خطبة الجمعة (80) 4 شعبان 1423هـ – 11-10-2002م
مواضيع الخطبة:
الدار الآخرة (1) – قسٌّ يجهل على رسول الله”ص” –
دين الدعوة والدولة – الأئمة (ع) والسياسة
المتصور أن الدنيا هي كل حياته ، لا يقيم في حسابه وزناً إلا إلى الدنيا ، وإذا كان له أمل ، فأمله لا يتجاوز الدنيا ، وإذا كان في الدنيا يائساً ، فليس له ما يعوضه من أمل في غيرها ، هذه النظرة المحدودة ، الحبيسة في دائرة الدنيا تنعكس على العقل ، وعلى مشاعر النفس كلها
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أشرقت بنوره السماوات والأرض ، وما من موجود إلا من نور وجوده ، وما من خير إلا وهو من جوده .
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء شهيد ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أنقذ به من الضلالة إلا الهدى ، وأنعم به بالبصيرة بعد العمى صلى الله وسلم عليه وسلم تسليماً كثيراً .
عباد الله عليّ وعليكم بتقوى الله ، وأن نتذكر أن رقابته لا تغيب، وأن علمه لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، ولا تكنّ عنه الصدور، وأن لا ضائعة في حسابه ، ولا شادرة عن حفظه، وأننا غداً موقوفون أمام عدله، ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، ولا منازع له في ملكه، ولا مهرب من عقابه ، ولا طاقة على عذابه، نعوذ بالله من النار ومن غضب الجبار، وصلى الله على محمد وآله الأطهار.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات، فقد تقدم حديثان عن الدنيا، وهذا حديث عمّا نستقبله من حياة بعدها :
إنها حياة بعد حياة ، وليس موتنا فناءً ، ليس الأمر إلا أن ننتقل من دار إلى دار ، ومن ساحة إلى ساحة ، ومن واقع إلى واقع آخر ، ليس الأمر إلا رحلة قد تكون سهلةً، وقد تكون صعبة، هي على المؤمن سهلة ، وعلى غيره صعبة شاقة شديدة ، وفرقٌ بين تصورين : هناك إنسانٌ يعيش بتصور أنه بالموت يفنى ، وهناك إنسانٌ يعيش بتصور أنه بالموت يحيا ..
المتصور أن الدنيا هي كل حياته ، لا يقيم في حسابه وزناً إلا إلى الدنيا ، وإذا كان له أمل ، فأمله لا يتجاوز الدنيا ، وإذا كان في الدنيا يائساً ، فليس له ما يعوضه من أمل في غيرها ، هذه النظرة المحدودة ، الحبيسة في دائرة الدنيا تنعكس على العقل ، وعلى مشاعر النفس كلها ، وعلى خطوات العمل ، هذه الشخصية التي تعيش محدودية النظرة ، لا بد أن تكون متكالبة على الدنيا شحيحة بها تصارع من أجلها ، وإذا ما نكبت في دنياها ، لم تجد من بارقة أمل أخرى ، وكان من حظها أن تستسلم لليأس ، وأن يقتل الياس كل مشاعرها، وأن يستولي منها على كل أمل ، لتبقى قاتمة في داخلها كئيبة دائما ، لا ترى الأشياء إلا بنظارة سوداء.
أما الآخر الذي يرى أنه حين يرفع قدمه الأخيرة من الدنيا، إنما ليضعها في ساحة الآخرة ، وأن حدود الدنيا تلتقي تماماً بحدود الآخرة ، وأن هذه الدنيا تفضي بكل من فيها إلى الآخرة ، ليحيوا حياة مستمرة هناك ، ليغنوا بالشعور، ليروا الحقيقة أكثر مما كانوا يرونها، ليعيشوا واقعاً جديداً.. كانوا يعتمدون في حياتهم على جهاز هضمٍ ، وجهاز تنفس ، وجهاز أعصاب ، وجهاز تبول إلى أخر الأجهزة …
وكانوا يعتمدون في حياتهم على المأ
كل والمشرب، وكانوا يعيشون ملأً من الناس يرون فيهم شراً وخيراً ..
