خطبة الجمعة (88) 1 شوّال 1423هـ – 6-12-2002م
مواضيع الخطبة:
العمل لغير الله – موقف الإسلام من القديم والجديد – الكتاب العزيز والحداثة والتقادم
كثير مما نقرأ في الصحف، وكثير مما يأتي باسم الحداثة وكثير مما تفرزه حضارة الغرب من إفرازات صديدية تصدره إلى الفكر المسلم النقي، إنما هو من باب التهريج والدعاية، والله عز وجل في كتابه يأخذ بعقولنا ويأخذ بفطرنا ويأخذ برأينا إلى أن نطالب دائما بالبرهان، ولا نسمع إلى الدعاية
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي يعطي جوداً وكرماً, ويمنع تربية وحكمة, ويُغني مبتليا, ويفقر ممتحناً, لا يُنقص خزائنه جوده, ولا تثلِمُ ملكَه كثرة العطاء، ولا يردّ عن بابه سائليه، ولا يخيِّب رجاء راجيه.
أشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله صلاة كثيرة دائمة نامية.
عباد الله ألا فاتقوا الله وكونوا ممن نظر فاعتبر، وخذوا للمقر من المعبر، وكونوا من يوم الموت على وجل، يكن دافعاً لخير العمل، وصارفاً عن السوء والشر. ولتكن الأذن سميعة، والعين بصيرة، والقلب يقظاً متلقياً واعيا، أمام كل درس من دروس الحياة والموت، والفقر والغنى، والصحة والمرض، والنصر والهزيمة، والذُّل والعزة، وأمام كل ما يبثّه الكون، وتنطق به أحوال النفس من آيات القدرة، والحكمة، والرحمة، واللطف، والشّدة والغضب والعقاب التي يحدِّث اللهُ عزَّ وجل بها عباده عن ربوبيته لهم، وعبوديتهم له، حتى إذا نصب لهم الشيطان آلهة كاذبة من دون الله لم ينخدعوا بتزيينه، ويقعوا في الضلال، فالبراهين قائمة، والحجة كافية، والمسؤولية ثابتة، ولا عذر لمن اعتذر، وويل لمن كفر.
اللهم صل على محمد وآل محمد، واجعلنا ممّن يسمع القول فيتبعُ أحسنه، ولا يصغي سمعاً للشيطان الرجيم.
أما بعد فلنعالج وضع أنفسنا في ضوء هذا الحديث الشريف عن أمير المؤمنين عليه السلام:
قيل للإمام علي عليه السلام: أيُّ الخلق أعمى؟ قال الذي عَمِل لغير الله”
الذي يعمل لغير الله لا بصيرةَ له، وهو أعمى القلب، ضالٌ لا يهتدي سبيلاً، ولا يميّز بين ظلمة ونور، فهو لو رأى اللهَ عز وجل، وعرف شيئاً من عظمته التي لا تتناهى، ورأى غيره ومحدوديته وعجزه وفقره وضعفه لما كان يصدر منه عمل إلا لله وهو يطلب الأمن والخير والرفعة والمثوبة من عمله. فمن مِن دون الله، يملك ما لا يملكه الله من خير وعطاء وحماية ومثوبة؟! بل مَن مِن دون الله يملك لنفسه من نفسه أو من غيره ما لم يأذن به الله، ويَجْرِ به تفضله؟!
إنّها لحظة عمىً أو لحظة جنون تلك التي تتجه فيها النفس لغير الله رَغَبَاً أو رَهََبَاً، أو تُشرك مع الله في ذلك أحداً. والرياء شِرك، بل يسيره كذلك كما عن أمير المؤمنين عليه السلام.
ويكفي رادعاً عن الرياء لو عقِلنا ما جاء عن الرسول صلَّى الله عليه وآله: “إن أولى النَّاس أن يُقضى يومَ القيامة عليه رجلٌ استُشهد فأُتي به فعرَّفه نعمَهُ فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتّى استُشهدت. قال كذبت، ولكنك قاتلت ليقال جري- أي يمتلك جرأة-، فقد قيل ذلك ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار….”
ما كان هذا المستشهد ظاهراً مقدّراً الله، مقدِّماً له على من سواه، بل كان يعبد صنماً اسمه الشهرة والظهور في الناس، والإطراء الاجتماعي، ومن أجل هذا الصنم خاض غمار المعركة وبذل وضحى، وعلى قدمي هذا الصنم الوضيع غرِق في دمائه ليذهب عند الناس بطلاً شهيداً، وفي علم الله شقيّاً آثماً لا سعيداً.
