خطبة الجمعة (94) 14 ذي القعدة 1423هـ – 17-1-2003م
مواضيع الخطبة:
الخمر في ميزان الشريعة – الانفتاح على الآخر
الأمة مطلوب منها أن تكون داعية لله، أن تكون داعية للحق وعليها أن تبادر إلى ذلك وعليها أن تكون مبادرتها مدروسة مدعومة بكل وسائل النجاح
الخطبة الأولى
الحمد لله الظاهرِ في كل شيء سلطانُه، الشاملِ لكل خلق كرمُه، الثابتِ على كلّ موجود حمدُه. جلَّ أن تُعدَّ نعمه، وتحصى آلاؤه، وأن يحمد حمدَه حقّه، ويَبْلُغَ أحدٌ جميل ثنائه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلَّم تسليماً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، والوقوف عند حدوده، وعدم التعدي لحرماته، فإنه أقدر من يحمي حدوده، ويذود عن حرماته، وما أمهل المتعدين جهلاً أو عجزاً، وإنما أمهلهم رحمة أو استدراجاً، وهو العليم الذي لا يفوت علمه شيء، القدير الذي لا يقوم لقدرته شيء، شديد العقاب الذي لا يطيق عذابه أحد، ولا يعذِّب عذابه أحد. ومن احترم حدود الله جازاه بخير جزاء، وأثابه بأعظم مثوبة، ولا يملك أحد جزاءه، ولا يكافئ أحد بمثل ما يكافئ به المطيعين. فإن خفتم عباد الله فلا تخافوا مثلما تُخافُ عقوبتُه، وإن طمعتم فلا تطمعوا مثلما يُطمع في مثوبته.
اللهم اجعل دأبنا الطاعة ومفارقة المعصية، وارزقنا خوفاً من عدلك بردعنا عن السوء، وطمعاً في ثوابك ورضوانك يسهّل علينا مؤونة الطاعة. اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد وجميع أنبيائك ورسلك وأوليائك وملائكتك.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات فهذا حديث في الخمرة التي حرم الله، وكفى بتحريم الله لمن آمن به رادعاً:
الملايين وحدها لا تحلل:
“يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ” (219) البقرة
قد تأتي الخمرة بالملايين، وتبني اقتصاد فردٍ أو اقتصاد أمة، وقد يأتي الزنا ومحرمات أخرى بمثل هذه النتيجة، وفي الزنا تقضى شهوة اللحظة، والخمرة تهرب بصاحبها آناًما من المشكلة، والله تبارك وتعالى يقول في الآية: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا… } البقرة/219
ترى عيون البشر في الأشياء منافع وقد ترى مضار، وقد ترى هذا دون ذاك، أما الوزن الحق لكلّ من المصالح والمفاسد في الشيء فلا يعلمه إلا الله، ولذلك لم يكن للعقول أن تشرّع، أو أن تدرك ملاكات الأحكام. حين يأتي عالم ببعض فوائد لهذا الشيء أو ذاك، وحين يأتي مفكر اجتماعي أو منظر سياسي بنظرية تقوم على موازنة بين المصالح والمفاسد، فنقول بأن العلم الذي قام عليه هذا التقدير علم ناقص، وعلم محدود، وقد ذكر الله تبارك وتعالى في الآية، أن إثماً كبيراً في الخمر والميسر، وفيهما منافع وأتت النتيجة على لسان الكتاب الكريم { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ…} المائدة/91،90.
موازنة الله عز وجل بين ما في الخمر من مصالح اقتصادية وغيرها، وبين المفاسد انتهت إلى أن الخمر حرام وأن لا يدعو إليه إلا الشيطان، وهو رجس من رجسه، وعلى المؤمنين أن يجتنبوه، وأن لا فلاح لهم حين لا يجتنبونه.
الخمر في ميزان الشريعة:.
جاءت النتيجة في ميزان الشريعة المقدسة بالنسبة للخمر حرمة مغلّظة، ومطاردة شاملة، ومقاطعة حادة.
(لعن الله الخمر، وعاصرها، وغارسها، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومشتريها، وآكل ثمنها، وحاملها، والمحمولة إليه).
