خطبة الجمعة رقم (82) 18 شعبان 1423هـ – 25-10-2002م

مواضيع الخطبة:

جنة الدنيا وجنة الآخرة – الولاء للوطن

الحب لا تصنعه القوة والاكراه انما يصنعه العدل والاحسان حتى في دائرة العلاقات الرحمية الاب لا يستطيع ان يملك قلب ولده لو لم ير منه الا الغلظة ولو لم ير منه الا الظلم ولو لم ير منه الا الاهمال .والاب قد لايبقى على حبه كله مع ولد عاق، فاذا كانت العلاقات الرحمية لاتقاوم من اجل الاستمرار والمتانة سوء المعاملة ، والتفريق والظلم ، فان هذا ياتي تماما في علاقة الشعوب مع الحكومات

الخطبة الأولى

الحمد لله لكمال ذاته، وجمال صفاته، وجلال أسمائه، وجليل نعمائه.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسع الأشياءَ كلها رحمة ولطفاً، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله أرسله هادياً ومعلماً ومنقذاً ومبشّراً ونذيراً؛ أدَّى ما حمله من الرسالة، وبلّغ ما كلفه من الأمانة، وأنار بوحي ربه العقول، وأحيا القلوب، وقوّم النفوس. صلى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً.

عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله والأخذ بأسباب رحمته من التمسك بالطاعة، وتجنُّب المعصية، والتزام هدى رسله، والأوصياء من أوليائه، وتقديم من قدَّم، وتأخير من أخَّر. وإنّه لمما يليق بالمؤمن أن يتنبه لقيمة حياته، ويكون أحرص على إصابة الحكمة في إنفاقها منه في إنفاق ماله، وإن كان ماله من حياته، ولا بد أن يكون السديد الرشيد في إنفاقه. فحياة تنفق في سبيل الله تربح صاحبها الأبد، وحياة تنفق في سبيل الشيطان تشقي صاحبها مطلقاً بلا أمد، وحياة ينهيها الفراغ تعقب الحسرة والكمد.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد واجعل حياتنا عامرة بطاعتك، مبذولة في سبيلك، رابحة عندك يا أرحم من استرحم ويا أجود المعطين.

أما بعد أيُّها المؤمنون والمؤمنات فهناك جنتان:
جنّة في الدنيا، وجنّة في الآخرة، وكلا الجنتين فيهما جنّة بدن وروح. ولا تنال جنّة من الأربع لأمة، وحتى لشخص واحد مع التأمل إلا بأن يسلك طلّابها طريق الإسلام، ويلوذوا في حياتهم بقيادة أولياء الله من رسول أو وصيّ رسول، أو آخذ منهم بزاد من علم ومن تقوى، ومقوّمات أخرى تضعه على الصراط.

ولن تخرج الدنيا من فتنتها، واقتتال أهلها على مأكل ومشرب وملبس ومسكن وزينة وتفاخر بالأموال والأولاد لتخرج من شقاء الأبدان، أو تلتقي بجنة جسد أو روح فيها وهي تنأى عن دين الله وأوليائه، وتركض وراء هوى الشيطان. وأين دنيا تتّبع الهوى، ويحكم فيها الضلال من جنة الآخرة؛ جنّة أبدان أو جنّة روح؟!!
ستواقع الدنيا الجنّة هنا أو ستكون جنّةً روحاً وبدناً حين تستسلم للإسلام، وتنقاد للإمام… إمام العصر… إمام العدل والهدى والأمن والسلام.

وعندئذ تفضي من خلال جنة الروح فيها إلى جنَّة الآخرة وهي أتمّ وأشمل وأغزر بالحياة، وأثرى بالهناء، وأرقى معرفة وأكبر رضا، وأضحى وأصحى، وفيها الخلود والاستمرار والدوام.

وجنّة الآخرة وخاصّة جنة الروح فيها وما هو من تلك الجنة الروحية في الدنيا هو ثمن النفس لا ما دونه “ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها”، ولا جنة بلا ثمن؛ لا جنة دنيا، ولا جنة آخرة. وطالب جنة بلا ثمن يعيش أحلامه الكاذبة.
فعن جنة الآخرة “إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنّة….” 111/ التوبة.

