كربلاء والواقع ( آية الله قاسم )

كربلاء والواقع

وكربلاء بمن تقابلا فيها سِجلٌّ حافل بمواقف الحق والباطل، وشاهد صدق وحق على عظمة الدين وأهله، وخسة الفُسق وأهله. وهي ساحة غنية بالدروس لمن أراد أن يتعلم الحياةَ على ضوء الإيمان، ويدخل في الخالدين ممن يُخصبون الحياة، ويقيموا عوجها، وينيروا الدرب ما بقوا وبعد الرحيل. وكربلاء تجيبنا على الأهم من أسئلةٍ الواقع، وتضعنا على الطريق الصحيح، وتبعثنا أحياءً إرادة وضميراً، وعزة وكرامة، وصموداً بعد الموت.

والواقع عند الرساليين وأمّةِ الإيمان ينشد إلى الماضي الحجة فيما هو المطلق والكليُّ من الأحكام، والرؤى، والمفاهيم، ودلالات المواقف، ولا يتحرك منفلتاً في هذه المجالات عن المسار الواحد الذي يربط بين كل حلقات التاريخ الإيماني، ويحقق لها تواصلها، وانتظامها على طريق الهدف الكبير.

يُصاغ الواقع دائماً عند الأمة الأصيلة البريء ماضيها عن اعتناق الخرافة، والساقط من الفكر والسلوك، والإعتساف على ضوء ثوابت الماضي الطليقة من حدود الزمان والمكان، وبالاجتهاد في دائرة المتغيرات التي تختلف من زمن إلى زمن، ومن مكان إلى مكان. والماضي الذي بنته يد المعصومين عليهم السلام هو ماض قدوةٌ في ثوابته وضوابطه وكليَّاته، ما مسَّه جهل ولا شيطان ولا هوى ولا قصورٌ ولا ضلال، أمّا المتغير فهو على عصمته على أيديهم عليهم السلام لم يُقدِّموه حجة مطلقة لا تختلف مع الزمان والمكان في التغيرات والتحولات العارضة عليهما، ولذلك يبقى محلاً لتجديد الرأي والاجتهاد.

ومن يصوغون الامتداد الصحيح للإسلام في الأزمنة المختلفة في غياب المعصوم عليه السلام هم المسلمون عقيدة، وفقها، وتقوى من أهل الخبرة بتغيرات المكان والزمان، والعارفون بفرق الثابت والمتغير، القادرون على التنظير للواقع على خط الإسلام في ضوء كلِّ معطياته.

وإحياء عاشوراء ليس مجرد عملية تعبدية محضة غير منظور فيها مدى ونوعيةَ التأثير على الواقع، لذلك لا بد من التناسب بين أساليبها وآلياتها مع أجواء الواقع ومقتضياته ومتطلباته لتعطي التأثير المطلوب نوعاً وكمّاً، من دون أن تتسبب في انعكاسات سلبية تضر بأهداف المناسبة، فيجب أن يركّز كثيراً على نقاء الأسلوب، وفاعلية الآلية، والتقائهما مع الموافقة الشرعية، واستبعاد ما لا يعطي دوراً نافعاً للإسلام والقضايا الإسلامية، فضلاً عما يشغل عن الاهتمامات الرسالية كالطبول والموسيقا حتى على تقدير إباحة شيء من ذلك، أو يُسيءُ إلى صورة الذكرى عند الآخرين ويحمِّلها ما لا تحتمل من غير أن تكون في هذه الممارسة أهميّةٌ ترجحُ ذلك الضرر.

ومن ثابت كربلاء الذي لا بد أن يستهدي الحاضر به، ولا يمكن له الانفصال عنه:-

1. تحمل مسؤولية الإصلاح والتغيير للواقع الفاسد في الأمة وعدم التنصُّل عنها، ويشهد لذلك السيرة المستمرة من المعصومين عليهم السلام بما يتجاوز في النظر الدقيق الدلالة الاستحبابية لاشتراك كل المعصومين في هذه السيرة وعدم وجود موقف مضاد واحد في سيرتهم عليهم السلام. وأكثر من ذلك دلالة على الوجوب النصوص المتواترة كتاباً وسنّة. وقد انصبّت كلمات الإمام الحسين عليه السلام ومواقفه على هذا الاتجاه بصورة مركّزة وقدّم أبلغ الدروس في هذا المجال قولاً وعملاً.

