خطبة الجمعة (99) 19 ذي الحجة 1423هـ – 21-2-2003م
مواضيع الخطبة:
الإسلام وتشجيع الزواج – عيد الغدير والولاية – المسيرات الرافضة للحرب – حول الخلية المكتشفة في البحرين
فإننا نؤكد على احترام حقِّ المواطن وإن كان في حالة اتهام، وعدم تعريضه للتعذيب أو النيل من سمعته بلا قانون، وأن يحصل على محاكمة عادلة، ويتمتع بفرصة دفاع كافية عن نفسه بالأصالة أو الوكالة
الخطبة الأولى
الحمد لله القديم بلا حدوث، الباقي الدائمِ بلا فَناء، لا صُنع إلا صنعُه، ولا تدبير إلا تدبيرُه، ولا تقديرَ إلا تقديرُه. كلُّ الأشياء في حدوثها وبقائها مرهونةٌ بإرادته، سالكة دربها بتقديره، وصائرة إلى غاياتها بتدبيره.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تسليماً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي بالتقوى وهي ما أوصى به الله عباده من أهل كتبه “وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا” (131)/ النساء. وهي خير ما تواصى به العباد، وخير وصيّة عُقبى. ففي نهج البلاغة “أُوصيكم عباد الله بتقوى الله فإنها خير ما تواصى العبادُ به، وخير عواقب الأمور عند الله” نهج البلاغة خ173. وحذار من تجمّد النظر على الطريق، والتلهي بمغرياته، ومكدِّراته بما يفسد العاقبة، ويُسيء الغاية. فإنها على أهميّتها لو كانت بعيدة ما كان ينبغي أن تُنسى، فكيف وموافاة طلائعِها قد لا يفصل عنها إلا أنفاس، أو نَفَسٌ واحد يكمُل أو ينقطع؟!
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، واجعل الآخرة نُصْبَ أعيننا، والإعدادَ لها محل جدِّنا، ونصيبنا منها خير ما يسعدنا يا رحيم يا كريم.
أما بعد أيُّها المؤمنون والمؤمنات فهذه بعض أمور تتصل بمسألة الزواج، وليست دراسة مستوعبة أو شبه مستوعبة، والمقام ليس مقام تطويل ولا تحليل ودراسة معمّقة مدقّقة.
1. كل الدوافع التي يغنى بها كيان الإنسان معنوية كانت أو مادية لا يستغني عنها حسبما أُريد له من طبيعة ودور وهدف، وهي نِعَمٌ إلاهية لا تنكر، ولا يعاب بها هذا المخلوق، والفاقدُ لأحدها من الناس يعتريه شعورُ النقص، ويصيب وظائف حياته الخلل، وقد لا تستمر له الحياة، أو تكون حياته من البِدائية بما يلحقه بالحيوان. فالإنسان بلا خوف لا يعيش، بلا جنس لا يستمر نوعُه، بلا ميل للطعام والشراب لابد أن يموت في أيام، بلا حبٍّ للاستطلاع والعلم أصلاً يكون هو والبهيمة سواء، بلا عاطفة أبوّه ولا أمومة يُعرِّض نسله للهلاك.
ومن عرف من ولده نقصاً في جهاز الجنس أو دافعه همَّه أن يخلِّصه من نقصه، ويبذل ما يبذل رفعاً لهذا الخلل في خَلْقِه.
ومسؤولية الانحرافات الكثيرة المتعبة للأفراد والمجتمعات، وهي مرتبطة بجملة من الدوافع المادية كحبِّ التملك، والجنس يتحملها سوءُ التعامل مع هذه الدوافع، ونوعُ المنهج الذي يحدِّد أساليب هذا التعامل، ويكيِّف خط الاستجابة لها، ويُوجِد التوازن بينها، أو يُعطي لبعضها الانفلات، أو يمارس الضغط المضاد لها بما يُفجّرها، أو يحوِّلها إلى عقد نفسية قاتلة، أو يكون قادراً على توجيهها التوجيه الناجح على طريق الأهداف السامية الكبيرة للإنسان، ويضعها عند الحدِّ المعتدل، ويخلق القدرة وفرص التسامي بها في حالات الضرورة المانعة عن تلبيتها التلبية المباشرة التي تشبعها.
