خطبة الجمعة (57) 20 صفر 1423هـ – 3-5-2002م

مواضيع الخطبة:

الخوف – ذكرى أربعين الإمام الحسين (ع )

رأي رجال المسجد – أفكار في خضم الانتخابات

المساجد تمتلك رجالاً امتحنهم درب العلم، ودرب العمل والخبرة، ودرب المخاوف والمواقع والإغراءات، وليس في وزن رأيهم من نقص يجعله يطئطئ أمام رأي الآخرين أو يتوارى، فلرأيهم الوزن الثقيل الذي يستمده من قواعد العلم وعطاءات الخبرة وهدى الإيمان على عكس آراء كثيرة خفيفة تنتشر في طول الساحة وعرضها.

الخطبة الأولى

الحمد لله نور السماوات والأرض ، باعث الأحياء بعد الموت، هادي الناس بعد الضلال ، مقلّب
القلوب ، مغيّر الأحوال . أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا عديل ،ولا شبيه له ولا نظير ، ولا خُلف لقوله ولا تبديل ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أنقذ به من الآثام ، وأحيى به الأنام صلى الله عليه وآله الكرام .

عباد الله اتقوا الله ، واذكروا عند مثار الشهوات ، ومواطن الفتن ، وغوايات الشيطان حاجتكم إليه ، ونعمه عندكم ، وقدرته عليكم ، وأن لا مفر لكم من عقابه ، ولا منقذ لكم من شديد أخذه .

ألا من لم يكن له من ذكر الله ومخافته حاجز عن السقوط في الفتنة ، والاستسلام للشهوة أهلكته الرذيلة ، وأغرقته المعصية. وربما انتبه مرتكب المنكر ، ومقارف الفحشاء بعد حين على مرض لا رجاء له في برئه ، وقد وضعه على طريق الموت بصورة مكشوفة تحاصر كل مشاعره ، وتنتهب كل أحاسيسه فينضاف إلى عذاب يأسه من الحياة عذاب شعوره بمعصيته ، وذكرى قبيح فعله ، ويتفاقم في داخله الخوف من أهوال يوم منيته . فإلى متى الغفلة أيها المبهور بالصحة ، المغرور بالقوة ، المخمور بالشهوة ، المأسور للسكرة ، والصحة يعقبها سقم ، والقوة تنتهي إلى ضعف ، والشهوة تستتبع الندامة ، والسكرة إن دامت فتكت ، وإن تلتها صحوة ، صحبت معها الحسرة ، وأذاقت صاحبها المرارة؟! إلى متى الغفلة والزمن يتسارع ، والمنية تتقارب ، والقبر يتدانى ، وكل نفس يدخل ، وكل نفس يخرج فيه توديع للحياة واستقبال للممات؟! لئن يتأخر بك السبات أيها الغافل عن أجله ، المضيّع لفرصة عمله يوماً ، تكبر خسارتك دهراً ، ولئن استمرّ بك السبات ونسيان ذكر الله حتى الممات ، لقيت من عذاب الله مالا تطيق ، ووافاك من صارم عقوبته ما يروعك ويهولك ولا تجد له من تحمّل .

عباد الله :
الخوف من غير الله منقصة والخوف من الله كمال . خوفك من الله يفصلك عن الرذيلة ، ويشيع فيك رغبة الفضيلة، وينشّط فيك روح التسامي ، ويردعك عن التمادي في الإنحدار ، ويزهّدك في ما سخف ، ويوجّه همتك إلى ما شرف ، ويعالج فيك علل الوهن ، ويستأصل من نفسك عوامل الكسل والخمول ، ويكبح فيها جموح الهوى ، ونزوات الشر ، ودوافع البغي والعدوان . فمن خاف الله أُمن شره ، وكان الخير منه مأمولاً . ومن فارقته مخافة الله تردّى وطغى ، وأسرف على نفسه وبغى ، وكان شره مرتقباً ، والخير منه ميؤساًً . لأنّ من خاف الله فر من سخطه ، وسخط الله في ما أفسد ، وطلب رضاه، ورضى الله في ما أصلح . فمن الفرار من سخط الله ، ومن طلب مرضاته تغنى النفس بالهدى والفضيلة والاستقامة ، وتبرأ من الضلال والرذيلة
والانحطاط . أما من خلا قلبه من ذكر الله وخوفه لم يكن له رادع من شر ، ولا حاجز من بغي ، ولا دافع للفضيلة .

