خطبة الجمعة (110) 7 ربيع الأول 1424هـ – 9-5-2003م

مواضيع الخطبة:

الشفاعة (1)  –  مسألة الأحوال الشخصية

لا بد من تحسين الوضع القضائي، واعتماد الدرجات العالية من الكفاءة الفقهية والفنية والنزاهة في تعيين القُضاة، مع التركيز على حرية القضاء والبُعد به عن ممارسة أي ضغط من الضغوطات السياسية أو غيرها التي يمكن أن تنحرف بسير العدالة على يده

الخطبة الأولى

الحمد لله مالك الملك، مجري الفلك، مسخّر الرّياح، فالق الإصباح، ديَّان الدِّين، ربّ العالمين. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خالق لا خالق معه، ورازق لا رازق من دونه، حيٌّ قيّوم لا تأخذه سنة ولا نوم، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله دعا إلى الله صادقاً، وجاهد في جهاداً حقّاً، وما أشرك به مخلوقاً أبداً، وما اتخذ عن الله أحداً عضداً. صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً دائماً متجدداً.

عباد الله أوصيكم ونفسي الغافلة بتقوى الله التي لا تستقيم ولا تزين حياة فرد ولا أمَّة إلا بها، فما كانت إلا وكانت الحياة قويمة، والعاقبة خيراً، وما فُقدت إلا وساءت الحياة، وكانت العاقبة أكثر سوءاً، وأشد بواراً، وأعظم شرّاً. الحياة في تقوى تُعطي تلامذة في الفكر والشعور والسلوك للمثل العليا في الأرض من أنبياء وأولياء ومرسلين، وهؤلاء سعداء الناس في الدنيا والآخرة. وهي في فجور وغرور تعطي تلامذة لشرار الناس وأمثلةِ السوء من فرعون وقارون ونمرود وأبي لهب ويزيد وأضرابهم، وهؤلاء أشقياء بالغون، تشقى بهم الحياة وتفقد روعتها، وهم في الآخرة أشدُّ شقاءً، وأعظم خسراناً. فبالتقوى تكرم الذواتُ، وتهنأ الحياة }إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ{ 13/ الحجرات. وبدونها تسقط النفس، وتشقى الحياة، وتسوء الأحوال.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وأسعدنا وإخواننا وأخواتنا في الإيمان بملازمة تقواك، ولا تشقنا بمعصيتك، واجمع بيننا وبين أهل محبتك، وباعد بيننا وبين أهل عداوتك يا محسن يا رؤوف يا رحيم.

أما بعد فالحديث في الشفاعة، وسيكون في أكثر من حلقة إن شاء الله، ويخضع الحديث للتقسيم التالي:-
الشفاعة لغة:
تقول شفع الشيء شفعا، وتعني أنّه ضمّ إليه مثله، فتشفع طلبك يعنى أن تضم إلى طلبك الطلب من غيرك فيقوى به طلبك، وشفع فلان لفلان كان شفيعا له، وشفع إلى فلان توسّل إليه بوسيلة، وشفع في الأمر كان شفيعا فيه، وشفّع الله نبيّه صلى الله عليه وآله في كذا قَبِل شفاعته فيه، والمشفَّعُ هو مقبول الشفاعة، وتشفّع بالنبي صلى الله عليه وآله إلى الله توسّل به إليه، واستشفع: طلبا ناصرا، وشفيعاً، واستشفع به طلبه شفيعا، أو جعله كذلك.

أركان الشفاعة:
طالبٌ غير مقبول الطلب قطعا أو توقّعا، وهذا هو المستشفِع. فالمستشفِعُ إنسان قاصد إلى حاجته، إلا أنّه في مقام التكوين لا يجد القوة الكافية للوصول إلى هذا الطلب فيستعين بغيره، وفي مقام الرجاء، كطلب الولد قضاء حاجة أبيه الذي قد يجد أن طلبه لا يدخل في قلبه لأمر بينه وبينه فيستشفع بأمه لأبيه، لينضمّ طلب أمه إلى طلبه فيقوى بذلك طلبه، فيحصل على مراده. فهو مستشفِعٌ بأمه.

