خطبة الجمعة (96) 28 ذي القعدة 1423هـ – 31-1-2003م
مواضيع الخطبة:
مع النبي ابراهيم (ع) في القرآن – رؤى في المسألة العراقية – حين يغيب الدين !!!
لا يهم الجميع أن تطول محنة الشعب العراقي، أو أن تنضاف إلى مآساته مأساة، وأن يدوم عليه العذاب، وأن يترك فريسة تنهشه الذئاب.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي تجلَّى للقلوب فقرَّت بمعرفته على عجزٍ ثابتٍ من إدراك حقيقته، والإحاطة بعظمته، واحتجب بعزّته عن أقرب مخلوقاته إليه، وأكرمهم عليه، وأصدقهم معرفة به. خالقٌ فوق ما يسعه علمُ المخلوقين، وكاملٌ مطلقٌ متنزِّهٌ عن أن تناله أوهامُ المحدودين، وعقولُ المحدثين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله صلاة كثيرة دائمة.
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمَّارة بالسوء بتقوى الله التي لا تفتح على النفس باب شرٍّ، ولا تغلق عنها باب خيرٍ، بل أبوابُ الخير بها على النفوس والأوضاع مفتَّحة، وأبواب الشّرِّ منها مغلَّقة. التقوى لا تأخذ إلا إلى صلاح، والصلاح لا يُعقب إلا السعادة، ولا توقف إلا عن فساد، وفي ذلك سدّ باب الشقاء والانتكاسة.
وما أغلقت التقوى باباً من الربح الظاهري الذي يستبطن شرّاً كثيراً إلا وفتحت أبواباً من الخير الغزير الوفير العميم، والبركة البالغة بلا شَوبٍ من سوء، ولا كدر من فساد. “وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ” 96/ الأعراف.
فلا يخافن فرد أو مجتمع على دنياه من التقوى، ولا يطلبن غيرها أبداً طريقاً إلى السعادة. فأين الطامعون في حياة مجيدة، وآخرة سعيدة؟ عليكم بطريق التقوى؛ طريق الربح والخير والمجد والسعادة. وطريقٌ بلا تقوى طريق الخسارة والشر والدناءة والشقاء.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واجعل زادنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات التقوى، وألبسنا زينة الإيمان، واجعل منحتنا منك رضوانك، ومآلنا إلى كريم جنّاتك يا رحيم يا كريم.
أما بعد فمع الكتاب المجيد في حديثه عن النبيِّ إبراهيم عليه السلام في هذه الآيات المباركات ” فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ(79)” الأنعام.
ولنقف عند بعض الإضاءات مما تغنى به الآيات الكريمة:-
1. ليلُ غير العابثين يُرهف الشعور بهدوئه وسكونه، ويستثير التفكير، ويبعث التأملات العميقة، وينفصل بالمرء عن العالم القريب، واللحظة الحاضرة العابرة، وصخب الواقع السطحي إلى الآفاق البعيدة من الحياة والوجود، والتخوم الضاربة إلى منتهى الكون المحدود لتفضي بالتأملات والإشراقات إلى ما وراء المحدود. فإذا جنَّ الليل على العاقل نَقَلَه إلى حياة جديدة يحياها منشدّاً إلى البعيد اللامحدود بدرجة أكثر قوّة وغزارة مما هو عليه في بياض النهار. على أن حضارة اللهو والمجون اليوم تملك على الناس كلّ وقتهم، وتَسْرِقُ منهم ليلَهم والنهار.
2. يبعد على إبراهيم عليه السلام بما فيه من مشروع نبيٍّ عظيم من أولي العزم أن يرى في الممكن واجباً، وفي المخلوق خالقاً، وفي المربوب ربّاً. ومن هنا يُحمل قوله “هَـذَا رَبِّي” عند طلوع الكوكب والقمر والشمس على الطرح الفرضي من أجل مناقشة الفكرة وبيان بطلانها في أسلوب حوار راقٍ بعيد عن استفزاز الطرف الآخر بما يجعله متشنجاً، ويسدُّ عليه فرص الهداية والقبول بالحق.
3. بيَّن إبراهيم عليه السلام أن الربَّ هو محبوب العقل الوعيّ، ومعشوق القلب الزكي، والمثل الأعلى على الإطلاق الذي تنشد إليه الفطرة النقية، وتتجه دائماً إليه. والأفول –وهو الغياب- آية المملوكية لا المالكية، والعبودية لا الربوبيَّة، والمحدودية لا الإطلاق، والمقهورية لا القاهرية فكلُّ ما جاز عليه الأفول، وكان غير معتصم من ذاته عن التغيُّر والانفعال وتبدُّل الأحوال فهو مربوب لا رب، ومخلوق لا خالق، ومن الزور أن يُعبد، ومن الباطل أن يُتخذ إلاهاً.
