خطبة الجمعة (123) 9 جمادى الثاني – 8 أغسطس 2003م
مواضيع الخطبة:
المراقبة – السياحة النظيفة أينها – تسييس للدين أم شفقة عليه؟
رواتب أئمة الجماعة والجمعة تسييس للدين أو شفقة عليه؟! إذا كانت شفقة فأين احتضان الدين وتفعيله في
الجامعة؟ في الدائرة؟ في القانون؟ في القرار الرسمي؟ في السياحة؟ في المشاريع المختلفة؟
الخطبة الأولى
الحمد لله الأول قبل كل أول، الآخر بعد كل آخر، السميع البصير، العليم بالضمائر، الخبير بالسرائر، الشهيد الرقيب، المحيط بكل شيء وهو على كل شيء قدير.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا كثيرا.
أوصيكم عباد الله ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله، والرغبة في ما رغبنا فيه، والزهد عما زهدنا منه فحاشا الله أن يرغّب إلا في خير، أو يزهد إلا عن شر, أو عن شيء إلى ما هو أكثر نفعا وأعظم عطاءً. ولنصن حياتنا عن العبث واللهو، ونضن بالعمر عن الضياع، وبالنفس عن السقوط والعطب، فإنَّ الحياة لا تعود، والعمر لا يتجدد، والنفس ليس عنها بديل.
اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ونستهديك ونسترشدك ونتوكل عليك. اللهم صل على محمد وآل محمد وأحينا محياهم وأمتنا مماتهم وابعثنا مبعثهم مرضيين مُكْرَميِن يا رحيم يا كريم.
أما بعد فالحديث عن المراقبة، ويوضع مختصرا في الآتي:-
المراقبة لغة:
الملاحظة، فحينما نقول فلانا يراقب الشيء فذلك قد يأتي بمعنى أنه يلاحظه. وتأتي المراقبة بمعنى الرصد، فأنت ترصد من أخيك أو من النجوم كل حركة، وكل سكون لتتعرف على طبيعته وطبيعة مساره. وتأتي المراقبة بمعنى الحراسة والحفظ، ويعبّر بلفظ رقبه، أي حذره وخافه، فالمراقبة تأتي بهذا المعنى أو ذاك من هذه المعاني.
والمراقبة مراقبتان: مراقبة نازلة، ومراقبة صاعدة.
مراقبة الرب تبارك وتعالى للعبد مراقبة نازلة، مشرفة، مطلعة من ذي شأن متعال. ومراقبة العبد للرب مراقبة صاعدة، وهي مراقبة الخائف للمخوف، والمسؤول لسائله، بينما المراقبة الأولى مراقبة المكلِّف لمكلَّفه، والسائل لمسؤوله.
عن المراقبة النازلة يقول سبحانه:”وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا”52/الأحزاب. “إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً”1/النساء.
ومراقبة الله عز وجل لكل شيء مراقبة الاطلاع والعلم والحفظ للذات والمنع من الهلاك، وفي جانب أخر هي رقابة ضبط وحساب لمن كان من شأنه أن يحاسَب وجزاء لمن كان من شأنه أن يُجازى.
وأما عن المراقبة الصاعدة فعن مواعظ الله تعالى لعيسى عليه السلام حسب الخبر “يا عيسى كن حيثما كنت مراقبا لي”. في علن كنت أو في سر، في ليل أو نهار، في رضى أو غضب، في ضيق أو سعة احذر أن يغيب عنك الله، احذر أن ينصرف قلبك عن الله، احذر أن تفتقد رقابة الله فإن معنى ذلك أن تسفّ وأن تسفل وتسقط. وعن علي عليه السلام “طوبى لمن راقب ربه، وخاف ذنبه” فمراقبة العبد هنا مراقبة خوف ومتابعة للخواطر والخلجات والخطى والسوكات من أجل أن تأتي كما يرضى الله لا كما يسخطه.
وعن علي (ع)”اجعل من نفسك على نفسك رقيبا، واجعل لآخرتك من دنياك نصيبا”.
هذه الرقابة من النفس على النفس هي رقابة التوجيه والضبط والرد إلى الخط.