2. تجدون الإسلام لا يسترجسُ أي دافع من الدوافع الطبيعية عند الإنسان، وإنما يحتضن بمنهجه القويم كلَّ الدوافع، ويوجِدُ الأنظمة الخاصة التي تتصل بهذه الدوافع واحداً واحداً في إطار نظامه العام الذي يغنى بالتنسيق بين أبعاد الإنسان كلها ليكون الإنسانَ المتناسقَ المتكاملَ في شخصيته، السائر على هدىً في طريق الهدف المرسوم لحياته من كماله وسعادته.
ونظام الزواج والأسرة وما يتّصل به من أحكام وأخلاقيات وحقوق وواجبات ملتفتٌ إلى احتضان دافع الجنس لما له من أهمية كبيرة في إسعاد الحياة وإشقائها، وفي استقامة الإنسان وانحدارته. والآيات تمتنُّ بجعل هذا الدافع، وتكرم شأنه “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” (21)/ الروم، “وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً…..” (38)/ الرعد.
إذن لا يحق لأي مؤمن أي يستقذر هذا الدافع في ابنه أو بنته وحتى لو وُجد قويَّاً، وإنما المحاولة أن يعمل على الاستجابة الطبيعية الحلال له ما أمكن، وربطه بالأهداف الإلهية الطاهرة العالية، وحيث يتعذر الإشباع المباشر الحلال، لا بد من العمل على صرف الطاقة فيما ينفع، والتقليل من غلوائها باتباع عدد من التعاليم الشرعية والعلمية في هذا المجال.
وكيف يستقذر الشخصُ ما ابنه أو بنته ما لا يستقذره من نفسه، وكيف تستقذر من إنسان أمراً لا اختيار له في إيجاده، ولا يجوز شرعاً أن يُنهِيَه من وجوده؟! نعم المسؤولية هي أن لا نقتحم الأجواء، وأن لا نأتي بالأمور التي تؤجج فينا الدافع بما يفقدنا الصبر عن ارتكاب المحرم، ويقلل من حصانتنا، وأن نصبر عند الضرورة لأن الأمر وإن ثقُل لا يصل إلى حدِّ القهر.
3. يطلب للشابّ وهو يتوق إلى الزواج أن يتذكر متطلباته ونفقاته، وما يترتب على تكوين الأسرة من مسؤوليات إنسانية ومالية تكفَّل ببيانها الشرع، وأن لا يقصِّر أبداً في إعداد نفسه لتحمّل هذه المسؤوليات، وأن لا يتوانى عن طلب العمل أو يكْسَل فيه، فإنه ليس من الممكن في الأكثر أن يتحمل والده مؤونة أسرته الجديدة، ولو أمكن ذلك فإنه ليس من المسعد للولد ولا أسرته أن يُعال من غيره، فهذه الحالة حالة استثنائية لا يُصار إليها إلا عند الضرورة.
ويُطلب للآباء أن يُعينوا أولادهم معنويّاً وماديّاً على الزواج وتحمُّل نفقاته، ويكفي أن يرتبط الولد بالعمل، أو يكون على طريق الارتباط به لأن يبادر الأب بتحصين ولده، وبذلِه لزواجه.
ولنسمع عن ثواب من زوَّج أخاً له في الله مطلقاً، فضلاً عن أن يكون هذا المؤمن ولداً أو رحماً أو جاراً “من زوَّج عَزَبَاً كان ممن ينظر الله إليه يوم القيامة”(1) عن الصادق (ع)، وتعرفون قيمة نظر الله عزّ وجل للعبد نظر رحمة ورأفة ولطف وعناية، “من زوَّج أخاه المؤمن امرأة يأنس بها، وتشدّ عضده، ويستريح إليها زوّجه الله من الحور العين، وآنسه بمن أحبَّهُ من الصدّيقين من أهل بيته وإخوانه وآنسه به”(2) عن الرسول (ص).