كانوا يعتمدون على طلوع الشمس وغروبها في حياتهم، وعلى ما تنبت الأرض وعلى ما يولد من حيوان ، هذه الأسباب نبقى بها وتبقى معنا، وتكون نقله تنتهي بها كل فاعلية هذه الأسباب في حياة الإنسان ، ويقدم على دارٍ، ليس فيها من دار الدنيا ما كان يعهد، وإنما هي دار جديدة بكل ما فيها ..
أرأيت كيف تفاجأ، وكيف تذهل وتدهش، لو كنت تملك كل وعيك حين ولدت؟ فتفهم الدنيا ما هي .. وتنفتح على كل متاعبها ونصبها وعلاقاتها، وأسباب الحياة فيها ، بعد أن كنت في حياة رحم تعفيك من كل تبعات الدنيا ومن كل سعيها ومشاقها ، إن هذا المثل لصغير ، وفارق النقلة بين عالم الرحم وعالم الدينا مثل ضئيل أمام فارق ربما كبر مرات ومرات في نقلة من الدنيا إلى الآخرة ..
أنا هذه اللحظة أفكر.. أشعر .. أسمع .. أرى .. آمل .. أخطط .. تغمض العين بعد هذه اللحظة ، الإغماضة الأخيرة فهل سينتهي شعوري ؟؟ هل سينتهي إحساسي بذاتي ؟؟ إحساسي بحاضري ؟؟ إحساسي بمستقبلي ؟؟ الأمر : لا ..
ستكون على شعور، وتكون على رؤية، وتتضح أمامك الأمور أكثر، وتتبلور رؤيتك أكثر، وترى الأشياء على واقعها أكثر مما كنت تراها، من كان يعيش هذا الإيمان ويشعر هذا الشعور، له إتجاه آخر في الحياة، وله آمال تكبر الحياة، وخطواته تتجاوز في هادفيتها الحياة، وعلاقاته لا يقيمها على أساس مصالح هذه الحياة، تولد شخصية أخرى،جديدة بفكرها، جديدة بشعورها، بطموحها بعلاقاتها، في ظل رؤية الإيمان .. رؤية الإيمان توجدك إنساناً آخر غير ذلك الإنسان الذي تستحوذ عليه فكرة الكفر والشرك والشك والإلحاد ، وتريدون من النصوص ما تهدينا إلى أننا أحياءٌ بعد الموت ، وأن أهلك لا يسمعونك وأنت تسمعهم ، وأن الناس يرون فيك جثةً هامدة وأنت تعرف أنك الإنسان ، الذي بدأ يستقبل آثار عمله ، الإنسان الذي بدأت الحسرة تأخذ من نفسه ، أو الأمل يكبر أمامه ، أو أن اليأس يستحوذ عليه ، إنها حياة بعد حياة، وليس فناءً بعد هذه الحياة.
( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ) الإثنتان متوفيتان .. إستيفاء، قبض لهذه الشخصية بالكامل ، شخصيتك المعنوية، روحك ومستواها، ومستوى روحنا ، إما مستوى متبلور في نهاية الحياة، أو مستوى متفحم ، الشخصية بواقعها تستوفى ، تحفظ ، لا يضيع منها شيء ..
( والتي لم تمت في منامها ) فيمسك التي قضى عليها الموت ، هذه يبقيها سبحانه وتعالى ، ويرسل الأخرى ، الأخرى ترجع في علاقتها مع البدن ، أما التي أتى عليها الموت وقضى ربها عليها الموت، فإنها متوفاة عنده، مستوفاة بالكامل. لا فناء، لم يأت موت على الروح، إنما الموت مغادرة الروح في علاقتها مع البدن..
( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموتاً ) حسبانك هذا خطأ ، وأرتدع عن هذا الخطأ ، ياتيك الإفهام من الخبير العليم وأنما تحسبه ويترائ لك ، إنما هو خطأ ..
( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أموتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ) مشاعر موجودة ( فرحين ) يعيشون الشعور، يغنون بالشعور ( فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا من خلفهم ) يعيشون العلاقات، روح العلاقة الإيمانية مع الآخرين من المؤمنين ، والوحدة الإيمانية التي تتغلغل في نفوسهم حية وفاعلة ( ويستبشرون بالذين لم يلحقوا من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يستبشرون بنعمة من الله وفضل و أن الله لا يضيع أجر المؤمنين ) مشاعر حاضرة ومشاعر مستقبليه، في متعلقها.
( ومن ورائهم برزخٌ إلى يوم يبعثون ) من بعد هذا الموت.. على رأس هذا الموت تأتي حياة البرزخ، وتتصل فيما يعطيه ظاهر الآية إلى يوم يبعثون..
في تفسير علي بن إبراهيم والبحار وغيرهما كما في مصدر ميزان المعرفة ( البرزخ هو أمرٌ بين أمرين : وهو الثواب والعقاب بين الدنيا والآخرة ) والثواب والعقاب لا يوقعَّان على ميت ، على هالك ، على فان ، يوقعان على موجود ذي شعور ، ذي إحساس بقيمة الثواب وألم العقاب .
في قوله تعالى ( ومن ورائهم برزخ ) هو القبر ( وأن لهم فيه لمعيشة ضنكا ) خانقة.. مؤذية..
(والله إن القبر لروضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار) فمتى ندخل الجنة؟ مع نهاية النفس الأخير، ندخل نوعاً من الجنة، ندخل مستوى من الجنة. متى ندخل النار؟ مع إنتهاء النَفَس الأخير، نواقع ناراً هي صورة من نار يوم يبعثون..
(والله أتخوّف عليكم في البرزخ قلت : وما البرزخ ؟ قال : القبر من حين موته إلى يوم القيامة) قبر الروح ، هذا القبر الذي يذوب فيه الجسد كأن للروح علاقة باقية معه ، وهذا القبر إما أن يتحول في رؤية الروح روضة من رياض الجنة، يُعاش فيها نعيم ، أو هي حفرة من حفر النيران ، وحفرة من النار الحياة فيها عذاب ..
صورتان متقابلتان :
عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ذكر الأرواح أرواح المؤمنين، فقال: يلتقون.– الإمام عليه السلام يقول : يلتقون– قلت : يلتقون؟ قال: نعم، يتساءلون ويتعارفون.. أنت الذي رأيتك في المسجد اليوم الفلاني؟.. أنت الذي إلتقيتك في الطواف؟ .. بلى أخي..
.. ويتساءلون ويتعارفون، حتى إذا رايته قلت فلان، وإذا كنت تعرفه هنا ستعرفه هناك تماماً..
(يا بن نباته لو كشف لكم لرأيتم أرواح المؤمنين في هذا الظهر – :انه ظهر الكوفة/ الغري/ وادي السلام – يا بن نباته لو كشف لكم لرأيتم أرواح المؤمنين في هذا الظهر حلَقاً.يتزاورون ويتحدثون.. فهي حياة.. حياة تتدفق بالشعور.. غنية بالإحساس.. يشعر فيها الإنسان بالكرامة، وبالقيمة عند الله سبحانه وتعالى، يعيش اللذة.. هناك أحاديث تقول بالأكل والشرب وليس أكل الرز واللحم وشرب الماء..
هنا صورتان تجمعهما الآية الكريمة (فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب، النار يعرضون عليها غدواً وعيشاً ويوم تعرض الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب)
وفي الحديث:
(إن أرواح الكفار في نار جهنم يعرضون عليها يقولون ربنا لا تقم لنا الساعة ولا تنجز لنا ما وعدتنا ولا تلق آخرنا بأولنا) الآية الكريمة والحديث فيما يظهر أنهما يتحدثان عن حياة قبل البعث، آل فرعون يعرضون عليها غدواً وعشيّاً.. ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب.. فالعرض في مرحلة قبل قيام الساعة..
