خطبة الجمعة (78) 19 رجب 1423هـ – 27-9-2002م

مواضيع الخطبة:

الدنيا (1)  –   الوضع الأمني والسياسي للأمة

حتَّى لو لم يكن إلا فرد واحد يؤمن بالإسلام فعليه أن يتحرك في اتجاه النصر بتركيز عقيدته، بالدعوة إليها، بتخلقه بأخلاق الإسلام، أنتم لا تملكون أن تنصروا الإسلام بكلّ ما يحتاجه النصر، لكن ألا تملكون أسلحة نصر للإسلام ولو على مستوى التمهيد للنصر؟

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي بَعُد فلا يُرى، وقرُب فشهِد النجوى، قريب في بعده إذ لا قيام لشيء إلا به، بعيد في قربه إذ لا تنال الأشياء حقيقته ولا تدرك كنهه، وهو منزّه عن إحاطة المكان والزمان، وملامسة المخلوقات، وقياس المسافات.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، اصطفاه بعلمه، وأيده بآياته، وحمَّله رسالاته، وختم برسالته الدين، وبيَّن به الحق المبين، صلَّى الله عليه وآله الطاهرين.

عباد الله علينا جميعاً بتقوى الله، والتطهّر من الذنوب، والخروج من المآثم، والبعد عن الشبهات، والأخذ بالطاعة، وإنفاق الحياة على درب العبادة لله في كل المجالات إعداداً للنفس لمنازل الآخرة، ومواقع الكرامة فيها؛ فأحقّ ما أعد إليه عاقل هي الآخرة، وأولى ما طمع فيه حكيم منازلُها الرفيعة، ونِعَمُها الرغيدة، وكراماتها العالية. والتنافس في غيرها مما عليه اقتتال أهل الدنيا وتهارشهم؛ تنافسٌ ربما قاد إلى هلاك، وهو في أحسن أحواله تنافس على ما يجد أهلُه أيديهم صفراءَ منه يوم منقلب من هذه الحياة، وليس لهم في سفرهم ذلك مما كسبوا إلا أوزارٌ وتبعات.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد، واجعلنا من طلاب الآخرة، والمنافسين على درجاتها، ولا تجعلنا من طلاب الدنيا وصرعى شهواتها.
أما بعد فقد نظر الإسلام إلى الدنيا نظر اهتمام بالغ، وحرص أن ينظِّم الإنسان علاقته بها على أساس وعي كامل، ونظر ثاقب، ورؤية دقيقة لأنها كل الرصيد الذي يمكن أن يكون له، أو عليه في مستقبله الممتد، الذي لا فرصة له أخرى لصياغته صياغة يسعد بها أو يشقى. ويمكنك أن تقف في كتاب واحد على مئات النصوص الإسلامية التي تتحدث عن الدنيا وتعالج كيفية العلاقة بها.

وهذا حديث مقتضب جدّاً عن هذا الموضوع الذي يتقدم ملايين المواضيع دوراً وأهمية. ويتركز الحديث في تفهم بعض النصوص المتقابلة في هذا الموضوع بما يرفع ما قد يبدو من تهافت بينها عند البعض.

هذه طوائف من النصوص يقابل بعضها بعضا، وكأنَّ ما يعطيه هذا البعض من معنى عن الدنيا، يعطي البعض الآخر عكسه، فكيف نجمع بين هذه الطوائف من النصوص ولا تخلو النصوص؟ نفسها من الجمع بين طوائف الحديث المتقابل، والحديث مقتضب جدا مراعاة للظروف.

المجموعة (أ): وهي من طائفتين متقابلتين:

1. (النّاس أبناء الدنيا، ولا يلام الرجل على حبّ أمه) (علي. (ع).

ولماذا لا يلام الرجل على حب أمه؟ يوجد حديثٌ يفسّر هذا، وهو الحديث الذي يقول: (النَّاس أبناء الدنيا والولد مطبوع على حب أمه) (علي. (ع). أنا ليس لي خيار في أن أحب أمي أو لا أحبها، مجبول بطبيعتي على أن أحبّ أمي، وإذا كنّا أبناء هذه الأرض، وأبناء هذه الدنيا وقد خرجنا من رحمها فلا بد أن نحبها، ولا بد أن تهفو نفوسنا إليها، فإذن الإسلام لا يؤاخذنا على حب الدنيا في أصله. والله عز وجل هو الذي خلق الدنيا؛ هذه الطبيعة والأحياء فيها، وشهواتها، وزينتها، والله عز وجل لا يخلق شراً، تنزّه الله سبحانه وتعالى عن أن يخلق الشر، وما خلقه إلا الخير، وحاشا الله عز وجل أن يذمّ ما خلقه.