وما أكثر الأصنامَ في حياتنا والتي تأخذ مواقع مختلفة في النفوس من أشخاص وأطماع ومراكز وعناوين، ويعطيها أصحابها ما يستكثرونه على الله عزّ وجل من طاعة واحترام وذُلٍّ وخضوع؟!
ولكثرة ما يتراءى للنفس غير المطمئنة من أرباب زائفة لا حول لها ولا قوة، وإنما يَختلق لها الوهمُ الربوبيةَ اختلاقاً؛ كانت عبادة القلب أصعب من عبادة الجوارح وإن ثقُلت، والوزن كلُّ الوزن إنما هو لعبادة القلوب التي تحرّك الجوارح، ولا تكون عبادةُ الجارحة لله إلَّا بأن يكون وراءها قلب توجُّهُهُ إلى الله، أما الجارحة التي تنطلق عبادتُها من قلب توجُّهُهُ لغير الله، فهي عابدة لغيره. ولو غَفَل القلب فما قيمة أن تكون الحركة ركوعاً وسجوداً؟! وما الفرق بين الركوع والسجود، وبين الاستلقاء والاضّجاع في خمول المشاعر وسُباتها وخلوّها من المعنويَّة حين يكون الركوع والسجود بلا تقدير لله، ولا توقير لعظمته ولا انطلاق من خشوع؟!
فما أكثر ما تتطلبه العبادة حتى تكون عبادةً لله لائقة ولو قليلاً بشأنه العظيم، من يقظة وانتباه وحيوية قلبٍ ونشاطٍ، في إخلاص، وانقطاع له سبحانه، ينطلق من معرفة صادقة به، ويقين بعظمته وجماله وجلاله وكماله، يمنع من النظر إلى الأغيار، والانشغال بغير العزيز الجبّار؟!
وهل لنا أن نذهب مع هذه الكلمة عن أمير المؤمنين عليه السلام إلى حيث تريد؟! “كلُّ حسنة لا يراد بها وجه الله تعالى فعليها قُبْح الرياء، وثمرها قبح الجزاء”.
فليكن صدقنا وأمانتنا وتعففنا وهي أمور جميلة لله لا لغيره فتقبح، ونلقاها يوم ينكشف الغطاء أعمالاً قباحاً، وسيئات سوداء، وإن كانت في مرأى الناس في هذه الحياة رائعة ترفع شأننا عندهم وتُقدّمنا في مواقع الاختيار.
اللهم صلِّ على محمد وآل محمد، وطهِّر قلوبنا من الأوثان، ونزهنا عن عبادة الأصنام، ولا تجعل لمعبود سواك فيها مكانا، وأبعدنا عن الشرك الجلي، وخلصنا من الشرك الخفيِّ، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ولكل ذي حق خاصٍّ علينا من أهل ملتك يا كريم يا رحيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
(قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
الخطبة الثانية
الحمد لله لا منتهى لحمده، ولا عدّ لنعمه، ولا إحصاء لآلائه، ولا حدَّ لرحمته، ولا يقوم أحد لغضبه، ولا يجاري قدرته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كما شهد لنفسه، وشهدت له ملائكته، ورسله وخُلَّصُ أوليائه، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، إمامُ كلِّ إمام، وقائدُ كلِّ قائد، والهادي في النّاس الذي يرجع إليه منهم كلُّ هاد، صلَّى الله عليه وآله الأطياب.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله وهو أحق من يُتقى، ويُخافُ ويُرجى، ويُشكرُ ويُحمدُ، فالخير من عنده، والأمر بيده، ولا مهربَ لمن عصاه من ملكه، ولا حياة إلا به.
عباد الله ما زُوِّد الإنسان بما زُوِّد به من عقل، وفطرة، وفطنة، وتعقّل، وقدرة على الاتعاظ والاعتبار ليلعبَ في الحياة، أو يُهمل. وما كان له هذا التطلع الدائم الشامل العميق للخلود والكمال، ليعيش عمره معيشة الحيوان، ويبذل كل طاقاته من أجل جسد ينتهي إلى رماد أو تراب، أو دود أو رميم. إنما كان له كلُّ ذلك من أجل أن يطلب الكمال، ويُعِدّ نفسه على دربه لحياة الأبد السعيدة التي تتحرك في اتجاهها فطرتُه، ولا ترضى عنها أيَّ بديل. وكلُّ الدِّين دعوة إلى الكمال، وكل الإسلام إعداد للسعادة والهناء في حياة الخلود؛ فاطلبوا الإسلام، وأمسكوا به، ولا تتخلوا عنه طرفة عين؛ فإنه الطريق الذي تُلحُّ عليكم الفطرة أن تسلكوه، والتطلعُ إلى الكمال في داخلكم أن لا تبارحوه.
