خطبة الجمعة (87) 24 رمضان 1423هـ – 29-11-2002م
مواضيع الخطبة:
كيف أصبحت – يوم القدس العالمي – الحوار المذهبي في القناة المستقلة
إنّ هذا اليوم من أجل تركيز الشعور بوحدة الأمّة، وتفعيل هذه الوحدة، وممارستها واقعاً بصورة عملية مشاريعية منتجة، ومواقف وحدويَّة جادة على الأرض في قضية من أهم قضايانا لتكون منطلق مسار عملي وحدوي منتج في كل القضايا المصيرية المشتركة.
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي لا رب معه ، ولا مربوب إلا له وبه، ولا اعتماد إلا عليه، ولا مرجع إلا إليه، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله ما مال عن الحق إلى الخلق، وما فارق العدل والصدق، صلى الله عليه وآله وسلم تسليما كثيرا.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله الذي ما فارق تقواه مفارق إلا و فارق النجاح، و كان إلى انحدار، وما خرج من طاعته من أحد إلا وصار إلى خسار، ومن لزم تقوى الله لزم الجادة التي لا تنقطع به دون الغاية الكبرى، وكانت معراجه إلى الكمال وأسمى مرتقى.
عباد الله ألا فاعتبروا بمن مضى، ممن جمع من الدنيا ما جمع وأوعى، وأُرغم على الرحيل منها للذاتها مفارقا، ولآثامها متحملا، وبأوزارها مثقلا.
وليس الخاسر من جمع للدنيا وأكثر، ونسى الآخرة وأهمل، دون من كان همه دنياه، وسعيه لها دون أن ينال منها ما أراد ، أو يدرك ما طلب، فهذا وذاك خاسر، والى الشقاء صائر.
الدنيا معبر، وفي الآخرة المقام، ولا يستويان، وقد سفه من استويا عنده نظرا أو عملا، ومن قدم المعبر على المقر، واشتغل بهمه عنه فسفهه أشد السفه، وسقوطه أشد السقوط، وحسرته أكبر الحسرات.
اللهم صل وسلم على عبدك المصطفى وآله أهل الوفاء، وأعذنا من سفه يشغلنا بالدنيا عن الآخرة، وينسينا بها دار المقام، ويلهينا بحطامها عن دار السلام.
أما بعد أيّها المؤمنون والمؤمنات:
فكيف أصبحت؟ وكيف أصبحتِ؟ وكيف أصبحتم أسئلة يطرحها النّاس على بعضهم البعض وفي الإجابة على هذه الأسئلة نقف للمربين الإلاهيين، وقادة البشرية على ما يأتي على ما نقل عنهم عليهم السلام:-
طُرح على عيسى ابن مريم على نبينا وآله وعليه وجميع أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة والسلام كيف أصبحت؟ وحسب النقل جاء عنه عليه السلام:
1. “لا أملك ما أرجو، ولا أستطيع ما أحاذر، مأموراً بالطاعة، منهيّاً عن الخطيئة، فلا أرى فقيراً أفقر مني”.
تتحدث الكلمة عن مملوكية تكوينية وتشريعية تامّة، واعتماد مطلق على المالك المطلق، وحاجة شاملة إلى الرعاية والمدد حتى في أمر العبادة إذ لا ملك لها إلّا بتمليك.
إذاً لا استكبار، ولا غرور أو فرعونية. وذاتٌ تشعر هذا الشعور تتعلق دائماً بالله، وتطلب رضاه، ولو حكمت في الأرض لا تأتي ظلماً ولا هضماً، ولا ترتكب شرَّاً ولا بغياً ولا فساداً.
ولك أن تقارن هذه النفس بنفس طغت، واستكبرت، وتفرعنت ولم يدخلها خوف الله، ولم تتملك عليها هيبة الله أقطار ذاتها.
عن الرسول صلى الله عليه وآله حين سُئل كيف أصبحت؟
2. “بخير من رجل لم يصبح صائماً، ولم يعد مريضاً، ولم يشهد جنازة”. الخير في الإنسان والخيرية بالعمل الصالح، وهو من دون ذلك لا خير فيه مما كسبت يداه، والخير والخيرية بالعمل الصالح وبالطاعة والعبادة، والعبادة والطاعة مرة تكون فردية، وأخرى تكون اجتماعية، ففي نفع الناس وفي الذود عن المظلوم، وفي الدفاع عن المحروم، عبادة لله تبارك وتعالى لا يبلغ مدى منزلتها عند الله وثوابها إلا علمه. ووظيفة اليوم كل يوم في حياتنا العبادة، وإلَّا كان اليوم من الرصيد الخاسر، أو سبباً لشقاء مقيم.