الرواية تقول (إن أرواح الكفار في نار جهنم يعرضون عليها يقولون ربنا لا تقم لنا الساعة) إذن هذا العرض قبل قيام الساعة ، هم في تلك الحال وخوفهم من قيام الساعة أكبر ، هم في جهنم.. فيها بمعنى العرض، وكأنهم يرون مواقعهم في جهنم، ويعيشون لون عذاب من عذاب جهنم..إلا أن حزن الحاضر وألمه لا يليهيم عن خوف المستقبل وهو أكبر .. فيقولون : ( لا تقم لنا الساعة ولا تنجز لنا ما وعدتنا ولا تلق آخرنا بأولنا ) لأنهم يتلاعنون.. وكل أمة جاءت لعنة أختها..
اللهم صل على محمد وآله وإهدنا بهداك .. اللهم لا طاقة لنا بعذابك فاشملنا برحتمك ، واجعلنا لنا في القبر أنيساً من لطفك وارحم فيه غربتنا وفرج كربتنا وألحقنا بالصالحين يا كريم..اللهم وغفر لنا ولاخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين يا رحمن يا رحيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا يخيّب سائلَه، ولا يقطع رجاء من رجاه، ولا تنفذ خزائنه، ولا يضيق نواله. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا كبير إلا وهو أكبر منه، ولا جليل إلا وهو أجلُّ منه، لا تُجارى عظمته، ولا يُحدّ قدسه.
وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، أحيا به البلاد والعباد، ونشر به السداد والرشاد، صلى الله عليه وآله الأطياب.
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله، والاعتصام بحبله المتين، ودينه القويم، وأن نراقب النفس، فإنّ النفس لأمّارة بالسوء إلا ما رحم ربِّي، ونحاسبها عسى أن تستقيم، ونربيها عسى أن تسعد، وإنّ في استقامتها على درب الله سبحانه سعادة لها في الدنيا والآخرة، ورفعة وسموّاً لا تجدهما على طريق آخر.
اللهم أعنّا على أنفسنا ولا تخذلنا طرفة عين. اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على البشير النذير، والسراج المنير، خاتم النبيين والمرسلين محمدٍ الهادي الأمين، وآله الطاهرين.
اللهم صلّ وسلّم على إمام المتّقين، وأمير المؤمنين علي ابن أبي طالب وصي رسولك الكريم.
اللهم صلّ وسلّم على الطاهرة الزكيّة، فاطمة الهادية المهديّة.
اللهم صلّ وسلّم على إمامي المسلمين، وعزّ المؤمنين، الحسن بن علي وأخيه الحسين.
اللهم صلّ وسلّم على الأئمة الراشدين، والخلفاء الصالحين علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري القادة الميامين.
اللهم صلّ وسلّم على إمام العصر، والمبشّر بالنصر، خزانة علم النبيين، والرحمة من ربّ العالمين، الإمام الثاني عشر، محمد بن الحسن المنتظر.
اللهم عجّل فرجه، وسهِّل مخرجه، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً مبيناً، ومكِّن له تمكيناً، واجعلنا من الممهّدين لدولته، والمنتصرين لثورته.
اللهم عبدك الموالي له، المعادي عدوّه، المُمَهّد لدولته، المقتدي بسيرته، والفقهاء الأتقياء، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين الغيارى أيّدهم وسدّدهم وانصرهم وادفع عنهم يا قوي يا عزيز.
أما بعد أيّها المؤمنون والمؤمنات فهذه وقفة مع قضيّتين:
قسٌّ يجهل على رسول الله “صلى الله عليه وآله وسلّم”:
يقول ذلك القسّ جهلا منه أو حقداً: أنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم عاش إرهابيا، فتّاكاً قتّالا، سيفه يقطر بالدم، ولا ينتهي من غزوة حتّى يدخل غزوة أخرى، تاريخ دموي، يدلّ على غلطة في النفس، وعلى تلذذ بحمرة الدم. هذا ما قاله القسّ.