اللهم لا تباعد بيننا وبين الإسلام، ولا تفرِّق بيننا وبين الإيمان، وتوفّنا إذا توفيتنا مسلمين مؤمنين.
اللهم صلّ وسلّم على البشير النذير، والسراج المنير، خاتم النبيين والمرسلين محمد وآله الطاهرين.
اللهم صلّ وسلّم على الإمام الحق، الناطق بالصدق علي أمير المؤمنين وإمام المتقين. اللهم صلّ وسلّم على فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله الراضية المرضية. اللهم صلّ وسلّم على إمامي المسلمين، وقدوة المؤمنين الحسن بن علي الزكي وأخيه الشهيد الحسين. اللهم صلّ وسلّم على أئمة الهدى وقادة الورى علي بن الحسين السجّاد، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري الأولياء السعداء.
اللهم صلّ وسلّم على من يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً، الإمام الثاني عشر، محمد بن الحسن المنتظر. اللهم عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً مبيناً، واشدد بنيانه، ومُدَّ سلطانه، يا قوي يا متين، يا عزيز يا قدير.
اللهم عبَدك السائر على دربه، المناصر له، المصدِّق بأمره، الممهّد لدولته، والفقهاء الأتقياء، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى، والناشرين لدينك من أهل محبتك أيدهم وسددهم وذد عنهم وكد لهم ولا تكد عليهم يا رحمن يا رحيم، يا رؤوف يا كريم.
أما بعد فالحديث عن موقف الإسلام من القديم والجديد:-
والإسلام في عقيدته حقائقُ ثابتةٌ أولها وحدانية الواحد الأحد التي تشهد بها السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن، ويقوم بها كلُّ شيء في الوجود، وتنتهي إليها كل حقيقة فيه. والإسلام في شريعته وأخلاقه يقوم على أصول واقعية لها صدقها الذاتي وُجِدَ زمن أو لم يوجد، كان إنسان مدرك أو لم يكن.
والأحكام التشريعية الإسلامية تنطلق من حقائق العقيدة، وترجع إليها، وتستند إلى الأصول الواقعية وتتحرك في إطارها، وتلحظ مصالح الإنسان، وتحافظ عليها، وتستوعب الترابط البشري، والعلاقات الكونية والتشريعية وتُدْخلها في حسابها، ولا تفوتُ خالقَ الكون والحياة والإنسان كبيرةٌ ولا صغيرةٌ ممّا له دخل في مقتضِيات التشريع ونتائجه.
وعليه فالإسلام في كل بنائه لا يقدِّر إلا الحقائق، وما هو واقع، ولا يقيم للحديث وزناً لمجرد حداثته، ولا للقديم وزناً لتقادمه، وإن كان الإسلام يُدخل في حسابات تشريعاته عنصر الزمن بما هو وعاءُ لمستوى اقتصادي واجتماعي متغيّر مثلاً، ولمؤثرات مختلفة على الإنسان، مراعياً هذه التحولات بما لا يغيّر من مسار التشريع، ومنطلقه، وهدفه، وثوابته، وطبيعة نسيجه. وهو في ذلك لا يتغير بتغير الزمان والمكان، وإنما الصحيح أنه يستوعب بأصوله وقواعده الثابتة التي تلحظ الزمان كله، والمكان كله، والموضوع البشري بكل تحولاته، كلَّ ما يجدُّ في الزمان والمكان مما ينعكس على موضوعات الأحكام بالتغيُّر الذي لا بدّ أن يختلف معه الحكم.
ومراعاةُ الإسلام لبعد الزمان والمكان لا تعني أبداً تقدير الحديث لحداثته، أو القديم لقدمه، فقضية المراعاة بالوجه المتقدم ثابتة، وقضية تقديس الحديث أو القديم لكونه حديثاً أو قديماً منتفية تماماً في الإسلام. ومراعاة الزمان والمكان لا تعني مطلقاً تميُّع التشريع، وانحدارَه عن سكة العبودية لله والعدل والتقوى، ولا تعني التخلّي عن ضوابط العملية الاجتهادية، وضياع المقاييس العلمية في التعامل مع النص، أو الميلَ إلى الهوى.
ولنرجع إلى الكتاب العزيز في ما يقوله عن الحداثة والتقادم مُكتفين بشواهد قليلة للاختصار:
1- لا تقدير للقديم بما هو قديم:
“وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون”.
