خطبة الجمعة رقم (81) 11 شعبان 1423هـ – 18-10-2002م

مواضيع الخطبة:

الدار الآخرة (2)  –   قانون الأحوال الشخصية

القانون الذي لا يراعي الشريعة، ويأخذ بأغلبية أصوات أي هيئة تشريعية في مسائل الأحوال الشخصية فهو كفر عملي صريح، ومحاربة لأمر الله، لا يسكت عليها إلا شيطان أخرس، فهل سيكون الشعب كله شيطانا أخرس؟!

الخطبة الأولى

الحمد لله القادر الذي لا تحد قدرته ، المريد الذي لا ترد إرادته ، الحكيم الذي لا تبلغ حكمته . أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حاكم غير محكوم ، قاهر غير مقهور ، عليم بلا جهل ، عزيز بلا ذل ، حي بلا فناء ،غني بلا فقر ، كامل بلا نقص ، لا يحويه زمان ولا مكان ، ولا تجوز عليه صفات الإمكان .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، اصطفاه لما أولاه من نعمه، وقدمه لما وهبه من مننه، صلى الله عليه وآله وزادهم شرفاً وكرامة .
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله ، وأن لا نقدم في سرنا على ما نستحي منه في العلن ، وأن لا نكون في محضر الرب الذي لا يغيب ، أجرأ منا على القبيح في محضر العبيد ، وأن لا يشغلنا جمال مخلوق عن جمال الخالق ، ولا تبهرنا قوة مملوك عن قوّة المالك .

اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد ، وارزقنا توفيق الطاعة، والبعد عن المعصية ، وجملنا بالهدى ، وحصنا عن الغوى يا كريم .

أما بعد ..
فالحديث عن الآخرة؛ والحديث عنها كما يخيف يطمئن، وكما يرعب يهدئ، فمن الآخرة صور مفزعة، ومنها صور مشوقة ، و أخبارها كما تنذر تبشر ، وفيها العذاب الأليم، والنعيم المقيم ، وحياتنا مقيسة إليها حياة مخففة ، أما هي فدار تتدفق بالحياة ، وتثرى بكل ما هو ألذ مما طاب وطهر ثراء كبيراً عريضاً ، وتغنى بشعور الحياة، وشعور الكرامة وشعور الرضا ، وشعور الأمن والامتداد ، وطمأنينة البقاء ، ويقين المعرفة ، غنىً لا تعرف له مثيلاً هذه الحياة .

آخرة الصالحين سعادة بلا شقاء ، وحياة بلا موت ، وفرح بلا حزن ، وطمأنينة بلا قلق ، وأمن بلا خوف ، وهناء بلا شوب ، ورقي بلا إنحطاط ، وغبطة بلا كدر ، وخير بلا شر .

الإنسان لا يوافيه فيها ما لا يريح، أو يفوته ما يؤنس من الجميل النقي الذي لا قبح فيه. أنت في الآخرة ، إذا كنت هنا من الصالحين ملكٌ لا يعدلك أكبر ملوك الدنيا ، وإن لم تكن هناك من ملوكها ، وأنت هناك خالد لا يلم بك شعور الفناء ، ولا يتهددك موت ولا فوت ، ولا تتوقع من الخير إلا المزيد ،أبواب الشر عنك موصدة ، ومشاعر السوء لا تطرقك ، محيطك كله سرور وكله نزاهة وكله طهر ورقي ونقاء ، و لذائد فوق ما تذهب إليه التصورات، وفوق مقدور هذه الحياة.

ولذائد الروح والعقل والقلب والنفس والبدن ، دائمة مجتمعة راقية غزيرة بما لا تطيقه هذه الحياة تنتظرك في الآخرة بثمن قد يكون أقل مما يدفعه الكثيرون من أهل الدنيا وطلابها ، لمسكن وضيع، ولذة ضئيلة عابرة وشهرة خاسرة ، من أثمان من بينها الأمن والشرف وحتى البقاء الذي من أجله يُشترون، ولن تتأخر عليك مواقعة النعيم إلى يوم يبعثون ، فإن نعيماً من نعيم الآخرة يباكرك أول ما تلقاها ، بما ينسيك لذات الحياة، وأنس الأهل في الدنيا ، وشوق الأحبة فيها .
وهذه نصوصٌ عن آخرة الصالحين ، منها ما هو كتاب ، ومنها ما هو حديث ، ولن أقف عند النصوص كثيراً ، فإن النصوص طافحة بمعانيها سريعة النفاذ إلى القلب.