وعنه (ع)”ينبغي أن يكون الرجل مهيمنا على نفسه، مراقبا قلبه حافظا لسانه”. وأشد مراقبة هي مراقبة القلب. في القلب رضى وسخط، في القلب حقد أو خلافه، في القلب مشاعر مختلطة، في القلب دقائق من الشعور، في القلب نيات، في القلب توجهات، في القلب طموحات، في القلب شك، في القلب يقين، والقلب أوعى وعاء عند المرء، أشرف وعاء فإن تلوّث فلا قيمة لصاحبه، وإنّ شفّ ورفّ كان صاحبه من الملائكة، وقد يزيد شأنا.
علي أن أراقب يدي وما فعلت، ورجلي وما سعت، وعيني وما امتدت إليه، ووراء هذه المراقبة مراقبة أكبر هي مراقبة القلب يسهل علي أن أراقب نفسي أني صلّيت أو لم أصلِّ، أني صمت أو لم أصم، أن كلمة ساقطة جرت على لساني أو لم تجرِ، ولكن الأمر الدقيق جداً أن أعرف من قلبي أن صلاتي التي أديتها كانت صلاة في القلب أو لم تكن صلاة، كانت لله أو كانت لغيره. هذا الغضب الذي يثور في نفسي هو غضب لله أم للذات؟ هذا السيف الذي أقاتل به أقاتل به في سبيل الله أو في سبيل قومي؟ من الصعب جداً، ومن أصعب الصعب أن تنضبط حركة القلب على خط الله، وأن تكون حركة الجوارح دائما وظاهرها الطاعة نابعة من حركة للقلب في اتجاه الله، ولو جمعنا عبادات العمر الظاهرية وقسناها إلى عبادات القلب الباطنية لوجدنا الثانية ضئيلة جدا جداً، وأن أكثر ما حصل في حياتنا من عبادة إنما هي عبادة ظاهرية.
وأنت لا ترقى، ولا تنبني، ولا تقرب من الله بعبادة الظاهر إنما يحصل لك ذلك كله عبر عبادة الباطن.
ماذا ترون من صلى ستين سنة ليس من بينها صلاة واحدة لله أتنجيه صلواته؟ أينجيه صوم مثل هذا الصوم؟ زكاة خمس مثل هذه الزكاة والخمس؟!
يقول لنا أميرنا أمير المؤمنين عليه السلام في الكلمة عنه”ينبغي أن يكون الرجل مهيمنا على نفسه، مراقبا قلبه حافظا لسانه”. ومن راقب قلبه ونجح في مراقبته له، وحصل بهذه المراقبة أن انضبط القلب على الخط؛ انضبطت كل جوارحه وكل حركاته وسكناته على الخط الصنّاع الصاعد لله.
وليس من أهل البيت عليهم السلام مدرسةً دقيقة، مستوى حقيقيا، أدبا كبيراً من ترك محاسبة نفسه وثبت عليها. فعن الكاظم عليه السلام “ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل حسنا استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه، وتاب إليه”.
والمحاسبة إنما تأتي في طول المراقبة، وتحتاج دائماً إليها.
مراقبة النابهين:-
عن زين العابدين(ع) ” ثلاث من كن فيه من المؤمنين كان في كنف الله – أي حفظه -…. من أعطى من نفسه ما هو سائلهم لنفسه – يُعطي من نفسه للمؤمنين ما هو سائلهم لنفسه، ويسأل المؤمنين لنفسه الاحترام، ويسأل المؤمنين لنفسه أن لا يغتابوه، ويسأل المؤمنين لنفسه أن يحفظوا عرضه وماله، وحقوق كثيرة يسألها المرء اخوانه المؤمنين، لكن كيف يسأل المؤمنين حقوقا لا يسألها نفسه لهم؟!-، ورجل لم يقدم يدا ولا رجلا حتى يعلم أنه في طاعة الله قدمها أو في معصيته، – رقابة دقيقة جدا ودائمة تجعلك دائما على خط الطاعة، والأمر أمر ترويض، ومن روض نفسه بلغ، فخذ على نفسك دائما ما استطعت – ونحن لسنا معصومين – أن لا تحدث منك حركة إلا بعد أن تتحقق أن هذه الحركة في طاعة الله أو في معصيته، فأن كانت طاعة أقدمت، وإن كانت معصية امتنعت. وسبق أن قلت بأن مراقبة حركات القلب أدق وأبلغ أثرا من مراقبة حركات الجوارح – ورجل لم يعب أخاه بعيب حتى يترك ذلك العيب من نفسه”.