وأحدنا يعطي لشيء من الدنيا زائلٍ فانٍ لا يعيش فيه الهناءة إلا قليلا، وهي هناءة ناقصة مجزوءة… يعطي لهذا المطلب الرخيص عمره، مستواه العلمي، ومعرفة أيامه، وانتماوه الديني، وانتماوه الوطني، وانتماوه القومي، وكل غال ورخيص في حياته، فكيف بالواحد منا يطلب الدنيا بأغلى الأثمان وقد يكون من ثمنها عمره، وهو يطلب الآخرة بلا ثمن. جنة الآخرة لها ثمن وثمن كبير، وإذا كان للإنسان أن يعطي نفسه فإنه لا يعطيها إلا لها…. لايطيها إلا إذا جعلها ثمنا للجنة… لرضوان الله، لأنه هنا إنما يعطي منها أياما معدودة، ويعطي منها حياة حيوانية منقضية ليستوفي حياة أبدية خالدة على مستوى البدن والروح، وليستوفي أغزر حياة، وأصدق حياة، حياة في جوار الله. فإذاً أنت هنا رابح، وحين تعطي نفسك ثمنا لأي شيء آخر غير الجنة ورضوان الله فلا بد أن تكون الخاسر الخسران المبين، لأنك بذلك تنهي وجودك المعنوي، وتنفصل عن رحمة الله، حيث تستهين بما عرض من صفقة، وتدخل في تجارة مع غير الله. ومن استهان بالتجارة مع الله، والله يعرض على العبيد المملوكين له، والمملوك كلّ ما في يدهم له سبحانه وتعالى تجارة، هي أن يعطوا من أنفسهم مدة قليلة في هذه الحياة، ليحيوا حياة أبدية سعيدة لا انقضاء لها، ولا كدر يشوب لحظة من لحظات الوجود فيها.

وعن جنّة الدنيا – ويومُها يوم انتصار الإسلام على يد صاحب الزمان عليه السلام– جنّة الدنيا لا تتأتّى إلا في يوم واحد، جنة الدنيا تبدأ بعد انتصار الإمام عليه السلام، وإنّ الطريق إليها على يده الكريمة شائكٌ مكلفٌ مرهقٌ. فعن أبي عبد الله (ع) “إنّ القائم عليه السلام يلقى في حربه ما لم يلقَ رسول الله صلى الله عليه وآله وآله وسلّم – يلقى عنتاً، يلقى شدّة، يلقى مقاومة عنيفة، يلقى فكرا فلسفيا مؤصلا وفي إطار الإسلام المنحرف. ربما لقي عقيدة صلبة على غير الخط الصحيح للعقيدة الإسلامية – لأن رسول الله “صلى الله عليه وآله” أتاهم وهم يعبدون الحجارة المنقورة والخشبة المنحوتة- وهذا فكر مهلهل، غير مفلسف، غير مؤصّل، فكر سطحي، لا يلبث صاحبه أن يفيق على الحقيقة، فيتركه إلا من خلال تلبث العادة فيه، أما القائم عليه السلام فيجد فكراً غير هذا الفكر-، وإن القائم يخرجون عليه فيتأولون عليه

كتاب الله ويقاتلونه عليه” البحار ج52 ص 363. فيواجه مقاومة عنيفة شرسة من داخل الأمة وربما يسبب طغاتها الذين يضللون جماهيرها باسم الإسلام، كما يفعلون في كل مرة.

والإمام القائم سيتحرك بِمَن؟ سيقاوم بمن؟ بالمؤمنين فهناك مرحلتان مرحلة الطريق لتحقيق النصر، ومرحلة ما بعد النصر، وإذا كانت جنة أبدان وجنة راحة ورفاه، وعلاقات اجتماعية مستقرة وعدم قلق، وما إلى ذلك فإنما هو بعد النصر، أما الطريق إلى تحقيق النصر فهو طريق شاقٌ مكلفٌ صعب، ومن لم يبنِ نفسه اليوم على تحمل شدائد ذلك الطريق فليس هو مع الإمام القائم عليه السلام على الطريق. فإذا جنة الدنيا وهي التي تتحقق يوم النصر لا يكون تحققها إلا من خلال جهاد مرير وأتعاب مضنية.

