خطبة الجمعة (91) 23 شوال 1423هـ – 27-12-2002م
مواضيع الخطبة:
الموت وحقيقته – الذين آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ
ن شعار عدم التدخل في الشؤون الداخلية الذي أخذت به الأمة رسميّاً، والقاضي بتفرج الدول الإسلامية كلها على عذابات أي شعب من شعوب الأمة، ويتيح لأي حكومة أن تمارس أقسى أنواع الظلم في حق شعبها من دون أن تحرك الأمة شعوباً وحكومات ساكناً في سبيل تخليص المظلوم، والتخفيف عنه؛ شعار لا ينسجم مع الإسلام نهائياً..
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي جعل الليل لباسا ساترا، والنوم سباتا مريحا، وجعل النهار نشورا منتجا مربحا، وأحسن الخلق، وبسط الرزق، وقدر الأمور تقديرا حكيما، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله هادياً ومبشراً ونذيراً، صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله الذي يمنح الهداية من اتقاه “ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين “1/البقرة، فلا يغيم على من اتقى الله الأمر، ولا تضل به السبل، ولا يغرق في حيرة الضلال “يا أيها الذين امنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا…” 29/الأنفال.
وعن أمير المؤمنين (ع) “من غرس أشجار التقى جنى ثمار الهدى ” وما أربح من اتقى في الآخرة والأولى….. راحة نفس، وصبرٌ وتحمل، وهدى ونور، ورضوان وجنة وحور.
اعلموا عباد الله أن ليس من تجارة بأربح من التجارة مع الله، وليس من حياة هي أخسر من حياة بيعت لغير الله. ولينظر أحدنا من نفسه على من هو أخوف ممن مضى من أهله وأصدقائه وأحبته؟ أعلى فقير باع حياته على ربه الكريم، أم على غني أمضى أيامه في زائل النعيم؟! إذا كان خوفك على الأول فلا تكنه، وإذا كان خوفك على الثاني وهو الغني الذي أمضى أيامه في زائل النعيم، فلا تكنه. كن من أنت لا تخاف عليه، ولا تكن من تخاف عليه. ولينظر أحدنا لمن هو أرجى مصيراً سعيدا ونعيما مقيما لمن عصى وتكبر أو لمن أطاع واستغفر؟!.
اللهم ارزقنا التقوى وامنحنا الهدى، وصل على محمد وآله قادة الورى.
أما بعد فمع كلمات حقائق:
1- قوله تبارك وتعالى: ” كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار فأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور” 185/ آل عمران.
خذها حقيقة في تفكيرك، حقيقة في شعورك، حاضرة فاعلة، وإلا خسرت العمر، وأوقعت نفسك في شقاء المصير، وكنت على غير هدى في هذه الحياة، حقيقة لا بد أن يقام لها حسابها في الحياة؛ حقيقة أن لست هنا أبداً، إنما أنت هنا وقتا قصيرا لا مديدا، والساعة توقيتها ليس بيدك، والرحيل قرار ليس من عندك، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن يكون حضور هذه الحقيقة ” كل نفس ذائقة الموت…” حضورا قويا فاعلا يقام على أساسه منهج الحياة في دائرة الفرد، وفي دائرة المجتمع، حقيقة لا بد أن يدخل حسابها في كل حركة وسكون، لا يريد الله عز وجل أن يخبرنا أن كل نفس ذائقة الموت فحسب، يريد أن يقيم أمامنا هذه الحقيقة، نعيشها وعيا وشعوراً، من أجل أن نفعِّلها في مقام العمل، في مقام التخطيط، في مقام التفكير، في مقام الشعور، في مقام الطموح. وليس الأمر أنّه خبرٌ فقط.
“… وإنما توفون أجوركم يوم القيامة…” عمرك أكبر من أن يشترى بالحياة الدنيا في تقدير الله، أنت وجود أضخم مما تطلع عليه الشمس كل يوم، لك أجر لا تعرفه، لك وزن قد لا تقدره، وتوفية الأجور يوم القيامة، وهناك تتبين الأوزان، وألا وزن لمن عصى الله، أما من أطاع الله فوزنه ثقيل ثقيل ثقيل بحيث لو ضوعفت الدنيا أضعافاً ما كانت تساويه ثمنا.