كم هو ناجح هذا المنهج التربوي، بأن ألزم نفسي أن لا ألاحق عيب غيري ولا أعيبه به حتى أراجع ذاتي تماما وأن ذاتي لها من هذا العيب شيء أو ليس لها. فإن كان لها شيء من هذا العيب شانني أن أعيب غيري وأهمل نفسي. وحتى لو لم تتبَّع الآخرين فستقر على عيوب كثيرةٍ ما يجعلك في ظل هذا المنهج مكتشفا لنفسك مشتغلا باصلاحها.
فكلما التقيت عيبا في الآخرين كان علي أن أراجع هذا العيب في نفسي وجودا وعدما لأنقى من وجوده.
والإمام علي عليه السلام يتحدث عن شخصية متكاملة متوازنة في كل أبعادها، صحيحة في كل مساراتها فيقول عليه السلام “على العاقل أن يحصي على نفسه مساويها في الدين والرأي – حتى في المسائل الاجتماعية… في المسائل السياسية… في المسائل التربوية… في كل المسائل، وفي الرأي الذي يدير به بيته، جمعيته، علاقته مع أصدقائه مع أعدائه – والأخلاق والأدب فيجمع ذلك في صدره أو في كتاب ويعمل في إزالتها”.
دراسة للشخصية في كل أبعادها، يسجل عليها سلبياتها، ونقاط ضعفها، حفظا في الصدر، أو في الدفتر لأشتغل بترميم ذاتي، وإصلاحِ نفسي أكثر من اشتغالي بإصلاحي بيتي وترميمه، وبإصلاح جهاز المذياع عندي وترميمه، فلنفعل، وقلما يفعل أحدنا، والفاعل هو الأعقل.
أنواع المراقببين:
رقابة الجوارح:
عن علي (ع)”اعلموا عباد الله أن عليكم رصدا من أنفسكم، وعيونا من جوارحكم – كل جارحة فيك عين عليك وجاسوس ومخابرات لجهة لا تحتاج إلى مخابرات -، وحفاظ صدقٍ يحفظون أعمالكم – وقد يأتي عملك يوم الحساب مجسداً – كما في رأي – في ما تكره أو فيما تحب -، وعدد أنفاسكم لا تستركم منهم ظلمة ليل داج، ولا يكنكم منهم باب ذو رتاج”.
أيُّ باب محكم الغلق لا يحجب أولئك الحفّاظ عن مطالعة ومشاهدة كل ما يأتيه المرء، فالحديث يتحدث عن مراقبة الجوارح والحفظة من الملائكة.
رقابة الزمن:-
“إن النهار إذا جاء قال: يا ابن آدم اعمل في يومك هذا خيرا، أشهد لك به عند ربك يوم القيامة – وضمان الشهادة في طول الرقابة، إذ كيف يشهد اليوم لي بكل خير أأتيه إذا لم تكن له عين عليّ تشهد مني ما عملت؟ فالزمن رقيب – فإني لم أئتك فيما مضى – أنا شاهد جديد عليك، وكل يوم من عمرك مضى شاهد، وينضاف إلى كل الشهود السابقة أنا الشاهد الجديد – ولا آتيك فيما بقي، وإذا جاء الليل قال مثل ذلك”.
وشهادة الأرجل والأيدي التي تتحدث عنها الآيات الكريمة إذا كانت شهادة بكل عمل عنت رقابة هذه الجوارح لكل عمل من أعمال صاحبها.
رقابة المكان:-
وهناك رقابة مكان، أتذكر ولم تتأتى لي المراجعة أن حديثاً يثبت رقابة المكان حيث يذكر أن العبد إذا تاب جاء أمر الرب إلى الأرض التي عمل فيها معصيته أن استري عليه، ولعل هذا معناه أن أمرا تكوينيا من الله عز وجل يمحي الصورة القبيحة التي أتاها العبد على الأرض، فأي بقعة من الأرض شهدت من الإنسان معصية فهي مراكبة له في معصيته، محتفظة بصورة المعصية أو بواقعها حتى لا يستطيع المرء يوم تعرض هذه الصور وهذه الوقائع أن ينكر شيئا منها.