الخمر ما معنى أن يلعن؟ ما معنى أن تُطرد من رحمة الله؟. انه التغليظ، والتشديد، والتأكيد على الحرمة. الخمرة بريئة وحين تُلعن تلعن بما تعطي من أثر على يد الإنسان، والإنسان هو الذي يتحمل المسؤولية. (لعن الله الخمر، وعاصرها، وغارسها، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومشتريها، وآكل ثمنها، وحاملها، والمحمولة إليه).
الشريعة تتبعت واستقصت واستوعبت باللعن أصحاب الفعل والمقدمات، لشر هذه الخمرة التي سهل على المسلمين أن يبيعوها جهارا نهارا في بلدانهم.
(من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يُشرب عليها الخمر)
ومعروف من الفتوى أن الجلوس على مائدة يُشرب عليها الخمر حرام.
“ملعون ملعون من جلس طائعا على مائدة يشرب عليها الخمر”.
“شارب الخمر لا تصدقوه إذا حدّث، ولا تزوجوه إذا خطب، ولا تعودوه إذا مرض، ولا تحضروه إذا مات، ولا تأمنوه على أمانة”.
إسقاط ومقاطعة وإلغاء شخصية.
بين تشريع الأرض والسماء:
تشريع الأرض نظرة عوراء، ورؤية غائمة، وإهمال للجانب الذي به تقدير الإنسان ووزنه الكريم. وتشريع السماء نظرة كاملة، ورؤية واضحة، رحمة شاملة، استيعاب كامل، اهتمام شامل، علم دقيق، ووزن عادل.
هذه جوانب لا يهتم بها التشريع البشري الأرضي وهي محل اهتمام في تشريع الله (حرم الله الخمر لما فيها من الفساد ومن تغيير عقول شاربيها وحملها إياهم على إنكار الله عز وجل والفرية عليه وعلى رسله، وساير ما يكون منهم من الفساد والقتل).
نحن نرى آثاراً لشرب الخمر، وهناك آثار لا تراها العيون ولا تعثر عليها علوم الإنسان، والله وحده هو العليم الخبير.
(من شرب المسكر لم تُقبل صلاته أربعين يوماً وليلة).
الكافر لا يرى للأثر الأخروي قيمة، ولا يحسب لقبول الصلاة وعدم قبولها حسابا، أما الشريعة فالحساب الأهم عندها لما يجعل الصلاة مقبولة أو غير مقبولة. لأن الصلاة تتصل بإنسانيتنا، تتصل بنفخة الروح الإلهية فينا، بضياء الله المتمثل في قبسة الروح التي نكرم بها ونسمو.
(… قال: حرّم الله الخمر لفعلها وفسادها، لأن مدمن الخمر تورثه الارتعاشة، وتذهب بنوره –أي نور؟ نور الروح. مستوى الروح يهبط، الاستعداد لقبول الحق وتمثل الحق يهبط، يفقد الإنسان من قدرته على الاستقامة، وعلى الوقوف الموقف الذي يرضي الله في مختلف الساحات-، وتهدم مروّته، وتحمله على أن يجترئ على ارتكاب المحارم، وسفك الدماء، ولا يؤمن إذا سكر أن يثب على حرمه –من أم وأخت- وهو لا يعقل ذلك ولا يزيد شاربها إلا كل شر).
واضح أن الأحاديث تتناول الجوانب الاجتماعية والاقتصادية ولكن تجمع إليها الآثار الروحية المدمرة للخمرة، وتركّز عليها.
أبعد مما بين السماء والأرض:
الفرق بين المنهج الإلهي والوضعي أبعد مما بين السماء والأرض.
المنهج الإلهي يرتفع بالنفس، يربيها على القوة والمقاومة لتحديات الشهوة، ومواجهة نقاط الضعف في الذات، ويلبي هذه الشهوة إلى الحد المعتدل… و يحمي ويسد الطريق على الانهيار النفسي والخسائر المضاعفة، والمشاكل الموضوعية الناجمة عن الانحراف.
