خطبة الجمعة رقم (76) 6 رجب 1423هـ – 13-9-2002م

مواضيع الخطبة:

في رحاب الصلاة (2)  – حول أحداث الحادي عشر من سبتمبر

الحرب الغربية التي تتهدد العراق، والتي صار يقترب موعدها أنها لا تستهدف حرق العراق وحده، ولن تقف حدودها عنده، والمؤسف أنها – أي أمتنا – مع ذلك ستجد نفسها في خندق واحد مع أمريكا والغرب في هذه الحرب وإن يكن ذلك على حسابها.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي لا ينتهي تعلُّق الأشياء إلا إليه، ولا تسكن القلوبُ إلا بمعرفته، ولا تبتغي المخلوقات في سيرها للكمال إلا وجهه الكريم، حيث لا كمال يُتلقى إلا من جهته، ولا خير يُنتظر إلا من عنده.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ندّ له ولا ضدّ ولا مثيل ولا شبيه. وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله؛ فعله حقٌّ، وقوله صدق، وقضاؤه عدل، وسيرته شريعة. صلَّى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً.

عباد الله أوصيكم ونفسي الأمّارة بالمعصية بتقوى الله، والأخذ بهداه فإن هداه هو الهدى، ولا هدى إلا هداه، فمن عدل عن الله لم يكن حظه إلا الضلال، وليس له إلا العمى، وهل بعد الحقّ إلا الضّلال، وبعد النور إلا الظلام.

وإنّ للشيطان وجنده من طغاة الأرض وجبابرتها، ومن أهل الهوى والشهوات نداء متّصلا ليلاً ونهاراً يدعو إلى الغوى، ويجاهد النّاس على الانحراف، وإنّ ضحاياه لفي ازدياد، فكن على يقظة ووعي، وتسلَّح ببصيرة من نور العقل والفطرة، وفهم الدين، وضياء من الإدراك لقيمة الذات والحياة، والحاضر والمصير، وزاد من الحكمة والدّقة في النظر، والخبرة في الأمور تردُّ به غائلة ما يريده بك الظالمون من عار ونار وسقوط.

اللهم صلّ على محمد وآل محمد ولا تحرمنا هداك، ولا تسلبنا نور معرفتك، ولا تعاقبنا بالصرف عن وجهك الكريم يا أكرم من كل كريم، ويا أرحم من كلّ رحيم.

أمّا بعد أيّها المؤمنون والمؤمنات فلنستمسك بالصلاة ورحابها الكريمة، وأجوائها العبقة وعطاياها الروحيَّة، ودروسها الحيَّة التي تمدّ العقول بالنشاط، والقلوب بالزكاة، والنفوس بالهداية، والروح بالشفافية والانفتاح، ولنتخذ منها منطلقاً لنا لبناء الإنسان والحياة، ومدرسة نتعلم في أحضانها دروس الإخلاص والحب الكريم، والعزّ والكرامة، والعدل والإحسان، والرقيّ بالأرض ومن عليها، وإعادة الحاكمية لكلمة الله في أوضاع الحياة والإنسان.

هذه الصلاة التي حفِلت بها آيات الذكر الحكيم، وطوائف الحديث الشريف، ووصايا المعصومين عليهم السلام، وسيرتهم الطاهرة التي جرت على ضوئها سيرة المتشرّعة في كلّ الأجيال المتلاحقة، وهي من فروع الإسلام وأركانه ما هي منزلةً وشأناً عالياً كريماً، وكلّ أركانه وفروعه سامية رفيعة.

وهذه جولة ثانية عاجلة مع بعض النصوص في موضوع الصلاة بعد جولة

تقدمت في الجمعة الماضية:

