمثل تطبيقا جديا لواحد من أهم مفاصل المخطط الذي تبناه المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، وقد أغرقت الفتاوى الفقهية الصريحة الساحة المحلية بشأن الموقف من المجلس المذكور، ولم تكن تلك الفتاوى من منطلق سياسي أبداً وإنما كانت من المنطلق الشرعي، الذي حرّك من له صلة بهذه الساحة ومن ليست له صلة ليقول كلمة الحق في الموضوع.

لأن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية يمثل هيمنة واضحة صريحة على مَقْدُرات الدين ومقدّراته، وتدّخلا في الحرية المذهبية بشكل فاضح.
ونحن نتحدث عن خطورة أن تخضع أئمة الجماعة والجمعة للقيود والشروط المترتبة على أخذ الرواتب نتحدث عن هذا ونحن ندري أن الحكومات تجيء وتذهب، وأن لا حكومة في الأرض تبقى أبدية، والحياة الدائمة لله وحده، والملك الدائم لله وحده، وأي بلد من بلدان الأرض معرّضة لأكثر من لون من الحكم، وقد يكون الحكم في يوم عادلا وقد يعقبه حكم غير عادل، على أن ما نراه من الحالة القائمة هو التدهور في الشأن الديني، والتأثير السياسي السيء جدا على الواقع الديني ولو من خلال هذا المشروع المفضوح مشروع السياحة الهابطة.
فكيف نأتمن القرار السياسي ومنه قرار السياحة الهابطة من ناحية عملية وإن كان قد أُعلن عن مشروع السياحة النظيفة فواجه الإهمال أو التعطيل.

أقول: كيف نأتمن على المسجد وعلى الحسينية والموكب والحوزة القرار السياسي الذي منه قرار السياحة على ما نشهد حاله، وقرار الوضع الجامعيّ على ما نشهد حاله، وعلى قرار الربا على ما نشهد حاله، ونحن نشهد قرارات كثيرة جدا فيها مخالفة صارخة للدين.

وكيف نأمن القرار السياسي على مقْدُرات الدين ومقدّراته – والكلام على مستوى الساحة الإسلامية الكبرى – ونحن نجد الهيمنة الأمريكية تزحف لتفرض نفسها على كل قرار، وعلى كل زاوية من زوايا الوجود الرسمي للدول الإسلامية.

كيف نطمئن لهذا القرار أو لهذا المشروع وهو يأتي في أجواء تعلن فيها أمريكا وجوب تعديل المناهج ووجوب تخريج أئمة جماعة وجمعة من نوع جديد يتواءم مع صياغة إسلامية تستهدفها أمريكا.

وعلى كل حال، فإن القرار السياسي غير ثابت، وإن وزير اليوم غير وزير الغد، وإن حكومة اليوم غير حكومة الغد، وإن المصلحة السياسية اليوم غير المصلحة السياسية في الغد، أما الدين فله ثوابته التي لا تقبل أن تتحكم فيها السياسة المتغيرة، وللدين حقائق خالدة، وأساسات ثابتة، إذا وضعت في يد القرار السياسي المتغير انهدم الدين.

ونحن حين ننظر إلى تاريخ مدرسة آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم نجد أنَّ تاريخ هذه المدرسة كان يديم الرفض لتبعية المؤسسات الدينية للآراء السياسية المتغيرة التي تذهب لها السلطات الزمنية، والذي يراه الإسلام هو أن السلطة تتبع المسجد، وليس أن المسجد يتبع السلطة. وإذا أبت السلطة أن تفارق في بعض قراراتها مضطرة أو غير مضطرة الحكم الحدّي للشريعة فإن الشريعة ليس عليها هنا أن تتنازل عن أحكامها، وليس لأهل الشريعة أن يركضوا وراء السياسة ليغيروا الدين ما تغيرت السياسة.

وحوزة قم وحوزة النجف بالأمس واليوم، في الظرف الشديد العنيد وفي الظرف الملائم أيضا لم يعطيا إذناً ولا قبولا أبدا بالتنازل عن استقلالية الحوزة، ونحن من أبناء تلك المدرسة.

على أن المسجد وهو مستقل لا يصح أن يكون للإضرار والإرهاب والفوضى، وإنما المسجد وهو يتمتع باستقلاليته عليه أن يلتزم بخط الدين، وخط الدين يصلح ولا يفسد، ويأمر بالمعروف لابالمنكر، ويرفض المنكر ولا يقره، ولا أمن ولا رخاء ولا سعادة لمجتمع إذا قطنه المنكر، وغادره المعروف.
والمسجد – كما عليه أن يلتزم الحكم الشرعي – عليه أن يقدر الظرف الموضوعي، وأن يدرك الواقع السياسي، وأن لا يدخل المسلمين في متاهات ممزقة من غير نتائج رابحة، وامام الجماعة والجمعة اليوم لا ينبغي أن يكون هزيلا، وكلما وجد من هو أكفأ كان الأولى أن يكون هو الإمام. والقرار السياسي لن يعرف هذا الشىء.