أما المستشفَعُ إليه فهو المقصود بالطلب، والقادر على تحقيقه، والمطلوب رضاه من أجل أن يحصل مطلوب الطالب.
وهناك مستشفَع به ولا بد أن يكون المستشفع به وهو الذي ينضمّ طلبه إلى طلب الطالب ليقوى ذلك الطلب، مقبول الشفاعة عند من يُستشفع إليه.

فالعبد يستشفع إلى ربّه بنبيّه صلى الله عليه وآله وسلّم؛ ذلك لأنه يؤمل في أن انضمام طلب النبي(ص) إلى طلبه ودعائه إلى دعائه ويرضِى الله سبحانه وتعالى بطلبه، ولأنه يجد للنبي صلى الله عليه وآله عند ربّه مقاماً.

وهذا المستشفَع به إنما يقصد إليه الطالب بطلبه لعلاقة حسنة بينه وبينه، تجعله يقبل الاستشفاع، أما لو كانت العداوة ضاربة بين صاحب الطلب وبين من يستطيع أن يشفع له فإنّه لا يستشفع به لانقطاع أمل الاستجابة منه، فمن أراد أن يستشفع مثلاً برسول الله صلى الله عليه وآله وهو لا يجد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله سبباً، لا يستشفع به، فإنما يستشفع برسول الله صلى الله عليه وآله وبأهل بيته من وجد أن بينه وبينهم سبباً، وإلا فليس فوق كرم الله كرم، وليس فوق قدرة الله قدرة.

نعم لابد من درجة من القبول بهذا الإنسان عند رسول الله صلى الله عليه وآله حتى يقصد إلى الاستشفاع به، ولا رضا من رسول الله صلى الله عليه وآله بأحد، ولأحد، إذا كان الله غاضباً عليه، فمن غضب الله سبحانه وتعالى عليه غضبا ماحقاً فهو مغضوب عليه عند رسول الله صلى الله عليه وآله.

فأصل الأمر أن يكون بين العبد وبين الله نوع علاقة يؤمل أن يرضى بها الله سبحانه وتعالى عنه ولو بشفاعة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. أما إذا كان الغضب مستولياً فلا.

أسباب قبول الشفاعة:
ما هي المتكآت التي يتكئ عليها الشفيع في شفاعته عند المستشفع إليه؟
الأم كيف تتوسط لولدها؟ أو الولد البار كيف يتوسط لأمه عند أبيه؟ والملك الفلاني كيف يتوسط عنده المتوسطون لفلان؟ ما هي المنطلقات؟

1. الرجاء:
لابد أن يكون المشفوع عنده راجيا لخير في الشفيع، بأن يملك الشفيعُ ما يرجوه المستشفَع عنده ليقبل شفاعته. الملك الذي لا يرجو من الشفيع موقفا إيجابيا معه في محنته، ولا يرجو منه إخلاصا له في وظيفته لا يقبل شفاعته، قد يقبل شفاعته من منطلق أنه يرجو منه نفعاً.

2. الخوف:
مستشفَعٌ عنده قد يقبل شفاعة الشفعاء لو كان يخاف منهم حين لا يستجيب لهم، هذا منطلق ثاني وهو الخوف.

3. الحب:
أن يكون مستشفع عنده يملك الشفيعُ موقعا في قلبه، وينال حبّا من حبه لأي منطلق من المنطلقات. فهذا الحب وسيلة الشفيع في الضغط على المستشفَع عنده.
الرجاء الذي في قلب المستشفَع عنده أو الخوف أو الحب هو الوسيلة الضاغطة التي يستعملها الشفيع على قرار صاحب القدرة، والمطلوب منه الطلب.

4. التقدير والإكرام:
أ‌- وهذا التقدير والإكرام قد يكون شكراً لإسداء جميل، أنت أسديت جميلا لفلان فتستطيع أن تتوسط عنده وإن لم يخف منك أو يرجو منك جديدا.