ومن الغريب جدّاً أن يبلغ الشاب من العمر عشرين سنة وأكثر، ويجد مكسباً معيّناً، ويُعلن عن رغبته في الزواج فيعترضَ والده هذه الرغبة ويرى الوقت مبكّراً، أو يقبضَ يده عن مساعدة ولده مع قدرته واضطرار الولد إلى الزواج. ألم نقرأ من الإسلام شيئاً في هذا الجانب أم قد رغبنا عن الإسلام، وكفرنا به عملاً، وقدّمنا عليه الثقافة المستوردة التي تنطلق من بهيمية أهل الدنيا، ومن خطط المفسدين في الأرض؟!
من المنقول عن الرسول صلَّى الله عليه وآله “ما من شاب تزوّج في حداثة سنِّه إلا عجَّ شيطانه: يا ويله، عصم مني ثلثي دينه، فليتق اللهَ العبدُ في الثلث الباقي”(3)، وعنه صلَّى الله عليه وآله “من أحبّ أن يلقى اللهَ طاهراً مطهّراً فليلقه بزوجه”(4)، وفي حديث ثالث للرسول (ص) “شرار موتاكم العزّاب”(5).
4. يتوفر الزواج المبكر على ميزات منها:-
1. يسدُّ باباً مهمّاً من أبواب الشيطان للانحراف بالمؤمن عن دينه، وسقوط شخصيته.
2. يسدُّ باباً خطيراً من أبواب القلق والتأزُّم والعقد النفسية التي قد لا يُتدارك أمرها مع تأخر الزواج.
3. الإحساس بمسؤولية الأسرة ماديّاً ومعنويّاً يدفع إلى تركُّز الشخصية وعدم تسيبها، وترك التكاسل في طلب الرزق، والنشاطِ في العمل، وربما دخل الإقبال على العمل، وعدم التساهل فيه تحت قوله صلَّى الله وآله “اتخذوا الأهل فإنه أرزق لكم”(6) فإنَّ مع ما يقرره الحديث على حدّ نصوص أخرى في هذا المجال مِنْ تكفُّل الله عزّ وجل بعون المتزوج طلباً للعفاف عمَّا حرم الله، يُلحظ أن التأهل يدفع إلى العمل. وعن التكفل الخاص من رازق العباد لمن تزوج لوجه الله نقرأ هذا الحديث الوارد عن الرسول الأمين (ص) “حقَّ على الله عون من نكح التماس العَفاف عمّا حرّم الله”(7) ومعنى حقَّ على الله أنه سبحانه أثبت على نفسه تفضّلاً وتكرّماً منه أن يلطف بعبده.
4. يساعد الحضور القويُّ المؤثر للعواطف في الزواج المبكر، وقبل التوغل في التحليلات العقلية والدراسة النقدية المركّزة عند كلٍّ من الزوجين للطرف الآخر على خلق التمازج العاطفي الشديد بين الزوجين مما يتيح فرصة تفاهم أكبر حينما تأتي المشكلات والاختلاف في وجهات النظر من بعد حين، ويكون الصبر من كلا الطرفين على الآخر أقرب، والتفكير في الافتراق أبعد بحكم الإنشداد الكبير والارتباط المترسِّخ.
5. الزواج المبكّر يُقلل من ظاهرة العنوسة التي تبرز بوضوح عندما يتأخر سنُّ الزواج عند الشاب فهو في هذه الحالة لا يتزوج ممن تقرب من سنِّه، بعكس مما لو كان تزوجه في سنِّ الثامنة عشرة مثلاً فإنه يستسيغ أن يتزوج بنت السادسة عشرة. وكلما تأخر سنُّ الزواج عند الشاب فاتت عدداً من الفتيات فرصة الزواج بدرجة أكبر.