وقد جاء قول إبراهيم عليه السلام “لا أُحِبُّ الآفِلِينَ” حكماً معلَّلاً بإسقاط الربوبية ليس عن الكوكب وحده، ولا عن القمر والشمس قبل أن يبزغا ويعودا إلى أفول فحسب، وإنما هو إسقاط لربوبية كلّ مدَّع للربوبية، وكلّ ما ومن تُدَّعى له إذا كان من الآفلين.
4. جاءت كلمة “هَـذَآ أَكْبَرُ” في الكلام المنسوب إلى إبراهيم عليه السَّلام لينبِّه على أنَّ ما فرضت له الربوبية، وجاز أن يكون من هو أكبر منه فلا ربوبية له. فالربوبية إنما هي لمن هو أكبر وأجلُّ وأعظم على الإطلاق، وليس مِن دون الله مَنْ هو كذلك. فليس إلا ربّ واحدٌ وهو الأكبر على الإطلاق، والكبير الذي هو أكبر من كلّ كبير هو الله وحده الذي لا استقرار للعقل، ولا سكون للقلب، ولا اطمئنان للنفس إلا بالاهتداء إليه. والشيء لا يقطع بأنه أكبر من كلّ شيء إلا بأن يخرج من المحدودية إلى الإطلاق، والممكنات كلُّها أسيرة الحدود، ومنقطعةٌ بالنهايات.
5. ما افتُرِض أنه رب وهو يعتريه الأفول لا يصح أن تعشقَه القلوب، وتهوي إليه الأفئدة، وتتعلق به النفوس “لا أُحِبُّ الآفِلِينَ” واتخاذه ربَّاً وقوع في التيه، وسقوط في الضلال، وانحراف عن الطريق، وانغمار في الغواية “قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ” وقوله عليه السلام هذا القول عندما أفل القمر. والتوجه إلى الرب المكذوب الآفل عملٌ يبرأ منه العاقل ويبرأ من فاعله بما هو فاعله “قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ” وهذا هو تعقيب إبراهيم عليه السلام على أفول الشمس آخر ما استعرضه من فروض المناقشة.
6. من كان هو الربَّ الحقَّ وهو الخالقَ لكلِّ شيء، والمدبر لكل شيء حتى لا يكون مثله شيءٌ، وهو أكبر من كلّ شيء لا يصح في ميزان العقل والفطرة والعدل أن يعدله شيء وأن تميل عنه النفس لشيء، أو تشتغل مع الاشتغال بعظمته خضوعاً وتذللاً وثقة واعتماداً وانصرافاً بشيء.
وقد تحرر إبراهيم عليه السلام من عبودية الآفلين بإسقاط ربوبيتهم عقلاً وفطرة، ولم يبقَ لربوبيتهم الكاذبة أيُّ ضغط على نفسه، وخرّ ساجداً لله وحده، موجِّهاً وجهه لربه الحق لا يُعطي من نفسه ووقته وما ملكت يداه، ولا من همِّه وأمله لغيره أبداً، ولا يميل مبتغياً من دونه ملتحداً، ولا ينظر لنفسه حتى يكون قد أشرك بربه أحداً.
“إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ”.
والآن علينا أن نستذكر أن الشخصيات تتألق وتأفُلُ…. الدول تقوم وتسقط، النبتة تترعرع وتذبُل… الطروحات الأرضية تظهر وتذوي…. المال… سلطة المخلوقين… قوَّتهم… بواسق النخل… فارعات الشجر…. سامقات الجبال… كل شيء داخل في حدِّ الإمكان لا يستطيل عالياً إلا ليعود الشيءَ الضئيل اللصيق، ولا يشتد إلا ليضعف، ولا يتماسك إلا ليتبعثر، ولا يحيى إلا ليموت، ولا يكون إلا لينتهي إلا أن يشاء الله.
إنه ما من شيء من دونه سبحانه وتعالى بمستمسك من داخل ذاته بوجوده أو حياته أو قوته أو غناه. كل ممكن دائماً في معرض الأفول والتلاشي والاندثار والفناء. فلا إله إلا الله، ولا معبود سواه. “كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)” 26-27/ الرحمن، “وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)”.