اسعوا إلى زحزحة عن النار، أتدرون متى الفوز، ليس في أن تتخرج جامعياً؟ ليس في أن تتخرج أستاذاً بالمعنى العلمي للأستاذية. الفوز عند الزحزحة من النار، النار شقاءٌ أبدي شامل، والزحزحة عن النار فوز، فأيّاً كانت الدرجة في الجنّة فقد فاز من زحزح عن النار، وتبقى المسافات شاسعة لا تقدر بين درجات في الجنة، وكل أهلها في النعيم. فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز. “ومالحياة الدنيا إلا متاع الغرور” لا تأخذ صورة الحياة الدنيا عند الفقير، خذ صورة من الحياة الدنيا عند أغنى غني فهذه الصورة ما هي إلا متاع الغرور.
2- عن الإمام الباقر (ع) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الموت الموت! – إما أن يكون بتقدير جاءكم الموت، وإمَّا بتقدير احذروا الموت- ألا ولا بد من الموت، – أيضا الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله يطرح حقيقة للعمل، لأن تكون محوراً من محاور منهج الحياة، إهمال هذه الحقيقة يحوّل الحياة إلى شقاء، فضلا عن خسارة الآخرة، وما القلق العالمي والفساد في الأرض إلا من نسيان هذه الحقيقة، من عدم أخذها منطلقا من منطلقات المنهج وأساسا قويا من أُسسه. “..ألا ولا بد من الموت، جاء الموت بما فيه، جاء بالروح والراحة والكرة – الرجعة – المباركة إلى جنة عالية لأهل دار الخلود،- ومن هنا ينشأ عند أهل الإيمانِ الحقِّ الشوقُ إلى الموت، إذا اطمأنوا أن موتهم هو هذا الموت الذي يذكره الحديث – الذين كان لها سعيهم،- والمرء يعرف بمقدارٍ أن سعيه في الحياة لدار الخلود أو لدار الغرور – وفيها رغبتهم، وجاء الموت بما فيه، بالشِّقوة والندامة وبالكرة الخاسرة إلى نار حامية لأهل دار الغرور –كم بين هاتين النقلتين؟ كم بين منقلب إلى الجنة ومنقلب إلى النار؟ هذا نَفَسٌ أعيشه الآن، النفس الثاني قد لا يكون، وقد يكون منقلبا إلى جنة أو إلى نار، فكيف علي أن أتعامل مع النفس الذي أعيش؟ – الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم…..”.
3- “أشد ساعات ابن آدم ثلاث ساعات: الساعة التي يعاين فيها ملك الموت، والساعة التي يقوم فيها من قبره، والساعة التي يقف فيها بين يدي الله تبارك وتعالى، فإما إلى الجنة، وإما إلى النار…”عن الإمام زين العابدين (ع).
ثلاث ساعات مدهشة، مرعبة، مفزعة، مقلقة. المرء بين الأهل والأحبة في مجتمع وبيئة عاشها العمر كله، ملك الموت يدنو منه ليستلبه من كل جوّه ومحيطه المألوف المحبوب، يأخذ به إلى رحلة لا يواجهه فيها إلا جديد(1).
لو شعرت النبتة أنّك تنتزع جذورها من تربتها وتفصلها عن أسباب حياتها لضجت فزعا، فكيف أنت بصاحب الشعور الكبير؟!
حين يأتي ملك الموت ليقطع كل خيط من خيوط الحياة، وليجتث كل جذر من جذورك فيها وهذا ليس للخوف وإنما للدفع للعمل الصالح، وإذا عملت صالحا اطمأننت، هذا لئلا نباغَت، ونفاجئ بما ليس له في حسابنا حساب، هذه ساعة. وساعة بعد رقاد طويل في القبر، وحياة برزخ قد تطول ما شاء الله من الزمن المديد، وكانت حياته هناك حياة سعادة أو شقاء، إلا أنه حينما يؤخذ إلى رحلة أكبر، إلى محطة أكبر، إلى الساحة التي ينكشف منها أن الأبدية حياة سعادة أو شقاء فالمصيبة هنا كبرى، والفزع كبير، والقلق شديد. ويقوم مفردا، لا يعرف نسبا، ولا يعرفه نسب، وأول شفيع له بعد رحمة الله العمل الصالح، فإن لم يكن فما أغربه وما أخوفه وما أشقاه، والساعة التي يقف فيها بين يدي الله تبارك وتعالى ساعة الإعلان عن القرار الخطير.