هي الأحق بالعنوان: الآخرة أحق بعنوان الحياة ..

كما سبق حياتنا هذه بمقياستها بالآخرة ، صورة حياة ، حياة مخففة ، أما الحياة بالمعنى الأتم الأشد ، الوافي الوافر ، الغزير البالغ ، فهناك في الآخرة ..

تقول الآية الكريم ( وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون.. )
تريد أن تحيا؟ تريد أن تتمتع بالحياة ؟ يهمك أن تسعد بلذائذها ؟ بنعيمها ؟ أن تذوق الحياة الراقية في أسمى معانيها وأغزر مستوايتها ؟ .. اقصد بقصدك الآخرة .
مع جنة المتقين ..

( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين )
ما هي مساحة السماوات ؟ لا يملك البشر لها حساباً ، قاسوا مسافاتها بالسنوات الضوئية، فأعياهم الحساب .. على أنه ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.. )

كم سيكون ملك أحدنا في جنة عرضها السماوات والأرض .. بقدر الأرض ؟ سيأتي من النص ما فوق ذلك ..
( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين )

لا أدري الإطلاق يشمل الكمل؟! ( لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين..) وتعجز كل تجاربك مع اللذة، ومع الأنس، ومع الرضا ، ومع الشعور بالثقة والامتداد، والشعور بالجمال في الدنيا ، عن أن تدرك النسبة الضئيلة بين ما عليه الواقع هنا لما عليه الواقع هناك ..

عن الرسول صلى الله عليه وآله – الحديث كما يعطيه الكلام قدسيٌّ – عن الرسول صلى الله عليه وآله : ( قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على سمع بشر ..)
الاطلاق هناك موجود هنا .. وهو شاملٌ للكمَّل.

(إن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه ألف سنة ) إذا كان الحساب هنا بالسنوات الضوئية فقد يكون هناك بسنوات فوق الضوئية ، وهذا أدنى من في الجنة يمتد ملكه إلى ألف سنة وهو يراه .. وهو على إطلاع به لا إطلاع حدس .. وإنما اطلاع حس ..

( إن أدنى أهل الجنة منزلة ينظر في ملكه ألف سنة ، يرى أقصاه كما يرى أزواجه وخدمه وسرره ) وبهذا تتم اللذة ، أما ملك لا يراه فذاك شيء آخر.. على أن الآخرة دائماً في تجدد نعم ، وفي مفاجآت مثيرة مسرة كبيرة متدفقة ..نعم يشمل هذا وعد الله الكريم ..

( إن أدنى أهل الجنة منزلا لو نزل به الثقلان الجن والأنس لوسعهم طعاماً وشراباً ولا ينقص مما عنده شيء)
هذا ليس دولة أمريكا ، ما من دولة تقيت العالم .. تطعمه وتشربه ولا ينقص من ملكها شيء ، أما هذا وهو من أدنى أهل الجنة منزلة …( لو نزل به الثقلان الجن والأنس لوسعهم طعاماً وشراباً ولا ينقص مما عنده شيء ) وملك الله لا ينفذ ، وخزائن الله لا تحصى ، وكيف يحد ملكُ اللامحدود؟! وكيف يحد عطاء المطلق؟!

في الرواية عن علي عليه السلام ( فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها ، لعزفت نفسك عن بدائع ما أخرج إلى الدينا ، من شهواتها ولذاتها وزخارف مناظرها ، ولذهلت بالفكر عن إصطفاق آشجار غيبت عروقها في كثبان المسك على سواحل أنهارها – ويستمر الحديث عن عليه السلام واصفا جمالا هناك يبهر، وملكاً يأخذ القلوب، وزينة لا تتملك نفس الإنسان نفسها أمامها لو كانت على ما هي عليه من وزن الدنيا .. لأننا هنا حينما نرى جمالاً فوق ما نتصور نصعق .. وحينما نقف أمام قوة هائلة فوق الحساب يغمى علينا .. لا بد أن تتضاعف القوى هناك ونكبر حتى نتحمل لذائذ الآخرة، يستمر الحديث قائلاً-

“فلو شغلت قلبك أيها المستمع بالوصول إلى ما يهجم عليك من تلك المناظر المونقة لذهقت نفسك – وربما لزهقت نفسك ولو كانت في البحار لذهقت .. وإن لم أجد معنى في بعض الكتب التي راجعهتا لذهقت – شوقاً إليها ، ولتحملت من مجلسي هذا إلى مجاورة القبور استعجالاً بها ..”