الهالك ليس إلاهاً، المحكوم ليس إلاهاً. الإله من يُهلِك ولا يَهلك، ويَحكمُ ولا يُحكم، وإليه مرجع الأشياء كلها في وجودها وفنائها، والأحياء كلها في حياتها وموتها، ولا مرجع لمبعوث إلا إليه.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وجنِّبنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين كلّ شرك، واهدنا إلى التوحيد الخالص، وألزمنا جانب التقوى، ووفقنا للتي هي أزكى، واغفر لنا ولهم جميعاً ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ومن كان له حقّ خاص علينا منهم يا كريم يا رحيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4))
الخطبة الثانية
الحمد لله العلي العظيم الذي لا علوَّ كعلوّه، ولا عظمة كعظمته، العليم الحكيم الذي لا يُدرك علمُه، ولا تُبلغ حكمته، القويُّ العزيز الذي لا تجارى قوّته، ولا تنال عزته. ملك لا يخرج عن مملكته شيء، قهّار لا يقوم لقهره شيء، رحيم محتاج إلى رحمته كلُّ شيء.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً كثيراً.
عباد الله حقَّ لله الملكِ الحق المبين أن يُتَّقَى فلا يُردَّ له أمرٌ، ولا يُعصى له نهي، ولا يشرك به طرفة عين؛ فاتقوا الله ولا يخدعنّكم عن طاعته الشيطانُ الرجيم وجنده الغاوون. ألا إن التقوى سبيل الفقير إلى رحمة الغني، والضعيفِ إلى عطف القوي، والضالِّ إلى هدى الهادي العلي، وإن الله لغني حميد.
من خُدع عن تقوى الله وطاعته لم يجد أكبر ولا أوجع ولا أبلغ أثراً، وأبقى عذاباً، وأخلدَ شقاء من خدعته. وليس أعدى من عدوٍّ صرفكَ عن طاعة خالقك، الذي بيده وجودُك وعدمك، حياتك وموتك، فقرك وغناك، وكلُّ أمرك وقَدَرِك وسعادتِك وشقائِك.
اللهم اجعلنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات من أهل تقواك وطاعتِك، واجعل شوقنا جميعاً إليك، وجهادنا فيك، ومنقلبنا إلى كرامتك.
اللهم صلِّ وسلّم على البشير النذير، والسِّراج المنير، حبيبك المصطفى، محمد وآله أهل الوفاء. اللهم صلّ وسلّم على عليٍّ أمير المؤمنين، وإمام المتّقين. اللهم صلّ وسلّم على أمَتِكَ العابدة الصابرة، فاطمة الزهراء الطاهرة. اللهم صلّ وسلّم على إمامي المسلمين، وهدى المؤمنين الحسن بن علي الزكي وأخيه الشهيد الحسين.
اللهم صلّ وسلّم على أئمة المسلمين، وقادة الدنيا والدين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري الهداة المهديين.
اللهم صلّ وسلّم على الوليّ الزكيّ، والإمام المرضي، والقائد المسدَّد، والمنصور المؤيد محمد بن الحسن المهدي.
اللهم عجّل فرجه، وسهِّل مخرجه، وأَخمِد به الفتن، وأَذهب به المحن، واهزم به الطاغين، وأنقذ به المستضعفين يا عزيز يا حكيم، يا قويّ يا متين.
اللهم الموالي له، المعِدّ لنصرته، الممهّد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والعاملين في سبيلك أيّدهم وسدّدهم، وثبِّت على طريقك أقدامَهم، وادفع بهم عن دينك، والمستضعفين من عبادك يا رحيم يا كريم، يا عليّ يا عظيم.
أيّها المؤمنون والمؤمنات:
هذه دول العالم تنقسم على المسألة العراقية بين مسرِّعٍ بالحرب وإشعالها، وبين من يضع لها شرطاً ويؤجِّلها، وبين من يميل إلى هذا الطرح أو ذاك.
وهناك من يعلن رأيه صريحاً صارخاً، ومنهم من يحتفظ لنفسه بالرأي متوارياً. وكل أولئك يجتمعون على منطلق واحد، وهو حساب المصالح المادية، والحصص من نفط العراق، وسائر ثرواته وامتيازاته، والمطامع الاستعمارية، والدوافع الحضارية، وما يمكن أن يترتب على الحرب والسلم من نتائج إيجابية أو سلبية على الأنظمة واستقرارها، وخططها القريبة والبعيدة.
والعنصرُ الغائب في كلّ هذه الحسابات هو العنصر الإنساني والأخلاقي الذي لا يكون له حضورٌ مطلقاً، أو لا يكون له حضور فاعل إلا في ظل حيوية الدين في الضمير، وتواجده الحقيقي في ساحة الفعل. وفي ظلّ الحالة السائدة من غياب الدين والضمير، والإنسانية الكريمة، والأخلاقية النبيلة لابد أن يتم إهمال الشعب العراقي ومعاناته وطول عذابه من حسابات الدول ومعادلاتها.
فلا الذين يدفعون بجحافلهم إلى المنطقة، ويجمّعون من سلاح الجوّ والبرّ والبحر بأنواعه الفتاكة ما يحدث زلزالاً مروِّعاً يأتي على آثار الحياة يفعلون ذلك للعدالة والأمنِ والسلام ونصرة المظلوم، ولا الذين يضعون الشرط، ويُبَطِّؤون الحرب يذهبون هذا المذهب رحمةً بالضعيف، ودفعاً للشّرّ، وحبّاً في السلام، واعترافاً بدين أو إنسانية أو قيم.
لا يهم الجميع أن تطول محنة الشعب العراقي، أو أن تنضاف إلى مآساته مأساة، وأن يدوم عليه العذاب، وأن يترك فريسة تنهشه الذئاب.
المهم هو السباق على ما تبقى من ثروة أرضه، واللعب بمصير أبنائه. إن منطلق المعطِّل للحرب أو دفعها ليس أشرف من منطلق المسرِّع بها. منطلقه الحفاظ على مصالحه في العراق، واستيفاء ديونه، وتثبيت القدم على أرضه، وعدم استئثار الطرف الأمريكي دونه بالثروة والسيطرة المتفرِّدة على سيادته، أو عدم وصول رياح التغيير إلى هذا البلد أو ذاك مما يثلم من المصالح التقليدية المتوارثة.
أما إذا سلمت المصالح، وضُمنت الغنائم فليكن ما يكون، وإن عانى الشعب العراقي ما يعاني، وطال عذابه حتى القرون. المسرِّع لا يهمه أن يحكم العراق القصَّابون وإن ذُبح كلّ أبنائه، والمبطئ لا يهمه أن يحترق العراق بنار الحرب حتى آخره، إنما كلُّ المهم أن تسلم المصالح الذاتية أو تحصل الغنائم.
والنتيجة الحتمية حين يغيب الدين عن الضمير والساحة أن ندخل جميعاً في صراع واصطراع على الدنيا، ونتهارش على جيفتها كما تتهارش الكلاب، وحينئذ تكون الحقيقة في حركتنا ومواقفنا، وكلماتنا حاربنا أو سالمنا، عادينا أو صادقنا، كذبنا أو صدقنا، جاهرنا بالمعصية، أو أظهرنا العبادة تهارشاً على هذا المتاع الدنيء الفاني، والجيفة القذرة، والاختلاف إنما هو بتنوع الأساليب، والتفنن في المظاهر. وهو تهارش يُزهق الأرواح، ويطحن الجماجم، ويحرِق الأعصاب، ويُحوِّل الحياة إلى جحيم وعذاب منقضٍ هنا، وفي الآخرة مقيم.
وما يطلبه الناس من علاجات لمشاكلهم في غياب الدين والخلق الكريم إنما هي علاجات آنية لادائمة، وسطحية لا جذرية معمَّقة؛ فحيث لا تكون عودة من الأرض للسماء، واستنجاد حقيقي بقيمها وتشريعاتها ستظل الأرض تعاني من التمزق والضياع والشقاء والعذاب، وسيستمر الاقتتال والإحتراب على اللقمة والخرقة والسَّرف في الإنهماك في الشهوة. الأرض محتاجة حتماً إلى منهج الله في صياغة الضمير، وتربية الأجيال، وفي ساحة الحكم وبناء كلّ الأوضاع.
وهي ستعود مستصرخة بالسماء من شقاء كل الانتماءات والأطروحات الأرضية الشيطانية لتُغاث وتخلّص من عذاباتها المتتالية بعد أن طال بها الشقاءُ، وسيطول حتماً مادام ركونها لغير الله، وثقتُها بغير منهجه.
اللهم صلّ على محمد وآل محمدٍ، ولا تمزِّق شمل هذه الأمة بما قصَّرت مع دينك وانتهكت حرماتِه، اللهم لا تجعلها أشتاتاً ضائعة تائهة وخذ بيدها لما يجمع كلمتها على الهدى والخير والتقوى، ويبلغ بها النجاح. وفِّقها للأخذ بمنهجك واتباع دينك، ولتوحيدك، والكفر بكلّ إلهٍ كذب يا إله الحق يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات وتب علينا، وباعد بيننا جميعاً وبين شرّ الدنيا والآخرة، واغفر لأمهاتنا وآبائنا وأرحامنا وجيراننا ومن كان له حقّ خاص علينا من أهل ملتك يا كريم يا رحيم.
“إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)” النحل.