أما المنهج الوضعي فيفتح باب الشهوة والفساد على مصراعيه، ويفتح كل القنوات التي تؤدي إلى ضعف النفس وانهيارها، والمشاكل الموضوعية المترتبة على ذلك والتي تقلق الساحة، ويحاول في عملية استنزاف أخرى للجهد والثروة محاولة عابثة يائسة للتخفيف من المشاكل الجانبية الناتجة، في الوقت الذي يزيد من حالة الضعف عند الإنسان، والتعطش للشهوة بالصورة التي تجعل سيل المشاكل في تدفق متصل متصاعد، وبقوة أشد، وغزارة أوفر.
هذا المنهج يروّج للخمر، للزنا، للعري وألوان الفحشاء ولكل انهيارات الروح مما ينتج أمراضاً وتعديا وعصابا وجنونا وانفلاتا في الحالة الأمنية ثم يفتح سجونا ويضع عقوبات، وينشئ مصحّات، ويخصص ميزانيات لمعالجة بعض المشاكل التي تفرزها حالة الفساد الخلقي والانهيار الروحي والنفسي من غير نتيجة واضحة وسعيه في التخفيف لا لله، ولا للإنسان وإنما من أجل أن لا تفلت الأمور عن السيطرة.
(الخمر أم الفواحش والكبائر)
أحاديث رادعة، تربية على النأي بالنفس عن القذارات، عن المستنقعات، عن مواطن الوباء، الإسلام يواجه بك الرذيلة ويواجه بك الضعف ويواجه بك الشهوة ويرتفع بمستواك لتكون دائما قويا أمام كل التحديات.
والتربية الأخرى تثير فينا ضعفنا أمام الإغراء، أمام الخوف، أمام الرخاء، أمام الشدة، تقول الأحاديث وهي تربي الإنسان المسلم على الرفعة:
(الخمر أم الفواحش والكبائر)
(الخمر جماع الإثم، وأم الخبائث، ومفتاح الشر). كلمات قصيرة معبئة بالمعنى الذي، لو أرادت الدنيا أن تدخل في تحقيقه لاحتاجت إلى دراسات مكثفة قد تصل بها إلى النتيجة الحق وقد لا تصل، والله لا يحتاج إلى هذه الدراسات ولا إلى هذه المحاولات. فإذا جاءت الكلمة من الله تلقاها المؤمن بقلب مطمئن، وليس له حاجة في جدل أو نقاش.
(الخمر جماع الإثم، وأم الخبائث، ومفتاح الشر) فلا تبنوا لنا اقتصاداً من الخمر.
(جمع الشر كله في بيت وجُعِل مفتاحه شرب الخمر).
فأنتم حين تبيحون الخمرة أيتها الدول الإسلامية لا تفعلون بالأمة خيرا، إنما تفعلون بها الشر كله.
خطاب خاص:
إنه خطاب لمن آمن بالله ورسوله واليوم الآخر… لمن همّه أمر دينه وصلاته وإنسانيته، وليس لكل الناس وإن كانوا لا يفيقون على خطاب يبنيهم، ويصحح مسارهم، ويأخذ بهم إلى النجاة.
أنت تهتم بالصلاة، تهتم بالدين، تهتم بعلاقتك بالله، تهتم بالآخرة فالخطاب لك (مدمن الخمر يلقى الله عز وجل حين يلقاه كعابد وثن، فقال حجر بن عديّ: يا أمير المؤمنين ما المدمن؟ –ما حقيقته؟ ما حده؟-: قال الذي إذا وجدها شربها).
(من شرب المسكر لم تقبل صلاته أربعين يوماً).
وضع نفسه موضع الطرد من رحمة الله، فحتى الحسنة لا تقبل منه(1)، وربما كان ذلك لأن الحسنة على واقعها لا تتأتى منه لمدة أربعين يوماً(2).
(يخرج الخمّار من قبره مكتوب بين عينيه: آيسٌ من رحمة الله).
لحظة الحاجة، لحظة تعلق النفس بالمصير، لحظة أن تطير الألباب والعقول، “وتذهل كل مرضعة عما أرضعت” يجد أنه مكتوب على جبينه آيس من رحمة الله.
عن الرسول الأعظم (ص):(والذي بعثني بالحق نبيّاً –قسم عظيم- إنّ شارب الخمر يأتي يوم القيامة مسودّاً وجهه يضرب برأسه الأرض وينادي واعطشاه…).