انظر أخي لو مرت عليك ساعة في الحياة تترقب أحد أمرين: إما سجناً أبدياً، أو عرسا حلوا لذيذا، فمشاعرك هنا في توزع شديد. وأنت في حالة اضطراب بالغ. الساعة التي يعيشها الإنسان بين أمل ويأس، أمل في حياة أبدية سعيدة، ويأس من الراحة، ويأس من الهدئة، ويأس من كل ما يطيب، ساعة ثقيلة على النفس. النفس في هذه الساعة في حالة تذبذب شديد، واضطراب قوي. “فإما إلى الجنة وإما إلى النار” وانظر خطورة المصير.
4- عن أمير المؤمنين “إن هذا الدين متين فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرما، – ومن كان رجاؤه أن تمتد به الحياة إلى حالة الهرم نشط في العمل للدنيا، أعطى جدا وفاعلية ودخل في المشروع بعد المشروع، وقد يكون المشروع الذي يدخل فيه مما يتطلب إنتاجه عشرات السنين إلا أنه يدخل فيه بعزم أكيد، وأمل شديد، ذلك لأن ما بينه وبين حالة الهرم مسافة تتسع للاستفادة من الإنتاج، لكن أعمل للدنيا ومشاعري فيها؟! وأفكاري مؤطرة بإطارها؟! مُخْلِداً لأملها؟! “واحذر حذر من يتخوف أنه يموت غدا” عن الرسول (ص).
الكلمة بليغة جداً، وأنت تعمل بأمل الدنيا لا بد أن تحذر في عملك الدنيوي الآخرة، وأن تعمل في الدنيا بأمل الآخرة، ولحساب الآخرة “حذر من يتخوف أنه يموت غدا” وإذا مات غدا ونفسه مرتبطة بالدنيا، تفكيره مرتبط بالدنيا، آماله مشدودة إلى الدنيا فقد مرّ أن هذا من أهل الشقوة.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واجعلنا والمؤمنين والمؤمنات من الأتقياء ما أحييتنا، والمرحومين المعافين ما أبقيتنا، وفي السعداء إذا توفيتنا، واغفر لنا ولكل مؤمن ومؤمنة من الأحياء والأموات ولوالدينا ولأرحامنا وجيراننا ومن له حق خاص علينا من أهل الإيمان والإسلام يا رحيم يا كريم.
بسم الله الرحمن الرحيم
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
الخطبة الثانية
الحمد الذي لا ينقطع خلقُه، ولا يتوقف رزقُه، ولا تتعطل قدرتُه؛ في كل آن يحيى ويميت وهو حي لا يموت، وبقدرته تقوم الكائنات، وبرزقه تستمر الموجودات، ولا يحول بينه وبين ما يريد حائل، ولا ينقض ما يقدِّره ناقض؛ جلّ وعلا وهو العزيز الحكيم. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم تسليماً مباركاً كثيراً.
عباد الله المخلوقين بخلقه، المرزوقين برزقه، المدبَّرين بتدبيره أوصيكم ونفسي المملوكة له بتقواه، والفرار من سخطه وطلب رضاه؛ فلا يُغني عن الله شيء، ولا يُفتقر مع الله إلى شيء. وللتقوى مظاهر مُشرِقة، وآثار جليلة، وأسباب متينة فعن الرسول (ص):”أتقى النّاس من قال الحقَّ في مالَه وما عليه” وعنه سلام الله عليه وآله:” اعمل بفرائض الله تكن أتقى النَّاس”، ” من أحبَّ أن يكون أتقى النّاس، فليتوكل على الله…”.
ولا يتقي الله إلا ذو بصيرة، وروح نقية، ونفس طاهرة زكية، فما دام المرء مقيماً على الخبائث لا يرجع عن غيِّه، موغلاً في الرذائل لا يُقلع عن خطئه، لا تكون له بصيرة، ولا تطهر له نفس، ولا تنقى روحٌ فيتقى الله، ويعرفُ من قدر ربِّه ما يؤدِّبه. ولو راجع العقلَ، وكان له أن يستفيد من هدى الفطرة، ولم يمتنع على نفسه لانغلاقها أن تقبلَ الحق لعاد إلى ربِّه متقيّاً، خاشعاً، مترفعاً عن الرذائل، فاراً من الموبقات.
اللهم أعنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات على أنفسنا واصرف هممنا إليك، واجعل دأبنا طاعتك. اللهم صلّ وسلّم على عبدك المصطفى، البشير النذير، والسراج المنير، محمد وآله الطاهرين. اللهم صلِّ وسلّم على عليٍّ أمير المؤمنين وإمام المتقين. اللهم صلّ وسلّم على فاطمة الزكية، الهادية المهديَّة. اللهم صلّ وسلّم على الإمامين الرشيدين والسبطين الزكيين الحسن بن علي بن أبي طالب وأخيه الحسين. اللهم صلّ وسلّم على أئمة المسلمين، وهدى المؤمنين، وقادة الدنيا والدين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري أئمة الحق الصادقين. اللهم صلّ وسلّم على مهدي الأمَّة، وكاشف الغمّة، وسراج الظلمة، الإمام الثاني عشر، محمد بن الحسن المنتظر.