وهذه نصوص في خوف الله عسى أن تبعث فينا الحياة ، وإرداة الخير ، ودافع العمل الصالح ، ورادعاً عن الاستمرار في الموبقات ، والتمادي في موجبات النار ، وتعاطي ما نتوارى به حياء عن بعضنا البعض ، ويهون علينا سفهاً أن نواجه به الله العظيم .
مؤمن يحضر المساجد يقيم الصلوات يغلبه الشيطان في لحظة نزوة وحال غلبة شهوة، تخسر دينك، تخسر حياتك، تخسر كلّ شيء في وجودك لانزلاق لحظة واحدة أمام إغواء من إغواء الشيطان، إغراء من إغراءات الشهوة فلنتّق الله.
1- خوف العظماء :
(( إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء )) 28 فاطر . هناك خوفان خوف الصغار، وخوف الكبار، الصغار يخافون من ظلم الظالم، ومن جهل الجاهل ومن أن يخسروا الدنيا، والعظماء يخافون من غضب العالم لأنهم لا يجدون حلاوة حياة في حال انفصالهم عن العلم، يخافون من عدل العادل لأنهم يسقطون في أنفسهم حينما يشعرون بأنّ عدل الله لا يوافق عليهم، يخافون خسارة رضوان الله لأنّ الدنيا كلّها لو اجتمعت بأيديهم لا تغنيهم، عن الشعور برضوان الله. نعم هناك خوف للعظماء (( إنما يخشى اللهَ من عبادع العلماء )) وخشية ا لله تحتاج إلى علم، وتحتاج إلى معرفة، وتحتاج إلى سموّ في الذات، وتحتاج إلى طهر في القلب، وتحتاج إلى نقاء في الروح لتعرف قيمة غضب الله وقيمة رضوان الله سبحانه وتعالى.
إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(175)آل عمران . كونوا عظماء لتخافوا الله، كونوا على طهر قلبيّ، ونقاء روحيّ لتخافوا الله. تخافون من الله عدله، تخافون من الله نقمته النابعة من عدله سبحانه وتعالى، وعدل الله لا يلاحق إلا العصاة، لا يلاحق إلا المنحطّين نفسيا، لا يلاحق إلا أصحاب الجريمة فخافوا من أن تكون من أهل الجريمة، من أهل المعصية ومن أهل الرذيلة ومن أهل الإنحطاط.
((تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً)) لا يخافون النار؛ أمير المؤمنين عليه السلام، وهو يخاف النار بطبعه البشري، له من مستوى إنسانيته الرفيعة ما يجعله ينسى عذاب النار ليكون مشغولا بخوف ما هو أكبر، خوف أن يخسر رضوان الله، خوف أن يخسر قلبه الاتصال بذكر الله، خوف أن يخسر قلبه رؤية الله ومعرفة الله، طمعهم طمع في الله، في معرفته، في رضوانه في الغنى بالشعور به سبحانه.
(( يا عبد الله خف ذنوبك ، وخف عدل الله عليك في مظالم عباده ..)) عن أمير المؤمنين عليه السلام . حين يخاف الناس الظلمة يظلمون ليرضى عنهم الظالمون، حين يخافوا الناس الجهلة يجهلون ليرضى عنهم الجاهلون، وحين يخاف العبد ربّه سبحانه إنما يخاف من ذنب نفسه، إنما يخاف من سقوطه. المستقيم لا يخاف من الله، إنما يشعر بالأمن عند الله، عدالتك تشعرك بالأمن، استقامتك تشعرك بالطمأنينة. نعم ذلك المنحرف يخاف من الله لأنّ الله عادل، ولأنّ الله كامل والعادل لا يرضى بالظلم، والكمال يطرد النقص (( يا عبد الله خف ذنوبك ، وخف عدل الله عليك في مظالم عباده ..)).
((لا تخافوا ظلم ربكم ولكن خافوا ظلم أنفسكم))
حين نخاف الله عزّ وجل يعني هذا بالدقة أننا نخاف أن نظلم، نخاف أن نسقط، أن نهوي، والله لا يرضى بظلم ولا بانحدارٍ ولا بجهل ولا بجريمة.
2- خوف ورجاء :
(( يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه )) 9 الزمر .
(( ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفاً كأنه يشرف على النار ، ويرجوه رجاء كأنه من أهل الجنة)) وإن كان هذا المؤمن المصلّي الصائم التقي ذلك لأنه لا يستطيع أن يزّكي نفسه، ولا يأمن من أنّ خسارة رصيده أكبر من ربحه، ولأنّه يرى الله عظيماً شديد الأخذ، فلا بدّ أن يخاف، وخوفه يجعله أنّه يشرف على النار وكأنه على شفيرها.
(( ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفاً كأنه يشرف على النار ، ويرجوه رجاء كأنه من أهل الجنة )) والمؤمن لا ينقطع رجاؤه في الله، لا يضعف أمله. كيف يضعف الأمل في الله الذي عمّت رحمته السماوات والأرض، ويعيش برحمته المؤمن والكافر، الله عزّ وجل لا يأس من عطائه، ولا يأس من مغفرته ورحمته، ارجو الله رجاءً لا يجرّئك على معاصيه، والرجاء الذي يجرّىء على المعاصي هو رجاء منفصل عن الخوف. النفس التي لا تعرف إلا الرجاء في الله، التي لا تنظر إلا إلى رحمة الله، كرمه ومغفرته؛ هذه النفس ينقصها شيء. الله كامل، فكما هو رحيم بعباده، هو شديد على الكافرين، هو جبّار السماوات والأرض الله عدل ورحمة وحكمة وقوّة ويأتي منه الثواب ويأتي منه العقاب سبحانه لمن استحقّ العقاب وخرج بنفسه بتدنيّه عن رحمة الله التي وسعت كلّ شيء يقبل الرحمة.
(( ارج الله رجاء لا يجرئك على معاصيه ، وخف الله خوفاً لا يؤيسك من رحمته )) فلا تستسلم لليأس وإن كانت عليك مثل ما في البحر والمطر من قطرات ماء، ذلك لأنّ الله عزّ وجل يريد بك الرحمة يريد منك العودة. لله عزوجلَّ نداء متواصل مستمر يوافيك ليلاً ونهارا لو التفت يدعوك إلى الأوبة إلى الرحمة، يحتضنك وينتشلك من هاجرة المعصية والنار.