وعن أمير المؤمنين وقد سُئل هذا السؤال في النقل:
3. “أصبحنا وبنا من نعم الله وفضله ما لا نحصيه، مع كثير ما نحصيه،- نعم لله نحصيها وهي كثيرة في إحصائنا، ونعم لله لا يصل إليها عقل الأنبياء والأئمة عليهم السلام على حد الإحصاء، فضلا عن عقول سائر البشر، هذا ما تعطيه الكلمة- فما ندري أيَّ نعمة نشكر؟! أجميل ما ينتشر، أم قبيح ما يستر؟”.
الله يصحح لنا شخصياتنا، ويبقي لنا وزنا في مجتمعاتنا على ما نحن عليه من سوء، وعلى ما بيننا وبينه من سيئات لا يعلمها إلا هو، هذا التصحيح للشخصية فيه رحمة من الله ليسع الإنسان أن يعود إلى الدرب، وإلا لأسقطه مجتمعه الإسقاط الكامل، وربما بعثه ذلك على مزيدٍ من التمرد.
هذه نعمة لا يلتفت إليها الكثيرون؛ نعمة أن تبقى في الناس محترماً، نعمة أن تبقى في الناس محل تقدير وظن حسن، إن في هذا ما يساعدك على الاستقامة والطاعة، وما يعطيك أن تقوم بدور نافع في الناس.
أصبحنا بين اثنتين: إحسان وجميل من الرب، وتقصير وقبيح من العبد…. والذين ينسيهم ذكر الله ظرفٌ ضاق لحكمة، ولحظة عسر كتبت تأديباً ورحمة غافلون، والذاكرون لله العارفون به يعلمون أن ليس من الله إلا الجميل.
4. “كيف يصبح من يفنى ببقائه، ويسقم بدوائه، ويؤتى من مأمنه؟!” عن أمير المؤمنين.
لا حيلة لبشر أن ينجو من قدر الله، إنّها المملوكية التامة، والمحكومية الكاملة، العبد الذي يتراءى له أنه حر يعيش الوهم القاتل، وحين يتصرف أحدنا على أنه حر وهو في واقعه عبد مأسور في كل لحظة من لحظات حياته، وفي كل خاطرة من خواطره، وفي كل قوة من قواه، وفي أصل مبدئه ومصيره، وفي استمراريته في هذه الحياة؛ حين يتعامل أحدنا مع الحياة ومع الأشياء على أنه حر فإنه يحفر قبر شقائه بنفسه.
لا بد للعبد أن يستكين لمالكه، أن يجدّ في استثمار وقته، أن يستعد ليوم رحيله.
5. “كيف يصبح من كان لله عليه حافظان، وعلم أن خطاياه مكتوبة في الديوان، إن لم يرحمه ربه فمرجعه إلى النيران” عن أمير المؤمنين (ع).
لا بد من مراقبة ومحاسبة للذات، واحتياط للمستقبل؛ المستقبل الكبير وليس مستقبل الوظيفة الدنيوية والمركز الاجتماعي؛ المستقبل الأبدي، المصير الكبير، هنا نعيش سنوات، والسنوات تعقب شقاءا أبديا، أو سعادة أبدية، والعاقل من استعد للمستقبل البعيد الكبير الذي هو محل وعد الله ووعيده، وتضرع إلى الرب، وأصبح محترساً من المضلين، مجتنباً لأهل النار من بعيد وقريب ولو كان أخاً أو ولداً.
6. “أصبحت ولي ربّ فوقي-الفوقية غير الحسية، الفوقية المعنوية، الفوقية الشأنية، شأن الربوبية فوق شأن المربوبية، وشأن واجب الوجود فوق شأن ممكن الوجود-، والنار أمامي، والموت يطلبني، والحساب محدق بي، وأنا مرتهن بعملي، لا أجد ما أحب، ولا أدفع ما أكره، والأمور بيد غيري، فإن شاء عذَّبني، وإن شاء عفا عني فأيُّ فقير أفقر مني” الحسن بن علي عليهما السلام وكذلك الحسين (ع).
