خطبة الجمعة (97) 5 ذي الحجة 1423هـ – 7-2-2003م

مواضيع الخطبة:

مع الآية “إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى ”  –  حكم الله – مع قانون الأحوال الشخصية  –  ذكرى انتصار الثورة الإسلامية في إيران

أمريكا التي خرجت من إيران الإسلام بسقوط الشاه عبدِها المطيع فقد صار في عزمها وتصميمها أن تقيم في كل بلد إسلامي شاهاً ديموقراطياً له نفس الدور للشاه الديكتاتوري المقبور ولو برؤوس الحراب، وها هي قد بدأت شنّ حروبها على هذا الطريق، وفي هذا الاتجاه وصياغة المنطقة كما تريد

الخطبة الأولى

الحمد للذي لا خالق سواه, ولا رازق من دونه، ولا ولاية على الكون لأحد غيره, ولا معقب لأمره، والهيمنة على كل شيء له وحده,

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالدين الحق، والشريعة الصدق، وأوجب الثواب على طاعته والعقاب على معصيته. صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً.

عباد الله ويا من أمركم إليه, ونواصيكم بيده, أوصيكم ونفسي المحكومة لقهره المدبًّرة بفضله بتقوى الله، وأن لا تُنسينا قدرة العباد قدرته، ولا سطوتهم سطوته, ولا عطاؤهم عطاءه, فكل من سواه، وما سواه مظهر من مظاهر قدرته وعطائه، ولا تصل أحدا رحمة إلا من رحمته، ولا نفع إلا من نفعه، ولا ضر إلا بقدَره.

ألا لا يحرج بنا خوف ولا طمع عن دين الله, ولا يُدخلنا خوف ولا طمع في أعدائه, فالله تبارك وتعالى احق من يُخاف ويُرجى, ولا مخوف ولا مرجوّ من الخلق, إلا و الله الخالق العظيم أملك له من نفسه.

اللهم صل على محمد وآل محمد, واصرف وجوهنا إليك, ولا تصرف وجهك الكريم عنَّا يا محسن يا كريم يا رحمن يا رحيم.

أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات..
فلنأخذ وعيا من قوله تعالى “… إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) ” العلق.
الإنسان له مرتبة وجودية محدودة, وعند حدِّه تقف قواه, وينتهي تصرفه, ولا يمكن لنموه أن يتقدم أبداً، وحال كل شيء ممكن هو حال الإنسان في ذلك على اختلاف في المراتب والحدود. واتحاد بني الانسان وجدُّهم وأخذهم بأسباب العلم والقوة يتقدم بمستواهم عمّا هم عليه من واقع مما كان صنعه بدرجة أقل من الوحدة والجد والإهتمام بأسباب الرفعة والنمو إلى واقع جديد أكثر غنى وتطوراً ورقيّاً، ولكن لا يمكن أن يتجاوز جدار الإمكان بالنسبة للإنسان, وواقع محدوديته, أومرتبته من سلم الوجود.

هذا من ناحية الواقع, أما من ناحية الوهم ومجرد الخيال فيسع الصغير أن يكون في نفسه مخطئاً كبيرا, والمحدود أن يكون متخيِّلا مطلقا, لكن هذا الوهم الذي ينفصل بصاحبه عن الواقع لا يبني إلا أوهاماً ولا يشيد حقائق, والوهم أوهن من أن يقاوم الحقيقة, والواهم لابد أن تعلِّمه حقائق الحياة والوجود ولو أخيراً بأنه واهم, وبأنه صغير, ومحدود, ومقهور. وفي تأخر هذا الدرس حتى اللحظة الأخيرة من الحياة, وبعد أن يقضي مأسورُ الوهم كل حياته في السراب مصيبة كبرى, وخسارة فادحة ليس مثلها خسارة. ” حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) ” المؤمنون, “… حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) ” يونس.