3- الخوف الصادق :
(( أما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى )) 4 النازعات . الله أكبر، كم هو عظيم أن تعبّر الآية بمقام ربّه.
من خاف الله لم يسع هواه أن يسيطر عليه أبدا.
(( من رجا شيئاً طلبه ، ومن خاف شيئاً هرب منه. وما أدري ما خوف رجل عرضت له شهوة فلم يدعها لما خاف منه ، وما أدري ما رجاء رجل نزل به بلاء فلم يصير عليه لما يرجو ))عن أمير المؤمنين عليه السلام . ( من رجا شيئاً طلبه..) انظر كيف أنت إذا رجوت شيئا من أشياء الدنيا تسهر من أجله، تكدّ على طريقه، تنسى كثيرا من أشيائك المهمة في سبيله. (ومن خاف شيئاً هرب منه..) ترجو الله لا بد أن تطلب الله، لا بد أن تطلب رضاه على طريق طاعته سبحانه. تخاف عقوبة الله فلا بدّ أن تهرب منها بترك المعاصي والإقبال على الطاعة. (وما أدري ما خوف رجل عرضت له شهوة فلم يدعها لما خاف منه..) وأين هذا خوف؟! هنا خوف أو هنا هزء. إنه يهزأ بنفسه ويقول أنه يخاف الله وهولا يستمسك أمام شهوة من الشهوات ونزوه من نزوات النفس. مشهد في الانترنت يحرفك عن الخط مائة وثمانين درجة، وتقول أنك مسحور، أنك مأسور. لماذا تقدّمت بقدمك إلى رؤية هذا المشهد فلنستح من الله، كيف تربّي ولدك؟ كيف تربّي بنتك؟ وأنت تنهزم هذه الهزيمة النكراء في عمر الأربعين وفي عمر الخمسين وحتى في عمر الثلاثين. فليسمع أعلام المجتمع هذه الكلمة المعصومية التي صدرت فعلا أو لم تصدر فهي تمثّل فكر المعصوم، ورأيه ونفسيّته، (إنّ حب الشرف والذكر لا يكونان في قلب الخائف الراهب).
(( إنَّ لله عباداً كسرت قلوبهم خشية الله فاستكفوا عن المنطق وإنهم لفصحاء عقلاء ألباء نبلاء ، يسبقون إليه بالأعمال الزاكية ، ولا يستكثرون له الكثير ، ولا يرضون له القليل ، يرون أنفسهم أنهم شرار ، وإنهم الأكياس الأبرار )) واقعهم أنّهم أكياس أبرار،إلاَّ أنهم يجدون أنفسهم لا يستطيعون أن يوفوا حقّ الله. نملأ الدنيا ضجيجا والأولى من هذا أن تمتلىء أنفسنا تقوى.