هذه هي روحية القادة الإلاهيين، هذه هي نفسيتهم، هذا هو وعيهم، وهو وعي دافع لا معطّل، وعي محرك لا مشل، وعي مصلح لا مفسد، وعي يستوعب كل لحظات الحياة بالجد والفاعلية النشطة على درب الخير، زرع الخير، زرع العدل، زرع السلام، الأئمة عليهم السلام كانوا ينثرون في هذه الحياة الورود، يعبقونها بالطيب، يزرعونها بالعدل، بالإحسان بالهناءة بالسلام، قارنوا بين هذه النفسية والوعي والعزم ومعرفة قيمة الوقت وبين قادة الدنيا المستغلين الناهبين العابثين.
انظر من أنت –على ضوء الكلمة- فلا تتكبَّر، ولا تغتر ولا تدعى أنك حرٌّ تكويناً، ولا حر تشريعاً.
7. “أصبحت مطلوباً بثمان خصال: الله تعالى يطلبني بالفرائض، والنبي صلى الله عليه وآله بالسنة،- والسنة لها معنيان: بمعنى المستحب، وبمعنى الواجب الذي لم ينزل به قرآن، وإنما انفردت به السنة- والعيال بالقوت، والنفس بالشهوة، والشيطان بالمعصية، والحافظان بصدق العمل، وملك الموت بالروح، والقبر بالجسد فأنا بين هذه الخصال مطلوب” عن زين العابدين (ع). إن كنت تجد ذلك واقعاً ولا أظن أن لك مفرا من أن تعتقد بواقعية هذه الأمور، فأين الحرية؟ وأين الفرصة للتسيب والإهمال واللامبالاة أو التلهّي واللعب في الحياة؟!
الكلمات كلها تركز الشعور بقيمة الوقت، والمسؤولية العميقة، وتدفع لاستثمار العمر، وتطالب بمعرفة موقع العبودية، والتعامل مع كل شيء على أساس عبودية العبد للرب الواحد العليم الخبير، العلي القدير، الرقيب الحسيب، المنعم المتفضل، فلا غرور ولا استكبار، ولا خنوع لأحد غير الله، ولا ظلم، ولا عبثية، ولا غفلة، ولا نسيان. إنه لا بد من جد وعمل صالح، وطاعة مخلصة لله، ودور نشط فعال خيّر في الحياة، واستثمار دقيق للعمر، ومبادرة للصالحات، بلا كسل ولا فتور.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وارزقنا واخواننا المؤمنين والمؤمنات الجد في الخير، ودوام الطاعة لك، والإخلاص في عبادتك، والاستكانة إليك، والاستغناء بعبادتك، واغفر لنا جميعاً وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم. واغفر لوالدينا وأرحامنا وجيراننا ومن كان له حقّ خاص علينا من أهل الإيمان والإسلام يا أكرم من سُئل، وأجود من أعطى.
بسم الله الرحمن الرحيم
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا هدى إلَّا من عنده، ولا خير إلا من فيضه، ولا نعمة إلَّا من فضله، ولا حول ولا قوّة إلا به، والمُلك ملكه، والسلطان سلطانه، والأكوان من خلقه وفي قبضته، وقائمة بتدبيره.
أشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وآله وزادهم تحية وسلاماً.
عباد الله علينا أن نتقيَ الله، ولا نعدلَ به أحداً من خلقه، وما أجرم أحدٌ على نفسه جُرْمَ العادلين بالله من خلق ورزق، ويحيي ويميت. وكيف لا يتقي العبدُ من بيده أمرُه، وإليه مآله وهو يصبح ولا يمسي، ويمسي ولا يصبح، ولا يملك أن يُتبع نَفَساً نَفَساً؛ ولا طرفة عين أخرى؟! كيف يُتعلق بالأسباب، ولا يتُعلق بمسبب الأسباب وربِّ كل سبب سبب؟! كيف يُخاف من الأقوياء، ولا يُخاف من أقوى من كلِّ قوي؟! كيف يرجى أهل الإحسان على نقصهم الذاتي، ولا يرجى رب الإحسان كله على كمال ذاته وجمال صفاته، وجلال أسمائه؟! كيف يعشق جمال المعنى المحدود في الخلق، ولا يُعشق جمال المعنى المطلق للخالق؟! كيف تُشكر العطايا القليلة الصغيرة المنقطعة من المرزوقين، ولا تُشكر العطايا والمواهب الغفيرة الكبيرة الدائمة من الرازق؟!