أما عن وضع هاتين الجنتين؛ جنة الحياة الأولى، وجنة الحياة الآخرة:-
فالأولى وموعدها بعد الظهور والانتصار قد جاء فيها:

“… ويجمع – أي الله يجمع للقائم عليه السلام- إليه أموال الدنيا من بطن الأرض –كل كنوز الأرض تكون تحت تصرف الإمام القائم عليه السلام أي تخرج الأرض كنوزها وهذا لا يحتاج إلى غيب وإنما يكون إخراجا طبيعياً من خلال سياسة حكيمة عادلة، ومن خلال الدفع بحركة العمل الجهادي على كل الأصعدة، ومن خلال الوضع السياسي الصحيح، ومن خلال الإيمان بقيمة العمل والجهاد تحت راية الإمام القائم عليه السلام، لا نحتاج هنا إلى إدخال العنصر الغيبي في التقدم السياسي والاقتصادي والاجتماعي أيام الظهور وإن كان لتوفيقات الله الغيبية دور واضح مع جهاد الإنسان، وجهده الكبير حين يوضع على الخط؛ فإن الجهاد البشري حين يوضع على الخط الصحيح منتج إنتاجاً كبيراً هائلاً نافعاً- وظهرها –الزراعة والصناعة-، فيقول للنَّاس –أي الإمام القائم عليه السلام-: تعالوا إلى ما قطّعتم فيه الأرحام، وسفكتم فيه الدماء الحرام، وركبتم فيه ما حرَّم الله عزّ وجل – ها هو ميسور، ها هو مبذول-، فيُعطي شيئاً لم يعطه أحد كان قبله – يثري إلى الحد الكبير جدّاً، بحيث يستكثر الآخذون العطاء ويملون كما سبق في الحديث -، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً ونوراً كما ملئت ظلماً وجوراً وشرّاً” البحار ج52 ص 352 – 351 ج 103. فهنا جنّتان: جنّة بدن، وجنة روح “يملأ الأرض عدلا وقسطا ونوراً بعدما ملئت ظلما وجورا شرّاً”، وفي حديث آخر:”… ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها، ولأخرجت الأرض نباتها، ولذهبت الشحناء من قلوب العباد –جنبة مادية، وجنبة معنوية-، واصطلحت السباع والبهائم،

حتى تمشي المرأة بين العراق إلى الشام، ولا تضع قدميها إلا على النبات، وعلى رأسها زبيلها لا يهيّجها سبع ولا تخافه” البحار ج 52 ص 316 ج 11.

“إنّ المؤمن في زمان القائم –عليه السلام- وهو بالمشرق ليرى أخاه الذي في المغرب، وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي في المشرق” البحار ج52 ص 391 ج 213.
الآن العلم أوصلنا إلى أن نرى صور إخوان لنا في الآدمية في المشرق ونحن في المغرب أو هم في المغرب ونحن في المشرق، أما في دولة القائم القائم عليه السلام وبحسب ظاهر الحديث أنك ترى أخاك لا صورته فقط. “إنّ المؤمن في زمان القائم –عليه السلام- وهو بالمشرق ليرى أخاه الذي في المغرب..) لا يرى خياله فقط ، وإنما ترى شخصه حسب ظاهر الحديث، وهذا تقدم علمي متفوق.

نسأل: وما هو الجديد الذي يحوّل الدنيا جنّة ويزرعها خيراً؟ ماذا سيجد؟ ستنزل ملائكة؟ ستخرج الأرض كنوزها تلقائيا؟ (ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض).

يقول الحديث:”إنّ العلم بكتاب الله عزّ وجل وسنّة نبيه صلَّى الله عليه وآله ينبت في قلب مهديّنا كما ينبت الزرع على أحسن نباته، فمن بقي منكم حتى يراه فليقل حين يراه السلام عليكم يا أهل بيت الرحمة والنبوة، ومعدن العلم، وموضع الرسالة، السلام عليك يا بقيّة الله في أرضه” المصدر ص17-318 ج 16. الحديث جامعٌ مانع. الحديث يقول أن الجديد في أمر الدنيا حين ظهور القائم عليه السلام أن علم الكتاب على واقعه وحقيقته، وليس على المستوى الاجتهادي فقط متوفر للقيادة، ويقول أن القيادة هي القيادة التي اختارها الله سبحانه وتعالى في أكبر نصابٍ لها، في أتم نصابٍ لها، والقيادة المختارة لله عز وجل في أتم نصاب لها مصاديقها أهل بيت الرحمة والنبوة. وقائد من أهل بيت الرحمة والنبوة، رحيم بالعباد، روح النبي صلى الله عليه وآله بين جنبيه، وشفقة النبي، وأخلاقية النبي، وعلم النبي، وسيرة النبي، وعدل النبي، وهو معدن العلم، وموضع الرسالة حفظاً وتبليغاً وتطبيقاً. نعم هذا الذي جدّ في الأمر؛ ظهور بقية الله، وآخر مخزون من النماذج الإنسانية الكاملة، وآخر واحد من الكمّل على مستوى البشر صلوات الله وسلامه على الكمل، وهو بقية الله في الأرض، الشمس الوحيدة التي ينتظرها العالم. الجديد في الأمر أن بقية الله، بقية من اصطفاهم الله، من اختارهم الله، البقية التي أبقاها الله لإنقاذ الأرض تظهر وتحكم. هذا هو الجديد ودائما الأوضاع في صحتها وسقمها من تواجد الإسلام وخفائه، من ظهور الإسلام وغيبته، من صحة الإسلام وتزويره.