6. وعن تربية الولد فإن الشاب أكثر تفرّغاً للإقبال على ولده، وأقربُ للانفتاح عليه، والتصابي له، والاقتراب من أحاسيسه من الكهل الذي تكون الحياة قد شغلته كثيراً بمشاكلها، وبدأ يميل بشدة إلى التعقُّل، والابتعاد مسافة واسعة عن مرحلة الطفولة والصبا وعالمهما المليء بخصائص تنفصل عن خصائص عالم الكهولة والشيخوخة. وكلما كبُر الوليد كبرت تجارب أبيه وخبرته بما يغطّي حاجة التربية إلى هذا الجانب.
ثم إنَّ الخوف على الرزق لو كان له أن يُوقف قِطار التزويج، لكادت تنقرض قبائل وشعوب بكاملها. واللهُ الخالق العليم الحكيم أعلم بما يلامس قلوب عباده حتى الكثير من المؤمنين من هذه الهواجس وقد جاء قوله عزّ من قائل “وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم” ملامساً هذه الوساوس محذِّراً من الانسياق وراءها بما يعطّل حركة النسل، ويعقِّد مسألة الزواج، ويوجد كثيراً من الأزمات
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، واجعلنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ممن يستنُّ بسنتهم، ولا يستغني بمناهج الأرض عن منهجك ومنهجهم، ولا يُقدِّم أهل البدع عليك ولا عليهم. اللهم اغفر لنا ولجميع أهل الإيمان والإسلام، ومن كان له حقٌّ خاصٌّ علينا منهم ووالدينا وأرحامنا وجيراننا يا كريم يا رحيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3))
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا يُطلب الخيرُ إلا من عنده، ولا تُنال النجاةُ إلا به، ولا يُستغنى عن رحمته، ولا مفرَّ منه إلى غيره، وإليه اللجأُ مِنْ كلّ مَنْ سواه، وبه الغنى عن كلِّ ما عداه، ومن عداه. مهربُ الهاربين، وملجأُ اللاجئين، وغياثُ المستغيثين، وربُّ العالمين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له. شهادة تتحملها كلّ الخلائق، وينطق بها لسانُ الحال لكل الكائنات، وتؤديها الأرضون والسماوات، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله؛ أرسله بالنور المبين، والنهج القويم، رحمةً للعالمين، وهدى للموقنين. صلَّى الله عليه وآله الطاهرين.
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله، وأن نتخذ طريقه طريقاً، وأولياءه أولياء، وأعداءه أعداء، وأن نخرج من كلِّ شيء لطاعته، وأن لا نخرج من طاعته لشيء، فلا يُتركُ الغنيُّ للفقير، والقويُّ للضَّعيف، والباقي للزائل، والمالكُ للملوك، والكاملُ المطلق، للناقص المحدود. فلا يرضَ أحدُنا لنفسه خاتمةً غير خاتمة الإسلام، ولا مصيراً غير مصير أهل الإيمان، وما فعل أحدٌ بنفسه سوءاً كما يفعل بنفسه من مات على غير الإسلام، وطلب غاية غير غاية الإيمان “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ” (102)/ آل عمران.
وتقوى الله حقَّ تُقاته هي طريق المرء لأن يموتَ مسلماً، غير كافر، ولا منافق، ولا فاجر، ولا فاسق.
اللهم ألزمنا جانب التقوى، واجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، اللهم صلّ على البشير النذير، والسِّراج المنير، نبيك وحبيبك المصطفى محمد وآله الشرفاء. اللهم صلّ وسلّم على وصيِّ رسولك بلا فصل، ميزان الإيمان، وعديل القرآن؛ عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين. اللهم صلّ وسلّم على أمتك الصابرة العابدة، فاطمة المهديّة الهادية.
اللهم صلِّ وسلّم على الإمامين الرضيين الزكيين الحسن بن عليٍّ وأخيه الحسين. اللهم صلّ وسلّم على أئمة المسلمين، وحججك في العالمين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري عبادك الصالحين، وأوليائك المتقين.