اللهم اجعل خوفنا من عدلك، ورجاءنا في إحسانك ورحمتك، وشكرنا لكريم نوالك، وعشقنا لجلالك وجمالك. اللهم صلّ وسلّم على البشير النذير والسراج المنير خاتم النبيين والمرسلين محمد وآله الطّاهرين. اللهم صلّ وسلّم على أمير المؤمنين وإمام المتقين. اللهم صلّ وسلّم على أمتك الرضية فاطمة الزهراء المهدية.
اللهم صلّ وسلّم على السبطين الطاهرين والإمامين الزاكيين الحسن بن علي وأخيه الحسين.
اللهم صلّ وسلّم على أئمة المسلمين وعزِّ المؤمنين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري الهداة المهديين.
اللهم صلّ وسلِّم على إمام العصر، والمبشَّر بالنصر، الزكي بن الزكي، محمد بن الحسن الهادي المهدي. اللهم عجّل فرجه، وسهل مخرجه، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً يسيراً وأعزّ به دينك وأولياءك، وأقم به ما عطل من حدود دينك، وأحكام كتابك يا قوي يا عزيز.
اللهم عبدك الموالي له، السائر على دربه، المهتدي بهديه، الممهّد لدولته والفقهاء العدول والعلماء الأخيار، والمجاهدين في سبيلك من المدافعين عن دينك وأوليائك أيدهم وسدّدهم وأظهرهم على مناوئهم وذد عنهم يا عزيز يا قهّار.
أما بعد أيّها المؤمنون والمؤمنات فقضية يوم القدس العالمي، وقضية الحوار المذهبي في القناة المستقلة موضوعان لهذا الحديث.
القضية الأولى: يوم القدس العالمي:-
إنّ للأمة همومها وقضاياها المصيرية الكبيرة الكثيرة، ويوم القدس العالمي يركِّز على واحدة من هذه القضايا المصيرية الملحّة. وقد أُعدّ هذا اليوم مناسبة للتعبئة الفكرية والشعورية والعملية بالمستوى الممكن والشامل في إطار الأمة بكاملها لتتحمل مسؤوليتها الرسالية والتاريخية من قضية تحرير القدس بالقدر الذي تحتمه الشريعة، ويتناسب مع موقع العزة والكرامة للأمة الوسط الشاهدة على النَّاس.
إنّ هذا اليوم من أجل تركيز الشعور بوحدة الأمّة، وتفعيل هذه الوحدة، وممارستها واقعاً بصورة عملية مشاريعية منتجة، ومواقف وحدويَّة جادة على الأرض في قضية من أهم قضايانا لتكون منطلق مسار عملي وحدوي منتج في كل القضايا المصيرية المشتركة.
إنه من أجل الخروج من واقع الضعف والفرقة والتشرذم والهزيمة والأسر، ومن أجل الانعتاق من أغلال المفاهيم الدخيلة، والطروحات المعوِّقة التي تشل حركة الأمة وتقتل قابلياتها، أو تعزلها عن مسارها الحضاري الذي تخرج به من الظلمات إلى النور.
إنه من أجل رصِّ الصفوف، والتعالي على الصراعات المغرضة التي تريد لنا أن نغرق في الخلافات والمهاترات المؤدية إلى احتراب الأخوة، وإلى حالة من الفوضى والانهيار.
وصفوفنا لا تُرصُّ، والفوضى فينا لا تنتهي إلا بالالتفاف بثقافة القرآن والسنة في خطّها الوضيء الساطع، والتركيز على قضايانا الرئيسة، والتمحور حول الحل الإسلامي لكل هذه القضايا، والعمل على تنشيط أسباب الوفاق في الوعي والشعور والخارج، وما أكثرها؟!
هذا اليوم لم يأتِ من منطلق الدعوة المذهبية ليكون خاصّاً بأهل مذهب واحد، ويؤطَّر بحدود هذا المذهب المعيَّن، ولا هو بالذي يصبُّ في مصلحة مذهب على حساب مذهب. إنّه دعوة لكل المسلمين، ولكل من يحب العدل والسلام في العالم، ولمصلحة الأمة، والسلام العالمي كلِّه.
يوم من أجل المقدسات الإسلامية والدينية عامة، وينبغي للمسلمين أن يتعاملوا معه من منطلق النظرة الواسعة والوحدويَّة التي انطلق منها، وشدَّد عليها التأكيد.