ومن طغيان الإنسان أن يرى غناه من نفسه, وحسن حاله بتدبيره, وأن ليس خيره من ربه، فلا يكون بربه إلا كافراً, ولأنعمه إلأ جاحداً. وهذا الشعور الواهم الطاغي وهو من وحي الغنى المعار المحدود لا يولّد إلاّ وهما أشد, وطغياناً أكبر فمما يستتبعه أن يرى صاحبه نفسه للناس ربّاً, وأنهم له عبيد, فينطلق في كل حياته مع هذا الوهم حتى يريه الله الربُّ الحق أنه العبد الذليل المملوك , المقهور, الخانع. وإذا كان سُبات الطغيان عميقاً جداً لا يكفي معه سلب الربّ العبد نعمةً واحدةً من نعمه عنده لتعليمه عبوديته كفى سلبه الف نعمة. ومن النعم من دون نعمة الحياة نعمٌ فقْد واحدتها يحوّل حياة المرء كلها شقاء.

والغنى سبب كبير للطغيان عند الانسان بماهو إنسان, وهذا السبب يحمي من تخريبه لنفسية صاحبه الإيمان, والذي كما يحمي من أثره السيء على النفس, يحمي من أثر الفقر, والنصر والهزيمة, والصحة والمرض وكل الظروف والحالات المتعاقبة على الإنسان, فلا يحمي شخصية الإنسان شيء كما يحميها الإيمان, يحميها عن الإنهيار، عن الضعف، عن السقوط.

الإنسان وحده وزن تهزّه الظروف, وتستخفُّه وتصرعه, فيخسر أمامها إنسانيته، وتذهب قيمة حياته, ويكون بذلك الشرَّ في نفسه وعلى الآخرين, والشقاءَ لذاته, والشقاءَ للآخرين.

والإنسان بإضافة الإيمان قوّةٌ جديدةٌ عملاقة لا تهزمها الظروف, ولا تخسر وزنها أمام ضغطها العنيف المتواصل. فالإنسان من حيث هو إنسان قد يثقل كاهل إنسانيته الغنى و الفقر فيخور ويسقط, أما الإنسان المؤمن وبما هو مؤمن؛ فيحفظ له الإيمان التوازن, ولا يكون الألعوبة بيد الظروف والهباءة الخفيفة أمام ريحها العاتية.

فالإنسان يثقل بمقدار إيمانه, ويواجه, ويثبت, وتنتصر نفسه على الضغوط بوزن ماعليه هو من إيمان وارتباط عقلي وقلبي ونفسي وعمليّ بالله العظيم المتعال.
إن المؤمن يؤمن بأن المرجع إلى الله, وبيده المصير, ومن عنده التدبير فلا يسعه أن يستكبر, ولا يسهل اسغفاله عن عبوديته, ولا هروب الوهم به عن واقع محدوديته. وثقته بربه, واعتماده عليه, ويقينه بقدرته ورحمته يحميه من اليأس, ويقيه من الانهيار, ومن العبودية للعبيد, ومن الاستدراج للحضيض.

ومن دون الإيمان الإنسانُ بكل ماله من عقل, وخبرة, وتجربة, وعلم يلهيه التكاثر بما يحوله طفلا يصرفه لعبه عن جدِّه, ويغلب خيالُه عقلَه, ويشط به أنسه الواهم عن هدفه. “أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) ” التكاثر, والإنسان بلا زاد كبير من معرفة الله وتقواه يسكره الغنى, وسكرته به طويلة, وتلعب به الثروة, وتحوله شخصية هزيلة، عن أمير المؤمنين عليه السلام “استعيذوا بالله من سكرة الغنى فإن له سكرة بعيدة الإفاقة” ميزان الحكمة ج7 ص289.
وليس الغنى وحده الذي يلهي ويغوي ويحطّم في غياب الإيمان, فالفقر يستبد بمن ليس له إيمان فيحطم إنسانيته, ومثله القوة والضعف, والنصر والهزيمة, وخمول الذكر، والشهرة. في الكلمة عن أمير المؤمنين عليه السلام “لا تكن بطراً في الغنى ولا جزعا في الفقر” المصدر السابق 289، حين لا يكون الإيمان – أبعدنا الله جميعا عن ذلك – نضطر بحسب طبيعتنا أن نبطر عند الغنى، ونجزع عند الفقر، ولا يحمي من حالات الضعف كالإيمان.