4- حسابات رابحة :
(( ولمن خاف مقام ربه جنتان )) 46 الرحمن . قدتكون جنة للبدن وجنة للروح، وجنة الروح أكبر من جنة البدن، بما لا يحسب وبما لا يتصور، هذا على مستوى الآخرة.
على مستوى الدنيا ولَنسكنَنكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد )) 14 ابراهيم . أي حركة اجتماعية تقوم لكي تنجح بإذن الله، على خطّ الله وتحقّق هدفها الإلهي، وننجو بها دنيا وآخرة لا بد أن تنطلق من خوف الله، وتعتمد خشيته.
(من خاف الله عزّ وجل أخاف الله منه كلّ شيء، ومن لم يخف الله عزّ وجل أخافه الله من كلّ شيء) كلّ حديث يغنى بمضمون لكن لا وقت للتحدث عنه.
(( من عرضت له فاحشة أو شهوة فاجتنبها من مخافة الله عزوجل حرم الله عليه النار ،وآمنه من الفزع الأكبر ، وأنجز له ما وعده في كتابه في قوله (( ولمن خاف مقام ربه جنتان )) . مواضع السقوط، مواطن الفتنة، تذكر الله فيها فتنجو وتربح ربح الأبد.
اللهم صل وسلم وزد وبارك وتحنن وترحم على محمد وآل محمد كما صليت وسلمت وباركت وتحننت وترحمت على ابراهيم وآل ابراهيم إنك حميد مجيد وأنقذنا مما يبعّد عنا رحمتك ، وينزل نقمتك ، ويحرم من مغفرتك ، ووفقنا لإخلاص الطاعة وصدق النية واستقامة العمل وقربنا إليك ،وارزقنا محبتك ، وأذقنا حلاوة ذكرك يا كريم . اللهم اغفر لنا ولجميع من يهمّنا أمره، ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْعَصْرِ(1)إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ(3)