والآن نجد أن علم الإنسان يحفظ صورة الواقعة، أما علم الله قد يحفظ نفس الواقعة.
رقابة الملائكة:-
“إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ”. 17-18 سورة ق.
“وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11)– تؤذيهم معصية العاصي، وذنب المذنب، لأن ذوقهم ليس ذوق المعصية – يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ”10-12/الانفطار. ولا ندري هذا العلم هو علم صورة أو علم واقع ما وراء الصورة؟
رقابة الرسول والأئمة:-
“وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ” 105التوبة. ففي طول رؤية الله عز وجل رتبةً رؤيةُ الرسول، ورؤية المؤمنين. والمؤمنون هنا يفسرها بعضهم بالأئمة عليهم السلام لأنهم المؤمنون حقا. ويختار هذا البعض أن رؤية الرسول ولأئمة صلّى الله عليه وعليهم ليست من نوع الرؤية الحسَّية العادية المحدودة بمكان التواجد، وزمن الحياة، أو الناتجة من رقابتهم بما هم حكام وقادة شرعيون مسؤولون عن تفقد أوضاع الأمة ومواقف أبنائها.
رقابة الجليل سبحانه، وهي الرقابة العليا:
“وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ”.
“وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيباً”، “إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً”.
الرقابة بين التقويم والهدم:-
تختلف الرقابة أثراً فأنا قد أراقب جاسوسا أمريكيا في سلوكياتي، ومراقبتي للجاسوس الأمريكي في سلوكاتي، تجعلني أصوغ شخصيتي طبقا للإرادة الأمريكية وهذه رقابة هدّامة، أمّارقابتي لله عز وجل بمعنى خوفي منه ومحاولتي دائماً أن أصوغ شخصيتي طبقاً لما يرضي الله عز وجل رقابة تبني، تقوِّم، تصحح، تبلور، تعلي، ترفع من شأن المرء وتصنع شخصيته كبيرا.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واجعلنا واخواننا من المؤمنين والمؤمنات أجمعين وأحبتنا ممن لا تجدهم حيث تكره، ولا تفقدهم حيث تحب، ووفقنا لخير الأعمال، ولا تجعلنا من المفضوحين، واغفر لنا ولاخواننا في الإيمان والإسلام ومن كان له حق خاص عليتا منهم ولوالدينا يا أرحم الرحمين .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4))
الخطبة الثانية
الحمد لله العلي العظيم، الجليل الجميل، العدل الحكيم، قديم الإحسان، الكريم المنان، ليس مثل ملكه ملكا، ولا يعدل سلطانه سلطان، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يجارى في عزه، ولا يضاهى في عظمته، ولا يشابه في ذات، ولا في صفات. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ضياء للعالمين، وخاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وآله أجمعين.
أوصيكم عباد الله ونفسي الغافلة بتقوى الله والأخذ بما حكم، والرضا بما قضى، فإنه لا يحكم إلا عدلا، ولا يقضي إلا حقا، ولا يأمر إلا بخير، ولا ينهى إلا عن شر، وهو أحكم الحاكمين، ومن اتقى لم يقارف ذنبا في سرٍّ أو علن، ولم يسؤ منه فعل ولا نية، ولم يقبح عنده ظاهر أو باطن. أما من وجد فرقا في فعل الخير أو ترك الشر بين الخلأ والملأ فليس له قدم صدق في التقوى. وما أضعف المرء أمام المغريات بلا تقوى فعن أمير المؤمنين عليه السلام “إن من فارق التقوى أغري باللذات والشهوات، ووقع في تيه السيئات، ولزمه كثير التبعات”.
نعوذ بالله من هوى النفس، وسحر اللذة، وإغراء الشهوة، وإغواء الشيطان، وضلال السعي، وخسارة العمر، ونستغفر الله ونتوب الله، ونستعينه ونستهديه ونسترشده، ونسترفده. صلى الله على محمد وآله الكرام.