ب‌- أيضا له منطلق آخر وهو شكر الطاعة والإخلاص. أنت الشفيع لا يرجو منك المستشفع عنده شيئا، ولا يخاف منك، وليس لك جميل عليه أصلا، ولكن يجد من إخلاصك له وطاعتك وعبوديتك ما يجعله يشكرك، ويقدّر كلمتك.
والله عز وجل لا شفاعة عنده إلا من هذا الباب؛ إلا من باب أن الشفعاء أهل طاعة وإخلاص وعبودية صادقة.
فهو يحب هذا العبد حبّا غير انفعالي، لأن الحب الانفعالي يعني ضعفا في المحب، والله عز وجل منزه عن أي ضعف، فهو لا يحب حبّاً من موقع الانفعال، وإنما يوصف بالحب لأنه عز وجل يفعل فعل المحب بحبيبه.
فالمنطلق الذي تنطلق منه الشفاعة عند الله سواء كان الشفيع ملكا مقرّبا أو نبيا مرسلا هو هذا المنطلق؛ منطلق أن هذا الشفيع يعيش حالة العبودية الصادقة لله ويخضع له كل الخضوع، ويمتثل أوامره ونواهيه، فكتب الله عز وجل على نفسه أن يظهر كرامة هذا العبد، ويجعل له الشفاعة في غيره.

شفاعة الدنيا:
هناك شفاعة في الدنيا؛ وقد تكون لأمر الدنيا، أو الآخرة إذا كانت شفاعة عند الله.

أ- الشفاعة بين الناس أنفسهم:-
والأحاديث ترغّب فيها، وتدفع إليها.

ومعناها أن هذا الواحد من الناس يشفع للآخر عند واحد أيضا من الناس. عن الصادق عليه السلام:”الشفاعة زكاة الجاه”.
عن الرسول صلى الله عليه وآله:”أفضلُ الصدقة صدقةُ اللسان الشفاعةُ – الشفاعة تفسر صدقة اللسان فهي بدل منها – تفك بها الأسير، وتحقن بها الدم، وتجرّ المعروف والإحسان إلى أخيك، وتدفع عنه الكريهة”.
عنه صلى الله عليه وآله:”من شفع شفاعة يدفع بها مغرماً، أو يحيي بها مغنماً ثبّت الله قدميه حين تُدحض الأقدام”.
وعنه صلى الله عليه وآله:”أفضل الشفاعة أن تشفع بين اثنين – رجل وامرأة – في النكاح” فلنكن من أهل الشفاعة بالخير، ولا نكن من السعاة في الناس بالشر.

ب- الشفاعة عند الله:
وهذه قد تكون في أمور الدين، أو الدنيا.
عن الرسول صلى الله عليه وآله:”ليس شيء أسرع إجابة من دعوة غائب لغائب”. كل المسلمين يؤمنون بدعوة الغائب للغائب، والحاضر للحاضر، وما معنى ذلك؟ أنك تضم دعاءك ليقوى به دعاء أخيك، وتضم طلبك له إلى طلبه ليقوى به طلبُه، فهي شفاعة.
“أسرع الدعاء نُجحاً للإجابة دعاء الأخ لأخيه بظهر الغيب يبدأ بالدعاء لأخيه فيقول له ملك موكَّل به: آمين ولك مثلاه”. فهي شفاعة مقبولة. أنت تشفع دعاءك بالدعاء لأخيك. في هذا الحديث دعاؤك لنفسك تشفعه بدعائك لأخيك فيقوى بذلك دعاؤك لنفسك، كما تشفع دعاء أخيك بدعائك له ليقوى دعاؤه، فهنا شفاعتان في الحقيقة.