ولقد طالعنا خبر الخطبة الموحّدة في مساجد مصر بكاملها، وأنه يُزمع أن تعمم خطبة واحدة أو الخطوط العريضة لخطبة واحدة على ما يزيد على واحد وسبعين ألف مسجد في مصر؛ خطبة تصدر من وزارة الأوقاف لينطق بها كل لسان من لسان أئمة الجماعة والجمعة يوم الجمعة يوم الدين، ليتحول المسجد دائرة رسمية تنطق باسم الحكومة ومصالحها السياسية، وهذا درس يعلم كل المسلمين خطورة أن يتسلم إمام جماعة أو جمعة راتبه ليُسْتَعبَدَ المسجد للقرار الرسمي.

الجريمة وقاية وعلاجاً:-

بالنسبة لما تنقله الصحافة من وجود إضراب أو شبه مواجهات بين سجناء جو وبين الناحية الأمنية، ليس لنا أن ندس أنفنا من غير علم تفصيلي بالواقع لنقول أن الحق بكامله مع هذا الطرف أو ذاك الطرف، وما لنا أن نعلق به في هذا المجال هو أن نقول: بأن للجريمة عقوبة إهمالها مفسد، وتجاوز هذه العقوبة ظلم، وأن المجرم عليه حق وله حق، للمجتمع على المجرم توقيع عقوبة الجرم عليه، وللمجرم على المجتمع والسلطة أن لا تتجاوز هذه العقوبة، على أن هذه العقوبة لا تكون عادلة إلا بأن تكون عقوبة قد قررها اللطيف الخبير، العليم الحكيم، العدل الرؤوف بعباده سبحانه وتعالى.

وينبغي التخلص من الجريمة وذلك بالتربية السليمة، والتربية لا يمسك أحد بنصيب منها اليوم كما تمسك الحكومات، في البيت تربية، في المدرسة تربية، في المجتمع تربية، في الصحافة تربية، ولكن بما أن كل هذه المؤسسات تخضع اليوم للتأثير الرسمي بصورة مباشرة فإن الحكومة هي الطرف الذي يتحمل أكبر مسؤولية تربوية؛ فانحراف التربية محسوب بدرجة أكبر على الحكومات، واستقامة التربية أيضاً محسوب بدرجة أكبر للحكومات. والحكومة تشهد على نفسها أو لنفسها من خلال الواقع الاجتماعي المتقدم أو المتردّي الذي تشارك في صناعته بدرجة عالية فاعلة.
البيت تحكمه الدولة بقنوات بثها، وبما تلقنه الطفل الصغير والشاب في المدرسة، ولا توجد اليوم زاوية تتخلق تربوياً، وتتخلق إنسانيا ومنهجيا بعيدا عن التأثيرات الإيجابية والسلبية لتوجيهات الدولة وسياستها.

فالذين يريدون أن يحمّلوا البيت المسؤولية التربوية أو المدرسة عليهم أن يحملوا الدول أولا هذه المسؤولية، تجدون أن كل الوزارات، وزارات تربية، وكل القرارات الرسمية والمشاريع الرسمية مربية، يبقى أن هذه التربية سيئة أو حسنة، ذلك ما نراجع فيه الواقع ليشهد على نمط هذه التربية.

نعم وزارة الاقتصاد بما تتبناه من لون اقتصاد مربية، وزارة الصحة بما تفتح له الأبواب من الاختلاط الفاضح مثلا وغير الضروري تربي تربية سيئة ويقدر ما يكون لها من تحفظ في هذا المجال بقدر ما تكون مربية تربية حسنة، وزارة الداخلية من تلاحق؟ تغمض النظر عن أي مشروع وتفتح النظر على أي مشروع؟ إنها مربية وما من وزارة من وزارات الدولة إلا وزارة تربية، وحتى وزارة التربية هي من تربية وزارات أخرى، وتربية وزارة التربية في الحقيقة تابعة لما تفرضه وزارات أخرى من نمط تربوي.

اللهم صل على محمد وآل محمد واهزم الغزاة الكافرين، ووحد صفوف المؤمنين والمسلمين، واكف أمة التوحيد شر الفتن القاضية، والصراعات المهلكة، والتمزقات المنهكة، ورد كيد كل عدو من أعداء الإسلام إلى نحره، واغفر لنا ولأهل الإيمان والإسلام ومن كان له حق خاص علينا منهم ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا وأزواجنا يا غفار الذنوب ويا ستار العيوب يا عفوّ يا رحيم يا كريم.

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

زر الذهاب إلى الأعلى