والرجل كلُّ الرجل هو من لم يخسر وزن إنسانيته, وشعوره بكرامته، وانشداده إلى هدفه في فقر، أو غنى، وتحت أي ضغط من الضغوط “الغنى والفقر يكشفان جواهر الرجال وأوصافهما” المصدر السابق ص291، عن الأمير عليه السلام.
ولا استمساك لأي شخصية عند اشتداد الإعصار, ومضاعفة ضغط الظروف, وحدة ألوان الفتن بلا إيمان ” وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)” العصر.
اللهم صل على محمد وآل محمد وارزقنا وسائر المؤمنين والمؤمنات إيمانا تنصرنا به أمام الفتن, وتنجينا به من كيد الشيطان, وتحفظنا من الفضيحة والعار في الدنيا والآخرة.

ربنا اغفر لنا ولأهل الإيمان والإسلام ولوالدينا وأرحامنا وكل من كان له حق خاص علينا من مؤمن ومؤمنة, ومسلم ومسلمة ياكريم يارحيم.
” رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (8) ” آل عمران.

بسم الله الرحمن الرحيم
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4))

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي شرَّع الشرائع فأحكمها، ووضع الأحكام فعدل فيها، وهو الربّ العليم بما يُصلح المربوبين، والخالق العظيم الخبير بحقائقِ المخلوقين، الغنيِّ عن محاباة قوي بما فيه ظلم ضعيف. ربٌّ لا يجور، ولا يحول علمُه مع تطاول الدُّهور.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله الهداة الميامين.

عباد الله اتقوا الله، وباعدوا بتقواه لهبَ النيران عن وجوهكم، وألوانَ العذاب عن أنفسكم، فإنه لا يحول بين امرء وعذاب الله من بعد رحمته إلا تقواه. وإيّاكم وأن تنسيكم الدنيا ومشاغلها الكثيرة، وحوادثها المهولة ما يستقبلكم من أمر الآخرة الذي هو أدهى وأكبر، وسنستصغر كلَّ هولِ الدنيا يوم نلقى من هول الآخرة أولَه، والشديد هنا لا يكون شديداً هناك.

اللهم لا تنسنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات ذكرك وشكرك، وأعذنا وإياهم من أن نكون من الغافلين.

اللهم صلّ على البشير النذير، والسِّراج المنير، الصادق الأمين، وعبدك الكريم محمد وآله الطاهرين.

اللهم صلّ وسلّم على علي بن أبي طالب وصيّ نبيّك الخاتم، ووالد أئمة العالَم. اللهم صلّ وسلّم على أمتك المهديَّة فاطمة الرضية الزكيَّة. اللهم صلّ وسلّم على الإمامين الرشيدين، والوليين النقيين الحسن بن علي وأخيه الحسين. اللهم صلّ وسلّم على أئمة المسلمين، وهداة العالمين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري قادة الدنيا والدين.

اللهم صلّ وسلّم على إمام الزمان، وسببِ الأمان، وقرينِ القرآن محمد بن الحسن القائم. اللهم عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، وافتح له فتحاً مبيناً، ومكِّن له تمكيناً، وارزقنا بظهوره عزّاً وكرامة وأماناً.

اللهم الموالي له، المعادي لعدوه، المناصر لوليه، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى العاملين جميعاً في سبيلك، والمحامين عن دينك سدِّدهم وأيّدهم وزدهم عزيمة في الخير وإصراراً على دربه، وإخلاصاً في النيّة، وتوفيقاً للنجح.

أما بعد فأصدق القول، وأحسن الحديث هو قول الله العزيز الحكيم، ومما قال عزَّ وجلَّ في كتابه المجيد ” قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ (59) ” يونس.