ونداء يوم القدس العالمي كما هو ليس مذهبياً فكذلك ليس قوميَّاً أو قطريَّاً ليوضع في هذه الحدود، ويُتعامل معه هذا التعامل. إنّه نداء لكل المسلمين، وأصحاب الضمير الحي، ولكل من يرفض البغي في الأرض، ولغة الغاب واحتلال ديار الآخرين بالحديد والنار.
والطريق إلى القدس بما هي أرض النبوات والوحي والقيم الإلهية المقدَّسة يرسمه ويتكفل به الإسلام، وليس غيره. واسترداد القدس لا بد له من عزة عملية فعلية ظاهرة للإسلام وهو العزيز شأناً ومعنىً وقيمة؛ فواقع هذه العزة هو الكفيل باسترداد القدس، على أن استردادها يزيد من واقع العزة الإسلامية على الأرض، ويمكِّن له في النفوس والواقع.
وبقاء القدس بيد الصهاينة الغاصبين لا يكون إلا بتخلُّف المسلمين عن إسلامهم، ولن تبقى القدس مغتصبة أبداً لو عادت الأمة إلى هويتها الإسلامية الأصلية.
وأمنية تحرير القدس بالمعنى الدقيق والشامل للتحرير لا تتحقق إلا على يد جند الإسلام، وتحت رايته؛ راية الهدى والحق والعدل والعزّ والكرامة.
إنّ الأمة محتاجة إلى أقصى حد أن تقترب من واقع الإسلام، كي تقترب من يوم النصر، ويوم الفتح للقدس، ولكل شبر مضيّع، ويوم الاسترداد لكل حق سليب، وموقع عزّيز منتهب.
وحين يكون يوم القدس لوحدة الأمة، والوطن الإسلامي الجامع الكبير، فهو لا يمكن إلَّا أن يكون لوحدة كل وطن من أوطان الأمة الواحدة، فإذا كان للوحدة الإسلامية الشاملة الكبرى – وهو كذلك – فلا بد أن يكون يوم وحدة لا فُرقة داخل كلِّ وطن من أوطاننا نحن المسلمين.
ويومٌ كان للإيمان والإسلام، وشحذ الهمم الخيّرة، وللقيم والأخلاق الرفيعة، وللرجولة والعزة والكرامة، وللجهاد والنصر، يفرض أن تكون شعاراته وأنشطته وفاعلياته وحدويّة؛ تصب في مصلحة الوحدة الكبرى، ووحدة كلِّ وطن من أوطان الإسلام، وأن تكون في مستوى الهدف، ومن طبيعة شرفه ونقائه وصفائه، معبّرة عن وعي وإيمان ورؤية دقيقة صادقة، منصبّةً على نصرة القدس وفلسطين الإسلام، والفلسطينيين المضطهدين، والتأكيد على مواصلة الأمة جهادها حتى النصر بعيداً عن كل ما يسيء للخلق والحكم الشرعي ومصلحة الأمة العامة في أي وطن من أوطانها.
القضية الثانية: الحوار المذهبي في القناة المستقلة:-
1. ليس بيدنا ما يحقُّ لنا به أن نؤكد أو ننفي أي نوع من المنطلقات، وخلفية النيَّة لمشروع هذه القناة في هذا الحوار في الظروف الخاصة التي تواجه فيها الأمة استهدافاً حضاريَّاً شرساً، وتهديداً لكامل وجودها، ولوحدتها المتصدعة كثيراً قبل ذلك لعدد من الأسباب التي يبرأ منها الإسلام. ولكن بالرغم من ذلك فإن قلقاً يساور الكثير من المسلمين مما قد يترتب من نتائج تضرّ بالوحدة الإسلامية على مستوى الشارع المسلم خاصة في ظل لغة العواطف والانفعال التي تسود أجواء الحوار وتُوتِّرها. ولا بد لنا أن نقلق جميعاً لما يحتمل فيه أن يضر بوحدة المسلمين، ويمزق صفوفهم أكثر مما هي عليه من تمزّق.
2. الحوار الذي يجري باسم الإسلام لا بد له من اعتماد أساليب ذات صبغة إسلامية مشرقة بعيداً عن لغة السبِّ والشتم وكيل الاتهامات بلا دليل، وأن يقدّم إلى العالم صورة عن الأدب الإسلامي الرفيع في الحوار، والدقة العلمية على طريق طلب الحقّ. ومثل هذا الحوار نفسه في ذلك المداخلات المشاركة فيه من الخارج.