ينصرف نظرك عن الدنيا بالكامل وتنشد إلى القبر ، إستعجالاً لما في الآخرة .. فليتنافس المتنافسون ..
الدنيا درجات وفيها تفضيل، وفرق هائل بين من لا يجد اللقمة هنا وبين من ينفق مئات الألوف من الدولارات أو الدنانير في الليلة الواحدة ..هذا الفرق الذي نستكبره ضئيل حقير بالنسبة للتفاوت بين درجات الآخرة …
( فأولئك لهم الدرجات العلى وللآخرة أكبر درجات وتفضيلا ).

في الحديث عن الرسول صلوات الله عليه وآله : ( الدرجة في الآخرة كما بين السماء والأرض ..)
ترتفع الدرجة عن الدرجة كما بين السماء والأرض !!

( .. وإن العبد ليرفع بصره فيلمع له نور يكاد يخطف بصره .. ) هو في موقعه الكبير في الدرجة الرفيعة لكن مع ذلك يرفع بصره فيواجهه نور يخطف بصره ( .. فيفزع لذلك فيقول ما هذا فيقال هذا نور أخيك .. فيقول : أخي فلان ! كنا نعمل جميعاً في الدنيا .. ) نحضر المسجد الواحد ، نحضر الحسينية الواحدة ، موسم الحج الواحد ، الزيارة الواحدة ( .. كنا نعمل جميعاً في الدنيا وقد فضل علي هكذا ؟ فيقال له لقد كان أفضل منك عملا ) ثم هل يبقى هذا الذي نظر إلى نور أخيه على غير رضا ..؟ إذن لا تهنأ الجنة .. لكن يقول تمام الحديث (.. ثم يجعل في قلبه الرضا حتى يرضى ..) ولو انتقلنا إلى الآخرة بجشع الدنيا لما رضينا .. لو انتقلنا بمشاعر تنبع من رؤية باطلة لما رضينا لو انتقلنا إلى الآخرة على نعيمها العريض وملكها المقيم وهنائها المتدفق الدائم بما نحن عليه من جاهلية في الدنيا ، لما رضينا ولما انسنا ذلك بما فيه الكفاية … ولكننا أيها الإخوةُ نصلح، وتعدل إنسانيتنا ..

(إن الله جل ثناؤه ليدخل قوماً الجنة فيعطيهم حتى يملوا – حتى يملوا من العطاء- وفوقهم قوم في الدرجات العلى ) هذا الذى مل من العطاء ، إذا بقي على ما هي عليه الأخلاقية المادية في الدنيا من الحسد ، لو وجد من هو فوقه لا يرضى ..الحديث يقول : ( إن الله جل ثناؤه ليدخل قوماً الجنة فيعطيهم حتى يملوا وفوقهم قوم في الدرجات العلى فإذا نظروا إليهم عرفوهم ) هذا إبن اخي ، هذا إبن عمي ، هذا ذاك الذي يحضر معي المسجد .. (فيقولون ربنا إخواننا كانوا معنا في الدنيا بم فضلتهم علينا ) لجوج .. يناقش دائماً هذا الإنسان .. ( فيقال هيهات .. هيهات) بعد أن يستوي جاد ومن هو أكثر منه جدا، والجزاء عادل (1)، أو بعد ما بين مستوى عملكم وعملهم.

( إنهم كانوا يجوعون حين تشبعون .. ) يصومون صوماً مستحباً وربما كانوا أصبر على فقر (.. ويظمؤون حين تروون، ويقومون حين تنامون) مشغولون بصلاة الليل وبتلاوة القرآن في الأسحار، (ويشخصون حين تحفظون ) لا يستوي القاعدون والقائمون ..
أستغفر الله لي ولكم أجمعين ..

اللهم صل على محمد وآل محمد ، وأجعلنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات من أهل جنتك ، وحرمنا على النار وارفع درجتنا عندك ، وأنلنا رضوانك يا كريم يا رحيم.

بسم الله الرحمن الرحيم
إ(ِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3))

الخطبة الثانية

الحمد لله أكمل الحمد، وأتمّه وأعلاه وأسناه، نحمده حمداً دائماً أبداً، ونشكره شكراً لا أمد له ولا انقطاع.