ساقط عند الله ساقط عند المؤمنين:
يجب أن يسقط عند المؤمنين.
(شارب الخمر لا تصدقوه إذا حدّث –الغوا شخصيته-، ولا تزوّجوه إذا خطب، ولا تعودوه إذا مرض، ولا تحضروه إذا مات، ولا تأمنوه على أمانة).
لا تجالسوا مع شارب الخمر، ولا تعودوا ومرضاهم، ولا تشيّعوا جنائزهم، ولا تصلّوا على أمواتهم، فإنهم كلاب ’أهل‘ النار كما قال الله تبارك وتعالى ربنا:- { قَالَ اخْسَؤُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ }.
اللهم صل على محمد وآل محمد، ونزّهنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات عن رجس الذنوب، ولا تبتلنا بخبث الخطايا، وهب لنا منك عافية الدنيا والآخرة، واغفر لنا جميعاً ذنوبنا وكفّر عنّا سيئاتنا، وآتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار يا أرحم من استُرحم، ويا أكرم من سُئل، ويا أجود من أعطى.
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والفضل والإحسان. جلاله فوق كلِّ جلال، وجماله لا يلحقه جمال وهو العزيز الجبَّار المتعال.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله أرسله هادياً، ومبشّراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً. صلى الله عليه وآله وسلَّم تسليماً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي الخاطئةَ بتقوى الله، وحسنِ التوكل عليه، والثقة برحمته، والاستغناء به عن خلقه، والحذر من مضادَّته، والإصرار على معصيته. فمن أصرَّ على معصية الله عاندَه، ومن عانده استحقّ غضبَه، ولا يكفي من غضب الله كافٍ، ولا يحمي من عقوبته حامٍ. ارغبوا عباد الله في طاعة الله؛ فإنها معراجُ العبد إلى رضاه الذي لا يكون إلا لمن تأدَّبَ بأدبه، وتحلَّى بأخلاقه على القَدَر الذي يطيق الموجود المحدود، والفقير المرفود.
اللهم تلطَّف علينا برحمتك، واجعلنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات من صالحي عبادك وأهل الكرامة عليك، اللهم صلّ وسلّم على خاتم رسلك، البشير النذير، والسراج المنير محمد وآل محمد. اللهم صلّ وسلّم على الوصي والولي، التّقي النقي علي. اللهم صلّ وسلّم على أمَتك الرضيَّة فاطمة الزكية المرضية. اللهم صلّ وسلّم على الإمامين الهاديين، والمظلومين الصابرين الحسن بن علي، وأخيه الحسين. اللهم صلّ وسلّم على أئمة المسلمين، وهدى المؤمنين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري الأوصياء الراشدين الميامين.
اللهم صلّ وسلّم على إمام العصر، وقائد النصر، حامل علم الكتاب، والناطق بالصدق والصواب، الإمام الثاني عشر، محمد بن الحسن المنتظر.
اللهم عجّل فرجه وسهِّل مخرجه، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً مبيناً، واملأ به الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت بالطاغين جوراً وظلماً.
اللهم الموالي له، المؤمن بمنهجه، المتابع له، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والعاملين في سبيلك، وفقهم لبلوغ الغاية من رضوانك، وعزّ الدين والمؤمنين، وسدِّد خطاهم، وثبت على طريق الهدى أقدامهم، وادرأ عنهم يا قوي يا عزيز.
أيها المؤمنون والمؤمنات:
تسود بين الأوساط مقولة “الانفتاح على الآخر” وهي مقولة تحتاج إلى تحليل ومحاسبة ليس هذا مكانها ولكن لا يمنع ذلك من تناولها بدرجة ما.
أ- ماهو الآخر المفترض الذي علي أن أنفتح عليه، الآخر يختلف، هناك آخر مؤمن أختلف معه بعض الأختلاف، وهناك آخر مباين كليا تقريبا. هذا الآخر طرف حضاري مضاد عقيديّاً، فكريّاً، وثقافيّاً، وأنماطاً سلوكية. له تصوراته ورؤاه الكونية على خلاف تصورات ورؤى الأمة؛ هو كافر والأمة مؤمنة، هو مادي والأمة تؤمن بالروح، هو يسقط قيمة الأخلاق ويرى نسبيتها، والأمة تؤمن بالخلق والقيم هذه فروق ملحوظة بين الأمة وبين الآخر الذي تدور حوله مقولة الانفتاح على الآخر.