في حديث آخر”…. يصنع ما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله – هذا هو الجديد أيضاً بلسان آخر يهدم ما كان قبله – يعني البناء الذي تبنيه الأرض على مستوى الفكر والشعور والرؤية الكونية والفهم السياسي، والفهم للرجل، والفهم للمرأة، والفهم للعلاقات والحقوق فهم جاهلي سيأتي عليه الهدم من المعصوم عليه السلام. فيه كثير من الغلط، وفيه كثير من التزوير، ودرجة الانحراف التي يعاني منها عن خط الإسلام الصحيح في اتساع دائم-، كما هدم رسول الله صلى الله عليه وآله أمر الجاهلية ويستأنف الإسلام جديداً” المصدر ص352 ج108. ومن خلال ثقافتنا التي تقترب من الغرب، وتبتعد من الإسلام يوميا سنبني إسلاما يحتاج إلى أن يهدمه القائم عليه السلام. يهدم الإسلام الموجود الآن بالفهم المزور، ويستأنف إسلاما جديداً على فهمنا، جديداً على قناعاتنا، جديدا على من انطوت عليه مشاعرنا ونظراتنا ورؤانا.
تلك جنة الدنيا وعرض سريع عنها.

والثانية –وهي جنّة الآخرة- مما جاء فيها:

“مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها” 35/ الرعد.
المقصود راحة تامة، عدم نقص أصلا، سعادة بلا شوب، هذا مستوى جنة الأبدان، وهي جنة آمنة رغيدة يعمرها الهناء، والصفاء والمودة والشعور بالامتداد، والخلود ومن غير حزن لأنه لا فقد لشيء مطلوب، ولا خوف لأنه لا توقع لفقد شيء محبوب. وهناك جنة أكبر في الآخرة هي جنة الروح “.. ورضوان من الله أكبر” 72/ التوبة.

وفي الحديث”… لذاتها لا تمل – حتى اللذات المادية، هنا تأكل عشر لقمات فتزهد في الأكل، تنفر منه، ترفضه، هناك لذّاتها لا تُمل. في الدنيا تأكل أحسن أكلة في تصوّرك، يتكرر أكلك لها مرّات فتنتهي الرغبة فيها، وهناك لذّاتها لا تمل، لعلّه لتجددها وتنوعها-، ومجتمعها لا يتفرق – ليس هناك فقد أحبّة-، وسكانها قد جاوروا الرَّحمن – يوجد خوف؟ يوجد قلق؟ يوجد جهل؟ ينتفي كل هذا بمجاورة الرحمن-، وقام بين أيديهم الغلمان بصحاف من الذهب، فيها الفاكهة والريحان” (ع،ع) ميزان الحكمة ج2 ص 111.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: “إنّ أطيب شيء في الجنة وألذه حبُّ الله والحب }في 1{ لله، والحمد لله….” (ع،ع) ميزان الحكمة ج2 ص 107. كيف هو ألذ شيء؟ نحتاج لأن نشعر بهذه اللذة، في الدنيا قبل الآخرة، إلى أن نرفع من مستوانا مئات المرات، بل ألوف المرّات لتفوق لذة الروح في نفوسنا لذة البدن. وسنتوفر على هذا يوم القيامة بما يجعلنا نتلذذ بلذائذ الروح، وتشغلنا لذائذ الروح عن لذائذ البدن.

اللهم صل على محمد وآل محمد واغفر لنا ولاخواننا المؤمنين والمؤمنات ولوالدينا وأرحامنا ومن كان له حق خاص علينا منهم، واجمع كلمة المؤمنين والمؤمنات جميعاً على التقوى واجعل خير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم نلقاك يا أرحم الراحمين.

بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا يبرمه إلحاح الملحين، ولا تشتبه عليه أصوات السائلين، ولا تختلط في علمه طلبات الطالبين، ولا يسد بابه عن دعوة الداعين، ولا يطرد من فنائه أفواج المساكين.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك، محيي الأرض بعد موتها، وباعث من في القبور. وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله بسط به النور بعد الظلمة، وكشف به الغمة عن الأمة، وأتمّ به الحجّة، وهدى به إلى المحجّة، صلى الله عليه وآله وزادهم خيرا كثيراً.

عباد الله أوصيكم ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، والرضا بما شرع، والمبادرة لما دعا، والفرار مما نهى، وأن يكون مطمحنا كبيرا، وغايتنا بعيدة، ومن كبر طموحه، وبعدت غايته، وسمت نفسه لم يرض بوعد المخلوقين عن وعد الخالق، ولم يقنع بما في الدنيا عن ما في الآخرة، ولم يصب بداء الكسل. وإذا كانت تجارته مع الله عز وجل لم يفقد الأمل، ومن كل همه الدنيا خرج منها ولا خير له مما كسب، ومن كانت الآخرة همّه ودّع بوداعه الدنيا، إلى الراحة والنعيم، الشقاء والتعب.

اللهم اجعل مطمحنا معرفتك، وغايتنا رضاك، وهمتنا عالية، وارزقنا النشاط والمسارعة للطاعة، وجنّبنا الكسل والفترة.
اللهم صلّ وسلّم على الفائز بطاعتك، المتشرف بمعرفتك، السعيد برضاك، المختار لرسالتك، الناهض بأمانتك، حبيبك المصطفى محمد وآل محمد.
اللهم صلّ وسلّم على علي أمير المؤمنين وإمام المتقين. اللهم صلّ وسلّم على فاطمة الزكية الهادية المهدية.
اللهم صلّ وسلّم على الحسن والحسين إمامي المسلمين وهدى المؤمنين.
اللهم صلّ وسلّم على علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري الأئمة الراشدين وقادة النجاة في الدنيا والدين.
اللهم صلّ وسلّم على سليل النبيين والمرسلين، ومخلّص المسلمين والمستضعفين، ومظهر العدل في العالمين، الزاهد العالم، محمد بن الحسن القائم.
اللهم عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، وقرّب دولته، وأعزّ أولياءه، واخزِ أعداءه، واجعل قلوبنا له مستقبلة، ونصرتنا له معدّة، واجعلنا له سامعين، ولأوامره ونواهيه طائعين مسلّمين يا كريم يا رحيم.
اللهم انصر وأيّد وسدّد واكفِ ناصره ومؤيده والمهتدي بهداه، والممهّد لدولته، والفقهاء الأتقياء، والعلماء الصلحاء، والعاملين الأوفياء، والمجاهدين الغيارى ممن يسعون في الأرض بالإصلاح، ولا يريدون فيها علوّاً ولا فساداً، يا قدير يا خبير يا رحمن يا رحيم.

أما بعد أيُّها المؤمنون والمؤمنات..
فأجد أن من المناسب التعرض لموضوع حساس يستتبع إهمال الكلام فيه، أو تأجيله ما ليس في صالح هذا الوطن العزيز وأمتنا الكريمة، وهو موضوع الولاء للوطن، وعلاقته بالولاء للأمة والدين، وهو موضوع وإن تمّ تناوله في حديث سابق في غير هذا المكان لكن يبقى نافعا أن يُعاد إليه بالتركيز على بعض أبعاده العملية بصورة أوضح وأصرح.

يطلب تسليط الضوء على نوع العلاقة بين الولاءين، وهل هي علاقة تضاد وتنافر؟ أو علاقة تلاق وانسجام؟ رفعاً لما قد يحصل من تصوّر غير مدروس من جانب، أو سوء ظنّ من جانب آخر، لا بدّ أن نفهم وظيفتنا في الموقف من هذين الولاءين لنتحرك على بصيرة كافية.