اللهم صل وسلم على البشير النذير، والسراج المنير، خاتم النبيين والمرسلين محمد وآله الطاهرين، وصل وسلم على علي أمير المؤمنين، وإمام المتقين. وصل وسلم على كريمة نبيك المصطفى، وزوج وليك المرتضى فاطمة الطاهرة الزهراء. وصل وسلم على السبطين الكريمين، والإمامين الرشيدين، والوليين الهاديين الحسن بن علي بن أبي طالب وأخيه الحسين. وصل وسلم على الأئمة المتقين والقادة الهادين، والخلفاء الراشدين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، جعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري ساسة الدنيا والدين.
وصل وسلم على خاتم الأئمة الإثني عشر، ومنقذ الأمة من الطغيان والشر محمد بن الحسن القائم المنتظر.
اللهم عجل فرجه، وسهل مخرجه وانصره نصرا عزيزا، وافتح له فتحا مبينا ومكن له تمكينا.
اللهم الموالي له، المناصر لمنهجه، الممهد لدولته والفقهاء العدول والعلماء الأخيار والمجاهدين في سبيلك، الذائدين عن دينك وفقهم لمراضيك، وانصرهم بنصرك، وأعزهم بعزك، وانصر بهم المستضعفين، وأعز بهم شأن الدين، وجانب المؤمنين.
أما بعد فالحديث يتناول ما يلي:-
السياحة النظيفة أينها؟
1- تم إعلانها شعارا وهو شيء جميل. وبقي انتظارها طويلا وهو شيء مخيب للآمال كما يعبرّون.
نعم كان الشعار لائقا بالتكريم والتقدير، أما التطبيق فهو تطبيق منكر، وتطبيق مقلوب، وتطبيق كاذب.
فالواقع – أعني واقع السياحة – مر ومأساوي، ويسبب الغثيان، وجارح للكرامة، ويتحدى كل المشاعر النظيفة.. وأخبار الصحافة في هذا المجال كافية. وهل السياحة النظيفة استيراد للبغايا من كل مكان، واستحداث محليٌّ للساقطات؟! وهل هي قوادة من فنادق تجمع بين الزناة والزانيات؟! وتفريغ للمرأة والرجل من إنسانيتهما لتتحول الأولى جسدا عاريا لعبث الرجل ومستنقعا للشهوة الحرام، والثاني إلى ثور هائج باحث كل وقته عن بقر تنفيسا عن حيوانيته أينما كان؟! السياحة النظيفة شقق للعواهر؟ حفلات للممثلين؟ عربدة تقطن الأحياء السكنية مع المؤمنين؟! مخامر، بارات، مطاعُم فسقٍ وفجور عند الحسينيات والمساجد؟
لعل تنفيذيين خاصيين ومن ورائهم طلاب رأس المال الحرام هم الذين يعطون الشعارات معنى عمليا مضادا تماما لمعناها فيفهمون النظافة على أنها قذارة، والعفة على أنها دعارة.
2- المردود الإنساني لهذه السياحة: سقوط خلقي، انتشار عدوى الفحش، ازدراء متنام للذات الإنسانية حيث تتحول المرأة إلى مجرد مستنقع شهوة، والرجل إلى مجرد قبوَل للذة الفاجرة. سقوط سمعة، انشغال عن سيطرة الأجنبي، هروب عن التفكير في المشاكل المحلية، نسيان للانتماء الحضاري، انتشار جريمة الاغتصاب، التفكك الأسري، ذوبان الإرادة، الهبوط الثقافي، وكثير كثير من البلايا والكوارث والمحن.
3-المردود الاقتصادي: استنزاف الثروة الخليجية والانحراف بها عن حل المشكلة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية وغيرها من مشاكلنا. تجميع هذه الثروة بيد حفنة ساقطة من سماسرة الأعراض وباعة الإنسانية وأعداء القيم والقابضين للأيدي على ثروة مئات الألوف والملايين.
4- “قد يُقال إن هذا المال يُنعش السوق”، وأقول: هذا المال الحرام المحتكر والمصدَّر إلى الخارج – إلى مصارف أوروبا وأمريكا – والذي لا يتحرك حركة تبادلية إلا في دائرة الطبقة المترفة والطاغوتية المالية، والذي يهرَّب لينعش الاقتصاد الأوروبي و الأمريكي لا ينفع المحرومين بشيء وإنما يزيد في إذلال الشعوب، وهذا الشعب المؤمن يرفض أن يأكل لقمة واحدة من إفراز المباول النجسة وعمل الرذيلة ومرض فقد المناعة والبغاء وقوادة الفنادق، وعاهرات الشرق والغرب، وكل من دنأ. يريدون أن ينعشوا اقتصادنا بقوادة الفنادق وزنا العاهرات؟! دعوى كذب، وأن هذا من شرف البلد وأصالته وإيمانه وقيمه وغيرته وابائه؟!