فالقضية أو المفهوم أو العقيدة التي لا تدعمها إلا سيرة الآباء، وتقادم الزمن هي قضية مردودة إذا كانت لا تقوم على حق، ولا تستحق أي تقدير لمجرد تقادمها.
2- لا ردّ للقديم بما هو قديم:
كما أن الإسلام لا يقبل القديم لمجرد كونه قديما كذلك لا يطرحه ويلغيه لمجرد كونه قديما. فالإسلام ينظر دائما إلى ذات الفكرة، وانسجامها مع الأصول الكونية، وأصول الفطرة في النفس، وينظر إلى توافق هذه الفكرة مع المصلحة الإنسانية، ومع القضايا الواقعية الثابتة بغض النظر عن الزمان والمكان. فما كان من الفكر صحيحا طبقا لهذه الموازين فهو مقبول عند الإسلام، تحتضنه عقيدته وشريعته، وما لم يكن موافقاً لهذه الأرضية الكونية والنفسية الصلبة وللمصلحة الإنسانية فهو مردود مطروح قديما كان أو حديثا.
لا ردّ للقديم بما هو قديم:
“والذي قال لوالديه أفٍّ لكما أتعدانني أن أُخرَجَ وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان اللهَ ويلك آمن إنَّ وعد الله حقٌّ فيقولُ ما هذا إلَّا أساطير الأولين” 17/ الأحقاف.
الآية الكريمة تؤكد أن تقادم الفكرة لا عبرة به، ولا يؤثر سلبا أبدا على نقاء الفكرة وأصالتها إذا كانت هي في ذاتها نقية أصيلة. فكون الآباء، وكون التاريخ السابق قد احتضن قضية الآخرة، وأن الإنسان يبعث بعد الموت احتضانا ينبع من الفطرة، ويفرضه داخل الإنسان لا يعني هذا ولأن الفكرة قد تقادمت أن تطرح في النظر الحق… في رأي العقل، وفي رأي الشرع. وإذا طرحت الفكرة على هذا التقدير هنا فإنما يطرحها الهوى والغوى لا غير.
3- التقدير للحقانية – للأصالة – لا للحداثة ولا التقادم:-
“فلمّا جاءهم موسى بآياتنا قالوا ما هذا إلّا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين – شيء جديد-. وقال موسى ربّي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكونُ له عاقبة الدَّار إنّه لا يفلح الظالمون” 36-37/ القصص.
النبي موسى عليه السلام لا يركّز هنا على حداثة الفكرة لتكتسب من حداثتها حقانية وأصالة، إنما تركيز موسى عليه السلام هنا وعلى كون الفكرة من الله، والله هو الحق، على كون الفكرة هدى والهدى يجب أن يتبع.
“واتَّبعتُ ملة آبائي –فهي شيء قديم- إبراهيم وإسحاقَ ويعقوبَ ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى النّاس ولكن أكثر النّاس لا يشكرون. يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحدُ القهّار.-يبدأ يوسف عليه السلام يستدلّ على الفكرة القديمة، يبدأ يثبت أصالتها، يثبت حقّانيتها حتى يقضي العقل بوجوب اتباعها حديثة كانت الفكرة أو كانت قديمة- ما تعبدون من دونه إلّا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان” 38-40/ يوسف.
القضية أنّ التوحيد براهينه لا تعد ولا تحضى، وأن الشرك لا يملك ولو برهانا واحدا، وأن كل معبود من دون الله هو إسم بلا حقيقة، هو عنوان بلا واقع، وأن عبادة الله سبحانه وتعالى هي عبادة الحق الذي لا حق من بعده إلا وهو مترشح منه، فيوسف عليه السلام يطرح قضية التوحيد، وتمسّكه بها، وإن كانت قضية كان عليها آباؤه وأجداده وكانت من الزمن الأول وقبل الزمن كله، إلا أن هذا التقادم في نظر – يوسف وهو الإنسان الذي يمتلك عقله، وهو الإنسان الذي يفكر تفكيرا عقليا موضوعيا دقيقا، وهو الإنسان المهتدي بهدى الله- لا يؤثّر سلباً بما هو الحق، ويحوله إلى باطل.(1) القضية أن التوحيد يجب أن يبقى مهما كان الزمن، وأن حركة الحياة يجب أن تنطلق دائما من قضية التوحيد، وأن تلتزم مساره، وأن تتمسك دائما به؛ لأن التوحيد هو الحقيقة الأولى ولا حقيقة إلا ومرجعها إلى هذه الحقيقة.