“إن الله تعالى قال لموسى: ادعني على لسان لم تعصنِ به فقال: ياربِّ أنَّى لي بذلك؟! – وكون موسى عليه السلام يحتاج إلى شفاعة الشفعاء من باب أن حسنات الأبرار سيئات المقربين، والشفاعة شفاعتان: شفاعة من أجل أصل النجاة، وشفاعة من أجل رفع المنزلة، فمن كان فوق النبي موسى عليه السلام شأنا من أنبياء الله يصح أن يكون شفيعا له من أجل رفع الدرجة – فقال: ادعني على لسان غيرك”(1). استشفع بدعاء على لسان غيرك لي.

عن الصادق عليه السلام:”كان إذا حزنه أمر جمع النساء والصبيان ثم دعا وآمّنوا”.
الإمام عليه السلام يستشفع بضعف الصبي عند الله.

لا شفاعة لغير الله:-
(قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) 44/ الزمر.
نقرأ هنا عدداً من الآيات تحصر الشفاعة في الله، ونقرأ نصوصا أخرى تعطي الشفاعة لغير الله، وهذا ما يرجأ الحديث فيه إلى وقت آخر.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وشفِّع فينا وفي إخواننا المؤمنين والمؤمنات رحمتَك وكرمَك، ولا تحرمنا من فضلك وغفْرك، ولا تقابل سيئاتنا بعقوبتك، ولا تردَّ أكفَّنا خالية من فيضك.

اللهم أَكفّنا الضارعة إليك املأها بعطائك، وعيوننا المتطلعة إليك أقرَّها بنوالك، وأسبغ علينا النعم، وادفع عنا النقم، واجعلنا ووالدينا وأرحامنا وجيراننا وكلّ من كان له حق خاص علينا من أهل ملَّتك من أهل رضوانك وجنتك والكرامة لديك يا كريم يا رحيم.

بسم الله الرحمن الرحيم،
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)

الخطبة الثانية

الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والتفضُّل والإنعام، والمغفرة والإحسان، الذي وسِع جودُه أهلَ طاعته ومعصيته، وعمَّ حفظُه من آمن أو كفر به، ووعد بحسن التوبة على من أساء إليه عند أوبته، وشكر من أطاعه بتوفيقه وهدايته، وجزى بالكثير أهلَ الطاعة من عباده لتفضله، ولم يجزِ بالسيئة إلا مثلَها بعدله ورحمته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله نقَّاه وهداه واصطفاه وأجزل في إنعامه له وإكرامه، كما أخلص هو لربه العظيم في خشوعه وخضوعه. صلَّى الله عليه وآله وسلَّم كثيراً.

عباد الله أوصيكم ونفسي المُشقيةَ لي بتقوى الله القائل وهو الغني الحميد(… وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) 194/ البقرة. فمن أراد أن يكون الله سبحانه معه يكشف عنه الكرب، ويُفرّج الهمّ، ويدفع الشدَّة، ويحميه من الضائقة، ويكفيه من الضلال، ويتولى أمره كلّه باللطف الوفير، والرحمة الواسعة، والتدبير الحاني، والإحسان الجميل فليتقِ الله، وإن يكْفُر به فلا دافع له منه، ولا منقذ له من غضبه، ولا رادّ لنقمته.

والتقوى تحتاج إلى مقاومة في طلبها، ولكنها مُلِذَّةٌ بعد اكتسابها، وما يجعل أمرها اليوم صعباً بالغاً في بدايتها ما عمَّ من سوء الجاهلية الجهلاء في الأرض، ومثَّل ضغطاً هائلاً على النفس في التمسك بهُداها. وليس معذوراً من يَرمي بنفسه متعمداً في مستنقعات الجاهلية، ومواطن الفتنة، وموارد السقوط، ومَثارات الشهوة فيفقدُه ذلك قدرته على التقوى، والتحلّي بالعِفَّة والنزاهة، والاستقامة على الطريق.
اللهم اجعلنا وإخواننا وأخواتنا في الإيمان ممن يسمع القول فيتبع أحسنه، ويقدر على الفعل فيأخذ بأكرمه، ولا يختار إلا ما يوافق التقوى مما هو أحب إليك ربّنا وأرضى.

