خطبة الجمعة رقم (74) 22 جمادى الثاني 1423هـ الموافق 30-8-2002م
مواضيع الخطبة:
العادة في النصوص الشرعية – ركائز المجتمع الصالح (في ظلال سورة العصر)
الكل مسؤول للوقوف بالوضع دون الهاوية. الرسميون مسؤولون، الشعب مسؤول، الأمن مسؤول، القوانين مسؤولة، السياحة المبتذلة مسؤولة، الإعلام مسؤول، التربية مسؤولة، وغياب فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤول. وسكوت الجميع انتحار في النهاية من الجميع.
الخطبة الأولى
الحمد لله العدل في حكمه، النافذ قضاؤه، القاهر في قدرته، المهيمن في سلطانه، الحاكم في مشيئته، المطلقة إرادته.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلُّ شيء من خلقه وله، ولا سلطان لأحد على شيء من خلقه. وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، قوله من قوله، وفعله دالٌّ على حكمه، لا يقرُّ إلا حقّاً، ولا يُنكر إلا باطلاً. عصمه ربُّه علماً وعملاً، وجعله دليلاً على سعادة الآخرة والأولى. صلى الله عليه وآله وزادهم جميعاً شرفاً وكرامةً، وتحيّة وسلاماً.
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، وأن نراقبه مراقبة خوف وطمع، في السّرّ والعلن فإنّه الرقيب الحسيب، المعاقب المثيب، الذي يعلم السّرّ وأخفى، وكلّ سرٍّ في علمه علن، وكلّ خفاء ظهور. ومن راقب الله طهّر قلبه، وبرّأ يدَه، ونزّه كلّ جانحة وجارحة منه عن كلّ قبيح، وكان له من رقابة الجليل الجميل المطلق حاجز من الدنايا والسقطات، ودافع إلى المعالي وأرقى الدرجات، ولا تغيب رقابة الله من قلب عبدٍ إلا ويموت قلبه، ويكونُ ألعوبة بيد الشيطان. أعاذنا الله من عمى البصائر، وموت القلوب، وصلّى الله على عبده الهادي محمدٍ وآل محمد.
أما بعد فإنّ واقع أحدنا – نحن النَّاسَ – في وزن شخصيتنا المعنويَّة، وفي مدى قربنا أو بعدنا من كمال الإنسان راجع إلى إلهامات الفطرة الإنسانية العامة الأولى، وهي لا يُعلم أن لنا تفاوتاً فيها “ونفسٍ وما سوَّاها فألهمها فجورها وتقواها”، “إنا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً”، “إنا هديناه النجدين”، وراجع إلى رصيدنا من الوراثة وهو على تفاوت نوعاً وكمّاً “تخيَّروا لنطفكم، فإن النساء يلدن أشباه إخوانهن وأخواتهن” عن الرسول. (ص)، “إياكم وخضراء الدّمن. قيل: يا رسول الله، وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء” عنه (ص)، وراجعٌ إلى مكتسباتنا وما ينعكس عنها من ترسبات وتراكمات تقوى بها صفة، وتضعف بها صفة من صفات النفس وطبائعها، وتنبني بها ملكة، وتنهدم ملكة من ملكاتها. “فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره”. وإننا لنرى خير العمل وشره جزاء في أنفسنا تزداد به الروح نورانية، أو تعتريها منه ظلمة، قبل أن نراه جزاء آخر في صورة من صور النعيم أو العذاب الذي تتلقاه الأبدان في طريقه للأرواح.
مصدران من مصادر صنع الشخصية لا حيلة لصاحبها في تقديرهما؛ وهما الفطرة والوراثة أما الاكتساب فداخل في الاختيار، وبه يمكن مواجهة سلبيات المصدرين الآخرين، ودعم إيجابيّاتهما بما يُعطي للشخصية قوة وتقدُّماً ونماء صالحاً، كما يُمكن إهمال الإيجابيّات، والاستسلامُ للسلبيات فتنحطّ الشخصية إلى أسفل سافلين.