أولاً: لا يختلف مسلمان على أن الولاء الأصل لله وحده لا شريك له، }إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون{. ماذا يعني الولاء لله؟ يعني الولاء لله فيما يعني حبه، والاستسلام الكامل لرضاه، لكل حكم من أحكامه، وتبعية إرادة الإنسان لإرادته، فلا يأخذ إلا بما أراد الله، ولا يقارف ما كره الله سبحانه وتعالى، ويعني ولاءه سبحانه نصرة دينه، والإخلاص في طاعته، ويعني فيما يعنيه أيضا تبعية أي حب وأي نصرة وأي طاعة لحبه ونصرته وطاعته، حتى طاعة رسول الله صلى الله عليه وآله لا يصح أن تكون طاعة مستقلة عن طاعة الله وإنما يطاع رسول الله صلى الله عليه وآله بوعي أن طاعته من طاعة الله، وأنّها طاعة أمر بها الله، هذا هو من الولاء لله. أقول: لا يختلف مسلمان يسلّمان للإسلام أمرهما، ويعيشان الإسلام وعيا صحيحا وشعورا صادقا على هذه البديهية الإسلامية الجليّة.

والحديث عن أيّ ولاء لابد أن يكون محكوماً لهذه البديهية.

وأريد هنا أن أركّز الكلام على العلاقة بين الولاء للوطن، وولاء الأمة والدين، وفي نظري هما ولاءان غير منفصلين بالنسبة للأوطان الإسلامية. والتركيز على هذه العلاقة في دائرة كل أنواع الارتباط بالأمة والدين.

هناك عدد من الارتباطات بالدين والأمة، فأين يقع ولاء الوطن والارتباط به من كل واحد واحد من هذه الأبعاد من الإرتباط؟ وهل يتنافى أي واحد من هذه الارتباطات بالمصلحة الوطنية ويناقضها؟

‌أ- هناك ارتباط ثقافي بالدين، وإن ثقافة الإنسان المسلم يجب أن تنبي في ضوء دينه، وثقافة الأمة الإسلامية بما هي أمّة إسلامية هي ثقافته. معايشة هذه الثقافة، والارتباط بها، والانكباب على فهمها، والتفاعل معها، هذا الارتباط هل يتنافى مع الولاء للوطن؟ الوطن إما أن تكون ثقافته ثقافة إسلامية، وإما أن تكون ثقافته ثقافة جاهلية، وإما أن تكون ثقافته ثقافة مزيجا من هاتين الثقافتين، والحاصل العملي في كل أوطاننا الإسلامية الآن هو أن ثقافة مزيجة من ثقافة الإسلام وغيره هي التي تحكم ساحات الأوطان الإسلامية كلها.

ومن حق كل مسلم بل من الواجب عليه أن ينبذ أي ثقافة جاهلية لأي وطن من أوطانه وأن يدعو بقوة إلى تركز الثقافة الإسلامية إخلاصا لوطنه، وحماية لمصالحه، وحبا لأهله وقومه، وليس يجوز لأي مسلم في الأرض أن ينسى الثقافة الإسلامية ويضحّي بها لأي شيء من ثقافة جاهلية إيرانية، أو تركية، أو عربية مصرية، بحرينية، وأي ثقافة أخرى. يجب أن يرمى بكل الثقافات الجاهلية أيَّاً كان انتماؤها من أجل الثقافة الإسلامية التي توحدنا وتجتمع عليها قلوبنا وعقائدنا.

‌ب- هناك ثقافة الارتباط بالمرجعية الفقهية. الأزهر الشريف، النجف الأشرف، قم الشريفة، مراكز علمية فقهية تمد البلاد الإسلامية كلها بالحكم الشرعي، والرأي الفقهي، هل الولاء لتونس أو للبحرين أو لأي بلد من البلدان يتنافى مع مرجعية هذه المراكز؟ إذن الأمة ستقع في فقر فقهي شديد، وستخسر منابعها الفقهية، وستنفصل عن الإسلام عمليا في بعض سنوات. طبعا لا تطلب السياسة في أي بلد من مواطنيها أن ينفصلوا عن المراكز العلمية الفقهية في التعامل الفقهي وفهم الحكم الشرعي وتلقيه في مختلف المسائل العمليّة، وهذا ما عليه سيرة المسلمين منذ وجدوا، فسواءً كان المركز العلمي المدينة، الكوفة، أو الأندلس، أو أيّاً كان، كانت كل أفئدة المسلمين تهوى للمراكز العلمية وترتبط بها لتأخذ منها دينها، والسيرة قائمة على هذا ولا غبار عليه.