خلق الله إبليس ليس شرّاً، ولا يمكن أن يذمّ الله عز وجل خلقه لإبليس، وإن كان الذمّ منه جلا وعلا ينصبّ على فعل إبليس الذي اختاره. فرق بين خلق إبليس، وبين ما يختاره إبليس من شر،الشر من جهة إبليس والله عز وجل أعطاه القدرة كالإنسان على أن يختار الخير أو الشر وبإرادته اختار الشر، فهو الفاعل له، والله عز وجل متكرم على إبليس بالوجود، وفعل الشر من إبليس الذي يؤول إليه أمر هذا المخلوق أيضاً هو حكمة أخرى من حكم الله عزّ وجل، ذلك لأن حياة الإنسان تقوم على الابتلاء والشر الذي يفعله إبليس ما هو إلا الشيء الداخل في امتحان الإنسان وابتلائه. فلا نرتقب إذاً من الدنيا بطبيعتها، ومن الدنيا بوصفها التكويني، ودورها الشرعي أن تكون مذمومة في الإسلام مقبحة، وإذا كان هناك ذمّ للدنيا وتقبيح فهو لحيثية أخرى من الدنيا غير هذه الحيثية.

الحديثان السابقان يرفعان اللوم عن الإنسان أن يحبّ أمه الدنيا والأرض، أما الحديث الآتي فيقول:
2. (رأس كلّ خطيئة حب الدنيا). وإذا كان حب الدنيا رأس كل خطيئة فكيف لا يلام عليه؟! هناك لا لوم على حب الدنيا، وهنا (رأس كلّ خطيئة حب الدنيا) وما كان رأس كل خطيئة لا بد أن يكون مذموماً في الشريعة، فكيف نجمع؟ الحديث الآخر يريحنا فيقول:

3. (عن ابن أبي يعفور: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنا لنحب الدنيا: فقال لي: تصنع بها ماذا؟ قلت أتزوج منها وأحج وأنفق على عيالي وأنيل أخواني وأتصدق، قال لي: ليس هذا من الدنيا، هذا من الآخرة). يعني فهل نحن في شر، هل نحن مذمومون؟ هل خرجنا عن الإسلام؟ هل هذا خلاف التقوى؟ الدنيا حيث نعطيها دورها الإلهي، الدنيا حيث نبني ذواتنا إنسانية كريمة من خلالها. الدنيا حيث نتخذها سلما للكمال، الدنيا حيث ننظر إليها مسخرة لنا لا أننا مسخرون لها، لا أننا نستغرق فيها، لا أن تستحوذ على تفكيرنا ومشاعرنا، لا أن نشترى بها، هذه الدنيا ليست هي الدنيا المذمومة. هذه آخرة. الدنيا التي تتخذها مزرعة لخير الآخرة هي آخرة، فلست مذموما في تعاملك مع الدنيا هذا التعامل، تبني، تصنع، تزرع، تتقدم بأوضاع الحياة كلها لكن من أجل إنسانية الإنسان، من أجل أن تتخذ من كل ما تملك يداك معراجاً إلى الله. هذا خير.

المجموعة (ب): وفيها طائفتان متقابلتان بهذا النحو من التقابل أيضاً:

1. (الدنيا حلم والاغترار بها ندم) (علي. (ع)
وأنتم تعرفون الحلم خيالا وليس حقيقة، والتمسك بالخيال لا يعقب إلا الندامة، أمامك واقع يفرض عليك نفسه، ولا ينفع الخيال أمامه شيئا، أنت حيث تتمسك بالسراب على أنه ماء لا تروى، وحيث تتمسك بالظلمة على أنها نور لا ترى، فالذي يعطي والذي ينتج خيراً هو التعامل الصحيح مع الواقع وليس التمسك بالخيال. (الدنيا حلم والاغترار بها ندم). الذين يجمعون للدنيا، يخططون للدنيا ستريهم الدنيا بأنهم واهمون، حيث يريدون من خلالها البقاء، وحيث يريدون من خلالها السمو، وحيث يريدون من خلالها الكمال، ستسقطهم، ستريهم أنهم واهمون خاطؤن، ستعطيهم درساً قاسياً لكن قد يكون بعد فوات الأوان، هي خيال.