ويتعمق الفعل أثراً طيّباً أو خبيثاً في النفس بتكراره، حتى ليتجّذر التجذّر الذي يُعيقُها عن الخير، أو يأخذُ بها على طريقه بلا معاناة. والفعل الذي يبلغ هذا المبلغ من النفس والتحكمَ في مواقفها هو العادة حتَّى قيل العادات قاهرات؛ فصاحب العادة ينطلق معها على الطريق في عفويّةٍ وترسل، دون روية أو تفكير، منسدّاً عليه باب رؤية الفعل في زَينهِ وشَينه، خيرِه وشرِه، وما يُعقبه وينتهي إليه.
والآن مع جملة من نصوص هذا الموضوع الواردة عن أهل العصمة والحكمة عليهم السلام:
إضافة ذاتية:-
“العادة طبع ثان”. حين يعتاد أحدنا عادة فهو يضيف هذه العادة إلى ذاته. وكما أن الطبائع من الذات، أنت تستطيع أن تُدخل على ذاتك جديداً ليتحول هذا الجديد إلى شيء من ذاتك تقريباً، وهو العادة، فإن كانت العادة عادة خير أضفت إلى ذاتك ما هو خير، وإن كانت العادة عادة شرٍّ أضفت إلى ذاتك ما هو شر، وكلّ خير في الذات يعين على الانطلاق، وكل شرٍّ في الذات يُمثّل إعاقة عن الكمال. أنت تطلب الشيء الجديد المفيد، تراه أو تسمعه فكيف بك لا تطلب الشيء المفيد تضيفه إلى ذاتك يُعينها على رحلة الكمال؟! العادة ليست الشيء المجاور للذات، وإنما العادة بمثابة ما هو من الذات، طبع ثان.
لأي شيء تحكم نفسك؟
“للعبادة على كلّ إنسان سلطان”.
“بغلبة العادات الوصول إلى شرف المقامات”.
“لسانك يستدعيك ما عوَّدته، ونفسك تقتضيك ما ألفته”.
فهنا أنت تعطي لشيءٍ من خارجك لم يكن له عليك سلطانٌ سلطاناً، تُعطي للعادة وكانت بالأصل أجنبية منك على نفسك حاكمية، وتجعل لها المشاركة في القرار بل قد تخرج من إرادة القرار حين تتأصّل فيك عادة من العادات فيكون بيدها كامل قرارك، فانظر ماذا تُضيف، يُمكن أن تُضيف العادة السوء فيكون قرارك بيد حكومة سيّئة، بيد حكومة شرّيرة، بيد حكومة طاغية ظالمة جاهلة تتمثل في تلك العادة التي اندست إلى نفسك مع الأيام، فكانت لها الحكومة على ذاتك. ويُمكن لك أن تُعطي لعادة حسنة أن تدخل ذاتك، وتفتح لها الطريق لتعينك هذه العادة على اتخاذ القرار الصائب فنعم الضابط، ونعم الدافع إلى الخير هي العادة الحسنة.
حذف وإضافة:
“أفضل العبادة علبة العادة”.
“غالبوا أنفسكم على ترك العادات، وجاهدوا أهواءكم تملكوها”.
” غيّروا العادات تسهل عليكم الطاعات”.
نواجه في هذه الطائفة من الكلمات الشريفة أكثر من اتجاه، الكلمة الأولى تقول لنا “أفضل العبادة غلبة العادة”، هذه الكلمة تدفع إلى أن نتوفّر على نوع من العادات، وأن نفتح الطريق للعادات تدخل ذواتنا، أمّا “غالبوا أنفسكم على ترك العادات، وجاهدوا أهواءكم تملكوها” فهي تريد منّا أن نقاوم العادة، وأن نطرد من داخلنا بعض العادات من خلال مجاهدة تكون صعبة طويلة كلّما تمكّنت العادة في الداخل.
تقول لنا الكلمة الثالثة ” غيّروا العادات تسهل عليكم الطاعات” فيكم عوائق عن الطاعة، عندكم في ذواتكم مثبّطات، عندكم في الداخل ما يقف شيطاناً دون أن تدخلوا في طاعة الله أو أن تستمرّوا على طاعة الله. هذا الشيطان يتمثّل في ضرب من العادات. هذه الكلمات بعضها وهو يحثّ على طلب العادة، وبعضها وهو يحارب تسلّل العادة إلى الذات.