اللهم صلّ وسلّم على سبب الرحمة، وسليل الأئمة، وإمام الأُمة منتظرها القائم، ومهديِّها العالم. اللهم عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً مبيناً، وبارك مقدمه، وضاعف مغنمه يا قوي يا عزيز، يا رحمن يا رحيم.
اللهم الموالي له، المعادي لعدوه، المناصر لمنهجه، الممهد لدولته والفقهاء الراشدين، والعلماء المتقين، والمجاهدين الناصحين لدينك، الباذلين مهجهم في سبيلك احفظهم وسددهم وأيدهم وانصرهم.
أما بعد يا أخوة الإيمان فأهنئكم بيوم الغدير الأغر، وبقائكم على عهد الولاية لله ولرسوله صلَّى الله عليه وآله ولأمير المؤمنين، وإمام المتقين علي بن أبي طالب عليه السلام. وهي ولاية شاملة لأمور الدنيا والدين، وتجمع بين الطاعة والمحبَّة والنُّصرة، وهي ثابتة لرسول الله (ص)، ووصيِّه عليٍّ عليه السلام بأمر من الله، وموضوعها العصمة في العلم والعمل والأكمليّة والأفضليَّة المطلقة في الناس. بل كما قد أثبتتها الوصية من الرسول (ص) لأمير المؤمنين أثبتتها للأئمة المعصومين من بعده عليهم جميعاً السلام.
والوظيفة الأم للإمام الشرعي، لا تختلف فيما عدا تلقّي الوحي عن وظيفة الرسول (ص)، وتتركز في تكميل البشر وتربيتهم تربية إلاهية رفيعة في كل أبعاد الحياة، ووضعهم على المسار العباديّ الواصل إلى الله سبحانه، وهو الصراط المستقيم. وتولي الشأن السياسي وتصريفُ أمور الأمة بُعدٌ من الأبعاد التي تقع على طريق التكميل والتربية الشاملة، والنهوض بمستوى الإنسان الذي يُسأل عنه الإمام، ويجب الانقياد إليه من أجله.
فخطُّ الوَلاية لحفظ الإسلام، والنأي به عن الخطأ والتحريف في الرأي والتطبيق، وصناعة الإنسان على ضوئه، ولوحدة الأمة واستقلاليتها وعزّتها وكرامتها وسَبْقها.
وهو بما يُمثِّل من نقاء الإسلام وحقانيته وربَّانيته وانفتاحه على المصالح الحقيقية لكل الشعوب والأقوام، لا بد أن يكون من أجل الأخوة الإنسانية العامة، والعدل في كل النّاس، والتربية القويمة لكل العالم، والسِّلم والأمن الشامل والكامل. فأطروحة الوَلاية بريئة من الضيق، والشُّحِّ والأنانيَّة والانغلاق، من التعصب الأعمى، من الصراع على المصالح الدنيوية، من الاستعلاء والاستكبار، من الحقد والانفعالات العدوانية كما هي براءة الإسلام وطهرُه ونقاؤه.
وكما أنَّ أزمات الأمة والعالم راجعة في أصلها إلى الانفصال عن هذا الخط، فكذلك لا يتم انعتاق العالم من أسر أزماته إلا بالعودة إليه.
وما كانت الأرض تشهد ما تشهده اليوم من حكم الهوى والفساد والفَوضى والاضطراب لو حفظت وصية رسول الله صلَّى الله عليه وآله في وليّ الله، والخليفة الحقِّ بعد الرسول صلى الله عليه وآله كما في موازين الكتاب، وضوابط السُّنة.
وعندما يتحقق النصر لمهديّ الأمة، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وتُشرق الأرض بضياء الإسلام، ونور ربِّها على يديه الكريمتين بفضل الله العظيم، سيتبينُ الناس مدى ما جنوه على أنفسهم، وما ضيعوه من هدى، وما خسروا من فلاح بتعطيلهم دور بيت النبوة والرسالة والإمامة كل هذا الوقت الطويل.