(الدنيا مصرع العقول) (علي. (ع).
وطالع الحياة فستجد العقول التي صرعتها الدنيا ليست بالشيء القليل، والرجالات التي تصرعهم الشهوة ليسوا بالقليلين، والمستويات التي أنفق عليه العمر لتبنى، تنهدم في لحظة من خلال شهوة من شهوات الحياة. عمر بن سعد صرعته الدنيا. الحرّ له عقل، وعمر بن سعد له عقل، عمر بن سعد صرعت عقله الدنيا، وخبرتَه، وتجربتُه، وصلاته وصومه الذي لم يكن بالمستوى الذي يقيه سحرُ الدّنيا ، أما الحر فقد نجى بعقله من صرعةٍ فيها كل هلاكه.

(الدنيا سم آكله من لا يعرفه) علي. (ع).
كالطفل. الفيلسوف طفل، العالم النحرير طفل أمام الدنيا، يحسبها عسلا فيعلق منها فرحاً مطربا ليجد نفسه صريعا للدنيا، وقد يخرج من هذه الدنيا التي جاءها وهو شيء لا شيء. وكثير من الرجالات بنبنون شيئا كبيرا، وينتهون لا شيء من خلال صرعة من صرعات الدنيا، هكذا تقول هذه الطائفة من الكلمات، من كلمات أهل الحكمة والعصمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

(لا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن فعليها يَبلُغ الخير، وبها ينجو من الشر إنه إذا قال العبد: لعن الله الدنيا، قالت الدنيا: لعن الله أعصانا للرب) عن الرسول (ص). مركب محمود ممدوح، مركب جيد الدنيا، سفينة فضائية تنقلك إلى أحسن العوالم، تنقلك من كل الشقاء إلى السعادة، تبلغ بها أكبر غاية، تحقق من خلالها أكبر مستوىً للإنسانية، هي الدنيا. أين نتكون؟ أين ننبني؟ أين نصنع إنسانيتنا؟ أين ننمو أين نزكو؟ أين نتقدم؟ أين نكمل؟ في الدنيا وليس في القبر، وليس في الآخرة، وعالم الرحم عالم إعدادٍ للحياة الدنيا، ونزوّد في نهاية المطاف باستعداداتٍ لهذه الحياة على مستوى الإرادة والروح لتكون الحياة الدنيا هي مصنع إنسانيتنا من ناحية فعلية.

(لا تسبوا الدنيا فنعمت مطية المؤمن فعليها يَبلُغ الخير، وبها ينجو من الشر إنه إذا قال العبد: لعن الله الدنيا، قالت الدنيا: لعن الله أعصانا للرب).

والدنيا هنا تقول: أنا لست عاصية للرب، أنا مطيعة، أنا مسخّرة، أنا لي دوري المحدد من الله الذي لا أحيد عنه شعرة، أما أنت الذي تسب فأنت الذي أخذت بي يمينا وشمالا، وأنت الذي غيّرت دوري، وأنت الذي حرفت وظيفتي فأنت المجرم لا أنا. قالت الدنيا: لعن الله أعصانا للرب). وهو كأنه من أدب الخطاب وإلا فالدنيا لا تتحمل المعصية، إنما كلّ المعصية على كاهل العبد الذي أساء التعامل مع الدنيا، وخرج بالدنيا عن دروها الإلهي الكريم، دور البناء، دور الإعمار، دور تكميل النفوس، وتنضيجها على مسار الله سبحانه وتعالى.

والحديث الذي يجمع بين الطائفتين:
2. (الدُّنيا دنياءان: دنيا بلاغ، ودنيا ملعونة) عن زين العابدين عليه السلام. من حيث الحيثية، من حيث الجهة. الدنيا واحدة في الخارج، لكن لها دوران، ننظرها بنظرين، نأخذ بها بنحو، ونأخذ بها بنحو آخر، فتنقسم دنيانا الواحدة إلى دنياءين: إحداهما مذمومة، والأخرى ممدوحة.

(الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان فيها لله عزّ وجل) عن الرسول (ص).
والحديثان يصبّان مصبا واحداً وينجمع بهما بين الطائفتين السابقتين.
دنيا بلاغ: لها وظيفتها، دورها الإيجابي الكبير؛ دورها أن تكمّل نفسك فيها، جئت صغيراً من حيث الإنسانية؛ بمعنى أنك جئت بإنسانية وبمعرفة لله وبكمال على نحو القابلية والاستعداد فقط، الإنسانُ سلمانُ أو أبو ذر وُلِدَا استعدادا وقابلية كبيرين، لكنَّ سلمان لم ينصنع سلمان، وأبو ذر لم ينصنع أبا ذر بطلين في الإيمان، ورقمين ملحوظين في التقوى فعلاً، إلا من خلال مطبخ الدنيا، ومعمل الدنيا. هذه دنيا بلاغ تتخذ منها مطيتك لتبلغ غرضك الإنساني الكبير، حيث تحقق لنفسك كمالا إنسانيا يعطيك الخلود في سعادة. هذه الدنيا دنيا لا تلعن، ملعون من لعنها، هذه دنيا كريمة، هذه الدنيا التي خلقها الله، هذه الدنيا التي أنعم بها الله عز وجل على العباد، لكن هناك دنيا ملعونة، الدنيا التي يحوّلها الإنسان هدفا له، لتستغرق حياته كلها وتأتي على فكره وكل قابلياته واستعداداته لتنتهي بها إلى حد الصفر، مستهلكة منه كل ذلك في شهوات عابرة، وفي صراعٌ واقتتال وتهارش على الدنايا.

هذه الدنيا التي نصنع دورها نحن، ونصوغها بخيالنا، هدفاً وغاية هي دنيا ملعونة، والملعون قبل ذلك صانعها وهو الإنسان المنحرف.

(الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان فيها لله عزّ وجل) أنت ترقى بالدنيا وترتفع بمستواها من خلال أن تتخذها قنطرة تعبر بها درب الكمال، تأخذ منها جسرا، جناحاً، لأن تشف، وترقى وتتبلور ذاتك، وتقرب من الله سبحانه وتعالى.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد واجعل دنيانا خير مزرعة لآخرتنا، وسبيل فوز عندما تتوفانا، ولا تجعلها كربات علينا يوم القيامة يا أرحم الراحمين.

اللهم اغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا، وكلّ ذي حق خاص علينا من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات ولجميع أهل الإيمان والإسلام يا أرحم من استرحم وأكرم من أعطى يا رب العالمين.

بسم الله الرحمن الرحيم.
وَيْلٌ لكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ(1) الَّذي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ(2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ(3) كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ(4) وَمَا أَدْرَاكَ مَالحُطَمَةُ(5) نَارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ(6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ(7) إِنَّهَا عَلَيهِم مُؤصَدَةٌ(8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ(9).

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا مبدأ له ولا منتهى، الأولِ الذي لا أول معه ولا قبله، الآخرِ الذي لا آخر معه ولا بعده. أزليٌّ لا يجوز عليه الحدوث، أبدي لا يأتي عليه الانقضاء. كلّ شيء فان ويبقى وجه ربِّك ذو الجلال والإكرام.

أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، اختاره لرحمته، واصطفاه لرسالته، وختم به النبوة، وأنجز به تمام الرسالة، صلى الله عليه وآله، وسلَّم تسليماً كثيراً.

عباد الله وإماءه أوصيكم وأنا عبدُه وابن عبديه بتقوى الله الذي بيده أمرنا كلُّه، ولا حول ولا قوَّة لنا إلا به، ومرجعنا إليه، ومآبنا إلى حكمه، ومصائرنا في قبضته، ولا منجى لأحد من نفاذ مشيئته، وتقوى الله تضع صاحبها على طريق الرشد، وتسلك به طريق السمو، وتنتهي به إلى الرفعة. ومن لم يتق الله لا نور له، وكان له من شيطانه بئس القرين، الذي لا ينتهي به إلا إلى ضلال مبين، وخسران كبير.

اللهم اجعل دليلنا الهدى، وقريننا التقوى، ولا تسلمنا للغوى، اللهم صلّ على البشير النذير والسراج المنير خاتم النبيين والمرسلين محمد وآله الطاهرين. اللهم صلّ وسلّم على وارث علم النبي، والخليفة الوصي، والإمام الرضي علي بن أبي طالب الورع التقي. اللهم صلّ وسلّم على الهادية المهدية أمتك المرضية، فاطمة الزكيَّة. اللهم صلّ وسلّم على العبدين الصالحين، والإمامين الراشدين، والوليين الهاديين الحسن بن علي بن أبي طالب وأخيه الحسين. اللهم صلّ وسلّم على الأئمة النجباء، والقادة للدين والدنيا علي بن الحسين السَّجاد، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري الأولياء الأوصياء.