اللهم صل وسلم على عبدك البشير النذير، والسراج المنير، شمسِ هدى الإله، الصادق الأمين، ونبيك الكريم محمد وعلى آله الطاهرين. اللهم صل وسلم على الولي التقي، أمير المؤمنين علي. اللهم صل وسلم على كريمة الرسول، فاطمة الزهراء البتول. اللهم صل وسلم على إمامي الهدى، والحجة على أهل الدنيا، الرضيين الزكيين الحسن بن علي وأخيه الحسين. اللهم صل وسلم على أئمة المسلمين، المتقين المعصومين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري الهداة الميامين. اللهم صل وسلم على العالِم القائم، سوط عقابك على الطاغي والظالم، محيي الدين، وناصر المؤمنين، المنتظر والمؤتمن محمد بن الحسن.

اللهم عجل فرجه، وسهِّل مخرجه، وانصره نصراً مبيناً، وافتح له فتحاً يسيراً، وأكرم عطاءه، وضاعف أجره يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.

اللهم الموالي له، المناصر لقضيته، الممهِّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والعاملين في سبيلك أيِّدهم، ووفقهم لما به عز الإسلام ورضاك، وظهور المؤمنين وثوابك يا قوي يا عزيز، يا عليُّ يا عظيم.

أيها المؤمنون والمؤمنات:
قد تقدم الحديث في هذا المكان الشريف وغيره لأكثر من مرة بشأن تدخُّل المجلس الوطني في مسألة الأحوال الشخصية بالتقنين لها، وما سيؤدي إليه ذلك من خروج على ثوابت مذهبية خاصة، وإسلاميَّة عامَّة، وما ينتجه من فساد في الأعراض والأنساب على كل من الصعيدين، وقد ذكرت لذلك دلائله وأمثلته الكافية، ولكن الحملة المخطّط لها، والمستهدفة مواجهة الشريعة في آخر مساحة متروكة لها من حياة المجتمع المسلم على مستوى التقنين – وهي مساحة ضيقة – والإصرار على إقصائها عنها تتطلب استمرار الطرح القويّ لهذه المسألة من جميع من يحرص على دينه وعرضه، والإصرارَ الشديد على إبطال المحاولة المذكورة ومواجهتِها بكل حزم، وإلا أثِم الكل، وحقّت علينا جميعاً كلمة العذاب.

والحديث عن الموضوع الآن في النقاط التالية:-

1. الحديث عن الأحوال الشخصية حديث في جانب منه عن زواج صحيح تحِلُّ به المرأة للرجل، أو باطل تكون المرأة معه عليه حراماً، وطلاق هو كذلك، وأبناء وبنات شرعيين أو غير شرعيين. وكلما خرج الزواج أو الطلاق عن شيء من أركانهما أو شروطهما المحدَّدة في الشريعة كانا باطلين، وكل ما ترتب عليهما فهو باطل.

2. أحكام الشريعة إما أحكام منصوصة لا خلاف عليها، أو أحكام اجتهاديَّة؛ وليس لكل ذلك من مصدر غيرُ الكتاب والسنة وما أوصل إليهما، أو اجتهاد المجتهد الكفؤ على ضوئهما، ولا تعويل على اجتهاد الكفؤ من الناحية العلمية من دون العدالة.

3. المجلس الوطني في الدورات الانتخابية المختلفة قد يكون من بين أعضائه المؤمن والفاسق، والمسلم واليهودي والنصراني والبوذي، والمعتقد بدين وغير المعتقد بدين. وتوقُّع أن يضم المجلس في بعض دوارته ولو فقيهاً واحداً كفؤاً عادلاً توقع نادر، ولو تمّ فهو صوت واحد ضائع.

4. أقلُّ ما يقوم به المجلس من تصرف على طريق التقنين لهذه المسألة أن يختار من فتاوى المذهب الواحد أو المذاهب المختلفة ما يوافق الأكثرية من آراءِ وأذواقِ أعضائه. وفي ذلك جور كبير على العلم والإسلام والإنسان إذ بأي وجه يُحكّم رأي الجاهل في رأي العالم؟! والذوق غير الإسلامي وإن كان من مسلم في الإسلام؟! وأذواق النَّاس مطلقاً في ما هو نصّ أو ثابت بالعلم؟!

والذوق غير الإسلامي قد يتواجد بشدّة في بعض الدورات نظراً لما عليه دِقة الفقه وبُعد أعظم شرائح المجتمع عن الذوق الفقهي التخصصي، واختلاط الثقافات، ودخول الأهواء والميول الغربية في تلوين الذوق عند هذه الشرائح.
ولا يؤمَن أن تسود المجلس في يوم من الأيام نوعية تُصوِّت مع ما يخالف الشريعة نصّاً وصراحة بحجة أن الدستور لا يحصر مصادر التشريع في الإسلام.

وبهذا يمكن أن نكون نصارى أو يهوداً أو لا دينيين أصلاً في زواجنا وطلاقنا وما يترتب عليهما من تفرُّعات.
وقد تستبعد هذا كثيراً، ولكن عليك أن تلتفت إلى أن أصوات التغريب لهذه المساحة من التشريع وتهجيرها عن الإسلام ترتفع منذ الآن بكل جرأة، وتبذل كل ما في وسعها لتحقيق هذه النتيجة.

والمهزومون فكريّاً وسلوكياً، والمبهورون بالحياة الغربية الجاهلية يملكون من فرص التشويش على الرأي العام، والتضليل الإعلامي، ومن مواقع النفوذ الكثير الذي يساعدهم على الوصول إلى مثل هذه الغاية القذرة.

5. نسأل ماذا يراد للتشريع في دائرة الأحوال الشخصية أن يكون؟ شيعيّاً فقط؟! إذاً أين السنة مذهباً وحقّاً؟ سنّيّاً فقط؟! إذاً أين الشيعة مذهباً وحقّاً؟ من المذهبين معاً؟ من اختار هذا المذهب على ذاك لا يساوي بينهما. والإمامية الذين يرون أن الإمام جعفر الصادق عليه السلام معصوماً دون غيره من رؤساء المذاهب الإسلامية الأخرى لا يمكن لهم أن يتعبَّدوا بخلاف ما هو الثابت عنده، ويرون أن لو أُكرهوا على ذلك ظلماً وخارج الدين والدستور لكان زواجهم ليس بزواج، وطلاقهم ليس بطلاق. وهذا شأن من لا يرى التعبُّد بمذهب الإمام جعفر الصادق عليه السلام لو فُرض عليه رأي الإمام جعفر.

وإذا أُريد للتشريع أن يلغي كل المذاهب ويقفز عليها ويأخذ بالرأي الوضعي فالمصيبة شاخصة بكلّ قوَّة ولا تحتاج إلى بيان.
ونسأل ما معنى أن يشرّع الأعضاء الشيعة في المجلس للسنة فيما يتصل بفقههم ويختاروا لهم؟! أو أن يشرّع السنة للشيعة ويختاروا لهم؟! وما معنى أن يشرّع اليهودي والنصراني والبوذي والعلماني داخل المجلس لزواج المسلمين وطلاقهم، ويختار لهم؟
ونسأل: أين الحرية الدينية التي يكفُلها الدستور والميثاق الذي صار نظام الحكم كله قائماً عليه؟! وأين حرية الشعائر للمواطن المكفولة فيهما؟!

وإذا جاز لأحد أن يفرض عليك أحكام زواجك وطلاقك المخالفةَ لدينك ومذهبك جاز له أن يفرض عليك أحكام صلاتك وصومك وحجك وكل عباداتك. وهل يصح هذا في عقل أو دين أو ضمير أو دستور أو عرف سليم؟!

هذه وقفة بيان حسبما يتسع له المقام، وأما عن الموقف العملي فبيانه في الآتي:

1. لا مفرّ لمتعبد بالشريعة من شيعة وسنة من الرفض القوي المشدَّد المتواصل لهذه النقلة الهائلة الخطيرة عن خط الشريعة المقدَّسة، والسكوت مشاركة في هدم الإسلام.