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا يقاوم قدره مقاوم، ولا يناهض قدرته جبّار ظالم، ولا تخفى عليه خافية في العوالم، ولا يحيط به علم عالم. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. عمّت قدرته الأشياء، وتنزّلت رحمته على كل ذرة في الأرض والسماء. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رزقه الخلق العظيم، وبوأه المقام الكريم، صلى الله عليه وآله الطاهرين.
عباد الله أوصيكم ونفسي من قبلكم بتقوى الله التي تدرأ من الهلكات، وتبوء من رُزقها رفيع الدرجات، وتحمي من الهوى، وتنقذ من الغوى. ألا من طلب ملكة التقوى فكانت من الله منحته، لم يتسلط عليه الشيطان، ولم تغلبه الشهوة، ولم تضلّه الفتنة، ولم تكن الدنيا به مغررة، ولا المغريات له ساحرة، ولم يسقط صريع هوى، ولا فريسة غواية.
اللهم صل وسلم على هادي الأمم، وكاشف الغمم، وسراج الظلم؛ رسولك أبي القاسم البدر الأتم.
اللهم صل وسلم على الوصيّ الحق، والولي الصدق، قرين الجهاد، وشهيد المحراب علي بن أبي طالب القوّام الصوّام.
اللهم صل وسلم على أمتك القدوة، المباركة الصفوة، فاطمة البتول الزهراء.
اللهم صل وسلم على الكوكبين الهاديين، والسبطين الإمامين، أبي محمد الحسن وأبي محمد الحسن وأبي عبدالله الحسين.
اللهم صل وسلم على البدور المضيئة والشموس المنيرة الأئمة بالحق، والحجج على الخلق علي السجاد، والباقر محمد، والصادق جعفر، والكاظم موسى، والرضا علي، والجواد محمد، والهادي علي، والعسكري الحسن محيّ الفرائض والسنن.
اللهم صل وسلم على المنقذ المنتظر، والنور الأغر، الإمام الثاني عشر.
اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه ونوّر به البلاد، وأصلح به العباد، وأظهر به الرشاد، وأذهب به الفساد.
اللهم من كان في نصره تمهيد لنصره فانصره، وفي دولته توطئة لدولته فأيده، وفي عزّه عزٌّلمحبيه فأعزه، وأيد وسدد وأحم فقهاء الإسلام وأعلام الأمة ومجاهديها والعاملين في سبيلك يا قوي يا عزيز.
أما بعد أيها المؤ منون والمؤمنات..
فإن عودتنا لذكرى كربلاء في ذكرى يوم الأربعين من استشهاد أبي الأحرار الحسين بن علي عليهما السلام لتستثير فينا من جهة الشعور بمأساة أمة لا تزال تهان وتجهّل وتضلّل وتساق سوق النعاج لأن تحفر قبرها بنفسها وتكتب على نفسها الهزيمة، ويدفع بها على يد يزيد أو أكثر من يزيد إلى الهاوية. فمرة تقدم على الانتحار مجنونة بمحاربة منقذها الكبير وقلبها النابض، ودليل رشدها وهداها، وعنوان عزتها وكرامتها الحسين عليه السلام، وبالتنكيل الفظيع بأهل بيت نبيها الذي أخرجها من الظلمات إلى النور، ومرة تندفع مجنونة كذلك في أحضان عدوها الكافر تتلقى دروسه في الميوعة والذوبان، وفقد الهوية والتبعية الثقافية والسلوكية التي تأتي بالاجتثاث لأعمق الجذور من كيانها حتى يأتي اليوم الذي ترى فيه كيف يبيعها عدد من قادة الزور، وكلَّ ما تملك من أرض،0 ومن ثروة أخرى، وكيف تسلب عزتها وكرامتها، وتجري مؤامرة تصفيتها مكشوفة أمام عينيها فلا تملك أن تنكر ولا تملك أن تغير.
ومن جهة أخرى تستثير فينا الذكرى روح الإباء والشموخ، والتضحية والفداء، والايمان الراسخ الفاعل، والإرادة الحرة الكريمة وكل المعاني الكبيرة السامية التي قدمها الإمام الحسين عليه السلام وجيشة البطل من طاعن في السن لا تُواجَه غضبته في الله، ومن شاب تخافه الأهوال ولا يخافها، ومن طفل يتعشق الشهادة ويسعى لها بقلب مطمئن ووعي رشيد، ومن امرأة تقف كالطود شامخة أمام الطغيان رغم الثكل ورغم الجراح لتحفر قبر الطاغية بكلمات أحدّ من السيوف، وأجرأ من الجرأة، وأعظم تفجراً من البركان.
ولقد غدا كل واحد وكل واحدة من جيش الإمام الحسين عليه السلام جيش الإيمان والوعي والثبات والعزيمة والشهامة كبيراً أو صغيراً في السن مثلاً حياً في التاريخ ومدرسة ملهمة.
أما الشهيد السبط فهو يشع شمساً في أفقه البعيد ليعطي لحركة الرسالة في الأرض الوقود، وللعزائم على هذا الخط التوّقد، وللإرادة الصمود، وللقصد الإخلاص، وللهدف السمو، ولقلوب المؤمنين الأمل والنبض بحب الشهادة.

أما عن الانتخابات البلدية فإنه إذا كان فوز المرشح الكفؤ المؤمن في هذه الانتخابات قد يحقق شيئاً من النفع ويدفع شيئاً من الضرر، فإن فوز من لا أمانة له ولا دين، وكان همّة التسلق على أكتاف الناس وهو الذي ينفصل عنهم فكراً وهمّاً ومصلحة، ويتنكر لهم في شدتهم لن يحقق للمجتمع إلا مزيداً من الخسارة ومزيداً من الأضرار.
وبمناسبة هذه الإنتخابات لابد أن نكون على بصيرة كافية فيها قد توفر ولو شيئاً من النفع وتقلل من الخطر الذي يترتب على الغفلة والسذاجة.
1. أطرح ابتداء مسألة أساساً، وسؤالاً جذرياً. في الانتخابات، وفي الشأن السياسي عامة على المسجد أن يسكت أم له أن ينطق؟ وإذا سكت يسكت حياءً لأنه لا يملك رأياً له وزنه واحترامه؟ أويسكت خوفاً من صحافة أو من قانون؟ أويسكت لمكسب من مكاسب المادة التي تباع من أجلها الذّمم والقيم؟ وإذا نطق ينطق لرضى من، ولنصرة من؟ وبأي كلمة ينطق؟ وعن أي منهج يستقي؟ ومن أي رؤية ينطلق؟
والإجابة:
أن ليس على المسجد أن يسكت، بل ليس له أن يسكت، وهذه فتوى الإسلام الصريحة وسعها صدر الآخرين أو ضاق. المساجد تمتلك رجالاً امتحنهم درب العلم، ودرب العمل والخبرة، ودرب المخاوف والمواقع والإغراءات، وليس في وزن رأيهم من نقص يجعله يطئطئ أمام رأي الآخرين أو يتوارى، فلرأيهم الوزن الثقيل الذي يستمده من قواعد العلم وعطاءات الخبرة وهدى الإيمان على عكس آراء كثيرة خفيفة تنتشر في طول الساحة وعرضها. وعليه لا يمكن أن تسكت المساجد حياء، وكذلك لا يمكن أن تسكت خوفاً وهي تنطق بكلمة الحق والعدل والصدق والهدى، وتحتمي بحمى الله، وتلجأ إليه، فلا خوف من صحافة وإن جارت كلمتها، ولا خوف من قانون يعارض أن تكون للمسجد كلمته الحكيمة الرشيدة الهادية إذ لا قانون بهذا المضمون مطلقاً، ولو وجد في يوم من الأيام فهو غير شرعي أولاً، وغير دستوري ثانياً، وغير عملي ثالثاً وهو معارض لحضارة الأمة وقيمها ودينها وتاريخها بكل وضوح، وإن قدسية الشريعة فوق كل قدسية، وحرمة دين الله فوق كل حرمة.
ولا يسكت المسجد ما دام مسجداً، ولا يسكت رجال المساجد وهم كذلك لمكسب من مكاسب الدنيا لأن من صنعه الإسلام لا يكون من باعة الذمم والقيم.
فمتعين جداً أن المسجد يمارس حقه في النطق كما تمارسه كل المؤسسات، وهو أكثرها تجذراً، وأشدها تغلغلاً في وعي الأمة وضميرها، ولن تُدافع الأمة في يوم من الأيام عن مؤسسة دفاعها عن المسجد ووعيه ودوره ورسالته. والمسجد ينطق بكلمة الدين، وفتوى الشريعة، ونصرته للإسلام والإنسان، ورؤيته إيمانية، ومنطلقه قرآني، ومنهجه رباني. والمسجد يطلب رضى واحداً لا أكثر. لا يطلب إلا رضى الله، ولا ينظر إلا إليه، هكذا هو المسجد، وإلا لم يعد مسجداً حقاً، أو قل كما هو أدقّ أنه مسجد خانه رجاله. وكلما كان المطلوب هو مجتمع الصدق والحق، والعفة والاستقامة، والانصاف والعدل، والتعاون على الخير، والتفاني في مصلحة الآخرين؛ اشتدت الضرورة للمسجد، ودوره الكبير البنّاء، وصياغته للشخصية الإنسانية الإيمانية التي تعيش للآخرين أكثر مما تعيش لذاتها. والقضاء على المسجد ودوره قضاء على هذا المجتمع، وقطع للطريق السالك إليه.
2. لقد جاهد النّاس وأعطوا الكثر في جهادهم لا لينتخبوا صاحب فكر معاد للإسلام، ولا أخلاقية غريبة عليه، ولا طالب دنياً يتسلق إليها على أكتاف الناس، ولا لمتفرج في المعركة مسارع للغنيمة، ولا ليقولوا نعم لمن يجبن عن كلمة الحق، أو من لا يهتدي إليها، أو من يرغب عنها، أو من ينطق تاريخه بأنه بعيدٌ عملاً عنها. جاهدالناس كثيراً ليروا راحة في دنياهم، وسلامة في دينهم، وعزة وكرامة في حياتهم، وليس أقدر من المؤمن الكفؤ الذي جرّبته الحياة على مرأى من المجتمع لأن يحمل مثل هذه الأمانة.
3. هناك عدد من الأفكار التي يقرأها الناس ويسمعونها في خضم عمليات المواجهات الانتخابية، وما هو الأخطر في هذه الأفكار أنها مغالطات لو تكثفت وتركّزت لحرفت مسار التفكير عن خطه الصحيح، وأحدثت إرباكات فكرية خطيرة في المساحة الواسعة من تفكير الناس.
وهذا أمثلة:-
أ) ابداء الهلع الشديد على الديموقراطيّة ونقائها وطهرها وقداستها وعصمتها من تدخل علماء الدين في مسألة الانتخابات نقداً لنواقص التجربة، وبياناً للمواصفات المطلوبة في مرشّحين مثلاً. والسرّ في ذلك الهلع أنّ كلمة الدين تلقى ترحيباً من النفوس، وأنّ هذه الكلمة تمتلك رصيداً جماهيريّاً واسعاً والديموقراطية مهدّدة بالفناء إذا ظهر الدين وتغلّب التيار الديني كما يقولون. لكن أليست تعني الديموقراطية تغليب رأي الأكثرية بعد أن تُعطي لكل الآراء أن تعبر عن وجهة نظرها، وتخاطب رصيدها الشعبي بكلّ حريّة؟ وإذا كان شيء يطلب في هذا السياق فهو عدم التجريح للآخرين بأسمائهم ومشخصاتهم، وليس عدمَ البيان للمواصفات المطلوبة في المرشّح، ولا عدم التزكية لهذا أو ذاك، كيف وأن القبول الرسمي لطلب الترشيح معتمد على التزكية من عدد ممن لهم حقّ الانتخاب. على أنّ ديموقراطية الغرب وهي المثل الأعلى عند هؤلاء الخائفين عليها من الدين تقوم بنبش كلّ الفضائح للطرف الآخر، وعلى أنّ المتديّن أعفّ الناس لساناً من أن يقول في النّاس ما لا يجوز في دين الله.
وكيف يعطي هؤلاء الناعون النادبون حظ الديموقراطية المهددة من دين الله كما يقولون أنفسهم توجيه الرأي العام ليلاً ونهاراً وجهة النظر التي ينتمون إليها ويحجرون على غيرهم حقّ الكلمة؟ عرفنا أنّ المطلوب لك أن تتكلّم، وأن أسكت، في مسألة أعطت فيها أوساط المؤمنة من الثمن الباهض ما أعطت، وأنت تنعم وتضحك. فهل تراني أستجيب لك وأسكت؟!
ب) أؤكد أن علماء الدين في الإسلام لا يوزعون صكوك الغفران، ويبرأون لله سبحانه من هذه المقولة ولكنّهم يدلون الخلق على طريق الجنة وغفران الله، وشهادات الفوز والنجاح الحاصلة بطاعته، وإذا كانت دعوتهم إلى الله تعني توزيع صكوك الغفران فإنّ دعوة الآخرين لغير الله تعني توزيع صكوك الشيطان.
ج)”النّاس كلّهم مسلمون ومؤمنون فهم على حدّ واحد” هذه مقولة من المقولات المسوّق لها في أجواء الانتخابات. ولكنّها مقولة لا تساوي شيئاً أمام لغة الدين والعقل والواقع.