وعندئذ ستتحقق الدنيا أنَّ الإسلام بلا حدود أرضيَّة، وأن ولاته الحقيقيين، لا شرقيون ولا غربيون، ولامكّيون، ولامدنيون همّاً وأفقاً وسعةً ورحمة، وإنما هم للعالم كله، والإنسان على إطلاقه: لإنقاذه، سلامته، هدايته، رُقيه، دنياه وآخرته، وأنهم أولى النَّاس بالناس، وأشدهم رأفة بهم، وحرصاً على أن يبلغوا بهم الكمالَ، وتتحقق لهم السعادة؛ كانوا من بيض أو سود، من شرق أو غرب.
ولينعطف الحديث على المسيرات المليونية العالمية الرافضة للحرب المحتملة على العراق. وبرغم أن بعضها قد لا يكون منطلقها الانفتاحَ الواسع على هم الإنسان، من المنطلق الخلقيّ الكريم، إلا أنّ هذا المنطلق ليس غائباً في عدد منها.
وهذه بعض الملاحظات:
1. أنَّه لولا التربية الجائرة الممعنةُ في إفساد الشعوب، والتزويرُ الإعلامي، وطمس الحقائق لتفجَّرت الدنيا في وجه الطغاة الذين يتلاعبون بمصير الملايين في كل العالم.
2. أنَّ الشعوب المضلَّلة لم ينته في باطنها شعور الفطرة، وقيم العدل والحق والخلق الإنساني الكريم، ولكنها قد وصلت من حالة الركود والسبات بحيث لا تنبهها إلا الأحداث الجسيمة والكوارث الهائلة من ظلم الطغاة.
3. بما كان من فارق مخجل وغريب جداً بين المظاهرات في العالم العربي والإسلامي من جهة والتعامل معها من قبل الأنظمة، وما هي عليه في العالم الآخر إلى حد أن يوجد بين المتظاهرين هناك من هم من أقارب صرعى الحادي عشر من سبتمبر يُعرف تماماً أن موت الأنظمة في البلاد العربية والإسلامية قد أصاب بالوهن والخور عزيمة الشعوب في هذه الأقطار، وأن سحق كرامة الإنسان في هذه الأمة وحُكمه بالحديد والنار، وملاحقة شبح القتل والسجن والتشريد والتعذيب له في ليله ونهاره، وتهميشه الدائم جعل الكثيرين لا يشعرون بألم الجراح، ويعانون من الجبن عن أي لون من المقاومة ولو بالصراخ، ويحكمون على أنفسهم كما حكمت عليهم الأنظمة بأن لا رأي لهم في مصيرهم أبداً وإن كان يتهددهم القتلُ والذبح ويقف على الأبواب.
ومن المؤكد أن اضطهاد النظام العراقي لشعبه، وموقفه من دول الجوار، والحربين العدوانيتين اللتين شنهما على دولتين مسلمتين مجاورتين أثّر بدرجة كبيرة على موقف جماهير الأمة من العدوان الأمريكي المرتقب على العراق إلى حدِّ أنَّ جمهوراً عراقياً واسعاً قد يدفعه عذابُه إلى تمني الحرب على يد من لا يرضاه.