تريد أن تفرّق بين عادتين: عادة خير وعادة شر، وتريد منك أن تملك إرادتك، وتريد منك أن تتوفر على وعيك، وتريد منك حضوراً عقليّاً فاعلاً تفحص من خلاله ذاتك دائماً، وتغور إلى عمق الذات، لترى ما في هذه الذات من نظيفٍ طاهرٍ، أو خبيث قذر لتقوم دائماً بعملية تغييرية تقوم على الحذف والإضافة. من ذواتنا ما نحتاج إلى أن نحذفه، ومن ذواتنا ما نحتاج أن نضيفه، العادة الخيّرة، طبائع الخير التي تتركز من خلال العادات الحسنة علينا أن نضيفها إلى الذات، طبائع الشرّ والسوء التي تتمكّث في الذات وترتبط بها من خلال العادات المترسّبة ينبغي لنا أن نطاردها، وأن نسدّ الباب مبكِّراً أمام أيّ عادة سوء، فقبل أن تخطو الخطوة فكِّر ماذا تفعل في ذاتك؟ بهذه الخطوة هذه الخطوة خطوة طريق يُثري الذّات ويرتفع بمستواها؟ أم أنها خطوة طريق يهدم الذّات ويلوِّثها، ويضيف إليها جديداً كثيراً من خبيث الضار. تريد أن تدخل بيت فلان، تريد أن تحضر الملأ الفلاني، تريد أن تذهب إلى المسرح، تريد أن تقوم بأي علاقة، أن تدخل في أي عمل، فكّر أنك تصنع ذاتك، أنك تبني ذاتك أو تهدم ذاتك، كن مع عقلك دائماً، خُذ معك عقلك، خُذ معك فطرتك، خذ معك دينك في كل موقف من المواقف لتحاكم كل المواقف على أساس العقل والفطرة والدين.
مجاهدة صعبة:
تقول الكلمة عنهم عليهم السلام – واحدهم هم، وهم واحدهم صلوات الله وسلامه عليهم فحينما أقول الكلمة عنهم وهي عن أحدهم فليس في هذا تزيّد لأنّ علمهم واحد- :
“أصعب السياسات نقل العادات”.
حين تتغلغل العادة في الذات وتتحوّل طبعاً من طباعها، وملكة من ملكاتها كيف لأحدنا عندئذ أن يهدم ذاته، عزيز على أيٍّ منا وهو يرى أنّ هذه العادة من ذاته أن يهدمها، وليس ألصق بالذات مما هو من الذات، والعادة بعد أن تتحول شيئاً من الذات يعني هدمها هدماً لشيء من الذات. فالمسألة صعبة، فقبل أن تحتاج إلى معاناة طويلة، وإلى مكابدة قاسية في مواجهة عادات ترسّبت في الذات وأخذت صفة الطباع فيها احترس كثيرا من أن تتدسس إلى ذاتك عادة سوء. وهل معركة الجهاد في الخارج إلا من مستوى معركة الذات مع الذات، النفس مع النفس، ليس من نجاح في معركة الخارج إلا ووراءه نجاح قد يكون أقوى وأكبر على مستوى معركة الذات في داخلها، ولا يمكن مطلقاً أن نحقق نجاحات في معركة الخارج بلا نجاحات توازيها أو تزيد عليها في معركة الداخل.
“أيها النّاس تولوا من أنفسكم تأديبها، واعدلوا بها عن ضراوة عاداتها”.
هذا من كلماتهم عليهم السلام. راجعوا النفس دائماً، ادرسوها، تأملوها، حاسبوها، راقبوها، غوصوا مع غوامضها، حاول دائماً أن تكتشف ذاتك، ما هي المترسّبات في هذه الذات؟ مترسّبات خير أو شر؟ نحن ندرس حالتنا المالية لنحسّنها، وندرس أوضاع بيوتنا وكل أوضاع خارجنا المتصلة بنا لنغيّر إلى جديد مفيد، وقبل ذلك علينا أن ندرس الذات ونحاول بها أن تصعد، أن تسمو، أن تتخلّص من الشوائب، من المعوّقات. هناك عدوٌّ ضارٍ من عادات السوء، هناك عدوّ شديد عنيد لها سلطان وحاكمية على الذات، وهي تلك العادات السيّئة، فلا بدّ أن تعدلوا بالذات عن ضراوة العادات، بأن تحاول مع الذات أن تنسلخ عن كل عادة سوء وأن تتخلّص من ضغط في الداخل يأخذ بها دائماً إلى طريق الغواية والشيطان والضلال.