3. مهما دقَّت لغة الحوار المشار إليه والتزمت الروح العلمية في الطرح واقتربت من الحالة البرهانية، فلا يمكن له وهو يخاطب جماهير بمستويات متفاوتة، ويحاول أن يُفهمها أن يبلغ من الدقة والعلمية وروح التحليل والمقارنة والدراسة الهادئة ومحاكمة النصوص والملاقاة بينها ملاقاة علمية مستساغة ما هو المطلوب والمعاش بدرجة كبيرة في لغة البحث في أروقة الحوزة العلميَّة وحلقات درسها التي تلقى فيها المحاضرات على مستويات علمية متقدمة من أهل الكفاءة والاختصاص. أريد أن أقول أنّه مهما حاول المتحاورون في مثل هذه الحوارات الجماهيرية أن يكونوا على دقّة إلا أنّهم لا يملكون أن يتوفروا على الدقة العلمية البالغة والتي هي معروفة في أوساطنا الحوزوية حيث يكون السامع للمحاضرات من أهل الكفاءة العالية والاختصاص.
4. يحسن أن تكون ندوات علميّة خاصة بين فقهاء الأمة وكبار علمائها من المذهبين الإسلاميين تتصف بالهدوء والنَفَس الطويل، وتنطلق من روح البحث العلمي المحض والإخلاص للإسلام الحقِّ، بقصد التقارب لا التباعد، والإنارة لا الإفحام، وللتوصل للمشتركات، وإبداء فلسفة ما عليه الاختلاف، فإما القناعة بالرأي الآخر، وإما الإحترام المتبادل، والتعاون على الخير، ودفع الأخطار المحدقة بالإسلام. أمَّا الآخرة وحسابنا فيها جميعاً فأمره إلى الله، ولن تزر وازرة وزر أخرى.
وليس في الإسلام أن نقتتل في إطاره على المذاهب، وأن يستبيح مسلم مسلماً لاختلافه معه في المذهب.
5. ينبغي للذين يتابعون مناظرات المستقلة الجارية هذه الأيام أن يحترسوا من تسلل روح الفُرقة إلى نفوسهم من خلال الحماس المذهبي الذي تثيره أجواء الحوار المتوترة، وأن تدفعهم هذه المتابعة إلى التعامل مع الثقافة الإسلامية تعاملاً جادّاً بدرجة أكبر لبناء عقيدة صحيحة متينة راسخة. وكلما أثارت المناظرات الجارية شبهةً في نفس من يتابعها كان عليه أن يستوضحها من أهل الاختصاص. وإنّ مدرسة أهل البيت عليهم السلام لقادرة أن تواجه أي شبهة بما يكشف غموضها ويزيل عنها الستار، ويجلِّي الحق.
6. نحن لا نخشى على مذهب أهل البيت عليهم السلام من استمرار النقاش، فليس من الإشكالات المطروحة وما يماثلها وما يشبهها إلا والعلماء المختصون على اطلاع به، ويمتلكون ما يرده نهائيّاً بلغة العلم والحجة القاطعة، لكننا –وكما سبق- نخشى من شحن الأجواء العامّة في صفوف الأمَّة بروح الطائفيّة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية بين المسلمين، ليكون في ذلك القاصمةُ لظهر الأمة بكاملها، والتمكين لعدوّها بالسهولة المطلوبة له من دون أن يدفع ثمناً من جيبه إلّا ما يكلفه الإعلام التحريضي على الفتنة، وأجرة العملاء.
أيّها الأحبة المؤمنون علينا أن نعيَ تماماً أهمية الوحدة الإسلامية الكبرى، ووحدتنا الوطنية الداخلية، وتعاوننا جميعاً شيعة وسنّة، شعباً وحكومة للنهوض بمستوى هذا الجزء من الوطن العربي والإسلامي الكبير، وصيانة مكتسباته وترشيد حركته، وتنشيطها على طريق التقدم والإصلاح… طريق البناء والعلم والخير والفضيلة والتقوى، والقيم الإلهية الرفيعة والاعتراف بالحقوق.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد، ووحِّد صفوف المسلمين، واجمع كلمتهم على التقوى، وانصرنا على الصهاينة المعتدين، وطهِّر المسجد الأقصى من رجس الظالمين، واغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات أجمعين ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ومن له حق خاص علينا منهم يا رحيم يا كريم.
(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون).