خطبة الجمعة (68) 8 جمادي الأولى 1423 هـ – 19-7-2002م

مواضيع الخطبة:

الإسلام والتفكر – القيادة والمرجعية

إنّ أيّ مجهود ديني أو سياسي أو اجتماعي بلا مرجعية ولا مركزية لا يمكن أن يمثّل كياناً معيناً في صورة كائن اجتماعي حي سويّ قادر على مواصلة الطريق، ومقاومة الزمن، ولابد أن يتمحور حول مرجعية، وينتهي إلى مركزية، أو يواجه الذوبان والتلاشي والموت المحتّم.

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، لا يحتاج في خلقه إلى معالجة، ولا في تدبيره إلى مكابدة. أشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلّم تسليماً كثيراً.
عباد الله اتقوا الله واستثمروا الأيام قبل انصرامها، والحياة قبل انقضائها، فلا الأيام براجعة عليكم، ولا الحياة بباقية لكم، واستثمار الأيام في ما يبلى وتذهب لذّته، وتبقى تبعته إنما هو استثمار السفهاء، أما استثماركم- أنتم المؤمنين- من أهل الحكمة فإنما يكون بالعمل الصالح الذي يقصد به وجه الله الكريم بما يعمر به القلب، ويُخصب الحياة، ويزكّي الأجواء، وينتهي بصاحبه إلى رضوان الله، ويُخلده في جنان رحمته وكرامته.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد ووفقنا للعمل الصالح، والطاعة الخالصة، وارزقنا عزم الخير، والصبر على طريقه، ووفقنا للمأمول من رضوانك وكرامتك.

أما بعد -أيها المؤمنون والمؤمنات- فهذا حديث مقتضب عن

الإسلام والتفكر:-

ليس دين الأساطير:-
من الزور الواضح جداً أن يرمى الإسلام بأنه دين الأساطير، وبأن علماء الإسلام الذي يعون الإسلام قد يميلون إلى الأخذ بالوهم والأسطورة والخرافة، وقد ينفصلون عن مكانهم وموحياته، وعن زمانهم ومقتضياته، على أنّ المكان والزمان في اقتضائهما يتأطران بإطار الحكم الشرعي، ويؤخذ بهما في حدود ما يشير إليه الشرع، من دون أن تكون حاكمية على شرع الله لأي شيء آخر.
التفكر والتدبر والتعقل والتبصر أمور مطلوبة في الإسلام جداً وقد قام الإسلام على كل هذه المعاني، وهو لا يتسامح في التخلي عن عملية التفكر والتدبر والتعقل وأن تكون كل خطوة من خطوات الإنسان منطلقة من هذه المعاني الكبيرة.
نصوص التفكر والتدبر والتعقل في القرآن الكريم والسنة المطهرة قد يمتنع على الكثيرين من العلماء أن يحصوها.
(كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) 219/ البقرة.
(تلك الأمثال نضربها للناس لعلَّهم يتفكرون) 21/ الحشر. فآيات الكون، وآيات القرآن، آيات الآفاق، آيات الأنفس إنما أوجدها الله سبحانه وتعالى لتستثير دفائن الفكر، وخزائن العقول، ودور الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم والمرسلين عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام هو استثارة الفكر، استنطاق العقول، مخاطبة الفطرة الصافية الواعية. ففي داخل الإنسان مشروع ضخم كبير لا ينحدر لحظة لو أفاق واستقام عن خط الله عز وجل، ودور الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين استثارة هذا المشروع البديع العظيم من صنع الله عز وجل.
وفي أي موقف من المواقف، وأمام أي حالة من الحالات، وأي حدث من الأحداث لا يمكن أن يقف العالم موقف الأبله ولا موقف اللامبالاة ولا موقف من يقول كلمة عن غير علم ووعي ودراسة وإمعان، فمخطئون كلهم وواهمون كلهم أولئك الذين يرون في العالم الشيء الخفيف.
(تفكر ساعة خير من عبادة سنة) المصدر ص543
ويكفيك من مقام التفكر والتعقل هذا المقام الكبير.

فيم نفكّر؟

هناك عملية انتقاء لموضوعات التفكير. فالتفكير والفكر، العقل، القوة الناطقة هي من أكبر أرصدة هذا الإنسان من بعد إشعاعاته الروحية وأشواقه الإلهية العليا. هذا المخزون الكبير العزيز مرة يتعلق بشيء خفيف، بموضوع تافه، بأمر عابر، مرة يصب الإنسان تفكيره كل تفكيره على الوسائل والطرق التي توصله إلى محرم معين، وكيف يصل إلى قضاء وطره من مال حرام، أو من شهوة محرمة أخرى، هنا يكون قد نزل بنفسه وبواحد من أكبر أرصدته إلى الحد الأدنى وصارت قيمة فكره وقيمة عمره من قيمة ذلك الموضوع الذي قد ينتهي به إلى السقوط في الدنيا والسقوط في الآخرة. لا يكفي أن نفكر، بل لا بد أن نختار موضوعات تفكيرنا. فلا بد أن تكون لنا عملية انتقاء لموضوعات التفكير تتناسب ومستوى الفكر وقيمته تلك النعمة الكبرى التي وهبها الله هذا الإنسان.

هذه بعض الموضوعات التي يحسن التفكير فيها والتدبر:
(لا عبادة كالتفكر في صنعة الله عزّ وجل). ما صنعه الله عز وجل من سماء وأرض، ومن آفاق من أنفس ملؤه الآيات، وليس من شيء في هذا الكون إلا وهو ينطق بعظمة الله ويسبح بحمده، ووقوف الفكر على السطح من الأشياء لا يتناسب مع مستوى إنسانيته. الإنسان مفكر، وكلما كان موضوع التفكير كبيراً كلما كانت عملية التفكير في عطاءاتها إيجابية أكثر.
التفكر في صنع الله الذي يعج بالآيات وينطق بكثير من عظمة الله عز وجل ولطفه وحسن تدبيره يضعك على خط الإيمان، وإذا وضعت على خط الإيمان، وضعت على خط الرجولة، وضعت على خط الإنسانية، على خط النجاح، على خط السعادة الدنيوية والأخروية. ونقص الفرد، ونقص المجتمع أن يضل عن طريق الإيمان، فالإيمان علم، والإيمان حكمة، والإيمان جدية، والإيمان نشاط، والإيمان هادفية كبرى، والإيمان نقاء، والإيمان إخلاص.
هذا موضوع وهو أن نتفكر في الآفاق وفي الأنفس مما صنع الله سبحانه وتعالى لنعقل إنسانيتنا، ولنعقل درونا، ولنعقل كيف يتناسب موقفنا مع الهدف ومع الدور الكبير الذي تقتضيه إنسانيتنا العملاقة.
(تمييز الباقي من الفاني أشرف النظر) المصدر ص540
قف أمام هذا الأمر: أي الأمرين يحسن أن يُضحى به من أجل الثاني؟ شيء يبقى وشيء يفنى، قد أستطيع التوفر على ما يفنى وعلى ما يبقى فذلك حسن، وقد تحصرني الظروف فليس لي إلا أن أستوفي ما يفنى وأخسر ما يبقى، أو أن أضحي بما يفنى وأتوفر على مايبقى، سل عقلك، سل فطرتك، سل مصلحتك، أيّهما الموقف الصحيح؟ أن أخسر الآخرة من أجل الدنيا، أو أن أخسر الدنيا من أجل الآخرة؟
(قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذّبين)137/ آل عمران.
هناك أمم ولو كانت قليلة استقامت على الخط الإلهي، وهناك أمم كذبت، هناك جماعات التفت بمحور الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم، وهناك جماعات عاندت وقاومت وناهضت خط السماء. ابحروا التاريخ كل التاريخ، انظروا في عواقب الجميع، انظروا في عاقبة موسى عليه السلام وفرعون، في عاقبة إبراهيم ونمرود، في عاقبة كل الأفراد، في عاقبة كل الأمم، بم خرج هؤلاء وبما خرج أولئك من هذه الدنيا والعاقبة للمتقين. انظروا بأنّ أيّ أمة انتهجت نهجا غير نهج الله تتوفر على السعادة في الدنيا وأنّ أمامكم مدى زمنيَّاً منذ مالت هذه الأمة عن خط رسول الله صلى الله عليه وآله وعن خط أهل بيته عليهم السلام إلى الآن فهل أمكن لها أن تعيش حياة مطمئنة، أن تتوفر على مستواها الإسلامي الكبير، أن تكون الأمة الرائدة، الرائدة ليس في البعد الإقتصادي فقط، وليس في البعد العسكري فقط. لقد أريد لهذه الأمة أن تكون الرائدة على كل المستويات والأبعاد، فهل استطاعت الأمة أن تتبوأ هذا الموقع منفصلة عن خط الله سبحانه وتعالى في يوم من الأيام؟! وقد بدأ تاريخ هذه الأمة عده التنازلي منذ أن مالت السفينة عن خط الشريعة والدين حتى آل الأمر إلى أن تكون أضعف الأمم، وأوهن الأمم، حكامها ألعوبة بيد أمريكا، وجماهيرها في تفكيرهم و في شعورهم أُلعوبة التخطيط الغربي.
(من كثر فكره في المعاصي دعته إليها) ميزان الحكمة ص544
تلك تفكر في عشيق، وذلك يفكر في معشوقة ستتلخص حياة الإثنين معا في أن يصل إلى معشوقه أو لا يصل وقد يكون في وصوله إلى معشوقه سقوط سمعته وسقوط مستواه ومرضه البدني وخسارته الأخروية الكبرى. أما ذاك فيفكر في سلامة هذا المجتمع كيف ينقذ هذا المجتمع؟ وعلى أي خط ينقذ هذا المجتمع، وإذا كان قد اختار خط الله منقذا، فكيف له أن يحدث نقلة في هذا المجتمع أو ذاك ليضعه على الخط الصحيح الصاعد إلى الله عز وجل لينعم المجتمع كل المجتمع بسعادة دنياه وسعادة آخرته. شتان ما بين فكر وفكر، والفرق بين الفكرين نابع هنا من الفرق بين المتعلقين والموضوعين.
(من كثر فكره في المعاصي دعته إليها) ميزان الحكمة ص544
تشتكي: أنا لا أستطيع أمسك نفسي. حالما تأتيك خاطرة من خواطر الشيطان تشدك إلى موضوع من موضوعات المعاصي فحاول أن تتمرد على هذه الخاطرة وأن لا تعطيها في نفسك. تمكنا ما. أنت في أول الأمر، أنت في البداية، هذه الخاطرة خاطرة السوء إن تمكثت معها، تكمثت في نفسك فأفسدتها، وسهلٌ عليك أن تتمرد عليها في البداية لكنه قد يتأبى عليك نجاح المحاولة حينما تتوسط الطريق.
(من كثر فكره في اللذات غلبت عليه).
(من تفكر في عظمة الله أبلس). عظمته سبحانه التي تتصل بذاته، لكم أن تتعرفوا على كثير وكبير من عظمة الله التي لا تحد من خلال التدبر في خلقه، وليس من خلال التدبر في ذاته، فالعقول منتكسة، ناكصة، متراجعة، خاسئة دون أن تنال على محدوديتها شيئا من اللامحدود.
(الفكر في الخير يدعو إلى العمل به). فكر كيف تنقذ الفقراء، فكر كيف تنقذ سقطة الأخلاق، فكر في إنقاذ الأمة، هذا التفكير سيدعوك إلى العمل بالخير.
(الفكر في العواقب ينجي من المعاطب). هذا المشروع الذي تبتدئه فكر في عواقبه، أي مشروع كان أي خطوة كانت لا تقف. بنظرك عند الخطوات القريبة من موقفك، ارم ببصرك إلى بعد بعيد، وأبعد بعد يجب ألا يقتنع البصر بما دونه هو البعد الأخروي، بعد رضوان الله وغضبه سبحانه وتعالى.

طريق النمو العلمي:

إن التفكر طريق النمو العلمي، كيف ندرس أيها الأخوة؟ كيف نرقى بدراستنا؟ كيف نرقى بمستوانا الفكري؟ هل بكثير المطالعة؟ هل بكثير من الدراسة فقط؟ الأحاديث باختصار تقول:
(فضل فكر وتفهم أنجعُ من فضل تكرارٍ ودراسة) (ع) ميزان الحكمة ج7 ص541
( من أكثر الفكر في ما تعلم أتقن علمه وفهم ما لم يكن يفهم) (ع) المصدر. فلا بد من التفكر، لا بد من التدبر، لا بد من محاولة الغوص إلى أعماق النص، إلى أعماق الكلمة، إلى أعماق الحدث، إلى أعماق الآية من أجل أن تستكشف الجديد، ومن أجل أن تصل إلى الحقيقة. تأتي النص لا لتستسلم تماماً ولا لتستكبر عليه، وأما إذا كان النص قد ثبت أنه من الله فلا بد أن تستكين أمامه وترهبه وتخشع وتستسلم إليه وإلا فذلك هو المجنون هو المغرور هو الواهم من تعامل مع نص من الله وهو يشك في حاجته إلى التتلمذ عليه.
تعال إلى النصوص الإلهية بعلم كثير، لا لتفرض نفسك عليها، وإنما لتتعلم منها، وتستنطق من كنوزها ما قد يفتحه الله عليك من بعض تلك الكنوز.
( من أكثر الفكر في ما تعلم أتقن علمه وفهم ما لم يكن يفهم) (ع) المصدر.
(لا علم كالتفكر) “ع”. وأهم موضوع نتفكر فيه هو موضوع الآخرة، هو موضوع إنسانيتنا، هو موضوع بدايتنا، هو موضوع نهايتنا، هو موضوع كيف نقرب من الله عز وجل
.
اللهم صل على محمد وآل محمد وخذ بيدنا إليك، ودلنا عليك، ولا تفرق بيننا وبين هداك يا كريم.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات وأهل الحقوق الخاصة علينا منهم يا رحمن يارحيم.

بسم الله الرحمن الرحيم
(قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد).

الخطبه الثانية

الحمد لله الذي هدانا لدينه، ورزقنا موالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، وبصّرنا الحلال والحرام، وأكرمنا بالايمان، وحملنا أمانة الاسلام.
أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تتقدم على كل شيء، وتحكم كل شيء، ولا يحكمها شيء. وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله لا نبي بعده ولا رسول يعقبه صلى الله عليه وآله وبارك عليه وعليهم أجمعين.
عباد الله اتقوا الله ولا تصغوا لناطق ينطق عن الشيطان، ويدعو إليه ومن نطق بفكر أعداء الله فهو ناطق عن الشيطان، ومن دعا لموادّة أعداء الله فقد دعا إلى الشيطان، فهذا هو الحق الذي لا مراء فيه ولا شك يعتريه.
ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب فتتركوا ثقافة القرآن الكريم والسنة المطهرة وفيهما هدى الأجيال، وموائد السماء الكريمة للأمم المجيدة، لتلامذة الفكر الكافر الذي أنتج الفساد.
ماذا أنتج ذلك الفكر؟ لا نحتاج إلى إمعان كثير في الفكر النابع من الكفر، فإنّ نتائجه شاهدة عليه بوضوح فقد قوّض الأمن، وأباح الحرمات وهدر كرامة الانسان وحوّل الحياة إلى جحيم.

اللهم صل وسلم على خاتم النبيين والمرسلين عبدك المصطفى محمد وآله أجمعين.
اللهم صل وسلم على إمام المتقين علي أمير المؤمنين.
اللهم صلّ وسلّم على أمتك الصابرة فاطمة الطاهرة
اللهم صلّ وسلّم على الإمامين الزكيين الحسن بن علي وأخيه الحسين.
اللهم صل وسلم على أئمة المسلمين علي بن الحسين زين العابدين ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق وموسى بن جعفر الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد بن علي الجواد وعلي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري الهداة الميامين.
اللهم صلّ وسلّم على عبدك العالم، الإمام المنتظر القائم. اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه وانصره نصراً عزيزاً وافتح له فتحاً مبيناً ومكّن له تمكيناً. اللهم الموالي له، الممهد لدولته، أيده وانصره وادرأ عنه, والفقهاء الأمناء أيدهم وسددهم وبارك جهودهم الخيرة يا كريم.
اللهم وكن لنا هادياً ودليلاً ومعيناً ونصيراً، وحل بيننا وبين من يؤذينا يا علي يا قدير ، يا قويّ يا عزيز.
أما بعد:
فحديثي عن سفه لا يرتكب:
إنّ أيّ مجهود ديني أو سياسي أو اجتماعي بلا مرجعية ولا مركزية لا يمكن أن يمثّل كياناً معيناً في صورة كائن اجتماعي حي سويّ قادر على مواصلة الطريق، ومقاومة الزمن، ولابد أن يتمحور حول مرجعية، وينتهي إلى مركزية، أو يواجه الذوبان والتلاشي والموت المحتّم.
ولا مركزية بلا طاعة, ولا مرجعية بلا انقياد، وأرقى ما يرى كثير من أهل الأرض أنهم توصلوا إليه في الحياة السياسية هو انتخابهم للقيادة، ولكنهم بعد انتخابها يسمعون لأوامرها ونواهيها، ويدخلون في الحرب والسلم بتشخيصها، ولو كان تشخيص الكثيرين مهم على خلافها، ولولا ذلك لما انتظمت لهم الحياة، ولكان القائد مقودا والمقود قائداً.
وفي حكم العقل والدين لا طاعة بلا موجب، ولم يتشدد طرحٌ بقدر ما تشدد الطرح الديني في أمر الإمامة والقيادة بكل مستوياتها ومواقعها التي من أبسطها إمامة الجماعة، وإمامة الجماعة في مذهبنا لا تجوز لأي واحد، فمن كان مسلماً مؤمناً لم يسعه مختاراً أن يهمل ما اشترطه الإسلام في هذه المواقع كلها.
والملاحظ أنّ الناس على إسلامهم لِما دخلهم من غبش في الرؤية، واختلاط في الثقافة، واضطراب في المفاهيم، وخلل في الشعور بقيمة الإسلام، صاروا يختلفون في موجب الطاعة[1]، ويبعدون كثيراً عن اسلامهم في هذا المجال كغيره من المجالات. حتى استساغ مسلمون أن تكون الطاعة لشيوعي يحصل على أكثرية الأصوات.
والأدهى من ذلك والأمر أن قاد ضعف الإدراك السياسي والاجتماعي الكثير الى إنكار الموجب الشرعي والعملي للطاعةإلا ما يضطرهم من موجب القوة والقهر. وهذا أمر مرعب منذرٌ بأكبر الأخطار التي تتهدد وجود الأمة بما هي أمة ذات هوية حضارية محددة.
ولقد كان أمير المؤمنين علي- عليه السلام- أزهد الناس في الأمرة ولم تكن تساوي عنده شسع نعل كاد يذهب بها الإستعمال. إلا أنه كان يتمرّق عليه السلام لأمر الدين والأمة، وكان من رأيه أن لابد من أمير برّ أو فاجر، لأنّ المقابل لذلك الفوضى الضاربة التي تأتي على الأمة بالنهاية القاضية.
وإذا كانت القيادة المعصومة لا تحضر الساحة على مشهد من الناس اليوم لينضوي تحت لوائها المؤمنون، فما الموقف؟
إن أمر الحكومة محسوم من ناحية الخارج، ولا كلام لنا فيه، إنما الكلام على مستوى المرجعية الدينية والاجتماعية، وفي المواقف المتاحة سياسياً حسب القانون، وأنا احصر كلامي الآن في هذه المساحة.
والسؤال هنا هل يعني غياب القيادة المعصومة أن يعود أمر المؤمنين إلى الفوضى؟ وهل تبقى مسألة المرجعية بلا ضوابط؟ وهل ترتفع الطاعة نهائياً وتكون القيادات بعدد الأفراد؟ والصحيح لا فوضى، ولا مرجعية بلا ضوابط، والطاعة غير مرتفعة. هناك طاعة، هناك مرجعية، والضابط الفقه والعدالة والكفاءة العملية ومنها الخبرة[2]. ، وإذا لم يمكن الفقيه فيتنزل الأمر إلى عدول المؤمنين من أهل الفقه والخبرة والكفاءة. كلما لم يمكن المعصوم كان الفقيه، وكلما لم يمكن الفقيه كان العدل المؤمن الأكثر توفراً على الفهم الفقهي وبما له من الخبرة، والطاعة لازمة على المؤمن مع توفر الضوابط حفظاً للدين وتجنباً للكوارث.
والسفه الذي لا يجوز ارتكابه هو الفوضى الضاربة وتعدد القيادات بعدد الأفراد، وكون القيادة لا تتحرك ولا تتخذ قراراً إلا بوصاية من الأتباع، فالجمعية الثقافية أو السياسية تنتخب إدارتها عندنا ثم لا تعطيها حق القرار إلا بأن تراجعها، والزعيم السياسي أو الإجتماعي أو الديني ينتخبه مريدوه وقواعده ثم لا يتخذ قراراً إلا كما يشتهون، ولا يتقدم ولا يتأخر إلا كما يأمرون وينهون.أتراها قيادة؟! أو هي آلة؟!
هذا أمر غير عقلائي أصلاً ولا تقوم عليه حياة أمة ولا جماعة، وهو خارج عن النظم الوضعية بما فيها كل ألوان الديموقراطية، وعن الوضع الذي يقرره الدين.
وفيما ينبغي أن يكون عليه علماء الدين هو أن يكونوا عبيداً للشرع، لا لما تهواه الدول، أو ما يرغبه الرأي العام، وصحيح أن الإسلام على مثاليته واقعي لمن تدبّره، ومثاليته لا تُلغي واقعيته، كما ان واقعيته لا تلغي مثاليته، وهو من خلال واقعيته يُدخل في موضوع أحكامه عدداً من مقتضيات الخارج المتغيرة، إلا أنه إذا اقتضى الموضوع بطبيعته التي هو عليها خارجاً الحكم المناسب له في النظر الشرعي لا يرفع الإسلام ولا عالم الدين- الذي يتعامل مع الأمور من موقع العلم والتقوى- اليدَ عن ذلك الحكم تزلقاً لأحد مهما كان، وطلباً للدنيا وزهداً في الآخرة.
وكثيراً ما يخلط العديد من الناس بين مراعاة الموضوع الخارجي في إصدار الأحكام وتغيُّرها وبين متابعة الهوى في الحكم والتلاعب به.
وقد يملأ الناس الساحة آراء ومنهم مخلص وغير مخلص، فطن وغير فطن، وقد يطول السكوت من آخرين عن فطنة وإخلاص ودراية وبعد نظر وصبر، وقد لا يكون وراء السكوت إلا الخواء، فهو سكوت أبله. وليس دائماً أن من تكلم أبلغُ ممن لم يتكلم، وقد لا يُبيح بليغ لنفسه الكلمة حيث لا يرى المقام مقام كلام. والساكت لا يُحكم عليه برأي حتى ينطق برأيه، وهو في سعة من أمره حتى ينطق.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد واجعلنا من أهل طاعتك الموالين لك ولأوليائك واغفر لنا ولوالدينا وأرحامنا ولكل ذي حق خاص علينا من معلم ومرب ومحسن ومتجاوز عن خطأ وناصح وغيرهم من المؤمنين والمؤمنات ولكل أهل الإيمان والإسلام يا غفور يا رحيم.

(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] وموجب الطاعة في الإسلام واضح ،أما ونحن نبعد عن الإسلام شيئا فشيئا فنختلف وسنختلف أكثر في ماهو موجب الطاعة، ولمن تكون الطاعة؟ وعلى من تكون الطاعة؟
[2] وأنعى على الذين يرون لأنفسهم الخبرة ويرون أن الخبرة طائر لا يناله فقيه، وسحر يمتنع على الفقيه أن يتوفر عليه، وعلى أي عالم أن يتوفر عليه، وإذا قسموا واستحوا قالوا الفقيه أوفر على الفقه أما نحن فأكثر توفراً على الخبرة، وهو ليس بالإنصاف فقد يكون فقيهاً وأخبر من الآخرين

زر الذهاب إلى الأعلى