2. المستهدَف دائماً هو الإصلاح الشامل للإنسان والحياة بكل أبعادهما، والإصلاحات الجزئية مقدِّمة له، ولا يصح أن تشغل عنه، أو تؤثر على هوية الأمة وانتمائها. ونستهدي هنا بما جاء عن الإمام الحسين عليه السلام “…. وإنما خرجت لطلب للإصلاح في أمة جدي”، فهو إصلاح مطلق وليس لحيثية معينة، ولا لعلاج مشكلة خاصة فحسب. وإذا كان التصدي في موقفه عليه السلام للانحراف السياسي، فإنما كان بهدف المقدمية من أجل الإصلاح الشامل الكامل.

3. إسلامية المنطلق والشعار والآلية والمعالجة “رضا الله رضانا أهل البيت”.

4. الإسلام فوق كل شيء، وقبل أيّ شخصية، وأيّ بيت؛ فالمتقدم لإنقاذ الإسلام في كربلاء بدمه وأهله هو الحسين عليه السلام سبطُ رسول الله (ص) الذي لا ثانيَ معه على الأرض، وهو الإمام المعصوم محلُّ حاجة العالم كله، والبيت الذي تعرض للأذى والترويع والسبي من أجل الإسلام هو أكرم بيت في الدنيا وأطهر بيت.

5. النصر الذي يُضحَّى من أجله لا يكون دائماً من النصر القريب والماديّ “من لحق بنا استشهد، ومن لم يلحق بنا لم يدرك الفتح” فمن الثابت من دروس كربلاء وحدة الأمة ومسؤولية الحاضر عن المستقبل ولو البعيد.

6. الدعوة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، والحوار الواعي الهادف القوي هو المقدَّم دائماً. والحسين عليه السلام ظل يحاور عمر بن سعد حتى ليلة العاشر كما يذكر التاريخ، وقد مارس عدد من صحبه الكرام التذكير والوعظ والحوار مع الطرف الآخر.

7. لا يصح للمسلمين في أي زمن أن يسكتوا على الفساد السياسي لأنه من الناحية العملية رأس كل فساد، ولا إسلام حقا إذا استشرى الفساد السياسي. “إذا كان الوالي مثل يزيد فعلى الإسلام السلام”.

8. لا يكفي للدخول في أي معارضة أنها تواجه مفسداً ما، وتتحرك ضده، فلو كانت تستبدل فسادا جديدا بفساد قديم لم تكن المعارضةَ المطلوبة، ولا يصح متابعتها، وإنما معارضة الفساد التي تستحق المناصرة هي التي تأخذ بالأوضاع إلى الصلاح بعد فسادها. “لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا” فكلما كانت معارضة يزيد بيزيد مثله أو أخس لم تكن شرعية، ولا يتأدى بها الواجب، ولا تستحق المتابعة.

وإذا كانت مسؤولية الإصلاح ثابتة دائمةً فإن أساليبها وآلياتها وخصائصها المكانية والزمانية وما تقتضيه هذه الخصائص؛ من المتغير الذي يتطلب نظراً جديداً، ودراسة موضوعية خاصةً به. وهذا لم يورث من المعصوم عليه السلام إلا في حدود ضوابطه الكلية العامة.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وأدخلنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين في زمرتهم، وأخرجنا من عدوهم، واجمع بيننا وبينهم في رحمتك يوم نلقاك، واغفر لنا ولجميع أهل الإيمان والإسلام ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ومن كان له حقٌّ خاص علينا منهم يا كريم يا رحيم.

آية الله الشيخ عيسى أحمد قاسم
خطبة الجمعة (101) 4 محرم 1424هـ 7-3-2003م 

زر الذهاب إلى الأعلى