ب- نسأل ماهي المساحة المعنية بهذا الانفتاح؟ الآخر عنده تكنولوجيا، الآخر عنده فلك، الآخر عنده رياضيات وهندسة، الآخر عنده طب، الآخر عنده ما نسميهه في المصطلح العلوم البحتة أي العلوم الحيادية التي لا تنتمي إلى مبدأ معين وعقيدة معينة، وأرض معينة، والآخر عنده أخلاقية معينة، عنده سلوك معين، عنده فكر معين، عنده سياسة معينة، عنده نمط حضاري معين يختلف بزاوية منفرجة عمّا عندنا من هذه الأمور، بل هو التباين الكامل في كثير من المساحات.
الانفتاح المطلوب على الآخر في أي مساحة؟ هناك مساحة علمية بحتة كعلوم الفلك والرياضيات وهي حيادية لا تنتمي لتاريخ أو عقيدة أو حضارة معينة.
وهناك مساحة التصورات والرؤى الكونية، والرؤية للإنسان والموت والحياة والأخلاق والقيم… والمساحة الأولى ليست محل الاهتمام لهذه المقولة لأن المساحة الأولى لا يجادل أحد في التعاطي معها، مساحة العلوم البحتة لا يجادل أحد في التعاطي معها والاستفادة منها، وهي لا تنتمي إلى أوروبا، وهي لا تنتمي إلى أمريكا، أمريكا وأوروبا بدأت من حيث انتهت الأمة الإسلامية في هذه المجالات، الأمة الإسلامية هي التي فتحت، باب العلم التجريبي، وهي التي تعاملت بشكل مبكّر مع الفلك ومع الهندسة والرياضيات والطب، فكما أخذوا منا نأخذ منهم. هذه المساحة ليست محل الجدل وليست المعنية بالانفتاح على الآخر عند من يسوق هذه المقولة في صفوف المسلمين وأوساطهم.
ما هو المطلوب منا من الانفتاح على الآخر؟ هو أن ننفتح عليه في توجهاته الحضارية، في توجهاته الفكرية، في ثقافته، في أنماطه السلوكية، في إنكاره لوجود الله تبارك وتعالى، في عدم اعترافه بالرسل والرسالات.
ج- ماهي طبيعة الانفتاح المطلوب، ومداه وهدفه؟ هذه بعض أسئلة ويمكن أن تضع عشرات الأسئلة هنا في مسألة الانفتاح على الآخر.
1) انفتاح من الخاصة أو العامة؟
ما هو الانفتاح المطلوب؟ هل هو الانفتاح من الخاصة، من العلماء المتخصصين، الذين توفروا على رؤية إسلامية واضحة مركزة مبرهنة، واكتسبوا القدرة الفائقة على محاورة الآخر، وعلى الكشف عن زيف ما عند الآخر؟ قد يكون الانفتاح في هذه الحدود وهذا موجود بلا دعوات إلى الانفتاح، أو أن الانفتاح المطلوب هو انفتاح العامة؟ انفتاح جماهير الأمة لتسمع كل ما يقول الآخر، ولتشاهد كل ما يقول الآخر، ولتعايش تربية الآخر، لتخضع لعمليات الغسيل المخي من الآخر، ولتتلقى أفلام الجنس، وتنفتح على قنوات المجون، وعلى قنوات الإلحاد والتشكيك، ومحاولة الهزيمة للأمة، والهروب بالأمة عن انتمائها؟ مطلوب من الجماهير أن تنفتح على كل ذلك انفتاحا عاما، لنكون تقدميين قد انفتحنا على الآخر؟ مرفوض مائة في مائة.