وأقول للأخوة السنة قولي للشيعة: إن دخول تشريع الأحوال الشخصية في المجلس الوطني، وإخضاعَه لنظره سيخرجكم من مذهبكم في هذه المساحة ولو من بعد حين، وإن كنتم لا ترون ذلك فإني أأسف جداً لهذه الغفلة المهلكة.

2. أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، ومن أجل أن يفهم قلة من هواة الحياة الغربية هنا هُوية هذا البلد لابد من التوقيع على الرفض لدخول الأحوال الشخصية وأحكامها الشرعية في نَظَر المجلس الوطني وإخضاعها لحكمه أو حكم أي مؤسسة وضعية أخرى.

وإذا لم تتجاوز توقيعات الرجال والنساء على هذا الرفض مرتبة عشرات الألوف لتدخل في مرتبة مئات الألوف فالأمر مخزٍ جدّاً بالنسبة لهذا البلد الحبيب العريق في الإسلام، وسيعني ذلك تخلّياً عامّاً عن الإسلام. إذا لم تتجاوز التوقيعات مئات الألوف ولم يوقّع كل مسلم ومسلمة حتى العجوز فهذا يعني أننا نقول للإسلام لا، والقولة عمليّة أكثر من كونها قولة سكوتية، لأن سكوتكم تنفيذ لهذا الأمر الخطير.

ويصاحب حملة التوقيعات – والكلام مع أئمة الجماعة والجمعة وكل المحاضرين وكل الوعّاظ والمرشدين – توعيةٌ عامة من منابر الجمعة والجماعة وغيرها لبيان خطورة النتائج المترتبة على التقنين لهذه المسألة من المؤسسة الوضعية والمتمثلة في فساد الدين والأعراض والأنساب، ومسخ المجتمع ومعاداة الله ورسوله (ص)، وفي بيان ما يُحتِّمه واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

3. لا يأتي دور المسيرات السلمية المعبّرُ عن هذا الرفض إلا في المرتبة الثانية بعد مرتبة التوقيعات… وستكون المشاركة فيها واجب كل مسلم ومسلمة يحترمان قدسية الشريعة في البحرين.

4. لا تجوز الاستجابة من أي مكلف شرعاً لتشريعٍ يجعل ما ليس بزواج في الشريعة زواجاً، وما ليس بطلاق فيها طلاقاً، ولا يُتعامل مع هذا التشريع تعاملاً إيجابيّاً أبداً، وكل الأحكام المترتبة عليه أحكام باطلة ولا يصح للمسلم أن يبني عليها، أو يسلِّم بها، أو يقضي على أساسها.

5. وظيفة التقنين للأحوال الشخصية أصلاً وتفصيلات؛ النظر فيها شأن أكابر الفقهاء من كل مذهب على حدة.

6. لا بد من تحسين الوضع القضائي، واعتماد الدرجات العالية من الكفاءة الفقهية والفنية والنزاهة في تعيين القُضاة، مع التركيز على حرية القضاء والبُعد به عن ممارسة أي ضغط من الضغوطات السياسية أو غيرها التي يمكن أن تنحرف بسير العدالة على يده.
نعم لابد من الرد إلى الحكم الشرعي، والانضباط الإداري.

اللهم صلّ وسلم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولأهل الإيمان والإسلام ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا وأصدقائنا ومن كان له حق خاص علينا من مؤمن ومؤمنة، واسلك بنا طريقاً جَدَدَاً، ولا تعدل بنا عن الحق أبداً، ولا تسلط علينا من شرار خلقك أحداً، ولا تجعلنا نبتغي من دونك ملتحداً يا رحمن يا رحيم، يا عزيز يا حكيم.

“إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)”النحل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – عن بح ج93 ص 342، 360،390.

زر الذهاب إلى الأعلى