فالناس منهم المؤمن البالغ الإيمان، ومنهم من هو دون ذلك، فمنهم الفاسق، والمتهتّك وإن أظهر الجميع كلمة الإسلام، وحرمت بذلك دماؤهم وأموالهم وأعراضهم بالصورة التي تحدّدها الشريعة. فليس هؤلاء كلهم أمام الله بقدر واحد، وليسوا سواء في تحمّلهم الأمانة، ووفائهم بالعهد، وصراحتهم في الحقّ، وإخلاصهم للخلق. وليس من هو أقرب في سلوكه إلى الكفر من الإيمان وإن أعلن كلمة الإسلام، كمن هو مثالٌ عالٍ في قضية الالتزام.
د) المساواة بين المتديّن وغير المتديّن في الانتخاب مقولة أخرى يسوّق لها. والحقُّ ليس كذلك، فلا يُساوى من لم تقبله الشريعة شاهداً في الأمور البسيطة بمن رضيه الله للمواقع الكبيرة، غير المتدين لاتقبل شهادتة على دينار واحد.فهل يساويه الله بأهل الأمانات الكبري؟! إذن أين ذمُّ الله سبحانه للفاسقين والمنافقين والكافرين؟! وأين ثناؤه على المؤمنين والمتّقين؟! إنّ هذه المقولة وأمثالها إنما تنطلق من منطلق يخالف الدين فما دام المجتمع متخلّفاً بتديّنه كما يرى أصحاب هذه المقولة لا يصح لهم أن يُخاطبوه بمثل هذا الخطاب، على أنهم لا يُخلصون لشعارهم هذا ولا يلتزمون به لأنّ غير المتديّن يفوق المتديّن الحقّ عندهم مئات المرات. إنّه شعار للإستغفال والاستغلال لا غير. وإنّ المؤمن لشديد الالتزام بتقديم المؤمن على غيرالمؤمن، وهذا هو مقتضى دينه الذي لا يشكّ فيه.
من التلاعب بالألفاظ أن يقال لأي كلمة نصح أو توجيه وأيّ رأي من عالم الدين بأنّه فرض للوصاية، وأن يقال لكلّ ما يصدر عن مناوئ الدين بأنّه حريّة رأي، ومشاركة إيجابية، وطرح تقدّمي، ونقد بناء، وتنظير متقدم.
4- هل ننتخب؟ نعم ننتخب برغم نواقص التجربة وعدم عدالتها لمبررات خاصةٍ بهذه التجربة، وقد ذُكرت من قبل.
هـ)من ننتخب؟ الأكثر التزاماً ووعياً بالدين، والأكثر خبرة ونباهة، والأقدر على ابداء الرأي النافع الصريح، والذي يشهد له تاريخه بالمواقف الاجتماعية المشرّفة والإخلاص للنّاس ومشاركتهم في آمالهم وآلامهم مشاركة فاعلة إيجابية.
ما الموقف عند تعدد المرشّحين ولم يكن أحدهم مرضيّاً بصورة مطلقة ولكن كان أحدهم يحسن السكوت عليه؟ هنا ينتخب هذا الذي يحسن السكوت عليه دفعاً لضرر غيره.
5- ماذا لو كان المرشّحون كلّهم غير ثقاة؟ هنا لا يصحّ انتخاب أحدهم. ولكن هذه الحالة قد تكون نادرة جدّاً في كثير من الدوائر، فلا يلتفت إليها.

6- على من يفتقد الخبرة بالمرشّحين المتقدّمين للإنتخاب في دائرته أن يراجع المؤمنين الثقاة من أهل الخبرة والدراية الاجتماعية ليعيّّن من بعد ذلك مرشّحه على بصيرة حتى لا يضيع صوته الذي ربما احتاج إليه الصالح من المرشّحين، وحتى لا يذهب في فرض آخر لمن لا يحسن انتخابه.

اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، واهدنا بهداهم،واجعلنا لا نغادر خطّهم، ولا ننحدر عن طريقتهم، واغفر لنا ولجميع أرحامنا وقراباتنا وأهلينا ومن لهم حقّ خاصّ علينا من المؤمنين والمؤمنات، ولجميع أهل الإيمان يا رحيم يا رحمن، يا رؤوف يا منّان.

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} النحل (90).

زر الذهاب إلى الأعلى