أشهد أن لا إلا الله لا شريك له ولا عديل، ولا خلف لقوله ولا تبديل، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، أتمّ به الدين، وختم به المرسلين، وقمع به المضلّين، صلى الله عليه وآله أجمعين.

عباد الله ألا فاتقوا الله ومن أحق بالتُقاة من دونه، وليس لأحد نفعٌ وضرٌّ إلا بإذنه؟! واحذروا من مخالفته التي تقود إلى مواقعة النار، واطمعوا في طاعته التي تأخذ بأهلها إلى أعلى درجات النعيم، والطاعة والامتناع عن المعصية يحتاجان إلى صبر، وطالب الجنّة ربّما لحقه أذىً من قطّاع الطريق، والسائر على طريق النار ربّما أغدق عليه المضلّون ما يغريه، ولكن “ما خير بخير بعده النار، ولا شر بشر بعده الجنة، وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية” كما تقول الكلمة عن أمير المؤمنين عليه السلام.

اللهم خذ بيدنا على طريق طاعتك، واكفنا غوى الغاوين من خلقك.
اللهم صلّ وسلّم على البشير النذير، والسراج المنير، عبدك ورسولك محمد خاتم النبيين والمرسلين وآله أجمعين.
اللهم صل وسلم على الشهيد الشاهد، والوليّ المجاهد، العابد الزاهد، علي بن أبي طالب.
اللهم صل وسلم على أمتك الرضية، فاطمة الهادية المهدية.

اللهم صل وسلم على الإمامين الزكيين، والوليين الرضيين الحسن بن علي الزكي، وأخيه الشهيد الحسين.
اللهم صلّ وسلّم على بدور الدجى، وأهل النهى، وقادة الورى، علي بن الحسين السجاد، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري أئمة الدين والدنيا.

اللهم صلّ وسلّم على موعود الأمم، وكاشف الغمم، ومبدّد الظلم، الإمام الثاني عشر، محمد بن الحسن المنتظر.
اللهم عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، وانصره نصراً عزيزا، وافتح له فتحاً مبيناً. اللهم الموالي له، المصدّق به، الممهد لدولته، والفقهاء الأتقياء، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين المضحّين، وكل العاملين في سبيلك وفقهم وأيدهم وسدد خطاهم، وارزقهم النصر والغلبة على من يكيدُ بهم، ويبغي عليهم، يا قوي يا عزيز يا متين يا شديد.

أما بعد أيُّها المؤمنون والمؤمنات:

فهذا الحديث خاصٌّ بما يُسمَّى بقانون الأحوال الشخصية:

هذا القانون يتناول بالأحكام دائرة خاصّة من العلاقات، تتركّز كثيراً في الأُسرة، – قد يكون له التعدّي البسيط أحياناً كما في الوصية – وليس له شأنٌ بعلاقات السياسة والحاكم والمحكومين، وتدخل فيه أحكام الزواج والطلاق والأهلية التي تتحدّث عن الرشد والقصور، والولاية على القصّر من أبناء وبنات والوصيةِ والإرث. وهو قانون حسّاس متّصلٌ بمسألة الأعراض والفروج التي جاء فيها (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا)، وبالعلاقات الرحمية المورّثة التي يتناولها قوله سبحانه (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض). وقد أقصت الأنظمة الحاكمة في الأمة الإسلامية الشريعة المقدسة عن المساحة الكبرى لحياة الناس، واعتمدت على مصادر تشريعية من وضع الإنسان، وإذا كانت بعض الدساتير تنص على كون الشريعة مصدرا أساسيا من مصادر التشريع فإن هذا في الأغلب مجرد قضية نظرية قد يؤخذ بها حين توافق هوى المشرع الأرضي. واعتمادها دستوريا في الكثير لإسكات الشعوب، على أن الشريعة في الحقّ هي وحدها التشريع الثابت في حياة المسلمين بأمر الله وتبليغ رسوله صلى الله عليه وآله.