‌ج- هناك قدوات ورموز دينية وطنية، ورموز سياسية على الخط الديني وطنية، وهناك قدوات من داخل الأمة على مستوى الأمة بل على مستوى العالم، تاريخياً وحاضراً، والقدوات والرموز الدينية والجهادية إذا كانت رموزاً وقدوات على مستوى الأمة عاشت هم الأمة واستوعبت همّ الأمة، وأخلصت للأمة، بل تجاوزتها إلى الإنسان كل إنسان. أنت لا تستطيع أن تقزم مثل هذه القدوات والرموز في إطار زمان معين، أو في إطار مكان معين، إننا ونحن مسلمون نكبر من ناحية الجهد العملي ونفع الانسان المخترعين في العالم ،فلا يمكن ان يطلب للأمة أن تنسى كبار فقهائها، وكبار مجاهديها، الذين لم يرضوا باي تقوقع دون ان ينفتحوا على مصلحة العالم كله فضلا عن مصلحة الامة .

إننا نظلمهم ونظلم أنفسنا حين نسجنهم في قفص أوطانهم وفي حدود جغرافية ضيقة ، إننا نخسر بذلك هويتنا الواحدة وانتماءنا الواحد، ونبقى بلا رموز عملاقة، فان الأوطان الصغيرة مهما أعطت من رموز فلن تعطي رموزا كما هي الرموزوالقدوات الواسعة التي تنتشر بقدر ما ينتشر أفق العالم. وهل تكريم رسول الله (ص) يخالف الوطنية ؟! رسول الله ليس خاصاً بوطن واحد. هل تكريم أي من الصحابة ؟! وأي من الأئمة عليهم السلام يعني الانفصال والانفصام عن الولاء الوطني؟!

‌د- هناك الارتباط العاطفي والمشاركة في افراح الامة وآلامها. فللأوطان مناسباتها الخاصة وهذه المناسبات ذات المصلحة، و التي تركز على الاستقلالية عن الاجنبي وتعني الرجولة والأخلاقية، وتعني منعطفا تاريخيا ايجابيا لهذا الوطن او ذاك تكرم وتحيى ويتفاعل معها. لكن حين ناتي لاحداث الامة حدث كربلاء ، فتوحات رسول الله (ص) انتصار المسلمين في أي موقع من المواقع فنحتفل بهذه المناسبات، نتفاعل معها ونفي لها هل نكون كفارا بالولاء الوطني ؟وهل هناك تناف بين هذا والولاء الوطني ؟ نحن جزء من هذه الامة، وانا حين اكرم الامة اكرمت وطني، وهل انا جزء منسلخ من الامة حتى اذاكرمت الامة عاديت وطني؟! وطني جزء من جسم امة عملاق، وتكريم هذا الجسم الكامل هو تكريم لكل عضو منه وبعث للحياة فيه.

‌ه- الاسهام في نصرة قضايا الامة الكبرى كقضية فلسطين والقدس والمسجد الاقصى هل يعني كفرا عمليا اخر لقضية الوطن؟! وهل يمثل ذلك تنافيا مع مصلحة الوطن ؟ او انه يصب في مصلحة الوطن ؟! معالجة أي جزء من اجزاء الامة هو اعطاء العافية والصحة لمجموع الجسم واذا لم تحضر البحرين في المشكلة الفلسطينية فمن سيحضر للبحرين في مشكلتها؟! نحن جسم واحد ولا اظن الحكومة هنا تريد ان تقول للشعب بان مثل هذه الامور تتنافى والولاء الوطني.

‌و- هناك ولاء خاص يتمثل في الارتباط السياسي الخاص المضر بالوطن وسلامته واستقلاله في ظل التجزئة السياسية والجغرافية القائمة بين البلاد الاسلامية. نحن نعيش واقعا هو ان مصر وجود وطني، والبحرين وجود وطني اخر وان كانت الاثنتان جزئين من جسم امة واحدة ولهما مشتركاتهما العريضة وخطوطهما الرئيسة الكبيرة التي تمثل لب الحضارة الاسلامية والانتماء الاسلامي .لكن حين يراد مني ان اتعامل مع النظام السياسي في أي بلد لأحدث فوضى في بلدي، ولأنشر الخراب في بلدي…

حين يراد مني ان اهدم وطني من اجل بناء وطن اسلامي اخر فذاك وطن وهذا وطن ولماذا اقطع يدي اليمنى من اجل ان تبقى اليسرى من غير ضرورة ! هنا نحن نتفهم لحساسية الدول ولحساباتها الخاصة الاحتياطية في هذا الجانب ولكن المؤاخذ عليه هو فرط الحساسية والمبالغة في الحساسية، وحمل أي مظهر تكريمي عام واي مشاركة في مناسبة من مناسبات الامة على مثل هذا التوجه. هذا التوجه نرفضه كما نرفض هذه الحساسية المفرطة. نحن مع استقلالية هذا الوطن وسلامته وامنه واستقراره، ولا نرضى لانفسنا ولا للاخوة والابناء ان ينسوا مصلحة هذا الوطن وسلامته واستقراره.