هنا تطاولٌ دينيٌّ، كبيرٌ شائن، وبلحاظ الظروف السياسية العالمية، يستبطن هذا القول تحريضاً على أمة الإسلام بكاملها. المسلمون تلامذة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وقدوتهم شخصيته، فمعنى ذلك أنّه إذا كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم إرهابيا فكلّ مسلمٍ فيه إرهابي، إذاً لا بد أن تستهدف حملة بوش كلّ مسلم على وجه الأرض، إنّه حثّ، وتشجيع، وتحريض للعالم المسيحي كلّه وللعالم اليهودي أن يتحوّلوا أعداءً ألدّاء وبشدّة وبفعلية ضد كل مسلم على وجه الأرض.
كلمات:
دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إلى كلمتين، بما للكلمتين من مضمون حضاري كبير، لما لهما من أثرٍ بعيد على عالم الفكر والشعور والسلوك، وبما يعنيان من صياغة خاصّة للإنسان: لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله. ومن كان رسول الله لا يُقبل منه إلا العدل،والرحمة والإحسان، رسول الله صلى الله عليه وآله هنا وضع نفسه موضع المحاسبة أمام كلّ العالم، أترى أنّ من كان رسول الله يجهل؟! فإذاً رسول الله مطالبٌ بأن لا يجهل، أترى أنّ من كان رسولاً لله يظلم؟! إذاً رسول الله صلى الله عليه وآله مطالبٌ بحسبِ دعوته أن لا يظلم. الرسول من الله، لا يرتقب منه إلا الخير، إلا الإيثار، إلا الرحمة، إلا الإحسان، إلا العدل إلا الرجولة، إلا الشهامة، إلا الخلق النبيل، وإذا جاء منه ما يشدّ عن هذا الخطّ بكل مفرداته لم يكن رسولاً. فحينما قال صلّى الله عليه وآله: لا إله إلا الله، وهي الأولى، محمد رسول الله صلى الله عليه وآله قد حكم نفسه على بأن لا يأتي منه إلا الخير، ولا يفعل إلا ما يلتقي والعقلَ وحقّ الدين. قطع على نفسه صلى الله عليه وآله درب الظلم، درب ما يسمّيه القسّ بالإرهاب، درب كلّ شر (1).
بم قابله المشركون؟ بدأت حرب المشركين وطغاة الأرض في مكّة، من الذين كانوا يذيقون المستضعفين أشدّ ألوان العذاب، ويستغلّون الإنسان حملتهم الشرسة ضدّ رسول الله صلى الله عليه وآله لأوّل ما سمعوا بالدعوة، واستمر الاضطهاد والملاحقة في مكّة وخارجها، وحتى بعد قيام الدولة في المدينة استمرّت المؤامرات والمواجهات وتجميع الأحزاب والسعي الحثيث من أجل القضاء على الإسلام. دعوةٌ من رسول الله صلّى الله عليه وآله قابلتها حرب. رسول الله صلّى الله عليه وآله قاتل، وقتاله لا يخرج عن أحد أمرين: قاتل حماية للدعوة، وذوداً عن حدود الدولة، هذا أمر.