مع هذا بقيت مسألة الأحوال الشخصية خارج دائرة القانون الوضعي، ومحكومة بالشريعة في كثير من البلدان الإسلامية لحساسيتها الشديدة في ضمير الإنسان المسلم، ولكونها لا صلة لها بمصالح الحاكمين المباشرة على الأقل، ولا ضير فيها مباشرة على أطماع المستعمرين، ولكن ولطمع الغرب(2) في فصل المسلمين عن الإسلام نهائيا، وبعد أن وجد من مواليه وعشّاق حياته المتحلّلة طابوراً عريضاً في المجتمعات الإسلامية، بدأ يفرض وجهة نظره وتشريعاته التي لا صلة لها بدين ولا قيم على مساحة الأحوال الشخصية في عدد من البلاد الإسلامية لتحتلّ حضارته المادية كل المساحة في حياة المسلمين، وذلك من خلال العملاء السياسيين والعملاء الحضاريين، – في نظري أن هناك عملاء سياسيين وعملاء حضاريين، والعملاء الحضاريون قد يكونون أشدّ خطراً من العملاء السياسيين – وشرائح صغيرة تدفعها الغفلة أو الهوى والجهل بقيمة الشريعة وقدسية أحكامها الإلهية الثابتة. ويتمّ هذا استئصالاً للإسلام، وتركيزاً للفوضى الجنسية، ونسفاً لقيم العفّة والشرف، وإذابة للفواصل الحضارية بين المسلمين والمستعمرين تسهيلا لقبول علاقات الهيمنة والتسلّط التي يمارسها الغرب في حقّ المسلمين، وحتى لا يبقى إسلامٌ يناهض.

وهذه بعض النقاط بشأن قانون الأحوال الشخصية:

أولاً: الأحكام التي تُنظّم الزواج والطلاق والأهلية والولاية والوصية والإرث أحكام ثرة وجاهزة، وفي حالة تناسق وانسجام وترتيب منطقي في الرسائل العملية للفقهاء الأعلام. فالأمة متوفّرة على الموفور الكافي والمادة الشاملة لكل حاجات المساحة التي يتحرك فيها قانون الأحوال الشخصية، وعمل القضاة الآن بالنسبة للقضاء في مسائل الأحوال الشخصية يختلف فإما أن يكون القاضي مجتهداً، وعندئذ يعمل باجتهاده في المسألة، وإذا كان غير مجتهد أخذ بالاحتياط أو برأي مقلَّده في المورد، هذا هو عملهم الآن.

وقد يُلاحظ على هذا أنه يسبب اختلافا في الحكم في الواقعة الواحدة، على أن القانونيين من قضاة ومحامين تختلف نظراتهم وفهمهم للمادة القانونية الواحدة هذا من جهة، وعلى أنّ الكثير من الاختلاف في حكم الواقعة الواحدة التي تتراءى واحدة للنظر البدوي الساذج هو من اختلاف التشخيص، وقد يختلف القاضي مع القاضي الآخر في مسألة تشخيص الحادثة فيختلف عندهما الحكم، وقد يكون هناك اختلاف في الحكم لا من سوء فهم، ولا من نظرة اجتهادية، وإنما من هوى، وهذا قريب لأن يحدث عند القضاة المدنيين الذين لم يتهيء لهم أن يتربوا على التقوى أكثر مما يحدث عند قضاة لو اختِيرُوا من التقاة.

والكلام ليس هنا… الكلام عن ما هو المطلوب الآن عند الآخرين. هنا ثلاثة مستويات من التغيير للحالة الحاضرة:

المستوى الأول(أ): أن تجمّع مادة فقهية داخل دائرة المذهب الواحد، المذهب الجعفري على حدة، والمذهب السني على حدة، لتُجعل هذه المادة المجمعة من آراء المجتهدين في ملف واحد لتكون قانونا للأحوال الشخصية، والعمليَّة هنا ستكون عملية انتقائية تعتمد على عنصر التقوى أو عدمه في الأخذ بهذا الرأي أو بذاك الرأي، فقد يُهمل الرأي من أكبر المجتهدين لصالح رأي من مجتهد مبتدئ لأنه يوافق الأوضاع، وقد تأخذ القضية مسارا غير هذا تبعا لدرجة التقوى ومراعاة الله في أمر عباده.

ماذا يتسجّلُ على هذا المستوى؟ وهذا المستوى يُحضّر إليه الآن بالفعل، وقد أُعد مشروع قانون للأحوال الشخصية في دائرة المذهب الجعفري ولا بد أن يكون قد أُعدّ مشروع قانون آخر في دائرة المذهب السني وإن كانت وثيقة مسقط قد تغني عن هذا الإعداد.
ووثيقة مسقط هي وثيقة تتعلق حسب عنوانها بقانون الأحوال الشخصية لدول الخليج العربي.