اللهم عجل فرجه، وسهل مخرجه، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً مبيناً، وأعزَّ به أولياءك، وأذلَّ به أعداءك يا قوي يا عزيز.
اللهم الموالي له، المؤمن بأمره، المناصر لناصره، المعادي لعدوه، الممهد لدولته، والفقهاء العدول، والعلماء العاملين في سبيلك، والمجاهدين لنصرة دينك، أيِّدهم وسدِّدهم وادرأ عنهم ووفقهم لما يرضيك، واجمع كلمتهم على التقوى يا أرحم الراحمين.
أيها الأخوة والأخوات في الله:
هاتان آيتان من آيات الذكر الحكيم، ووقفة عند بعض عطاءاتهما:
” وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) ” النساء.
لا نقرأ من الآية الأولى شرعية القتال لإنقاذ المستضعفين المضطهدين من حكومات الجور، ولا التدخل في شؤون الدول الأخرى للإصلاح فحسب بل تواجهنا الآية بالوجوب لإحقاق الحق. نعم لا بد من النظر إلى أمور أخرى تكون في طريق فعليَّة الوجوب، ولا تثبت الفعلية بدون أن تتوفر هذه الأمور.
نقرأ تخليص المستضعفين من ويلات المستكبرين ليحيوا إنسانيتهم الكريمة، ويتنفسوا أجواء الإيمان، ويتمتعوا بحريتهم اللائقة، ولا يُظلموا حقوقهم، ولا تسرقَ جهودهم.
والقتال من أجل ذلك من القتال القيمي الرفيع المقرون بالقتال في سبيل الله، بل هو فرد مؤكد عليه من أفراده.
إن الذين آمنوا وهم يقاتلون لإنقاذ المستضعفين من قبضة المستكبرين، لا يقاتلون لأغراض استكبارية، ولاستبدال استكبار محل استكبار آخر، وإنما قتالهم وتضحياتهم في سبيل الله، ومن أجل تصحيح الوضع الإنساني في الأرض، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل بكل صوره، وحتى يكون التحرر من العبودية للعباد، ولا يخضع جبين إنسان إلا لله العلي العظيم الذي لا عزة إلا في صادق العبودية له.
إذا قاتل الذين كفروا وإن كان باسم إنقاذ الشعوب، ومحاربة الدكتاتورية، ونشر الديمقراطية كما يقولون؛ فإنهم لا يقاتلون إلا في سبيل الطاغوت، وتركيز الطاغوتية، ومن أجل الاستكبار في الأرض، وتوسُّعاً في الفرعونية، واستعباداً للشعوب، واستنزافاً لخيراتها، ولزيادة في الفساد في الأرض، وتدمير إنسانية الإنسان، وأسره من داخله فضلا عن أسر الخارج، والمأسورُ للطاغوت فكراً ومشاعر؛ ذاته منسحقة ساقطة دونيَّة بالكامل.
إن شعار عدم التدخل في الشؤون الداخلية الذي أخذت به الأمة رسميّاً، والقاضي بتفرج الدول الإسلامية كلها على عذابات أي شعب من شعوب الأمة، ويتيح لأي حكومة أن تمارس أقسى أنواع الظلم في حق شعبها من دون أن تحرك الأمة شعوباً وحكومات ساكناً في سبيل تخليص المظلوم، والتخفيف عنه؛ شعار لا ينسجم مع الإسلام نهائياً. وهو شعار توافقت عليه دول العالم طوعاً أو كرهاً كما قد يكون الحال عند بعضها، قهراً للشعوب وتصالحاً بين الحكومات بأن يسكت كلٌّ على ما يمارسه الآخر في حق شعبه من ظلم واضطهاد.