وقاتل أيضاً لتحرير الإنسان، ربّ أهل مكّة هو ربّ أهل أمريكا، وربّ دولة الفرس والروم يوم ذاك، فالدعوة التي جاءت لإنقاذ العرب هي نفسها جاءت لإنقاذ كل شعوب العالم، فكان على رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يعرض على الناس الإسلام، ويدعوهم إلى الله، فإذا ما وقف الطغاة أصحاب المصالح والأرباب المزيّفون يحولون بين المستضعفين وبين أن يسمعوا كلمة الإسلام، ونداء الله كان على رسول الله صلى الله عليه وآله أن يحطِّم قاعدة الشرك التي يقوم عليها كلّ اضطهاد، وكلّ استعباد، وكلّ استغلال ونفعيّة، وكلّ خلق وضيع. وكان عليه أن يوقظ شعوب العالم من جهتين: من جهة العقيدة الفاسدة, والواقع المُرِّ الذي كان يفرضه الطغاة في الأرض، وأنت إذا سألت: بأيّ عنوان يتحرّك بوش الآن في حرب البلاد الإسلامية؟ سيقول لك أنّه مسؤول خلقيّاً عن حماية الإنسان والوضع البشري، وأنّ هناك محوراً للشرّ في الأرض، وما لم يسقط محور الشرّ سيبقى الشرّ. الله عزّ وجل ورسوله يقولان هناك محور شر؛ وهي فكرة الإلحاد، فكرة عبادة الوثن، إنكار وجود الله سبحانه وتعالى، هذا المحور من الشرّ لا بد أن يُطارد فكراً، ولا بدّ لمن يحميه ويبقيه ليقيم منه قاعدة إفساده وظلمه وبغيه في الأرض أن يواجه حرباً من الإسلام.
كان هذا الفكر الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وآله يحارب الطغاة في الأرض، ويرسل إلى كسرى، ويرسل إلى امبراطور الروم.
حرب الرسول صلى الله عليه وآله فعلاً هي حربٌ ضدّ الإرهاب، كانت الحكومة للسيف، وللقوة الباطشة، وكانت الحضارة في ما تقوله قصة الحضارة شجرتها في الغرب منخورة تترنّح، ولم يبق سبب من الأسباب الموضوعية في الأرض مما يبشر باستمرار الحضارة وبعودة عافيتها، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله ليقضي على السبب الرئيس الذي ينخر في شجرة الحضارة: فرعونية الفراعنة، وطاغوتية الطغاة. ودائماً كان الطغاة والفراعنة يتكئوون على فكرة الشرك والإلحاد، ليقيموا من أنفسهم أرباباً من دون الله فتخضع لهم الرقاب، فرسول الله صلى الله عليه وآله جاء يواجه الإرهاب، ويواجه الاستغلال، ويواجه التجهيل، ويواجه الإضلال، وواجهه بالكلمة وأصرّ على استمرار المواجهة بالكلمة حتى اليأس، حتى أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم إذا تواجه الصفان: صفّ التوحيد، وصفّ الشرك، في القاعدة لا يبدأ القتال إلا بعد الدعوة للأيمان، وبعد طرح الحجة.
هناك محور شر بتشخيص الله عز وجل، وتشخيص رسوله، ومحور الشرّ هو محور الشرك، محور الطغاة، محور الفراعنة لا محور المستضعفين، فإذا ما جاء تشخيص من بوش لمحور الشر فذاك تشخيصه، أما تشخيص الله عزّ وجل فيقول بأن فراعنة الأرض وطغاته والذي يصدرون الإرهاب إلى مختلف القارات ويهددون بكل سلاح فتاك ويعيثون في الأرض فسادا ويحدثون في الشعوب النقلة بعد النقلة إلى الهاوية في الفكر، وإلى الهاوية في الأخلاق أولئك هم جبهة الشر ومحور الشر، وكان على رسول الله صلّى الله عليه وآله لتستقيم الأوضاع في الأرض، ولتؤدي الأرض دورها المكتوب لها من الله، وليقوم الإنسان بدوره الخلافي في الأرض، كان لا بد لرسول الله صلى الله عليه وآله من أجل ذلك كلّه أن يواجه محور الشرّ، ويقضي على الإرهاب. وهل يمكن القضاء على الإرهاب بالكلمة فقط؟ إذاً لماذا يتحرّك الغرب الآن بأفتك الأسلحة باسم محاولة القضاء على الإرهاب؟
فرقٌ كبيرٌ أيّها الأخوة بين: دين الدعوة، وبين دين الدولة(2)، دين يختار لنفسه وظيفة الدعوة فقط، له وسائله وآلياته، أما دين يريد أن يقيم دولة تسحب البساط من تحت أقدام الطغاة، هل يمكن أن يبلغ مأربه بالكلمة؟ كان لا بد من استعمال القوّة، من قبل رسول الله(ص)، ولا ينكر عاقلٌ حاجة الدولة إلى القوّة، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يستهدف أن يقيم دولة العدل والسلام العالمي، وعلى طريق إقامة هذه الدولة؛ دولة العدل والسلام العالمي مئات الألوف يوم ذاك من الطغاة، وسيأتي الإمام القائم عليه السلام ويجد أن ملايين على طريق إقامة هذه الدولة يصدون عنها، ويواجهونها بكلّ سلاحٍ فتّاك. إذاً كان لا بد من القوة، والقرآن صريحٌ في ذلك: “وأعدّوا لهم..”.