5 – السياحة في بلادنا مصطنعة لا طبيعية حسب جغرافيتنا ومناخنا الصيفي، فهي تعكس حسب ما تُصطنع إيماننا وإنسانيتنا وأخلاقنا وجودا وعدما، وتعكس توجهنا استقامة وانحرافا، وذوقنا رفعة أو انحطاطا فماذا نختار؟ هذا لو كانت السياحة من صناعتنا، وعلى الشعب أن يبرأ من السياحة الهابطة القائمة، وينكرها لأنها ليست منه، وليس منها، وهي ضد شرفه ومصلحته كذلك، والسكوت عليها رضىً بها، وهي منتهية به في بقائها، وتمدد آثارها إلى التميّع والرذيلة والسقوط.
تسييس للدين أم شفقة عليه؟!
رواتب أئمة الجماعة والجمعة تسييس للدين أو شفقة عليه؟! إذا كانت شفقة فأين احتضان الدين وتفعيله في الجامعة؟ في الدائرة؟ في القانون؟ في القرار الرسمي؟ في السياحة؟ في المشاريع المختلفة؟ اسمحوا لي أن أختار أن المشروع تسييسيٌ بالكامل، وهذا الرأي ليس حدسيا ولا من الظن السوء، وتجارب الساحة المحلية والعربية والإسلامية في هذا كلها شاهدة عليه، فهو حصيلة استقراء ظاهر لكل ذي عينين، ولنطرح بعض الأسئلة أمام هذا المشروع:
قد يكون اليوم عطاء بلا شروط، ولكن هل سيبقى العطاء مستقلا بلا شروط؟
بالتأكيد لا، بعد مرحلة العطاء والرضا ستأتي الشروط الثقيلة والقيود المشددة، وهي شروط وقيود لن تأتي لصالح الدين.
قد يقر أئمة الجماعة و الجمعة كما هم اليوم في مساجدهم، ولكن إلى متى سيبقى ذلك؟
لن يبقى طويلا، وعملية الفصل ما ضابطها؟ عملية الفصل لأئمة المساجد من جمعة وجماعة سيراعى فيها الدين أو ستراعى فيها السياسة؟ من تكلم كلمة في مصلحة السياسة هو الذي سيفصل؟ أم من تكلم كلمة تغيض السياسة وترضي الدين هو الذي سيفصل؟ سلوا أنفسكم واحكموا.
ستكون غداً تعيينات لأئمة المساجد جمعة وجماعة من المعيِنّ؟ المعيِّن السياسة أو الدين؟
الآن أنتم تعينون أئمة جماعتكم وجمعتكم، غدا سيكون التعيين رسميا، ماذا تراعون أنتم في إمام الجماعة والجمعة؟ تحفظون عن الشريعة شروطا وقيودا، وتحاولون أن تحكموها حسب ظاهر الأمر لتقدموا إماما على إمام، من الذي سيراعي هذه الشروط غدا، وأي الضوابط سيراعيها في تعيين إمام الجماعة والجمعة؟
المعيَّن مع أي شىء يتمشّى مع القرار الرسمي أو الرأي الديني ؟! هل سُيبحث عن أكبر تقي في تقواه؟ عن أعرف شخص في الفقه؟ أم سيصنف الناس إلى متطرف ومعتدل حسب الرأي السياسي؟
المتطرف فيما تحكم به السياسة وقد تحكم جوراً مقصى، والمعتدل في الرأي السياسي مقرّب، أليس هذا الواقع؟
التوظيف سيكون للمستقل أو التابع؟ أي جهاز لا يوظف على خلاف رأيه؟ لا يمكن لأي جهة من الجهات أن تعيّن موظفين لشغل المواقع والمناصب تجد فيهم مخالفة لما تريد، والقرار الرسمي في يوم من الأيام يكون عادلا وفي أيام لا يكون عادلا.