هذا المستوى سيتورط فيه القاضي المجتهد بأن يضطر إلى أن يعمل بالمادة الجاهزة أمامه والمفروضة عليه، مخالفا بذلك لرأيه الاجتهادي، وفي هذا المستوى من التغيير وهو أبسط المستويات تمهيد مقصود لطرح القانون من بعد ذلك على المجلس التشريعي ليتصرف فيه فيقضي النواب بأغلبية الأصوات في أمر الفروج والأعراض، يحقون ما يريدون من الزواج، ويبطلون ما يريدون، يقررون أن هذا الطلاق صحيح، وأنّ ذاك الطلاق باطل، ويضعون أحكاما كما يشتهون، أو قل كما تملي عليهم مشاربهم واتجاهاتهم في دائرة الأحوال الشخصية مما يمسُّ الأعراض والفروج والأموال الموروثة.

المستوى الثاني (ب): صياغة قانون واحد لكلّ المذاهب على اختلافها الفقهي، ويتمّ هذا بإحدى صور: إمّا أن يُلغى المذهب الشيعي الجعفري، ويحكّم المذهب السني في كل مسائل الأحوال الشخصية. هذه صورة، أو أن يلغى المذهب السني بالكامل ويحكّم المذهب الجعفري في كل مسائل الأحوال الشخصية، أو أن تجري عملية تلفيقية تأخذ من هذا بضغث، ومن ذاك بضغث كما تشتهي لجنة إعداد المشروع، أو هيئة إقرار المشروع.

النتيحة للمستوى (ب) باحتمالاته الثلاثة هي هكذا:

تنسحب النتيجات المترتبتان على الصورة السابقة على هذه الصورة، وزيادة على ذلك يقع أتباع المذهب المهمل كلّيا أو جزئيا في مخالفات شرعية صارخة تجر إلى الزنا باسم الزواج – يعيش الواحد أربعين سنة زانيا مع التي تحت يده باسم أنها زوجته، وينسل أولاد زنا لا أولادا شرعيين، هذه النتيجة تترتب – وإلى أكل مال الغير ظلماً، وإلى وجود أولاد زنى باسم الأخوة والأخوات لأولاد شرعيين، – عنده زوجة من قبل بعقد صحيح، وتزوج الزوجة الثانية بعقد غير صحيح فيكون الأولاد غير الشرعيين من الزوجة الثانية أخوة في القانون للأولاد الشرعيين – .

المستوى الثالث (ج): هذه هي الصياغة الثالثة والمستوى الثالث من صياغة قانون الأحوال الشخصية.
صياغة قانون لا يتقيد بالأحكام الشرعية لأي من المذاهب، وإنما يعتمد على أغلبية الأصوات التي تكون مدار قانونية أي مادة من مواده، وهذا معناه الانتهاء إلى الإباحية الجنسية، وعلاقات السفاح بدل النكاح، وهو انسلاخ واضح من جسد الأمة، ومفاصلة عملية مع الإسلام.
المستوى الأول هو ما يجري التحضير له حالياً، والمستوى الثاني مطلبٌ حكومي فيما يُسمع، بل هو المطروح عملياً فعلاً على القضاة – طُلب من القضاة الشيعة في لجنة معيّنة بأن يوقعوا على قانون موحّد، إلا أنّهم وبحسب علمي رفضوا وعزم الذين حضرا فيما عرفته إن شاء الله هو الاستمرار على الرفض. والمستوى الثالث محل مناداة البعض الذي لا إيمان له بالشريعة من ناحية عملية على الأقل، وإن كان يعلن الشهادتين.

ثالثاً: توضيح لبعض النتائج السابقة بالمثال:

يوجد قانون باسم وثيقة مسقط من النظام الموحد للأحوال الشخصية بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربي وبمقايسته لأحكام المذهب الجعفري تجد مفارقات عديدة بينهما بلغت في مطالعة سريعة غير مستقصية لهذا القانون ثمانية عشر مورداً في أمور شرعية خطيرة؛ مثلاً: في المادة الحادية والثمانين/ البند الثاني: “يقع الطلاق باللفظ أو بالكتابة” وقد أطلق النصّ في وقوع الطلاق بالكتابة حتى للقادر على اللفظ والحاضر غير البعيد، وهذا طلاق باطل عندنا. فمعناه أن المطلّقة بهذا الطلاق باقية على زوجية مطلقها، وإن تزوجت شخصا آخر كان سفاحا، والأولاد من أولاد الحرام، والقانون لو وحد سيمضي حكمه على كل المواطنين.