والظاهر أنّه حتى لا يكون المسلمون إرهابيين، وحتى يحصلوا على شهادة براءة من الغرب لا بد أن يكونوا دجاجاً ونعاجاً، ولا بد أن تجرّد دولهم نفسها من كلّ أسباب الدفاع المشروع ليبقوا صيداً سهلاً للغرب، هذا هو المطلوب للقسّ، وهذا هو المطلوب لبوش، وهذا هو المطلوب لكلّ الطامعين في هذه الأمة.
الأئمة عليه السلام والسياسة:-
هذا شهر مواليد كثيرة لرجالات الهدى والقيادة من أهل بيت العصمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهنيئاً للأمة بهم في أمسها، في حاضرها، ومستقبلها. وقد ولدت هذه الأمة عزيزة قوية رائدة على يد بيت النبوة والرسالة والإمامة، ولن تبعث هكذا إلا على يدهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وهذه بعض كلمات عن موقف الأئمة من السياسة:
أولاً: لا شكّ في أن الأئمة عليهم السلام قادة للإنسانية وأكبر من مجرّد ساسة محنّكين ومنصفين، فإنّهم لقيادة الحياة، وصناعة الإنسان وتربيته وتزكيته، والتقدم بحركة الحياة في كل أبعادها الصالحة، وإعداد الإنسان بكلّ مستوياته إعداداً إلهياً ينتهي به إلى أقصى درجات الكمال الفكري والنفسي والروحي، مع بناء أوضاع اجتماعية وسياسية واقتصادية وعلمية وصحّيّة وأمنية يشعر الناس من خلالها بطعم الحياة الهنيئة الراقية.
ثانيا: ليس واردا القول بأن الأئمة عليهم السلام قد اعتزلوا الحياة العامة، وشأن الأمة ومنه البعد السياسي، وعاشوا حالة اللامبالاة بهذا الشأن وبهذا البعد بالخصوص، واكتفوا بدور الوعظ والإرشاد العفوي أو المخطط، وكانوا على مستوى المعلم المتفرّغ لتعليمه، والكاتب المشغول بكتابته، والمحقق في أي حقل من حقول المعرفة المستغرق في تحقيقه، وصاحب الهمّ الثقافي المشغوف بنشاطه الثقافي، هم عليه السلام أكبر من كلّ هذه النماذج والأمثلة بكثير.
قادة حياة، يحملون مسؤولية توجيه الحياة والإنسان، صناعة الحياة والإنسان، ولا أظن أحدا ممن ينفي السياسة عن الأئمة عليهم السلام يريد اعتزالهم لها و إلا ظلمهم وقال قولا شططا، وبعد عن الحق كثيرا. لقد كانوا وهم خزنة علم الوحي، وقادة الأمم، وورثة الأنبياء، وقوام الدين، والمؤتمنون على حركة التاريخ، ومصير الرسالات الإلهية أكبر من كلّ ذلك، وأبعد شأنا، وأنزه من أن يقال فيهم هذا القول.