والقرار الرسمي يمكن أن يتأثر بالبوصلة الأمريكية أو ببوصلة أي دولة تطغى في هذا العالم، وتأثر الدولة – أي دولة وقرارها، حيث أناقش القضية على مستوى كلّي، وليس على مستوى البحرين فقط – بالبوصلة الأمريكية ولو بالكره وتحت الضغط إذا كان قرار المسجد رسميّاً سيؤثر على المسجد سلبا بلا أدنى إشكال.
فالمناقشة هي مناقشة مثل هذا المشروع على مستوى العالم الإسلامي كلّه، ثمّ أن بلدنا واحدة من العالم الإسلامي ولابد أن نناقش المشروع فيه، ولأننا معنيون أكثر بهذا المشروع في بلدنا.
الموظف الرسمي لوظيفة الخطاب الديني والوعظ سيكون عند التعارض مع الدين أو السياسة؟ إمام الجماعة والجمعة إذا تعارض الدين والسياسة في مسألة من المسائل سيكون خطابه مع الدين أو مع السياسة؟ إذا كان مع السياسة فهو ساقط العدالة، وإذا كان مع العدالة فهو مفصول.
أنا إذا لم أملك نفسي اليوم أمام ضغط الحاجة مثلاً والظرف الملح عن جاذبية الدينار، سأملكها غداً؟! أنا اليوم وقبل أن ألتحق بالمشروع أقوى مني بعد أن ألتحق به وأذوب فيه ويعتمد رزقي عليه.
إذا كنت اليوم لا أملك تماسكا أمام دينار المشروع فغدا سأضحي به لأفصل من وظيفتي؟!
هل سيكون للانسحاب من المشروع قيمة بعد بنائه؟ أنا إذا شاركت اليوم في بناء المشروع بدخولي فيه وقبولي الراتب فلأنسحب بعد عشر سنين، بعد سنتين، إن انسحابي بعد ذاك لا قيمة له أصلا، لأن الواقع هو أن اليوم يطلب الشخص للتوظف، أما غدا فسيطلِب ولا يجد ما يطلب للتنافس.
أتراني أنا (عيسى) غداً وقد صارت صلاتي ووعظي وظيفة رسمية أتقاضى عليها ما أتقاضى، وأحاسب عليها بما هي وظيفة مدفوعة الأجر من الحكومة أولى بأن أتقدم صفوف المؤمنين أو شابا يأكل لقمته من كسب يده من حلال ويلتزم بأحكام دينه ويفقه أحكام صلاته وإن صلى في منزله؟! الأولى بأن أصلي خلف شاب مؤمن ملتزم متفقه في منزله، وأن أهجر مساجد تسيِّرها السياسة.
هل المشروع لإسكات الدين حتى في المسجد، أو لتسييس الدين والمسجد؟
أقول: الدين في الجزائر والعراق وحتى تركيا لم يسكت ولن يسكت، وعلماء الدين الحقيقيون لا يقبلون التسييس ولا يختارون على الدين شيئا، ولا يرضون عنه طريقا، ولا يبيعونه بثمن، ولا يطلقون علاقتهم بالله أبدا.
والتاريخ القائم على التسيس للدين عجز أن يقهره أو يسكته وإن شوَّهه عند قوم وخلق متاعب جمة على طريق المخلصين، وعقد مهمتهم في الهداية والإرشاد.
إنني وبناءً على رؤية يقينية للضرر الذي سيلحقه المشروع بالدين أعلن رأيي صريحا برفضه والتحذير منه داعيا إلى إجهاضه ما أمكن.
وفي تقديري أن وضع المسجد مسيساً سيكون أسوأ بكثير من وضع الكنيسة في المسيحية.
اللهم صل على محمد وآله محمد، واجعلنا من صف أوليائك، وممن تنتصر به لدينك، وتحيي به ما عطل من أحكام شريعتك، ولا تمنعنا رفدك ونصرك، واغفر لنا ولجميع أهل الإيمان والإسلام، ولمن كان له حق خاص علينا منهم ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا وأزواجنا وقراباتنا يا أهل المغفرة والرحمة والإحسان والفضل والامتنان.
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)