اللهم صلّ وسلّم على صاحب العصر والزمان، المحفوظ للأمن والسلام، ناشر راية الدين والإيمان، منتظر الأمم محمد بن الحسن. اللهم عجّل فرجه، وسهِّل مخرجه، وأعزه وأولياءه، وأذل محاربيه وأعداءه، وانصره نصراً عزيزاً وافتح له فتحاً يسيراً يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.

اللهم انصر وسدّد وأيّد الموالي له، الممهّد لدولته، الراضي بسيرته، والفقهاء الصلحاء والعلماء الأخيار والمجاهدين من أبناء الأمة في سبيلك يا ولي النصر، يا مالك الأمر يا رب العالمين.

أما بعد فإن فارق ما بين أمس الأمة الإسلامية ويومها كفارق ما بين السماء والأرض… أمة كان يُخطب ودُّها بالأمس وتُهاب، وتتقدم الأمم على كل طرق البناء والتقدم والعز والمجد والكرامة، وها هي اليوم في مجال الأمن والسياسة من أسوأ الأمم، وما هي بأحسن حالاً في المجالات الأخرى؛ وهذا من وصف وضعنا الأمني والسياسي فعلا:-
1. ما من بلد من البلدان الإسلامية فعلاً حتى لو لم يكن نظامها نظاماً عميلاً إلا وهي محكومة ولو جزئياً لإرادة هذا الأجنبي أو ذاك ولو من خلال بعض العملاء.

2. نحن في مخاض مرحلة جديدة لحكم الأمة بكاملها وبصورة تامة لا جزئية بالإرادة الأمريكية وعن طريق حكوماتٍ من تنصيب أمريكا بصراحة وقحة. وقد بدأ تدشين هذه المرحلة السيئة بأفغانستان، ويراد تطبيقها فعلاً في فلسطين، ومعه العراق لتستمر العملية التطبيقية لهذا الطرح حتى آخر بلد إسلامي. وكل البلاد الإسلامية مخيَّرة بين حكومات محلية تعمل كوكيل كامل وبتنصيبٍ أو موافقةٍ من أمريكا لضمان المصالح الأمريكية وتنفيذ سياسة البيت الأبيض في استكمال المخطط الإرهابي الخطير ضد أمتنا، وبين حرب طاحنة مدمِّرة. ولمّا كان العراق هو المرشح هذه المرة للاستيلاء الكامل عليه فقد أعلنت بعض الأنظمة موافقتها على الاشتراك والتعاون من أجل تسهيل المهمة الأمريكية في هذا البلد، والباقي قد يكون في الطريق… ولماذا لا وأمريكا تضع هذه التعاون شرطاً للبقاء في الحكم وسلامة الحدود؟! ولتُعذَر هذه الأنظمة لأنها أضعفُ من أن تقاوم الإرادة الأمريكية والشرّ الأمريكي…. ولكن من أين جاء هذا؟ أليس من التخلي عن الإسلام… من الانفصال عن الشعوب؟! من تمزق الأنظمة نفسها…. من التمكين التدريجي للتدخل الأمريكي الأجنبي عموما؟! أليس من الاتكاء على الدعم الخارجي في مواجهة الشعوب؟! من شعور بعض الشعوب بعداوة الحكم لها حتى صارت تعادي الحكم، وتتمنى زواله بأي صورة من الصور، من باب عليَّ وعلى أعدائي ربّ؟!

وها هي الحرب مشتعلة في أكثر من موقع ويمتد اشتعالها على أمة صامتة بعضها موقّعٌ ابتداء على ذبح الأمة، وإنهائها… وآخر مستسلم في الطريق، وشعوب كالشعب العراقي كان الله في عونه بين نارين لا رمضاء ونار، لا يدري من أيهما يهرب، لو كان له الخيار، وإلى أيهما يصير.

3. يحكم الكفر العالمي على كل البلاد الإسلامية بعدم العودة إلى الإسلام، وبعدم التمتع بالحرية السياسية على النمط الغربي، حيث يتعارض كل من الفرضين مع إحكام القبضة السياسية الأجنبية على الشعوب ومصالحها قطعاً على الفرض الأول، واحتمالاً على الفرض الثاني بسبب عدم الانفصال الكامل عن الإسلام من أبناء الأمة.
وكأنه- أي الكفر- يَمنع على أي حكومة إلا أن تستخف بشعبها، دون أن تتعامل معه تعاملاً إنسانياً كريماً لتنال احترامه ودعمه والتفافه، وتقوى به، ويقوى بها.

4. كلما تملكه الأنظمة الرئيسة في الأمة إذا جدَّ جدَّها وبلغ السيل الزبا واشتد الخناق على الأمة بما يخيف تلك الأنظمة على نفسها أن تذهب بالمشكلة إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن، والنتيجة هي الاتفاق أو الاختلاف بين أهل حق تعطيل القرار على قسمة بلاد الأمة وثرواتها ومراكز نفوذها.
الأمة بهذه الصورة الكئيبة والوجود المهلهل المهدّد هي الامتداد السيء لأمة قال عنها ربُّها العظيم:(كنتم خير أمة أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله….) وخير أمة لا بد لها من التوفر على كلّ مقوِّمات الصلاح الذاتي سلامة في الرؤية، وسمواً في الهدف، وصحة في المنهج، وجدّاً في العمل، وضخامة في الوظيفة، وبعداً في الطموح، وعدلاً في الحكم، واستقامة في الخلق، وتقدّماً في العلم، وصبراً في الجهاد، والتفافاً بالحق. ولولا ما كان لها من ذلك مجتمعاً في نصابه الكافي بصفة كونها أمة لما استحقت شرف هذا الوصف الناظر إلى إيمانها على مستوى العقيدة والعمل.

أمة كبيرة عملاقة رائدة تملك مخزونا لا ينفذ، يعطي للتقدم الحضاري على طول الخط حاجته، ويتقدم الزمان والمكان أبدا.

وما كانت أمة الإسلام لتحظى بهذا الوسام الكبير من ربّ العباد لو كان أمرها بالمعروف، ونهيها عن المنكر لا عن ائتمار منها للمعروف، وانتهاء عن المنكر أولاً، ولو كان إيمانها بالله سبحانه إيماناً ميتا لا حركة له ولا نبض في عالم الأوضاع والحياة.

وإن ما بنى أمة الإسلام في ظل قيادة الرسول (ص) هادية مهدية، نشطة قوية، عادلة قويمة، متقدمة على طريق الخير سباقة هو أمور أربعة: الإيمان وهو لتصحيح الإنسان من الداخل، والمنهج الإيماني الذي ينظم الحياة، ويقدم كل الحلول العملية وهو لعدالة العلاقات، وإثراء حركة الخارج، وربطها بالعلم والقيم النبيلة، والحكومةُ الأمينة حقّاً على المنهج الرباني، القيّمة صدقاً على تطبيقه، والمجتمعُ الرسالي الذي يمارس الرقابة الاجتماعية، ويحرس النظام، ويلاحق الأخطاء والتجاوزات ما ظهر منها من كل المستويات في محيط الفرد والجماعة، بالتصحيح والتقويم والرد إلى المنهج.

وهو ما يعبر عنه واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يمثّل رقابة اجتماعية عامة شاملة.

والإيمانُ قد خفَّ لما انتشر وخطِّط له طويلاً وكثيراً من الضلال، والمنهجُ الحياتي القائم على الإيمان قد حلّت محله اطروحات من غرب وشرق صنعتها جاهلية الإنسان والحكومة الأمينة على منهج الله، المنفِّذة لأحكامه، الذائدة عن حماه صارت مكانها حكومات وحكومات تطارد شرع الله، وتُجرِّم من ينادي به، ورقابةُ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد توارت لما امتلأ به الدرب من ألوان التحديات، واعتلى بدل ذلك صوت المنكر يطالب في صحافة المسلمين وعبر كل قنوات الإيصال السمعي والبصري بالصيغة الجاهلية لكل الحياة، وحتَّى مساحة الأحوال الشخصية التي لا زالت الشريعة تحافظ على طهرها بمقدار وتنأى بها عن الفحشاء والسفاح.

هذا هو الوضع؛ والأمة لا يصلح آخرها إلا بما صلح به أولها، والإنسان نوع واحد يمثل موضوعاً واحداً، لا يصلحه أكثر من منهج واحد “إن الدين عند الله الإسلام”، “ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه”، ولن تصلح بغيره أوضاع آخرته ولا أولاه، ولن تهنأ له حياة ولا ممات.