ثالثاً: قد يُراد أنّ أكثرالأئمة عليهم السلام لم يخططوا لقلب نظام الحكم المعاصر لهم، ولم يقودوا ثورة بهذا الغرض، وهذا صحيح وواقع، وهذا صحيح وواقع وله أكثر من سبب، ومن بين هذه الأسباب: أنّهم ليسوا طلاب حكم لنفس الحكم، ومن أجل الامتيازات التي تنالها الذات، وإنما إذا طلبوا الحكم فلأجل مصلحة الإسلام والإنسان كلّ إنسان، وحيث يتناقض ـ حسب تشخيصهم ـ طلب الحكم مع مصلحة الإسلام والمسلمين لبعض الملابسات لا يعقل في حقهم هذا الطلب، وقد اعتذر الإمام علي عليه السلام عن الحكم معروضاً عليه، واشترط لنفسه ما اشترط، وعُرض على الصادق عليه السلام من أبوأبي مسلم الخراساني أن يقود هذا الأخير حركة لإسقاط الحكم لصالح إمامة الإمام عليه السلام فحرق عليه السلام كتاب العرض.
رابعاً: ولا يتخلى الأئمة عليه السلام عن تربية الأمة، وحماية ثقافتها، وحراسة خطها الحضاري والإسلامي ولاسهام في تصحيح الوضع السياسي بالنقد والتوجيه والنصيحة وتعرية الأخطاء ما أمكن، وعن تركيز وعي الأطروحة الإسلامية في صفوف الأمة، والنأي بها عن الإنزلاقات الفكرية، والضبابية في الرؤية الإسلامية في أي بعد من أبعاد الإسلام، والدفع بحركة الأمة في الاتجاه الصحيح الذي ينتهي بها إلى الخيار الإسلامي والحل القرآني لا غير.
خامساً: ويصرّ الأئمة عليهم السلام على عدم إضفاء الشرعية الدينية على مختلف أنظمة الحكم التي لا تلتقي ورؤيتهم الدينية المعصومة في المسألة من غير أن يعني ذلك المواجهة الساخنة المكشوفة أو غير المكشوفة، أو يمنعهم من التعاون في الخير مع تلك الأنظمة حيث تتطلب المصلحة الإسلامية هذا التعاون ويقضي به الحفاظ على هوية الأمة.
سادساً: علماء الدين على هدى أئمتهم عليهم السلام –كلّ علماء الدين الصالحين- لا يستطيعون أن ينفصلوا عن الهمّ السياسي، وخاصة بعد انتشاره بين كلّ الفئات، وهذا لا يعني أن يتحوّلوا كلّهم إلى محترفي سياسة، وأن تتحول السياسة بتفاصيلها اليومية مهمّها وغير مهمّها إلى خبزهم الثقافي اليومي ولا غير، وفي الوقت نفسه لا تكون السياسة عندهم فنّاً ترفياً لا يشتغل إلا بالتنظيرات البعيدة من دون أن يقولوا كلمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وليس مما يلتقي ووعيهم وتقواهم أن يستهدفوا إقلال الساحة الوطنية والإسلامية والعالمية تشهيّاً، أو استخفافاً بدم الإنسان وأمنه، أو يعتمدوا هدم الجسور داخل أوطانهم، وسياسة الإضرار، كما لا يدخل في استعدادهم أبداً أن يقولوا لغير ما هو شرعي في دين الله بأنه شرعي كذباً على الله ورسوله صلى الله عليه وآله، وخيانة للأمانة التي حُمِّلوا إيّاها، وطلباً لمرضاة المخلوقين، وهم عبيدٌ محاويج.
اللهم ارزقنا الهدى، وثبّتنا عليه، وأرنا الحق حقّاً فنتبعه، والباطل باطلاً فنجتنبه. اللهم صلّ وسلّم على محمد وآل محمد، واغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا ومن كان له حقٌّ خاصٌّ علينا من المؤمنين والمسلمين، ولجميع أهل الإيمان والإسلام يا رحيم يا كريم.
(إنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ وكيف سرت الرحمة والعدل والاحسان والخلق القويم في صفوف الأمة التى بناها رسول الله صلى الله عليه وآله من كبار أبنائها وصغارهم لو كان قدوتهم الأولى يخالف واقعه دعواه؟!.
2ـ المقصود دين الدعوة والدولة.