ولو التزمت الأمة خط الشريعة المقدسة لما عُلِّقت الآية الكريمة محلُّ الحديث، وآياتٌ عديدةٌ أخرى تحرِّم على الأمة أن يعذب شعب مسلم من شعوبها بشتى ألوان العذاب لعشرات السنين، وتقتل رجالاته، وتشرَّد الملايين من أبنائه، ويحارب في دينه، وتداس أعراضه، ويقبر أبناؤه في السجون، وتسلب لقمته. وكل هذا يحدث على مرأى ومسمع من الأمة لتواجه هذه المآسي والمظالم بشعار عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
لكن عندما تمس حكومة مرضي عليها من الكبار تأتي قاعدة أخرى، هي قاعدة انتهاك الحدود المحترمة، وعندئذ تجتمع الدنيا لترد العدوان والمعتدي إلى جحره، ليعود فيمارس دوره الطاغوتي في أرضه وداخل حدوده فتحيا القاعدة الأولى من جديد؛ قاعدة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
وها قد اقتضت المصلحة الأمريكية عند فريق من الساسة الأمريكيين التدخل في الشؤون الداخلية للعراق فجاء الكلام عن ديكتاتورية الحكومة العراقية، وانعدام الديموقراطية، واضطهاد الشعب العراقي، ومشرديه، وسجنائه، وقتلاه، وجاء الكلام عن تهديد دول الجوار وأن أمريكا لابد أن تُنصفها، وتؤمِّن لها حدودها وإن كانت دول الجوار هي من شنِّ الحرب على العراق أخوف على حدودها وعلى كياناتها من بقاء الوضع على ما هو عليه.
هذه الأمة على فُرقتها التي تعيشها هذا العصر وتعدد دولها إلى حد الإفراط لو ملكت أمرها بعض الشيء واعتزّت بشخصيتها، وأمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر رسميّاً في الدائرة العامة لدولها واعتمدت محكمة إسلامية تحكم في خصومات حكوماتها فيما بينها نفسها؛ وفيما بينها وبين شعوبها لكُفيت كثيراً من المخاطر، والخسائر الفادحة، والحروب الداخلية ذلك حين تكون مع المظلوم على الظالم، وترد صاحب العدوان عن عدوانه، إذ اعتماد موقف من هذا النوع لمرة واحدة يعدّ رادعاً كبيراً جدّاً عن تكرار العدوان. (2)
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد، ونجنا والمؤمنين والمؤمنات من شر الفتن، واغفر لنا ولهم ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ومن له حق خاص علينا من أهل ملتك يا كريم يا رحيم.
(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- على مألوفه، وقد يكون المخوف المهول الشديد.
2- ولكن أين الدول التي تملك إرادتَها أمام كبار المستكبرين في العالم؟! وكم هي الدول التي تعترف بانقسام الأمور إلى معروف ومنكر؟! وأي الدول التي تسعى لوجود محكمة سندها قوة الأمة لتنتصف لشعوبها منها؟!
وكم تتصورون الدول العربية والإسلامية التي لا يُرضيها شنّ حرب مدمرة على العراق رعاية للأخلاق، وغيرة على القيم بعيداً عن حساب الربح والخسارة بميزان المصالح السياسية البحتة؟
أمَّا غير هذه الدول ففلسفتها النفعية الواقعيَّةُ معلنة، وتمثل قاعدتها الرئيسة والأساس في الحياة.
نحن في هذا العالم صدَّقت أو لم تصدِّق. عالمٌ هَدَمَ القيم، ويهدِم غيابُها بناءه على رأسه وعن مناسبة عيد الميلاد للنبي عيسى على نبينا وآله وعليه وجميع أنبياء الله ورسله أفضل السلام نؤكد إيماننا بأنه يوم رحمة لهذا العالم، وأنّ عيسى عليه السلام عبد الله ورسوله الصادق الأمين، وقد جاء هدى للناس ودالاً لهم على طريق ربه.
ولو اتبع نصارى العالم انجيل عيسى عليه السلام غير محرّف ولا مكذوب عليه لالتقوا مع المسلمين في طريق واحد، ولا أقل من أن يكونوا دعاة أخلاق ودين وسلام ومحبة وتعاون على الخير حقّاً في هذا العالم، ولا يضعوا يدهم في أيدي المستكبرين أعداء عيسى وموسى ومحمد وجميع رسل الله عليهم السلام أجمعين. وإيمان عدد في الغرب وفي أنحاء العالم بالنبي عيسى عليه السلام على ما في هذا الإيمان من شرك وكثير من البعد عن ملامسة الواقع؛ يخفف من غلواء الشر في الأرض. ونحن فرحون جدّاً بيوم المولد الشريف لهذا الرسول الكريم، وبيوم أي مولد لنبي من أنبياء الله، ورسول من رسله سلام الله عليهم أجمعين، ونبارك للعالم المؤمن كله هذه المناسبة.