ثانيا: الحب لا تصنعه القوة والاكراه انما يصنعه العدل والاحسان حتى في دائرة العلاقات الرحمية الاب لا يستطيع ان يملك قلب ولده لو لم ير منه الا الغلظة ولو لم ير منه الا الظلم ولو لم ير منه الا الاهمال .والاب قد لايبقى على حبه كله مع ولد عاق، فاذا كانت العلاقات الرحمية لاتقاوم من اجل الاستمرار والمتانة سوء المعاملة ، والتفريق والظلم ، فان هذا ياتي تماما في علاقة الشعوب مع الحكومات فكلما كانت الحكومات عادلة ومنصفة وتقوم مشاريعها على المساواة، وتبرهن على الارض بانها حكومة للجميع، ومن مسؤولية الحكومة ان ترعى مصالح الجميع؛ كلما كان ذلك كان سببا في زرع المودة والمحبة والالفة والثقة.
ومن جانب اخ
ر كلما كان الشعب متعقلا، وكلما كان حكيما في تصرفاته، وكلما كان منضبطا في خطواته العملية ويراعي المصلحة الوطنية العامة ويستفيد من منافذ القانون والقنوات الدستورية والاعراف العامة من دون لجإ الى العنف كلما كان ذلك اقرب الى احداث التآلف والاقرب الى الايصال الى الحلول المطلوبة.

أؤكد ان الحب يحتاج الى ثمن. حبي لك يحتاج الى ثمن منك وهو أن تتعامل معي تعاملا حسنا، وحبك لي يحتاج إلى ثمن وهو أن أتعامل معك تعاملاً حسناً. إذا نظرت إلى صاحبي نظرة الاحترام ونظرة لي نظرة الازدراء فسيكن فرق بينما يحمله قلب أخي لك وبينما يحمله قلبي. ولا أتصور مما تطرحه الصحافة المحلية أنها تريد من الناس القطيعة للأمة، والقطيعة للمراكز العلمية، والجفاف العاطفي اتجاه، الأمة ونسيان الأمة تاريخاً وواقعاً. أنا لا أريد أن أسيء الظن في مطلوب الصحافة فإنها لو طلبت هذا لطلبت أن تنتهي الأمة، ولطلبت في نفس الوقت ما هو محال.

ثقافة الأمة ثقافتنا، وكل المراكز العلمية للأمة هي مراكزنا، واليد التي تمتد إلى الأزهر بشرٍّ، يد امتدت إلى قلب كلّ مسلم بسكين، ونالت من كرامة كلّ مسلم، واليد التي تمتد إلى النجف الأشرف أو قم هي يدٌ آثمة كأختها، ولا بد أن يكون مسّ النجف، أو مس قم بما فيهما من فقهاء، بما فيهما من رموز دينية عالية، وقدوات على مستوى الأمة أن يكون مسّاً للأمة ومصالحها في كل شبر من أرض الأمة. علينا أن نصوغ مواطنين بعقلية الإنسان الذي يعرف كيف يجمع بين إخلاصه لوطنه وأمته، وهذا ميسور جدا لو ارتبطنا بالإسلام وركّزنا وعيه، فإنّه في دائرة الإسلام وعلى خط الإسلام نستطيع أن نفهم جيداً نظرياً وعملياً كيف لا نفصل بين الإخلاص للوطن والإخلاص للأمة، بين الإخلاص للأمة والإخلاص للوطن.

حياة أيّ بلد من بلدان الأمة، تكون بحياة البلدان الأخرى لا بموتها. وأختتم لضيق الوقت.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد، ووحِّد قلوبنا على التقوى، واجمع كلمتنا على الهدى، ووحِّد صفوف المؤمنين والمسلمين في محبتك، وعلى طريق ولايتك وطاعتك، وسلّم أوطاننا. واغفر لنا ولأهل الإيمان والإسلام من الأحياء والأموات ولوالدينا وأرحامنا، ولكل ذي حق خاص علينا منهم يا خير من سُئل وأكرم من أعطى.

(إنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون)

زر الذهاب إلى الأعلى