2) حوار الدعوة والهداية؟ الحوار أهو حوار للدعوة والهداية، أن ندعو، أن نبين حقانية الإسلام، أن نفتح عقول الآخرين على الإسلام، أن ندعوهم إلى عبادة الله، وإسقاط عبادة الأوثان؟ هذا واجب حتمي قرره الكتاب وقررته السنة. وهذا إنما يكون على مستوى المبادرة المدروسة وليس ركضاً وراء خطة الآخر، وعلى مستوى الإجابة المسترسلة للآخر. الأمة مطلوب منها أن تكون داعية لله، أن تكون داعية للحق وعليها أن تبادر إلى ذلك وعليها أن تكون مبادرتها مدروسة مدعومة بكل وسائل النجاح.
3) هذا الحوار لدرء الإشكالات والشبهات عن الساحة؟ لو كان كذلك فهذا لا يعني إتاحة الفرص للآخر أن يملأ الساحة بإشكالاته التي تجعلك في موقع الدفاع، وتمتلك عليك ساحاتك، وهمَّ أوساطها على حساب امتداد وتركز الثقافة الأصيلة والتمحور حولها.
4) الانفتاح المطلوب هل هو انفتاح على مستوى الترحيب بالآخر؟ في كل الساحات والمواقع العامة والخاصة وقد اكتسح الآخر كل مواقعنا وإذا بقيت نصف ساعة أو ساعة يقضيها المؤمنون في المسجد في احتفال، أو صلاة أيضا نعطيها للآخر؟ ونجعل المسجد سوقا لترويج فكر الآخر؟ والحسينية نجعلها سوقا لترويج فكر الآخر؟! هذا هو من الانفتاح المطلوب، انفتاح على مستوى الترحيب بالآخر في كل الساحات والمواقع العامة والخاصة لتتحول من كونها منابر للإسلام إلى كونها منابر للحضارة الغازية المعلوم سقوطها ودناءةُ أهدافها عند النخبة الواعية..
5) الانفتاح على الآخر يعني قبول الحلول الوسط مع الآخر على مستوى العقيدة والتوجهات والسلوك؟
6) هل يعني الانفتاح على الآخر التنازل عن الذات الحضارية والذوبان في الآخر؟
7) هل يعني انصراف الخاصة كلّهم إلى تتبع تفاصيل الفكر الآخر بعد معرفتهم بفساد مرتكزاته وفقده للأرضية الصالحة حتى يتلهوا بفكر الآخر عن الفكر الإسلامي، وعن التعمق في القرآن والسنة؟ نحن ننفتح على فكر الآخر على مستوى الخاصة، وعلى مستوى ما تقضي الضرورة؛ ضرورة رد الإشكالات والشبهات، وقد يكون من أجل السبق إلى سد الطريق على الإشكالات والشبهات. وهذا الاشتغال بالفكر الآخر لا يكون على مستوى عام وإنما يكون على مستوى المعهد والكلية المتخصصة وعلى مستوى الأروقة الخاصة في المسجد في حلقات الدرس المعمّقة. ويكون على مستوى تحصين النخب المثقفة من فكر الآخر في مثل هذه الأجواء الدراسية الهادئة المخطط لها، ولا يعني الانفتاح على الآخر أن نفتح أبواب المساجد وأبواب الحسينيات وأبواب البيوت، وكل باب لفكر الآخر ليحل بديلا محل الفكر الإسلامي الأصيل الذي نتحمل مسؤولية إيصاله إلى الأجيال.
د- ماهي طبيعة الموقف العملي للآخر، والذي يراد لنا أن ننفتح عليه؟ ما هو الآخر من جانب عملي؟ سألنا عنه من جانب النظري ونسأل عنه من جانب عملي.
هذا الآخر استعمار، واستغلال، – هيمنة حضارية يفتح طريقها بالحديد والنار.. تحكّم في الشؤون الداخلية، واكراه على تغيير المناهج التربوية والدينية والإعداد المناسب له لأئمة الجماعة والجمعة والخطباء عن طريق قرارات سياسية وإدارية صارمة يمليها ويشرف على تنفيذها تنفيدا يتم تحت رؤوس الحراب. وهذا هو الآخر الذي يراد لنا أن نفتح أبوابنا كلها ليغزونا.
