خطبة الجمعة (77) 13 رجب 1423هـ – 20-9-2002م

مواضيع الخطبة:

المسؤولية العامة  –  ما هو العلاج الحق وخلاص البشرية من معاناتها وأزماتها ؟

لماذا لا ضعيف يأمن، ولا قوي يأمن، والعالم كله في توتر من الأعصاب إلى حد العنف والإرهاب والاغتيال والقتل للتشفي وللبطش والملهاة؟!

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي فتح طرق معرفته، وأقام البراهين على قدرته، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب للدلالة على عبادته، ولم يرض للناس إلا أئمة هدى لتبليغ كلمته، والحكم بالعدل في عباده وبلاده.
أشهد أن لا اله الله وحده لاشريك له، لا تدرك ذاته، ولا يعرف كنهه، ولا إحاطة بحقيقة أسمائه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالوحي الصادق، والهدى الساطع، والدين القويم، والعدل المبين.
صلى الله عليه وآله أجمعين.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأن لا نبتغي عن سبيله سبيلا، وعن دينه دينا، وعنه وعن أوليائه أولياء، فإنه مما لا يقوم معه دين للمرء أن يعادي أولياء الله، وأن يوالي أعداءه، وموادة أولياء الله وموالاتهم من موادته وموالاته، والقلب المنكر لولايتهم منكر لولايته، ولا يحيى قلب ولاية الله إلا ويحيى ولاية أوليائه، ولا يبتلي قلب بمحبة أعداء الله إلا لأنه معاد لله، ومن عادى الله كان الله له بالمرصاد.

اللهم أعذنا من أن نتخذ أولياء من دونك ، أو أن نعادي أوليائك ، ونواد أعداءك يا أرحم الراحمين .

أما بعد فهذه كلمات عن أمير المؤمنين عليه السلام في المسؤولية العامة نستضيء بها بالقدر الميسور والذي يتسع له صدر هذه الخطبة المختصرة:
(( اتقوا الله في عباده وبلاده ، فإنكم مسؤلون حتى عن البقاع والبهائم ))

1- قاعدة المسؤولية في كلمته عليه السلام والتي تنطلق منها، ولاقاعدة للمسؤولية دونها هي تقوى الله. فكلما لم يكن القلب متوفرا على تقوى الله فلا شعور بالمسؤولية له. فالسلوك القويم إنما يحركه تقوى الله، والمشاعر الطاهرة إنما يصوغها تقوى الله، وما يقال كثيراً من الشعور بالمسؤولية العامة وتحملها مفصولا هذا عن تقوى الله والإيمان به فإنما هو جزاف وهراء. لست تكون مسؤولا شعورا وعملا ما لم تكن متزودا بالإيمان، مليء القلب بالتقوى. تجدون سعة للمسؤولية وشمولا فيها ليس أكبر منه في كلمة علي (ع) “اتقوا الله في عباده وبلاده”. راعوا حقوق عباد الله، وعباد الله منهم المؤمن والكافر، منهم الفاسق والمؤمن الشديد الايمان؛ وكل أؤلئك لهم حق على اختلاف في المستويات، وكما لا يؤذن للإنسان الذي يعيش الشعور بالمسؤولية على قاعدة الإيمان أن يظلم مؤمنا فليس له أن يظلم كافرا، وإنما هي حدود الله التي لا تتعدى بالنسبة إلى كل أحد. تتجاوز المسؤولية في الإسلام الأنفس الحية حتى تعم البيئة كلها. مسؤولية تشمل كل حبة في الأرض، تشمل المناخ، الحيوان، النبات، تشمل كل الثروة الطبيعية ، تشمل كل ما يمكن أن تطاله يد الإنسان بالرعاية أو الإهمال ، بالتعدي أو الصيانة . تقول الكلمة عنه عليه السلام:”إنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم”. هنا تجدون رفضاً للعداونية، وللسلبية؛ فلتحمل المسؤولية لا بد من انتفاء العدوانية، ولتحمل المسؤولية أيضاً لا بد من انتفاء السلبية.

2- الرفض للعدوانية والسلبية، والتأكيد على الدعم والرعاية، والتصحيح للفاسد، والعلاج للمعوج؛ كلّ هذه أمور تدخل في محيط المسؤولية التي تقوم على قاعدة الإيمان.

(( لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق ، ولم تهنوا عن توهين الباطل لم يطمع فيكم من ليس مثلكم ، ولم يقو من قوي عليكم)). إذا كان هناك تحمّل المسؤولية، فهناك موقع، وهناك قوة، وهناك سيادة لكلمة الحقّ. وإذا كان هناك انسحاب عن تحمّل المسؤولية، فهناك تدهور للأوضاع، سيادة للظلم، للفوضى، للعبثية، للفساد. وإنما قويت إسرائيل والكفر والفسقة من المسلمين على عُدْولهِم لهذا الوجه. هذا التخلف المتفشي فينا سببه الرئيس هو تخلّفٌ عن المسؤولية شعورا وتحملا.
(( لاتتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم)).

1- الصيغة الاجتماعية إما صيغة صالحة تقضي المسؤولية المحافظة عليها، وإما فاسدة تقتضي بوجوب تصحيحها، وإلا فالنتيجة غلبة الباطل على الحق، واستيلاء الأشرار على الأخيار، ومن هم أقل مستوى من أعداء الأمة على الصالحين الأخيار.

2- السلبية والإهمال العملي للمسؤولية العامة يفقد الدعاء بالفرج والخلاص شرطه ويفقده معناه، فحبل المنهج وهو من الله أقوى من حبل الكلمات وأدل على الصدق والتعلق. المخلّص أن تأخذوا بمنهج الله، والدعاء اللفظي إنما ينمّ عن صدق لو كان وراءه تعلّق عمليّ بمنهج الله.
(( أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها)).

“ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ، ولباب هذا القمح ، ونسائج هذا القز ، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ، ولا عهد له بالشبع أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى –إلى أن تقول كلمته عليه السلام- “فما خُلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة”. هكذا نحن بلا مسؤولية كالبهيمة المربوطة، فإذا لم تحمل شعور المآسي الاجتماعية، وويلات المسلمين، إذا لم يؤلمك ألم المسلم، لم يزعجك هذا الوضع المتردي للمسلمين، إذا لم تبذل على طريق التصحيح ما تستطيع، فأعوذ بالله. فإنه بهذا يكون أحدنا كما قال عليه السلام “كالبهيمة المربوطة همها علفها أو المرسلة شغلها تقممها”.

يقول عليه السلام:(( أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك-انتهت الوظيفة، امتلأ البطن فبركت السائمة وهي ترعى العشب مرسلة في الخارج، في البراري والصحاري مثلاً-، وتشبع الربيضة -هذه التي ترعى في البيت وتعلف- من عشبها فتربض، ويأكل عليٌّ فيهجع؟! عليٌّ الإنسان بإمكاناته الهائلة، برصيده الضخم – وكلّ إنسان له رصيد يحمّله مسؤولية كبرى في الأرض – عليّ بالرصيد الكبير، يتساوى –وحاشاه- مع الربيضة والسائمة حيث تمتلئ فتبرك، وتشبع فتربض؟! قرت إذاً عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة، والسائمة المرعية. تجدون من يمضي في الدرس الديني عشرات السنوات ويكتنز من علوم الدين ما يكتنز، ثم لا يتجاوز همه بطنه وفرجه، أما علي عليه السلام فإن لخبرة السنين، ودروس الأيام في نفسه وهو على هدى عظيم، وعلى عصمة من الله دافعاً شديداً للعمل على خط تحمل المسؤولية.

1- المحرك الوحيد على طريق المتاعب والمواجهات الكبيرة عند علي عليه السلام هو الشعور بالمسؤولية الإيمانية.
2- النوم عن الاوضاع الفاسدة ومشكلات المستضعفين كاشف عن خواء في الشخصية .

3- تبقى بهيمية ساقطة بعد علم السنين وتجاربها ودروسها عند من لم يتحمل المسؤولية .

4- أمير المؤمنين عليه السلام قاتل وسالم ، ونطق وسكت ، وحكم وأشار من موقع المحكوم المظلوم ، وعارض ولبد ، وتحرك وسكن ، وكل ذلك من منطلق إحساسه العميق المرهف، بمسؤوليته البالغة بما هو إنسان، وبما هو مؤمن، وبما هو إمام أمام الله العظيم ربه ورب العالمين جميعا.

فنعم الإمام ، ونعم القدوة ، ونعم الدليل على رضوان الله والجنة .
سيروا وراء علي عليه السلام تكونوا من الناجين.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد واجعل محيانا محياهم ومماتنا مماتهم ، واجعلنا منهم يوم الدين ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع أرحامنا، ومن له حق خاص علينا من أهل الإيمان والإسلام، ولسائر المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات يا كريم يا رحيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
((والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر )).

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي جلَّت نعمُه فلم يبلغها شكرُ الشاكرين، وعظمت آلاؤه فتجاوزت عدَّ العادّين، وثقلت مننه في السماوات والأرضيين.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مرجع الفضل كله، والإحسان جميعه، والخير بكامله. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله كان بالصدق معروفاً، وبالأمانة موصوفاً، وبالحقّ ناطقاً، وبالعدل حاكماً، وعلى الهدى دليلاً، وإلى الجنة قائداً. صلّى الله عليه وآله وزادهم جميعاً تحية وسلاماً.

عباد الله أوصيكم ونفسي الميّالة إلى ما يضرّها بتقوى الله، وأن لا يكون لنا رأيٌ غيرَ ما عليه دينُه، ولا وجهةُ نظر خلاف ما في شريعته، ولا حبّ لما أبغض ومن أبغض، ولا بغضٌ لما أحب ومن أحبّ، بذا نكون لله متوجهين، وبهداه مهتدين، ولا كمال لمن كان توجهه لغير الله، ولا هدى لمن لم يهتد بهدى الله. ومن أبغض ما يحب الله ومن يحب فقد أبغض الخير وأهله، فلم يكن معهم في شيء، ومن أحب ما أبغض الله، ومن أبغض فقد أحب الشر وأهله فكان منهم في كلّ شرّ. وكلّ مع من أحب درباً وغاية، ونية ومنقلباً.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد. اللهم اجعل أولياءنا من والاك، وأعداءنا من عاداك، ولا تجعل لمعصية في قلبنا حبّاً، ولا لطاعة في أنفسنا كرهاً، واجعل منقلبنا خير منقلب مع زمرة الأطهار محمد وآله الأبرار، اللهم صلّ وسلّم على السراج المبين، والرحمة من ربّ العالمين، وخاتم النبيين والمرسلين محمد وآله الصادقين.

اللهم صل وسلّم على الراكع الساجد المجاهد علي بن أبي طالب. اللهم صلّ وسلّم على أمتك الصابرة، فاطمة الزهراء الطاهرة. اللهم صلّ وسلّم على الوليين الصادقين، والإمامين المجاهدين الحسن بن علي المجتبى، وأخيه الحسين الشهيد بكربلاء. اللهم صلّ وسلّم على أئمة الهدى، وأعلام التقى، وقادة الورى علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، علي بن محمد الهادي، الحسن بن علي العسكري المفزع من الجاهلية العمياء.

اللهم صلّ وسلّم على البدر المغيّب، والإمام المحجَّب، والنور المستور، والقائد المنصور، إمامنا المنتظر محمد بن الحسن الأغر. اللهم عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، وانصره نصراً عزيزاً.

اللهم المناصر له، المسترشد بطريقته، المؤمن بإمامته، الممهد لدولته، وكل الفقهاء العدول العاملين في سبيل الله، المدافعين عن دين الله، والعلماء الصلحاء، والمجاهدين على هذا الطريق، وحماة الثغور الإسلامية، والذائدين عن حمى الإسلام وحرماته أيدهم وسددهم وانصرهم وادرأ عنهم كل كيد ومكر يا من هو على كل شيء قدير، وبالإجابة حقيق جدير.

أمّا بعد أيّها المؤمنون والمؤمنات..
فإنّ حديثي لا ينصبّ على الأحداث السياسية الجزئية وإنما هو حديثٌ يذهب إلى العمق من المأساة، وإلى ما هو العلاج الحق لو وعينا وانكشفت عنّا غمم الجاهلية العمياء. الكلّ يعرف معاناة البشرية وكثرة مآزقها ولكن ما أقل من يطلب خلاصها، وحل أزماتها من الطريق القصير الصحيح الواصل الذي لا طريق واصلاً غيره، ولا مخلّصاً سواه، وهو طريق الله سبحانه، ومنهجه الكريم الذي تنزلت به كتبه وجاءت به رسله. “إن الدين عند الله الإسلام”، “ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه” إذ غيره واهم فاسد مؤزم ساقط.

من مشاكل هذا العالم المعرض بوجهه عن منهج الله الذي لا غنى له عنه فقر ومرض يسحقان ملايين من النَّاس، وجوع مذل، وسقم مفترس، وفزع أمنيٌّ دائم من الفرد إلى الدولة إلى العالم، واقتتال طاحن طرفاه الحرمان والإكتراش، فهو من جانب من أجل اللقمة المسلوبة التي تتوقف عليها الحياة، ومن جانب من أجل العبث في كنوز الدنيا وجهود أبنائها، ومزيد من التطاول على الآخرين. عالم ملؤه مشاكل بلا تعداد، يغرق في مآسيه، ويسعى إلى مزيد.

من أين هذا الفقر… الجوع.. العري… التشرد…. المرض… العجز عن اللقمة.. عن الكسوة… المسكن… الدواء؟ من أين هذا الفزع عند الإنسان من الإنسان… من نتائج العلم…. من مكتسبات الحضارة المادية… هذه المعارك العدوانية المتصلة التي تحصد الناس وتحرق الأخضر واليابس؟!
يغالط المستكبرون المستضعفين فيقولون إن المشكلة في شح الموارد الطبيعية، وإنَّهم لكاذبون ولو تضاعفت الموارد الطبيعية أضعافاً، وضاعف التقدم العلمي الإنتاج المادي مرات ومرات فالمشكلة ستبقى، وإذا كان شيء فستزيد لا أنها تنقص.

المشكلة في الإنسان المستكبر… في تفرعنه… في طاغوتيته… في سحقه لقيمة الثروة… لقيمة الإنسان… في روح الجشع التي تتحكم في تصرفاته… في بحثه عن ذاته.. عن معناه… عن قيمته في المال التالف… في الجاه الزائف… في السلطان العابر… في الخلود الدنيوي الموهوم.

يسكت هؤلاء المستكبرون عن سلبهم لأرزاق الملايين من البشر، واللعب بالثروة من عطاء الأرض وجهود الكادحين، وإبداع المكتشفين والمخترعين لعب الطفل الأبله، ويكدّسون الأموال كالرمال، وينسون احتكارهم للطبيعة، وحرمان المستضعفين من الإفادة منها ومن عطاءاتها، بل وتجاوزَهم على الطبيعة بإفسادها وتخريبها والإخلال بمعادلاتها التي تنتظم بتوازنها أمور المعاش والحياة لحساب مشاريعهم الجشعة والعدوانية الفتَّاكة.

ولو صدق الإنسان لقال بأن الثروة الأولية، وناتج الكدحِ العالمي، والفكرِ المخترع المبدع، والآلة الضخمة يحترقان في وزارات الداخلية والدفاع والإعلام الموجَّه للتضليل والخداع والتجهيل، وفي ليالي الفحشاء وسوق الهوى، ونوادي القمار والخمر، والسرقات والرشوات، وإنتاج أسلحة الدمار الشامل، والبحوث العلمية الموظفة لتقدم وسائل الفتك العالمي وتكديسها وتخزينها، وفي الإنتاج الفضولي الترفي الذي يمثِّل مع تسويقه، وامتصاص المال عن طريقه لوناً من ألوان بعثرة الثروة وسرقتها من جيوب المغفَّلين. وتجد النسبة العليا من مال أهل الأرض وأرزاق ملايينها الغفيرة وثمن لقمتها وكسائها ودوائها وسكنها المناسب وما به صلاح حياتها في أرصدة حفنة قليلة من متموّلي العالم ومهرة سرّاقه. هذه هي الحقيقة بالضبط وإذا بقي منها باقٍ فهو من نفس السياق.

قالت كلمة البعض في قمة الأرض الأخيرة بأن من أكبر عوامل الفقر في العالم إن لم يكن أكبر عامل له هو الفساد، ويعني به اختلاس المال العام من المتنفذين في مراكز القرار والإدارة، والرشوة، ومختلف التحايلات القانونية وغير القانونية على ناتج عرق الكادحين، وعطاء إبداع المفكرين. ويشترك في الاختلاس والخيانة للمال العام موظفون ومدراء، ووكلاء، ووزراء ورؤساء وزارات، ورؤساء جمهوريات من مصاصي الدماء، وفاقدي الضمير، والمبتلين بداء العطاش للمال والدنيا، ومقتضيات الهوى، وهم – الخونة الناهبون الغاصبون المتحايلون- حرّاس الثروة والأمن والقيم والدين وكل مقدّر ومقدرة.

والسؤال كيف يسقط الإنسان، وتحترق الثروة على يديه في كل هذه المحارق، ويهدر تعب الأجيال، وكدح المعذّبين، وعرق المكدوحين، وتسرق لقمة الكفاية ولقمة الجياع من طريقها إلى أفواه الملايين، وإذا وصل ما يقيم الصلب أو يحفظ الرمق لا يصل إلا وهو مغموس بالذل والهوان، وبيع الشرف والدين في كثير من الأحيان؟! كيف صار يمتهن الإنسان على يد أخيه الإنسان الذي يسرق لقمته وجهده ونصبه، ويتفنن في إذاقته ألوان العذاب مع راحة ضمير، واستمراء للحياة بل هناءة فائقة وتلذذ كبير؟! من أين صار أمن الحكومات لا يتم إلا بإخافة الشعوب؟ وأمن كل دولة لا يتم إلا بإخافة بقية الدول المجاورة حينا وحتى غير المجاورة حيناً آخر، وأمن الرؤوس في كل حكومة لا يتم إلا بالحراسة من بعضهم البعض؟! لماذا لا ضعيف يأمن، ولا قوي يأمن، والعالم كله في توتر من الأعصاب إلى حد العنف والإرهاب والاغتيال والقتل للتشفي وللبطش والملهاة؟!

وراء ذلك كله أمر؟ نعم ولا شك ولا ريب. حاجة الإنسان إلى ربه في المرجعية والحاكمية التشريعية حاجته إليه في المرجعية والحاكمية التكوينية… حاجته إليه في مساحة الاختيار على حدّ حاجته إليه في مساحة الجبر والإطرار، وتنكّر الإنسان استكباراً وجاهلية وغروراً لهذه الحاجة في حاكمية التشريع، وهو المذعن اطراراً لحاكمية التكوين. هذان الأمران: إنسان محتاج إلى الله ويستكبر على الله. الإنسانية تبقى محتاجة إلى الله في عالم التشريع كما هي محتاجة إليه في أصل وجودها وعموم حياتها، هذه الحاجة اللابدية حين يكون لها تنكّر لابد أن تكون آثار مدمِّرة. أنا محتاج للشمس، فحين أرفض أن أتعامل مع الشمس أي تعامل إلا بالهروب منها، لا بد أن تكون صحتي في كارثة، أنا محتاج للأكسجين، فحين أكفر بقيمة الأكسجين لابد أن أنتهي. هذه هي المشكلة تماماً.

الإنسانية يصلحها الضمير اليقظ، والمنهج الدقيق العليم الحكيم العادل، والإثنان مغيبان في مجتمعات الجاهلية والإدبار عن الله.
إن المستضعِف والمستضعَف… المستكبِر والمستكبَر عليه – وهما طرفا المعادلة الفاسدة في المجتمع البشري اليوم – يشقيان معاً بالهروب عن الله… بالتخلي عن منهجه…. برفض حاكميته – بتغييب تربية السماء. ولا يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، ولا تعافى الأرض من مشكلاتها، ولا هدى ولا ضمير ولا أخوة ولا صدق ولا أمانة ولا عدل ولا كرامة ولا أمان ولا سلام إلا بأن تعود التربية والمنهج المغيبان المحاربان والمهملان: منهج الله، وتربية السماء إذ لا مثيل ولا نظير وليس بعد الهدى إلا الضلال.

فليسع الإنسان ما يسعى، ولتقاوم الشعوب والأمم، ولتُبتدع الأطروحات بعد الأطروحات، وليكثر الإنتاج ولكنّ شيئاً من ذلك لن يجدي البشرية نفعاً، ولن تذوق في ظله عدلاً وإحساناً، وراحة ورفاهية، وأمناً وسلاماً وكفاية، وعزّة وكرامة إلا أن تعود إلى حاكمية الله، وتنقاد إلى منهجه، وتتأدب بتربية دينه وأحكام شريعته. كلما قرأتم شيئاً في السياسة فارجعوه إلى هذا الأصل.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد وأرنا الحقَّ حقّاً فنتبعَه، والباطل باطلاً فنجتنبه، اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك يا كريم. اللهم واغفر لنا ولوالدينا وكل ذي حق خاص علينا من المؤمنين والمسلمين ولجميع أهل الإيمان والإسلام يا رحمن يا رحيم.

(إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)

زر الذهاب إلى الأعلى