التشريع إما تشريعٌ من الله، وإما تشريع من غيره، ولا تشريع لأحد باسم الله سبحانه خارج إذنه، والمشرّع كذلك مفترٍ عليه، متعرض لعقابه، ولا شأن لحديثنا هذا به. ولا شكّ أنَّ الساكت على فعله مع القدرة على ردعه، أو المتابع له مُواقعٌ إثماً، ومتحمل وزراً، أما الممهد له وهو ملتفت ولو بشطر كلمة فشريك له في الذنب، وقرين له في الإثم.

وقد جاء من الكتاب الكريم في الاستكبار على حكم رسول الله صلَّى الله عليه وآله الذي لا يحكم إلا بما حكم الله قوله تبارك وتعالى ” فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا (65) ” النساء.

والتعطيل لحكم الله والاستبدال عنه، أمره خطير في القرآن الكريم، ولا تسلم معه حقيقة الإيمان، وإن بقي لمن عطَّل وبدَّل الإسلامُ الظاهري الذي تحفظ به حرمة الدماء والأموال. وانهدامُ حقيقة الإيمان لمن عطّل وبدَّل نقرأه في أكثر من آية “…

وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ” 44/المائدة، وفي آية أخرى “… وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ” 45/ المائدة، وفي ثالثة “…. وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ” 47/ المائدة، والعدول عن حكم الله في أيِّ قضية إلى حكم آخر نقرأ عنه في كتاب ربنا وهو الحقُّ الذي لا مراء فيه ” وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) ” المائدة. فليس بعد حكم الله إلا الهوى والميولُ النفسية الفاسدة، والأغراضُ الأرضية الخبيثة. والحكم في القضايا إما حكم الله وهو الحكم المتعين عند المؤمنين، وإما حكم جاهلية لا يأخذ به مستقيم على درب الإسلام ” أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) ” المائدة.

وتبديل أحكام الله سبحانه، والخروج على شريعته قد يقوم على الرفض الصريح، والرد الواضح، وقد يكون باسم الشريعة وفي إطار الإسلام. والثاني ينطوي على جريمتين، بينما الأول يمثّل جريمة بشعة واحدة. الأول مواجهة صريحة للإسلام، واستعلاء عليه، وردة واضحة عنه، تفصل صاحبها عنه من غير أن يسيء إليه بالافتراء عليه وتزويره، ولكن الثاني مع ما يعنيه من مواجهة للإسلام، وهدم لكيانه، وتعطيل لدوره، يرتكب جريمة بشعةً أخرى إذ يمثّل بهتاناً عليه، ولعباً به، وتشويهاً لصفائه.

وغير الغافِل أو المستغفَل يدرك تماماً أن المرمى الأخير من تقنين الأحوال الشخصية ليس الانتقاء للأحكام في هذا الإطار بما يُرضي هوى الرجل أو المرأة. وإذا قُصد هذا فإنما يقصد بما هو مرحلة طريقية تؤدي إلى مراحل أخرى تبتعد بهذه الدائرة عن الحكم الشرعي بمسافات بعيدة. على أن غرض التعطيل لأحكام الشريعة وإحلال البديل الغربي محلّها غرض معلن على لسان البعض مبكّراً ومن دون مواربة، أو لجوء إلى تورية.

ومن النَّاس من لا يفرّق بين حلال وحرام، ولا بين زواج تمضيه الشريعة أو لا تمضيه، كعدم تفريقه بين درهم من سُحت، أو درهم من عمل كريم حلال، وعدم تفريقه بين كأس من خمر معتَّقة، وكأس من ماء زمزم، أو ماء فرات. وهؤلاء اليوم موجودون في كل مجتمع من المجتمعات الإسلامية وفُرَصُهم في المجاهرة بهواهم أوسع بمئات المرات من فرص التعبير عن الالتزام بالإسلام والإيمان.
والبعض الذي يتحمَّس لعلمنة الأحوال الشخصية معلنٌ بدعوته هذه وبسلوكه الخارجي المشهود منه عن عدم اكتراثه بالإسلام فيما يُحِلُّ أو يُحرِّمُ. هذا مع كون البلد بلدَ إسلام واقعاً وعلى لسان الدستور.