درس من المعصوم (ع):-
عن حبّة العرني قال: أُتي أمير المؤمنين عليه السلام بخُوان فالوزج فوُضع بين يديه- سفرة فيها هذا الطعام من الفالوزج -، ونظر إلى صفائه وحسنه فوجى بأصبعه فيه حتى بلغ أسفله ثم سلَّها – عليه السلام – ولم يأخذ منه شيئاً وتلمّظ أصبعه وقال: إنّ الحلال طيِّب – أنا لا أحرّمه، أنا لا أقول لكم حرام، هنيئاً لكم أن تأكلوا الحلال الطيّب – وما هو بحرام – صرّح عليه السلام – ولكني أكره أن أعوّد نفسي ما لم أعوِّدها – حتى من عادات مباحة. هذا الارتباط بالمباح قد ينقلب إلى شهوة ساحقة، وإلى عادة آسرة، والنفس أغلى من أن تأسرها عادة قد تميل بها عما هو الأولى في موقف من المواقفـ، وقد تشغلها عما هو أجدر بالجدّ في يوم من الأيام -، ارفعوه عني فرفعوه”.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد ولا تجعل للشيطان علينا سلطاناً، ولا لعادة سوء لنا طريقاً، ولا لكلمة مما يُسخطك على ألسنتنا ذكرا، واغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وجيراننا ومن كان له حقّ خاص علينا من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، ولجميع أهل الإيمان والإسلام يا حنّان يا منّان يا كريم.
بسم الله الرحمن الرحيم
(قل يا أيُّها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم ولي دين).
الخطبة الثانية
الحمد لله الناشر في الخلق فضلَه، والباسط فيهم بالجود يدَه، لا تحصى آلاؤه، ولا تعدُّ نعمه، ولا يبلغ أحد شكره.
أشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، لا شيء من الأمر لأحد سواه، ولا تقدير لشيء من دونه. وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله تلقّى الوحي مُتقِناً موقناً، وبلّغه دقيقاً صادقاً، وطبقه أميناً عادلاً. صلَّى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، وهجران معصيته، والتمسّك بطاعته، والإخلاص لأهل ولايته، والبراءة من أهل عداوته، والنصيحة للمسلمين برِّهم وفاجرهم؛ للأول بتقويته على الخير والطاعة، وللثاني بالزجر عن الشر والمعصية.
اللهم أقبل بقلوبنا عليك، واصرفها عن كل صارف عنك، وعن أهل محبتك وولايتك. اللهم صلّ وسلّم وزد وبارك على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطاهرين، اللهم صلّ وسلّم على إمام المتقين عليٍّ أمير المؤمنين، اللهم صلّ وسلّم على بنت نبيك، وحليلة الوصي لرسولك فاطمة الزهراء، اللهم صلّ وسلّم على إمامي الرحمة، وقائدي الأمة الحسن المجتبى والحسين الشهيد بكربلاء. اللهم صلّ وسلّم على الخلفاء الأولياء، أئمة الهدى علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري أهل الصدق والتقوى.
اللهم صلّ وسلّم على ولي العصر والقائد للنصر المحفوظ من المحن إمام العصر محمد بن الحسن. اللهم عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً مبيناً، ومكِّن له تمكيناً. اللهم عبدك وابن عبديك المناصر له، الممهد لدولته أيده وسدده وانصره، والفقهاء الصلحاء، والعلماء العاملين في سبيلك، والمجاهدين على درب دينك احفظهم، وأنجح سعيهم، وبلّغهم غايتهم من ظهور دينك، وإعزاز ملتك يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
أما بعد أيُّها المؤمنون والمؤمنات فالحديث عن ركائز المجتمع الصالح:
وهذه من ركائزه التي تستوفيها ملخَّصة صريحة أو متضمنة مستبطنة سورة من قصار السور المباركة وهي سورة العصر “بسم الله الرحمن الرحيم. والعصر إن الإنسان لفي خسر. إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصبر”.
الركيزة الأولى: الإيمان:-
ودوره أن يُضيء داخل الإنسان، ويُنشِّط دوافعه الروحيَّة الخيّرة، ويهذِّب دوافعه الجسديَّة، ويسموَ بحركته، ويجعلَ حياته هادفةً راقية، ويثيرَ فيه روح البذل والإيثار التي يحتاجها الاجتماع، ويُفعمه بالأمل الصادق، ويُثريَه بالخلق الكريم، ومحبة الخالق والكون والإنسان، ويُشيعَ في جنباته حسّ التواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل على قاعدةٍ من الشعور بالمسؤولية في تصحيح المسيرة، والتقدم بمستوى الحركة، وإعمار الحياة.
ولا يمكن لحياة اجتماعية عادلة راقية آمنة، واقتصادٍ متقدم منصف، ومؤاخاة إنسانية كريمة أن تخرج من دائرة الأماني الحالمة إلى حقيقة مشهودة للنّاس على الأرض من دون قاعدةٍ إيمانيةٍ صُلبة، وحِسٍّ أخرويٍّ راسخ تنبثق منهما الأخلاقيات الكريمة التي لا تحقق للعدل والمؤاخاة والرقيّ بدون رصيد ضخم منها.
والعلم على أهميته للأفراد والأمم لو انفصل عن قاعدة الإيمان لأمكن أن يُدمِّر أكثر مما يُعمِّر، ويُشقى أكثر مما يسعد والحضارة المادية القائمة والتي تتسلح بكثير من العلوم خير شاهد على ذلك.
وللإيمان موقفان من حركة العلم فهو يتقدم بها، ويدفع بالإنسانية على طريقها من جهة، ويرشد الاستفادة من منجزاتها، ويوظفها من أجل خير الإنسان والعدل في الأرض وإقامة الحقِّ، وسموِّ النفس، وراحة الحياة من جهة أخرى. والإيمان يدعو للعلم النافع، دعوة العلم النافع للإيمان.
ولأن الإيمان قاعدة الخير كلّه كان الأوَّلَ في الذكر من بين ركائز المجتمع الصالح، والمسيرة القويمة في حياة الإنسان، في السورة المباركة.
الركيزة الثانية: العلم:
وتشير إليه السورة الكريمة من خلال عمل الصالحات، والتواصي بالحقّ فلا بد من علم بالعمل الصالح، ولا بد من علم بما هو حق حتى يتم عمل الصالحات بهذا الوصف، والتواصي بالحق بما هو حق. هذا إلى العلاقة الحميمة بين العلم والإيمان.
وبالإيمان والعمل النافع تكون الحركة الصاعدة للروح والعقل، وإنما تنشط حركة الحياة وتسمو من نشاط حركة الذات وسموِّها في مسارات الروح والعقل والنفس والإرادة.
والعلم علمان علم للدنيا وعلم للدين ولا بد منهما معاً للمجتمع الصالح وفي نظر الإسلام. الأولُ –أي علم الدنيا- لراحة المجتمع وقوته ورخائه، والثاني –أي علم الدين- لرشده وتزكيته وسموه، ولأن غاية الراحة والرخاء والأمن والسلام والقوة الصالحة لا تتم بالأول في نأي منه عن الثاني، وغياب لمرجعيته.
الركيزة الثالثة: العمل الصالح:
المجتمع الصالح مجتمع جدٍّ واجتهاد وحركة دؤوبة صاعدة. فمن أسس هذا المجتمع أن يكون عاملاً لا خاملاً، وقائماً لا قاعداً، وأن يكون عمله صالحاً، وقيامه بالخير دائماً. وعندئذ يكون منسجماً مع الدور الخلافي في الأرض الذي كُلف به، وجاء من أجله، ويتناول هذا الدور الفاعل الكريم بما هو دور الخلافة عن الله سبحانه الذي لا يغيب، ولا يُستغنى عنه أبداً أوّل ما يتناول الرقيَّ بمستوى الفكر، وتطهير القلب، وتزكية النفس، والانطلاق بقوى الروح، والمزيد من بلورة الذات، ليعمّ العمل الصالح على يد هذه الذات -التي ارتقت وطهرت وزكت- كل مساحة الحياة وعلاقاتها وبناءاتها وتتم عمارة الأرض بالعلم والعدل والخير والأمن والسلام والرخاء.