ولو جاء القانون لا يعترف بالطلاق عن طريق الكتابة فإنّ المذهب الذي يعتبره سيصطدم بحكم القانون، وسيجبر الشخص الذي كان الطلاق الثالث لزوجه بهذه الطريقة على إبقائها عنده باعتبارها قانونا لا تزال على زوجيته، على خلاف ما يراه مذهبه فيها. فلا مناص، من أن يتورط السني في مخالفة شرعية فيرى زوجه القانونية أجنبية عنه في مذهبه، أو يتورّط الشيعي الجعفري في المخالفة الشرعية؛ بأن تكون التي يعتبرها القانون أجنبية عنه هي زوجته شرعاً.

وتقول المادة التاسعة والعشرون: يشترط في صحة عقد الزواج: أولاً: الإشهاد بالنصاب الشرعي، وعليه فالآخذ بالمذهب الجعفري وقد استوفى عقدُه لأهله كل الشروط المعتبرة في المذهب دون الإشهاد الذي لا نراه شرطاً يعتبر القانون زوجه أجنبية منه، ويجيز زواجها من شخص آخر، وهذا زنىً واضح. أما لو ألغى القانون هذا الشرط فسيصطدم بالمذهب الذي يعتبره وسيقرّ كل العقود الزوجية الفاقدة له، على أنها عقود فاسدة في هذا المذهب، القانون سيعتبر زوجة السنّي الذي كان زواجها من غير إشهاد زواجا، بينما هو في نظر مذهبه فاسد، وتجد مثل هذه النتائج الصعبة المسقطة للدين، والخارجة صريحا على الحكم الشرعي في مواد قانونية كثيرة تحتاج إلى تفصيل، هذا بالنسبة لقانون الأحوال الشخصية الموحّد الذي يراعي الشريعة.

أما القانون الذي لا يراعي الشريعة، ويأخذ بأغلبية أصوات أي هيئة تشريعية في مسائل الأحوال الشخصية فهو كفر عملي صريح، ومحاربة لأمر الله، لا يسكت عليها إلا شيطان أخرس، فهل سيكون الشعب كله شيطانا أخرس؟!

رابعاً: أيّاً كان المصدر لتشريع قانون موحد للأحوال الشخصية، سواء كان لجنة من القضاة أو مجلساً وطنيا سيكون هذا التشريع إيذانا بمسيرات شعبية من مئات الألوف لا تتوقف حتى يُلغى؛ لأن الناس هنا لا يقبلون أن يحلوا الزنا مكان الزواج، ويقضوا على الإسلام بين عشية وضحاها. والتسبيب لهذا النوع من المسيرات سواء كان من لجنة حكومية أو من مجلس وطني عبث بأمن البلد وخيانة له، والوطن محتاج إلى التلاحم وتوحيد الصفوف والحفاظ على الأمن والاستقرار بأقصى درجة. والمسألة مسألة دينية صارمة لا دخل لها بالسياسة.
لا يسع مسلماً أن يسكت عليها، والحد الذي تهمّ المسلم الشيعي، تهمّ المسلم السني، والمواجهة للعبث بأعراض النَّاس لا بد أن تكون مشتركة، ومن كان ناطقاً في مجال السياسة أو ساكتاً لا بد أن ينطق هنا. أنا حين أقاوم قانون الأحوال الشخصية قاومت انحرافاً صارخا عن الدين، وحين أُعطي دمي لتعطيل مثل هذا القانون قد أعطيت دمي لدين الله وليكن ما يكون.

اللهم صل محمد وآل محمد، واكفِ بلاد المسلمين شرّ الفتن، وكلّ من يريد بها سوءاً، ويكيد بها دنياً ودينا. واغفر لنا ولاخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين – أحياءاً وأمواتاً – ولوالدينا ولكلّ ذي حقّ خاص علينا من أهل الإيمان والإسلام يا كريم يا رحيم.

(إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- قد ترتفع درجة من هو دون صاحبه بالشفاعة برحمة الله وكرمه ولا ضير في ذلك فالوجه الثاني أنسب والله العالم.
2- ومثل الغرب في ذلك الشرق.

زر الذهاب إلى الأعلى