ومما ينبغي أن يُقال بشأن هذه المسألة أنه لا تصويت على أحكام الشريعة في بلد مسلم مؤمن. وإذا اتُخذ أسلوبُ المذكِّرات والمسيرات ضاغطاً في اتجاه اللعب بالأحكام الشرعية وتحريفها أو رميها في البحر، فإن هذا الأسلوب ليس حُكراً على فئة، وسيبرهن بكل تأكيد أن الإرادة في هذا البلد إرادةٌ إسلاميَّة تتمسك بعرى الدين، وتُقدِّس الشريعة ولا تُضحّي بها لخاطر أحد من النَّاس، وهي مستعدة تماماً لأن تبرهن على رفضها للتغريب وفتح أبواب المادية الهدَّامة، والأخلاقيات المبتذلة، والقوانين الجاهلية التي تمسُّ أعز مواضع تقدير الأمة واعتزازها من مثل مسألة الأعراض، وسلامة النسل سلامة شرعية.

ويقال في سياق الكلام عن التطاول على الأحكام الشرعية الثابتة بأنه إذا جاز أن تكون في عالم السياسة مقدَّسات لا تُمس بحكم الدستور، وهي أثبت من الدستور بحيث تحكمه ولا يحكمها، فدين الله أولى وأجدر بأن يكون أكثر شيء تقدّساً وعصمة ونزاهة، وهو حاكم على الدستور لا محكوم له، إلى جنب أن الدستور – ولا نريد أن نعزز مكانة الإسلام بذلك- مسلِّمٌ بذلك لأن الإسلام المصدرُ، والدستور هو الفرع كما تقول لغته نفسِه.

ومن حق المطالع للأمور أن يقول بأن المطالبة بتغيير الأحكام الشرعية في إطار الأحوال الشخصيَّة والتركيز على ذلك، وعلى ما يعدّ مقدمة له، وخطوات تمهيدية عمليَّة في اتجاهه افتتاح عملي للهيمنة الحضارية الأمريكية والأسر الثقافي للأمة الذي يتَّجه إليه الجهد الأمريكي ويصرُّ عليه، وهو لون من الترحيب، ومن الاحتضان لهذه الهيمنة المعادية، واستعجال لها، وخروج خارق فاضح على مصلحة الأمة التي تفرض تمسكها بهُويتها.

وعن انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وهو شأن مهم من شؤون المسلمين عامة، وقضية كبرى من قضايا أمة القرآن قاطبة، فإن هذا الانتصار قد سجل انعطافة عملاقة فريدة في صالح الإسلام والمسلمين، وكان فاتحة بعث إسلامي كبير على مستوى جماهير الأمة ووعيها وصحوتها وإرادتها الإيمانية المباركة وروح التحرر فيها، وانطلاقةً قويّة لنمو هائل في ثقة الإنسان المسلم بقدرة الإسلام على المواجهة والنصر والاكتساح والإمساك بكفاءة بزمام الأمور، وقيادة الحياة.

أما أمريكا التي خرجت من إيران الإسلام بسقوط الشاه عبدِها المطيع فقد صار في عزمها وتصميمها أن تقيم في كل بلد إسلامي شاهاً ديموقراطياً له نفس الدور للشاه الديكتاتوري المقبور ولو برؤوس الحراب، وها هي قد بدأت شنّ حروبها على هذا الطريق، وفي هذا الاتجاه وصياغة المنطقة كما تريد. والأمة مهزومة لا تنصر دينها إلا القليل، وربُّ الدين غالب غير مغلوب.

اللهم صلّ وسلّم على محمد وآل محمد، واكفنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين مضلات الفتن، ولا تجعل للكافرين علينا سبيلا، وأعذنا من أن نكون عوناً على دينك، والمظلومين من أهل ملتك، وأن نشتري برضاك رضا أهل معصيتك يا رحيم يا كريم. اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات ولوالدينا وأرحامنا ومن كان له حق خاص علينا منهم يا غفّار يا توّاب يا رحمن يا رحيم.

“إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)” النحل.

زر الذهاب إلى الأعلى