وبعيداً عن ردود الفعل من موقع الألم الممض وبملاحظة ما تستهدفه الحملة الأمريكية من إحكام القبضة على العراق، وإقامة حكومة عسكرية أمريكية فيه، وما تعتزمه بصورة جدّيَّة من بسط نفوذها المباشر على المنطقة بكاملها، والهيمنة التامة عليها، واللعب بخريطتها كما يحلو لها، وتفرضه مصالحها المادية المتمددة، وما تعنيه الحرب على العراق من تدمير شامل لما تبقى من بُناه، وتصفية واسعة لجماهير شعبه، وما قد تجرُّ إليه من تدمير المنطقة بكاملها، وسقوط مئات الألوف قتلى من أبنائها مع التلوث البيئي الواسع، وانتشار الأوبئة في الإنسان والثروة الحيّة؛ بملاحظة كل ذلك يتوجب على شعوب المنطقة والعالم الإسلامي كله أن يشارك العالم كله صرخة الضمير، بل أن يستنهض الضمير العالمي بدرجة أكبر من خلال مسيرات احتجاجية ضد الحرب المرتقبة، تشارك فيها ملايين الكبار والصغار والرجال والنساء ومن كل المستويات ولو من باب الدفاع عن النفس، والاستنجاد بالصراخ من الموت والدمار الذي يتهدد الجميع، كيف وأن الملايين في المنطقة لا يملكون ملاجئ ولا أقنعة واقية في حرب يتوقع لها مشعلوها أن يكون من بين أسلحتها السلاحُ النووي والجرثومي والكيماوي؟!
والعالم الذي يجيد كيف يجرد النظام العراقي من سلاحه القتَّال يجيد لو أراد أن يفرض عليه إجراء انتخابات حرة لاختيار الشعب نظامه، والحربُ الأمريكية بدل أن تقصد إلى هذا الأمر فإنها مصمَّمة لاحتلالٍ استعماريٍّ مباشر.
فلماذا نكون ضد الحرب؟ نكون ضدّ الحرب لأنها تقدّم النفط على الإنسان، تقدم المال على القيم، تستثير الصدام الحضاري، تقبر فرصة الحوار الحضاري، تنسف مستقبل الإنسان، تحيل الأرض إلى فوضى، ونعاديها، ونقف ضدها أيضا، لأنها حرب علينا، وقد نكون مباشرة من وقودها.
وبالنسبة لما نشرته الصحف المحليَّة من اكتشاف خليَّة متَّهمة بحيازة السلاح وأمور أخرى محلَّ التحقيق – كما يقولون – فإننا نؤكد على احترام حقِّ المواطن وإن كان في حالة اتهام، وعدم تعريضه للتعذيب أو النيل من سمعته بلا قانون، وأن يحصل على محاكمة عادلة، ويتمتع بفرصة دفاع كافية عن نفسه بالأصالة أو الوكالة.
هذا مع حرصنا الشديد على أمن البلد واستقراره، وتجنيبه مختلفَ أشكال العنف وصوره، والابتعادِ به عن شبح الإرهاب المخيف، ولا يعني هذا المِساس بكرامة أي مواطن، أو الإشارة بإصبع الاتهام لأي جهة من الجهات. فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته. على أنه يتحتم على كل الأوطان، وكل الدنيا أن تواجه الأمرين معاً في عرض واحد، وفي وقت واحد الإرهابَ وأسبابَه مجتمعين، ومواجهةُ الأسبابِ تُعدُّ جذرية لأن من شأنها أن تنفي المسبَّب بنفي سببه، أمّا مواجهة النتائج وحدها فلا تستأصلها، حيث إنه مادامت الأسباب قائمة فالنتائج لا بد أن تستمر.
أعاذ الله هذا الوطن وكل أوطان المسلمين من السوء، وجنبنا جميعاً الفَوضى والقلق والاضطراب، وويلات الحروب وكوارثها المروّعة.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وارزقنا وجميع أهل الإيمان عافية الدنيا والآخرة، واغفر لنا ولهم ولوالدينا ولكل ذي حقّ خاص علينا منهم يا رؤوف يا رحيم، يا توابُ يا كريم.
“إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)” النحل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ميزان الحكمة ج4 ص275 عن الكافي ج7 ص298
2- المصدر ص276 عن البحار ج77 ص192
3- ميزان الحكمة ج4 ص272 عن بح ج103.
4- المصدر ص 271 عن بح ج103 ص220
5- المصدر ص275 عن بح ج 103 ص220
6- المصدر ص173 عن بح ج103 ص217
7- المصدر ص274 عن كنز خ 44443