وستبقى الأرض تحترق وأهلها بالعذابات حتى تُضيء بنور ربها نور الإسلام على يد القيادة المعصومة الرشيدة وفي ظل إيمان يطهِّر الداخل، ومنهج ربّاني يقود حركة الخارج، وأمة تهتدي بهدى الله وتدعو إليه، وتردُّ الضال إلى طريقه.

لكن هل ينتظر بأفواه مفتوحة حتى ينزل الفرج من السماء للمتقاعسين في الأرض؟ وهل يستوي القاعدون والمجاهدون في أجر الآخرة والنتائج الموضوعية في الحياة؟ وهل يكون وضع أمتنا هو وضعُها قامت قائمة، أو كانت من القاعدين؟ وهل تحوّلنا إلى لا شيء أمام أمريكا؟ وهل تحتم علينا أن نخرج من ساحة التاريخ؟ وهل لا بد لنا أن نقنع أن نكون وراء جدر التاريخ؟ وأن نكون في الهامش الصغير؟ أم أننا لا زلنا أمة تمتلك أن تنتفض؟ وتمتلك أن تنهض، وتمتلك أن تتقدم، الأول غلط، الثاني صحيح.

وحتَّى لو لم يكن إلا فرد واحد يؤمن بالإسلام فعليه أن يتحرك في اتجاه النصر بتركيز عقيدته، بالدعوة إليها، بتخلقه بأخلاق الإسلام، أنتم لا تملكون أن تنصروا الإسلام بكلّ ما يحتاجه النصر، لكن ألا تملكون أسلحة نصر للإسلام ولو على مستوى التمهيد للنصر؟ أن تلتزموا في حياتكم الخاصة وفي حياتكم الأسرية بالإسلام، ألسنا نحن نحارب الإسلام من خلال الخروج عليه في حياتنا الخاصة، وفي حياتنا الأسرية، وفي علاقتنا الاجتماعية في الإطار الإيماني؟ ألسنا أعداءً للإسلام بنسبة؟ ألسنا أنصاراً لأمريكا بما نفعل؟ لو لم يكن إلا واحد لأمكن له أن ينصر الإسلام بإقامة حياته الخاصة، وعلاقاته الاجتماعية ما استطاع على أساسه، وبإطلاق صوت الإسلام إلى المدى الذي يمكن له، بنصيحة الآخرين، بأن يطلب الأساليب والآليات التي تقنع بفكرته… هذا هو الفرد فكيف بأمة لا زالت تغنى بالعلماء والمثقفين والمجاهدين وجمهور عام من المؤمنين يتعشق الإسلام ويقدمه بكل غال وعزيز؟!

يتوجب جدّاً إشاعة الفكر الإسلامي، والحوارُ من أجل الإسلام، لا الحوار الذي يمكِّن للباطل، فهناك حوارات من هذا النوع الأخير يراد إشاعتها باسم أن الإسلام يفتح باب الحوار. علينا أن نختار كيفية الحوار، أن نخطط للحوار، لا أن نستدرج للحوار الذي يريدون.

يتحتم إشاعة السلوك الإسلامي، وطرح وجهة النظر الإسلامية في الصحافة وغيرها من وسائل التفاهم المعاشة، خلق أجواء اجتماعية كلما أمكن، تطبيق الإسلام في الحياة الشخصية والأسرية والعلاقات الاجتماعية واستثمار كل الفرص على هذا الطريق، المناشدة والمطالبة في كل البلاد الإسلاميَّة بتصحيح الأوضاع باسم الإسلام والقرآن والسنة والواجب الشرعي. إذا غيّبت مصطلح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، غيّبت مصطلح الواجب الشرعي، غيّبت مصطلح الشورى، غيّبت كلّ مصطلح إسلامي صار العدل من عطاء الحضارة الغربية، صارت المطالبة بالحقوق تفكيراً غربياً فقط وضيّعت الإسلام وغيّبت الإسلام كلّه.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد، وثبتنا على طريقك القويم، وصراطك المستقيم، واجعلنا ممن تنتصر به لدينك، وتنتصف به للمظلومين من عبادك، واغفر لنا ولوالدينا ولأرحامنا وجيراننا ومن كان له حق خاص علينا من المؤمنين والمسلمين ولجميع أهل الإيمان والإسلام يا كريم يا رحيم يا رب العالمين

.بسم الله الرحمن الرحيم
(إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)

زر الذهاب إلى الأعلى