4- البرهان لا الدعاية والتهريج:
كثير مما نقرأ في الصحف، وكثير مما يأتي باسم الحداثة وكثير مما تفرزه حضارة الغرب من إفرازات صديدية تصدره إلى الفكر المسلم النقي، إنما هو من باب التهريج والدعاية، والله عز وجل في كتابه يأخذ بعقولنا ويأخذ بفطرنا ويأخذ برأينا إلى أن نطالب دائما بالبرهان، ولا نسمع إلى الدعاية “أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم….” 24/ الأنبياء.
أنت تريدني أن أعبد غير الله، تريدني أن أرفع يدي عن تشريع الله، أقم البرهان على إله حق غير الله. كل أولئك المتحدثين يطالبوننا بأن نعدل عن شريعتنا، بأن نعدل عن عقيدتنا، وعلينا أن نطالبهم بالبرهان الذي يثبت في الوجود إلها غير الله سبحانه وتعالى ” قل هاتوا برهانكم….”
“أأله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين” 64/ النحل.
وهكذا نجد أن الإسلام لا يقدِّم حديثاً على قديم، ولا قديماً على حديث لتقادم أو حداثة، ويحاكم القضايا على أساس البرهان القاطع، والدليل الناهض. ولو تأمّلنا لوجدنا الفطرة -وهي ثابتةٌ- غنيةً بكلّ أصول الفكر الصائب، والسلوك القويم، ولا مرسى للإنسان في فكر أو سلوك إذا قطع النظر عن الفطرة، ولا دليل يمكن أن يُكسِبَ النفس اليقين من دون أن يكون له جذر فيها.
وفي المقارنة بين الحضارتين المادية والإسلامية لا بد من دراسة المرتكزات الفكرية والفطرية، والكونية والإنسانية لكل منهما، وأن أيَّهما أوجدُ للمرتكزات الصحيحة؛ لتظهر القيمة الحقيقية لهذه وتلك في ما هو قديم أو جديد فيهما بلا فرق من جهة التقدم والحداثة. الفرق كل الفرق بين الأصالة وعدم الأصالة، بين الحقانية وغير الحقانية، بين كون الفكرة حقا أو باطلا ولا حق ليس من عند الله، ولا حق مما لم تشهد به الفطرة، ويقضي به الضمير. والفطرة أعم من فطرة الضمير والعقل.
وفي إطار الحضارة الإسلامية؛ الحاكمُ بين جديدها وقديمها – إنما هو القرآن الكريم والسنة المطهَّرة. كلّ هذه الآراء تخضع لميزان واحد لميزان الكتاب والسنة وبمقدار ما أوتي الإنسان من فهم من كتاب الله وسنة رسوله إذا كان ممن يحق له أن يقول كلمة في إطار فهم الكتاب والسنة فله أن يفهم هذا الرأي وذاك الرأي في هذا الإطار، ويقدّم هذا على ذاك أو ذاك على هذا كان حديثا الرأي المقدم أو كان قديما- وليس أولى في التلقي عن المصدرين بعد المعصومين عليهم السلام من العقلية الاختصاصية في مجال علومهما – أي مجال الكتاب والسنة- والتي تتعامل معهما بعلمية دقيقة وأمانة بالغة وإيمان غزير، وتقدير وفير، وروحيَّة مشبَّعة بأجوائهما الطاهرة.
وليس الحكمُ مقرّرات الحضارات الأخرى، ولا استحساناتِ الأقلام السطحية، والأهواء العامة، والكلماتِ غيرَ التخصصية لعبدة الغرب الغارق في مشكلاته الأخلاقية المتفاقمة، والذي لا يقيم بناءَه الحضاري المادي الفوقي على رؤية كونية مبرهنة أو وجدانية تعطي ذلك البناء وزنه المحترم عند العقل والوجدان.
وينبّه أن من الخطأ المقابلة بين الحداثة والأصالة. والصحيحُ أن مقابل الحداثة التقادمُ. والأصالةُ والحقّانية تحكم على كل فكر وسلوك قديم أو جديد.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وآتنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، واغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا ولجميع أهل الإيمان والإسلام ولكل ذي حق خاص علينا منهم يا كريم يا رحيم.
إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكرون)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- وأكثر من هذا أنّ يوسف عليه السلام يعتز باتباع ملة اتبعها من ذكر أسماءهم من آبائه عليهم السلام وهم ممن لا يتبع إلَّا الحق، ولا يميل إلى الهوى، وله قطرة سليمة وعقل سديد ورؤية علمية صائبة ويمثّلون قمماً عالية في الفكر والهدى والمستوى الإنساني الرفيع.