هـ- جملة من النصوص في الموضوع:-
ماذا تقول النصوص. طبعاً الاستقصاء قد يصل بنا إلى عشرات النصوص التي تعطينا رؤية واضحة جدا في التعامل مع مقولة الانفتاح على الآخر ولكن بصورة عاجلة ومن خلال ماهر محفوظ أو مراجع بسرعة أقرأ هذه الجملة من النصوص في الموضوع:
“قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا واتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين” أنا محدد موقفي، أنا أمة اختارت طريقها، رؤيتها واضحة، لا أشرك بالله أبداً لا أحاور لأني غير مستعد للشرك أبداً. وأنا أمة علي أن ألتزم بالدعوة إلى الله “قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا واتبعني..” . آية أخرى “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”، وأنت تدعو إلى الله فليكن جدالك جدالاً بالتي هي أحسن، وليس معنى ذلك أن تطلب الجدل للجدل. فمطلوب منك المبادرة بالدعوة والتبليغ وبصورة مدروسة وحكيمة وفيها مراعاة للظروف الموضوعية ومقتضياتها.
الآية الكريمة الأخرى تقول في شطر منها”…. فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ” 8/ فاطر.
” إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ” 37/النحل
فحتى الدعوة والتبليغ وحوار الآخر من باب المبادرة بالدعوة والتبليغ له حدود، بحيث لا تتحول العملية إلى عملية عبثية، حين تكون العملية غير منتجة فلا بد أن تقف الدعوة ويقف التبليغ مع الطرف الذي تحول إلى وجود متكلس، إلى حجر أصم، لا يستجيب لنداء الخير والحق أبداً.
فتح الساحة للآخر حرام:
” وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ” 6/لقمان. لهو الحديث، وليس الحديث المخطط له، المصمم تصميماً دقيقا بقصد الغزو وإحلال فكر الآخر محل الفكر الإسلامي…. مادةٌ تلهي الناس عن سماع القرآن، تصرف الناس عن سماع السنة هذه شغل الساحة بها محرم. ويجب أن ترد وتطرد فضلاً عن الفكر الغازي.
وآية أخرى ” وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ” 55/ القصص.
سماع اللغو فضلا عن سماع الكفر وما يركز الكفر معروض عنه عند المؤمنين. فتح الساحة لأن تشغل بالفساد الفكري ولأخلاقي وتخاطب أبناء الخامسة عشرة والسادسة عشرة من العمر في البلاد الإسلامية بالفكر الآخر المعادى. جريمة لا ينبغي ارتكابها. مما أتذكره مضمون هذا الحديث: “من أصغى إلى ناطق ينطق عن الله فقد عبد الله، ومن أصغى إلى ناطق ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان”. هؤلاء الناطقون بالفكر الغربي، أصحاب الكتابات الغربية التي تحارب الإسلام وتشكك في الإسلام، وأصحاب الندوات الذين يمثلون رسل الفكر الغربي، ومسوقي الفكر الغربي في بلاد الإسلام ناطقون عن الله؟! أو ناطقون عن الشيطان؟!
وفي تذكري أن قصاصاً في المسجد وجده أمير المؤمنين عليه السلام فأغلظ معه القول أو طرده، وسورة الجحد تقول: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6).
أما من جهة أخرى، وبشأن موضوع العراق فالمطلوب من رابطة العالم الإسلامي أن تدعو علماء الدين المسلمين إلى اعتصام حاشد يسجِّل رفضه الصريح واستنكاره لشنِّ حرب أمريكية مدمّرة على هذا البلد المسلم الممتحن، ولبقاء الشعب العراقي تحت الاضطهاد الداخلي، ويعلنُ مطالبته بإعطاء هذا الشعب الذي طال عذابه حق تقرير المصير واختيار النظام الذي يؤمن به بنفسه.
وهذا الاستنكار والمطالبة كما يخاطب بهما العلماء المسلمون في جميع البلاد الإسلامية، وتخاطب بهما الأنظمة العربية والإسلامية والأمة بكاملها بل العالم كله.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وأنقذ هذه الأمة من الغمة، وادفع عنها كيد الأعداء، ووحد صفوفها على طريق الحق، وكلمة التقوى، واغفر لنا ولجميع إخواننا وأخواتنا من أهل الإيمان ولكل ذي حقّ خاص علينا منهم ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا وأهل مودتنا ياكريم يارحيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
(إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- لسوء ما ارتكب.
2-لما فعله بنفسه من فساد.