الركيزة الرابعة: التواصي بالحقّ:
حماية المنهج الإلهي في الحياة ونشره وتثبيته، وردّ النَّاس إليه، ونقلُه إليهم أفراداً وأجيالاً وأمماً، حتى يعمّ الهدى، وينحسر الضلال. فاحتضان المنهج الإلهي لصناعة الإنسان وتربيته وتوجيهه، وحماية هذا المنهج والدعوة إليه وتمكينه داخل النفس وعلى الأرض ركيزة من ركائز المجتمع الصالح لأنه لا يوجد منهج آخر يحل مشكلات الإنسان ويعطيه النّماء الصالح، والمستوى اللائق على حد ما يفعله هذا المنهج الذي صاغته يد الإبداع الإلهي المنزّهة عن القصور والخطأ.
الركيزة الخامسة: التواصي بالصبر:
يتعامل المجتمع الصالح مع المنهج الرباني الجاد، ويتحمل أعباء النهوض بواقع الإنسان والحياة، وتبعات الإعمار والبناء، ويواجه تحديات الشرّ على ضخامتها، فلا بد أن يكون المجتمع المقاوم الصابر، وأن تكون إرادته قوية، وعزمه ثاقباً، وجهاده متّصلا، ونفسه في العمل والكفاح طويلاً. ومن أجل ذلك لا بد أن تكون له تربيته النظرية التي ترتفع بمستوى النفس، وتفتح أمامها أبواب القوة، وتسد عنها أبواب الوهن، وتربيته العملية، ودروسه الجهادية، وتجاربه التضحوية في كل ميادين العطاء والبذل الشريف التي يصلب من خلالها عوده، وتشتد إرادته، وتتثبت قدمه، ويعبر غير آبهٍ على طريق ذات الشوكة.
وتنمية الإيمان، ونشر العلم، وتثبيت أخلاقية العمل الصالح، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر كل ذلك – والمجتمع المسلم مكلف به – لا يتم إلا بالكلمة المُمنهجة، والمشروع العملي المخطط، المتصلين بالدراسات الميدانية المكثفة، ورصد الظروف الموضوعية المحيطة، والإمكانات العملية المتاحة، واستخدام العقلية النظرية المدققة، والعقلية العملية المدربة المتقنة.
بعد هذا ينتقل الحديث إلى النقاط اللاحقة:
أولاً: فاطمة الزهراء عليها السلام التي نالت شهادة الزكاة والطهر والعصمة قرآناً وسنّة، وسجّلت عظمةً في الموقف السياسي المسؤول، وكانت المثال الأخلاقي الرفيع، وقمّة عالية في العلم والتقوى والشرف والعفّة والفضيلة ودقّة الرأي، وصدق الرؤية، وشجاعة الموقف هل يتخذها المؤمن والمؤمنة قدوتهما وقدوة الأسرة كلها بعد أن تنكّر لهذه القمّة العالية الإعلام والتربية العامّة؟! سؤال يُطرح على المؤمن والمؤمنة وعليهما دائماً أن يطرحا هذا السؤال على نفسهما.
ثانياً: كان اشتباها أو غيره أن قيل بأن العلماء قد فوضوا أحداً في اتخاذ القرار بشأن المشاركة أو المقاطعة لانتخابات الرابع والعشرين من أكتوبر المقبل.
والعلماء يؤكدون عدم صحة هذا الخبر على الإطلاق. وقد أكد سماحة الشيخ علي سلمان هذا النفي في مقابلة صحفية قريبة له، ولمزيد من التأكيد فقط ذكرت الأمر هنا.