من شأن الصلاة:-
“أول ما ينظر في عمل العبد في يوم القيامة في صلاته؛ فإن قُبلت نُظر في غيرها، وإن لم تقبل لم ينظر في عمله بشيء” (ص).
فالصلاة قبولها مفتاحٌ النظر في بقية الأعمال، الأعمال الأخرى ما لم تكن صلاة، أو لم تكن صلاة مقبولة كأنها لا وزن لها لفقدها الصلاحية الذاتية للنظر، ذلك لأن الأعمال الأخرى لم تنطلق من منطلق القربة إلى الله وهي مفصولة عن الصلاة،، من أهمل الصلاة لم يكن في قلبه إقبالٌ على الله، فكأنما الأعمال الأخرى على روعتها الظاهرية وحسنها في الخارج لا تملك أيّ أهلية للنظر فيها عند الله بعد أن تكون صلاة العبد غير مقبولة.
وجاء عن علي عليه السلام عن الرسول صلى الله عليه وآله:”… فإن صحت نظر في عمله، وإن لم تصح لم ينظر في بقيَّة عمله” وعن الباقر عليه السلام:”… فإن قبلت قبل ما سواها”.
مرة نجد أن النظر في غير الصلاة متوقف على قبول الصلاة، ومرة نجد أن النظر في غير الصلاة متوقف على صحة الصلاة، ومرة نجد أن قبول ما سوى الصلاة متوقف على قبول الصلاة وهي معانٍ ثلاثة مختلفة، ويمكن أن تكون درجة القبول التي يتوقف عليها نظر بقية الأعمال هي من مستوى صحة الصلاة الذي يساوي أدنى درجات القبول، وربما كانت الصحة هنا تعني الدرجة الأولى من القبول، وهناك درجات فوقها، فتتساوى درجة القبول ودرجة الصحة المتوقف عليهما النظر في بقية الأعمال. حين نأخذ قبول الصلاة هنا بمعنى صحتها، وحين نأخذ صحتها بمعنى أدنى درجات قبولها يتم الانسجام. و قبول بقية الأعمال عند قبول الصلاة، قد يكون له هذا المعنى؛ وهو أن الأعمال الأخرى وإن كانت بمستوى أقلّ من مستوى الصلاة لكن قبول الصلاة يكون شافعاً لقبول بقية الأعمال من دون الصلاة. وكأن النقص الداخل في درجة بقية الأعمال معالج من خلال قبول الصلاة ومستواها المتقدم؛ ذلك لمركزية الصلاة في العبادات؛ ومستواها المتميّز في التشريع والله أعلم.

وعن علي عليه السلام:” لو يعلم المصلي ما يغشاه من جلال الله ما سرَّه أن يرفع رأسه من السجود”.
هو في حال سجوده تغشاه من الله بركات، تغشاه ألطافٌ ورحمات، تغشاه من الله عناية. يرعى قلبه، يرعى مشاعره، يحرسه من الشيطان، قد يقول قائل وأنا في الصلاة لا يكثر رزقي، لا يعالج مرضي البدني، لا أجد عطاءات مادية فأين ذلك الذي يغشاني من جلال الله؟ إنما الذي يغشاه جلال الله هو القلب، إنما الذي يغشاه جلال الله هو الروح، إنما الذي يغشاه من جلال الله ونور الله، هو الفؤاد الواعي، هو الفؤاد الزاكي عند الإنسان، وعناية الله تنصبُّ في حال صلاتك منك على روحك، أكثر مما تنصب عليك في بدنك. وأين جسمك من روحك منزلة؟! روحك معناك الكبير، وجسدك ظرف ربما كان محبس الروح.

وعن رسول الله (ص):”ما من مؤمن يقوم إلى الصلاة إلا تناثر عليه البر ما بينه وبين العرش، ووكّل به ملك ينادي: يا ابن آدم، لو تعلم ما لك في صلاتك، ومن تناجي ما سئمت وما التفت”.

الحديث السابق وهذا الحديث يتفاوت فيهما مستوى تغشية جلال الله لروح الإنسان، ومستوى ما يتناثر عليه من البر يصيب روحه وقلبه، ومستوى إقبال الله عليه، وذلك باختلاف مستوى إقباله على الله. كلما كان في السجود، وفي الصلاة إقبال على الله كان لهذا الإنسان من خير الله ما لا يعد ولا يحصى. أنت تتكون روحياً، وتزكو قلباً، وتشع ذاتا من خلال هذه المناجاة، من خلال هذا السجود، من خلال الركوع، نجارتك لا ترفع مستواك الروحي، زرعك وبناؤك لا يرفع مستواك الروحي. نعم، إذا كان وراء ذلك نية صالحة وقربة إلى الله كان فيه درجة من الرفع، لكن أرفع ما يرفع العبد روحاً وقلباً وإرادة هو هذه اللحظات من الإقبال المركز على الله سبحانه وتعالى. فأنت تتبلور ذاتك، وتسمو ذاتك، وتنصنع إنسانا عظيما من خلال هذه اللحظات، فأين أي بر من هذا البر؟! وأين كل الخير الآخر من هذا الخير؟!

في المحضر الأعلى:-

“قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون” 2،1 / المؤمنون.
الصلاة تعني أنك في المحضر الأعلى، أنك تحضر عند الله، بروحك بقلبك بمشاعرك بإنسانيتك. في محضر ملك الملوك، في محضر جبار السماوات والأرض، في محضر الكمال المطلق، في هذا المحضر الأعلى كيف ينبغي أن تكون؟ تقول الآية الكريمة: “قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون” 2،1 / المؤمنون.

معنى عدم الخشوع عدم الحضور، لو حضرت الصلاة بقلبي وروحي لخشعت، فالخشوع نتيجة حتمية لأن أعرف الله، أتراجع وأقول من عرف من عظمة الله القليل، وحضر هذا المحضر الأعلى بعقله وقلبه لا بد أن يخشع، أما إذا كان القلب في لهوه والنفس سادرة، والعقل في غفلته فلا توجه ولا خشوع. “قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون” 2،1 / المؤمنون. وهو الفلاح الأعظم، وهو الذي يعني عظمة الروح، كمال الإنسان، كل حساباتك أن تكمل والكمال هذه لحظاته، وهي لحظات الصلاة في إقبال.

“روى أن النبي صلّى الله عليه وآله كان إذا قام إلى الصلاة كأنه ثوب ملقى”.
لا يحركه همّ دنيوي، ولا تحضره خواطر الدنيا، ولا يلتفت إلى ذاته إلا أنه شيء من الله، وتتملك عليه لحظات المحضر الأعلى حتى لا يلتفت إلى شيء إلا إلى الله بما يطيقه، وما يطيقه الرسول صلى الله عليه وآله من الإلتفات إلى عظمة الله لا يطيقه الآخرون، والناس العاديون لحظة أن يلتفت أحدهم إلى شيء من عظمة الله يصرفه ذلك عن كل الهموم وعن كل المشكلات فكيف برسول الله صلى الله عليه وآله وقد تفرغ قلبه لربه، وملأ ما يراه من عظمة الله كل أقطار نفسه فلم يكن له من نفسه أن يرى نفسه إلا شعاعاً من فيض الله.

قالت عائشة كان رسول الله صلَّى الله عليه وآله يحدِّثنا ونحدثه، فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه”. حضر الموعد العظيم: كيف تخفّ، وكيف تهبّ لموعد لك مع إنسان ترى فيه قدرا، أو ترجو منه أمرا، أو تخاف منه شرا، إنك تهب سريعا لذلك الموعد، وتستعد له كل الاستعداد، رسول الله صلى الله عليه وآله يملأ شعوره أن موعد المحضر الأعلى قد آن، ويتوجه إليه نداء من الله (حي على الصلاة، حي على الصلاة)، فهل يمسكه شيء من أشياء الدنيا؟! هل يحتل في قلبه أي موقع إذا قام إلى الصلاة فقال:”وجهت وجهي..)؟! ما أعظمها من كلمة، وما أصدقها على لسان رسول الله (ص) من قولها؟! وما أكذبني في الكثير فيها، وجهت وجهي لله، يعني أنا الآن لا ألتفت إلى شيء غير الله، روحي وقلبي بلا تلفت إلى شيء آخر أبداً، أنصدق؟!

{كان علي عليه السلام إذا قام إلى الصلاة فقال:”وجّهتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرض” تغيّر لونُه حتى يُعرف ذلك في وجهه} عن الصادق (ع)
لا مخوف كالله، لا مرجو كالله، لا جميل كالله، ونفس علي حساسة، روحه مرهفة، عقله وقاد، ذاته الإنسانية حية، نابضة فهو يلتفت إلى أن الله عز وجل الذي وجه وجهه إليه ليس لعلي من دونه ملجأ، وليس لعلي عليه السلام من دونه حامٍ، وليس له مصدر خير دونه، ولا مفر له من ملكه، وهو ينجذب إليه في جماله وجلاله. علي عليه السلام التي تحيى روحه فطرته المتوجهة إلى الله، المتوجهة إلى الكمال أشد حياة لا يصبر طرفة عين أن يشعر بالإنفصال عن الله، وهو يخافه، وهو يرجوه، وهو يتعلق به ويستعطي من فضله وهداه، حق له أن يتغير لونه، ولو أن أحدنا التفت لحظة إلى شيء من عظمة الله لتغير لونه ولطرأ عليه الانفعال الذي يحكي انفعال روحه، ويحكي اضطراب داخله إلى أن يطمئن بذكر الله.
قبولٌ مشروط:-
“لو صلّيتم حتى تكونوا كالأوتار، وصمتم حتى تكونوا كالحنايا لم يقبل الله منكم إلا بورع” (ع).
الورع ليس في داخل الصلاة فقط؛ إنما الورع قبل الصلاة في كل الحياة.
“أوحى الله إلى داود:… كم من ركعة طويلة فيها بكاء بخَشية قد صلاها صاحبها لا تساوي عندي فتيلاً حين نظرت في قلبه فوجدته إن سلَّم من الصلاة، وبرزت له امرأة وعرضت عليه نفسها أجابها، وإن عامله مؤمن خانه”. ليس أن يركض وراء المرأة، المرأة ترتمي في أحضانه، تعرض نفسها عليه، تبدي كل دلالها وميوعتها أمامه لتنال منه، من قلبه، فإذا لان فهو ليس المصلي الذي تقبل صلاته.

“انظر فيم تصلي وعلى ما تصلي، إن لم تكن من وجهه وحلّه فلا قبول” عن علي عليه السلام.

“من نظر إلى أبويه نظر ماقتٍ وهما ظالمان له، لم يقبل الله له صلاة” عن الصادق (ع). الواو واو الحال، يعني في حالة كونهما ظالمين له، لم ينظر لهما نظر ماقتٍ وليس في الظروف العادية فحسب.

“من اغتاب مسلماً أو مسلمة لم يقبل الله صلاته ولا صيامه أربعين يوماً وليلة، إلا أن يغفر له صاحبه”. الصلاة شرطها الالتزام، يعني هو المسألة مسألة ماذا؟ حضور قلب، وتفاعل قلب، إقبال قلب، هذا كله لا يحصل لإنسان يعصي الله في ليله ونهاره.

قشر مردود في إهانة:-

هناك صلاة ترد على صاحبها في إهانة، وأقرأ سريعاً:
“إن من الصلاة لما يقبل نصفها وثلثها وربعها وخمسها إلى العشر، وإنّ منها لما يلف كما يلف الثوب الخلِق، فيضرب بها وجه صاحبها وإنما لك من صلاتك ما أقبلت عليه بقلبك” (ص). الله عز وجل لا يقبل القشور، واللبّ هو قلبك، هو روحك، وأن تناجي الله، أن تتوجه إلى الله بهما. ذلك لا لحاجة لله في قلبك وروحك، وإنما الذي يصنعك هو أن يسمو قلبك…. وتعلو روحك، وذلك لا يحصل إلا بالإقبال على الله، وإلا فما حاجة الله لإقبال روح العبد وقلب العبد عليه؟!

(فيما أوحى الله إلى داود:”لربما صلَّى العبد فأضرب بها وجهه وأحجب عني صوته، أتدرك مَنْ ذلك يا داوود، ذلك الذي يكثر الإلتفات إلى حَُرم المؤمنين بعين الفسق، وذلك الذي حدثته نفسه لو وُلَّى أمراً لضرب فيه الأعناق ظلماً). نظراتك موزعة على زوجة فلان، وعلى بنت فلان، وعلى أخت فلان، وعلى سر فلان، ذلك الذي يكثر الالتفات إلى حرم المؤمنين بعين الفسق.

“… فإذا كبّرت فاستصغر ما بين السماوات العلى والثرى دون كبريائه فإن الله تعالى إذا اطلع على قلب العبد وهو يكبّر وفي قلبه عارض عن حقيقة تكبيره قال:” يا كاذب أتخدعني؟ وعزتي وجلالي لأحرمنك حلاوة ذكري، ولأحجبنك عن قربي والمسارّة بمناجاتي”. حين تقول الله أكبر، استصغر كل مخلوق، استصغر الراسيات، الدول الكبرى، كل قوة من دون الله عز وجل. تقول الله أكبر وفلان الحاكم عندك أكبر، وأمريكا عندك أكبر، ومائتا الدينار من العمالة الأجنبية أكبر، وطفلك أكبر، وزوجتك أكبر؟!

اللهم صلّ على محمد وآل محمد واقبلنا في المصلين، واجعلنا من الذاكرين، وهب لنا حظ الخاشعين، وألحقنا بالصَّالحين واغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا ومن كان له حقّ خاص علينا من المسلمين والمسلمات ولإخواننا وأخواتنا من أهل الإيمان والإسلام يا رحيم يا كريم.
بسم الله الرحمن الرحيم
{إنّا أعطيناك الكوثر، فصلّ لربك وانحر، إنّ شانئك هو الأبتر}.

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي عنده علم ما خلق وما لم يخلق، ما هلك وما لم يهلك، وكلها في علمه سواء، وليس في قدرته بعيد وقريب، إذ كل الأشياء في قبضته، ولا يفصل بين شيء وقدرته فاصل، وليس يمنع من إرادته مانع، ولا يحول عن قدره حائل.
تبارك وتعالى ربنا وهو العليّ القدير. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا نظير، ولا معين له ولا وزير، غني لا غني معه، فعّال، لا فاعل من دونه إلا بإذنه.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله هادياً ومبشّراً ونذيراً وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً. صلّى الله عليه وآله صلاة كثيرة نامية وسلَّم تسليماً غفيراً.

عباد الله أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ورعاية حرماته، واحترام حدوده، فمن هتك حرمة من حرمات الله عرَّض نفسه لسخطه، ومن تعدى حدّاً من حدود الله استحقّ عقوبته، وسخط الله لا يقاوم، وعقوبته لا تحتمل. وما من جبَّار يُخاف إلا وكان الله أحق بالخوف منه، وما من عقوبة تُهاب إلا وكانت العقوبة من الله أشدّ وطأً وعذاباً أليماً. وليس الخوف من الله إلا خوفاً من عدله، وحاشا لله أن يظلم مخلوقاً ضعيفاً، وإنّما يظلم النّاقص والله محض الكمال.

اللهم اجعلنا من أهل التقوى، والعمل بما هو أبقى، والأخذ بما هو أزكى. اللهم صلّ على البشير النذير، والسراج المنير خاتم النبيين والمرسلين محمد وعلى آله الطاهرين، اللهم صلّ وسلّم على إمام المتقين علي أمير المؤمنين، اللهم صلّ وسلّم على الطاهرة الزكية فاطمة الهادية المهدية. اللهم صلّ وسلّم على إمامي الهدى، وعلمي التقى، السبطين الزكيين الحسن بن علي وأخيه الحسين. اللهم صلّ وسلّم على الهداة الأبرار والأئمة الأطهار علي بن الحسين السجاد، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري الصالحين الأخيار. اللهم صلّ وسلّم على مهوى أفئدة المؤمنين، ومحيي الدارسِ من معالم الدين، وباعث شريعة خاتم النبيين، الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن المنتظر. اللهم عجّل فرجه وسهل مخرجه، وافتح له فتحاً يسيراً، وانصره نصراً عزيزاً، واجعله في درعك الحصينة وحماك الذي لا يضام.

اللهم الموالي له، المجاهد جهاداً من جهاده، الممهد لدولته أيده وسدده واحرسه من أعدائه وانصره، وانتصر به، والفقهاء العدول، والعلماء العاملين الصلحاء، والمجاهدين من المؤمنين والمسلمين انصرهم على أعداء دينك، ومكّن بهم لشريعتك، وذد بهم عن مستضعفي عبادك يا قوي يا عزيز.

أما بعد أيُّها الأخوة والأخوات في الله فهذه بعض الأمور التي تتصل بالشأن العام في أكثر من دائرة:

1. إنّ أحداث الحادي عشر من سبتمبر للعام المنصرم والتي لم تثبت لحدّ الآن براءة جهات داخلية في أمريكا والصهيونية من مسؤوليتها لها دلالاتها ودروسها:

أ‌- إذا كان الحدث من افتعال الداخل، وبكيد صهيوني لتبرير حرب على الإسلام والمسلمين لا يدرى عن امتداداتها وتوسّع آفاقها فهذا يكشف عن قذارة الحضارة المادية وقادتها ورأسمالها، وفشل التقدم العلمي في ترشيدها كيف وهو بصفة كونه صوراً وتصديقات ذهنية بحتة قد تحوّل أداة طيّعة بيدها؟! وسيبقى العلم المنفصل عن الإيمان عاجزاً دائماً عن ترشيد الحضارة، وضبط حركتها في المسار الإنساني الصحيح العادل المهذَّب القويم.

ب‌- ومن جهة أخرى، وعلى تقدير آخر تمثل تلك الأحداث درساً عمليّاً صارخاً في أن الظلم مدعاة العنف، وأن سلسلة العنف إذا عرفت بدايتها فمن الصعب أن تعرف لها نهاية، وأن لا نهاية لها إلا بالعدل.

ج- على تقدير أن التدمير الهائل في الحادي عشر من سبتمبر كان من رد فعل المظلوم على الظالم يقال للمظلوم بأن الظلم ليس مبرراً لرد الفعل من أي نوع وعلى الإطلاق، وأن الرد على الظلم لا يقوم على القوة وحدها، ولا الشجاعة والجرأة فحسب، وإنما يحتاج إلى جنب حساب القيم إلى تقييم شامل للأوضاع والمناسبات الموضوعية كاملة، وتقدير دقيق للنتائج بعيداً عن الانفعالية والجمود على النظر إلى النتائج القريبة، وإلا أمكن أن يجر رد الفعل على الظلم أكثر من كارثة الظلم نفسه.

د- ردّ الفعل الاستكباري على أحداث الحادي عشر من سبتمبر أو ما كان مبيّتاً أن يرتب على هذه الأحداث التي ربما دبّرتها السياسة الشيطانية الأمريكية أو الصهيونية يتسم فعلاً بالروح الاستكبارية وإلغاء القيم، واسترخاص الأمم، والإباحيّة الحيوانية التي لا تقيم وزناً لإنسان شرقي أو غربي، فأمريكا والصهيونية مستعدة أن تسحق شعوباً بكاملها، وتهدم ما إقامه الإنسان من عمارة الأرض لقرون في سبيل تحقيق مطامعها الماديّة المتوسعة، ومستعدة أن تثير حرب الحضارات، وتقطع صلة الإنسان بالإنسان، وتستعدي المستضعفين في الغرب على أخوان لهم في الشرق ولمصلحة طغمة فاسدة من مستكبري العالم ومصّاصي دماء الشعوب.

وهذا ما تنتهي إليه الفرعونية أبداً، وتقود إليه ربوبية الإنسان على الإطلاق.

2- تعلم أمّتنا – والرسميون أول من يعلمون – بأن الحرب الغربية التي تتهدد العراق، والتي صار يقترب موعدها أنها لا تستهدف حرق العراق وحده، ولن تقف حدودها عنده، والمؤسف أنها – أي أمتنا – مع ذلك ستجد نفسها في خندق واحد مع أمريكا والغرب في هذه الحرب وإن يكن ذلك على حسابها. وسواء كان ذلك بطيب خاطر، أو تحت وطأة الإضطرار فهو مأساة وكارثة لأن الأول سقوط ودناءة عند العقل والدين والإنسانية والضمير، والثاني ضعف داخل في الاختيار بعدما كانت مقدماته اختيارية، وربما بسعي القدم. نعم ربما كانت هذه المقدمات قد سُعي إليها بالأقدام سراعاً.

ويسأل: الاختلاف بين مستكبري العالم في مجلس الأمن أهو اختلاف على العدل والظلم أم هو اختلاف على المصالح وقسمتها؟ وعلى ثمن المواقف المختلفة الداعمة للحرب العدوانية على العراق معروف تماما أن لا قيم عند هؤلاء جميعا وإنما المنظور هو الأنا والسيطرة وموارد الثروة عند الشعوب. وإذا كان للعرب كلمة معارضة صادقة ضد الموقف الأمريكي من العراق فهذا لن يكون لو حصلت الرغبة الأمريكية دعماً ملحوظاً في مجلس الأمن، والكل سيحاول أن ينجو بنفسه عند الشدة لو أمكن له.

اللهم صل على محمد وآل محمد، وهب لنا من لدنك رحمة واسعة تكفينا وتغنينا، وتكف عنا شر الأعداء، وانصر هذه الأمة على مبتغي ظلمها، وعلى المتآمرين على دينها وعزتها وكرامتها، واغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا ومن كان له حق خاص علينا يا كريم يا رحيم.

(إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون)

زر الذهاب إلى الأعلى