ثالثاً: هناك واقع لا أخلاقي صارخ في أكثر من موقع، وأكثر من ساحة في البلاد بل تردٍّ وبدايات عملية خطيرة منذرة بتقوّض أمني على مستوى الخلق وسلامة الأعراض والأموال والأنفس بما يشكّل كارثة في المستقبل المنظور، وانهياراً يصعب تدارك أخطاءه المستفحلة. وجرس الإنذار المدوّي الذي نقلته كلمات عبد السلام أحمد في الأيام وعدد آخر من المواطنين يثير واحدة من قضايا متعددة طافحة على السطح ويتذمر منها الكثير وتتناقلها الأخبار المتلاحقة المتواترة على ألسن المتذمرين والمتنذرين.
الكل مسؤول للوقوف بالوضع دون الهاوية. الرسميون مسؤولون، الشعب مسؤول، الأمن مسؤول، القوانين مسؤولة، السياحة المبتذلة مسؤولة، الإعلام مسؤول، التربية مسؤولة، وغياب فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤول. وسكوت الجميع انتحار في النهاية من الجميع.
رابعاً: ضُمّ إلى ما سبق وجود رسالتين وجهتا إلى أعلى المستويات الرسمية من عدد من الفنادق محتواهما تظلُّم حار جدّا واستغاثة ولجأ واحتجاج كذلك، وذلك لاتخاذ بعض القرارات السياحية التي قد تنال بعض الشيء من الفوضى الخلقية في ممارسات الكثير من الفنادق. وأقرأ لك من هاتين الرسالتين عبارتين كافيتين للإعتبار: تقول العبارة الأولى: “نحن نحترم ونؤيّد أي قرارات تتخذها حكومتنا الرشيدة والأجهزة المسؤولة في الدولة من أجل تنظيم وتطوير الخدمات السياحية بما يحافظ على سمعتنا وعاداتنا وتقاليدنا – وتعبيرات العصر لا يرد فيها ذكر الدين والحكم الشرعي، عادات وتقاليد، وعليكم أن تفرقوا بين حرمة الحكم الشرعي وبين ما هو عادة، التقدير لهذا الشيء بما هو عادة وليس بما هو دين أو حكم شرعي، هذه هي اللغة المعاصرة، علينا أن نراعي العادات، ونحن نعتز ونراعي العادات والتقاليد بما هي جزء من ماذا؟ من تراث قومي، من تراث وطني، وليس لأن الأمر أمر حرمة، وأمر منعٍ إلهي- التي نؤكد التزامنا بها طالما أنها تصب في الصالح العام –التفتوا، هذا التمسّك بالعادات والتقاليد مشروط في هذه الرسالة- ولا بأن لا تؤثر في نفس الوقت على مصالح المستثمرين وملاك الفنادق أو المشتغلين في هذا القطاع. ولعلمك أن المستثمر الذي لا مراعاة للعادات والتقاليد إلا بما لا يؤثر على مصلحته المادية قد يكون مسلماً أو غير مسلم. التقاليد والعادات متى تراعى؟ ما لم تصطدم بمصلحة المستثمر مسلماً كان أو غير مسلم.
ولك العبارة الأخرى “والدليل على ذلك أن لنا تجربة أخرى سابقة مع إدارة السياحة عام 1993م عندما أصدرت تلك الإدارة نفس التعميم وألغته بعد شهر من صدوره” نفس التعميم قد نشر في ذلك العام ليهذّب بعض الشيء إلا أنه أُلغي بعد شهرٍ واحد كما تقول الرسالة. وكأن المرتقب عند هؤلاء أن التعميمات من هذا النوع، إلى حينٍ غير بعيد، فماذا سيقول الواقع هذه المرة؟ هذا سؤالنا نحن. هل أن التعميم موقت أيضاً لشهرٍ؟! أ سيتناقص؟ أم ستزيد القيود التي تراعي الحكم الشرعي، ودين الله لا العادات ولا التقاليد، التي قد تكون غير قائمة على دين أو حكم شرعي؟!
اللهم صل على محمد وآل محمد، واجعل لنا هدى من هداهم، وتقوى من تقواهم، وجهاداً من جهادهم. واغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا وذوي الحقوق الخاصة علينا من أهل الإيمان والإسلام، وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات أجمعين يا كريم يا رحيم، يا رب العالمين.
(إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكّرون).