خطبة الجمعة (55) 6 صفر 1423هـ – 19-4-2002م
مواضيع الخطبة:
الأنفس الشح – الوصاية والولاية والهيمنة الفكرية – فلسطين والإجرام الصهيوني
تسمع في أوساطنا الشبابية كلمات من نوع لا وصاية، لا صنمية، لا هيمنة فكرية، لا ولاية لأحد على أحد. وهذه الكلمات تحتاج إلى تحديد ما يُراد منها، وإلى تدقيق في مؤداها ليعرف مدى الحقانية لهذه الكلمات في ما تريد من تركيزه من فهم، والترويج له من فكر.
الخطبة الأولى
الحمد لله غافر الذنب ، قابل التوب ، ستّار العيوب ، كشاف الكروب ، الرحيم الودود . أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا عديل ، ولا خلف لقوله ولا تبديل . و أشهد أن محمداً عبده ورسوله كان رحمةً للمؤمنين ، ونقمةً على الكافرين ، عن الحق مجاهداً ، وللباطل محارباً .صلى الله عليه وآله الطاهرين .
عباد الله أوصيكم ونفسي من قبلكم بتقوى الله ، وأن لا نبتغي عن دينه حولاً ، وأن لا نرضى عن منهجه بدلاً ، وأن لا نجعل من النفس الأمارة بالسوء والهوى قائداً للعقل ، وأن لا تستهوينا الدنيا بشهواتها وغرورها حتى ننسى ذكر الله . إن المرء منا قد أثقل ظهره وزرُ ما تقدم من عمره ، فليكن باقي ايامه تخفيفاً للأوزار ، وزيادة في الصالحات ، فإن ما يستقبله الإنسان من أمر آخرته فوق ما يصل إليه تصوره هولاً ، وما يظنه شدة وبلاء .
أما بعد فإن أحدنا ليمهل رعاية نفسه ، وينساق وراء شهواتها ونزواتها حتى يغلب قبيحها على حسنها ، وسيئها على صالحها ، فتحقر وتصغر ، ويضيق أفقها ، وتمنع القليل ، ولا تصبر عن الضئيل من حطام الدنيا ومتاعها . ويمتنع على نفس هذا شأنها أن تقوم بدور إنساني نبيل ، وأن يتجاوز همها دائرة الاهتمامات الطينية الصغيرة التي تحتكر حياتها ، وتستهلك مدتها ، وتستنفذ طاقتها لتكون المادة هي الهدف وهذه النفس هي الوسيلة .
وهذا على خلاف نفس تحررت من قبضة المادة وأسر الشهوة ، وقوقعة الأنا الأرضية ، فهذه نفس تعطي مما في يدها لتزكو مشاعرها ، و لا تجد في ما عند الناس مطمعاً ، لتكون مملوكة لهم ، أو حاقدة ساعية للإضرار بهم . نفس تستطيع أن تحيا لهدفها الكبير ، بعد أن لم تستوقفها أشياء الطريق ، وملهيات النفوس الصغيرة . إن تحررها من العبودية للمادة يعطيها أن تحلِّق بعيداً بمستواها الإنساني ، وبوجودها الروحي ، وأن تتفرغ لمواصلة رحلتها الصاعدة التي تزداد بها تبلوراً وصفاء وقوة وهداية .
إذا كانت النفس الأولى تحقد وتحسد وتعادي وتظلم وتغتصب وتنهب من شحها تنافساً على الكثير والقليل من متاع الحياة الدنيا ، وإن وجدت ، وبلغ ما في يدها ما بلغ ، فإن النفس الثانية بما برأت من مرض الشح لا تجد بما فاتها من المادة أن قد فاتها خير تدخل صراعاً مع الغير من أجله ، أو تكتئب في داخلها ، وينال من همها شيئاً . وإذا كانت الأولى تستمسك بالزهيد من الكثير الذي تملك استمساكها بالحياة والبقاء فلا يرشح عنها خير ، ولا تطيب بشيء مما أوتيت فإن النفس التي فارقها الشح ينطلق عطاؤها سخياً على حاجة تلم بها ، وخصاصة تحاصرها .
ولو كان الناس كلهم من هذه النفس الأخيرة لكان الغنى حظّ الجميع ، وحُلّت مشاكل الحياة ، فإن المشاكل التي تطحن الأرواح ، وتقوّض الأمن ، وتقلق المجتمعات مرد كثير منها شح الأنفس ، والبحث عن الذات في أشياء هذه الحياة .
وليس يبرئ الأنفس من شحها إلا أن تجد الغنى في نفسها من معرفتها بربها ، وثقتها ببارئها وتأدبها بالمنهج المتـنـزل عليها من الله . وهذه النفس المعجزة التي تعيش على الأرض بهمٍّ يتصل بالسماء فيحميها من الذوبان في الطين ، والمغالبة على ما تتغالب عليه الديدان، والإقتتال على ما تقتل عليه الكلاب قد وجدت فعلاً في نماذج رائعة في تاريخ الإسلام ، منها هذا النموذج الراقي الذي تعرضه الآية الكريمة (( والذين تبوّءُو الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون )) 9 الحشر .
كان فيءٌ من بني النضير في المدينة ، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار إلا ثلاثة في رواية الأنصار الذين آووا ونصروا واستقبلوا المهاجرين وأعطوا من أموالهم ، واحتضنوهم تمام الاحتضان ، الآن يأتي فيءٌ من بني النضير لا ينال من هذا الفيء أكثرهم ، ويقسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدله وحكمته بين المهاجرين دون الأنصار – والوقت ليس وقت شرح –
في رواية أنه خاطب الأنصار : اختاروا إما أن تقاسموهم أموالكم وما ملكتم ، فتشتركوا معهم في هذا الفيء ، وإما أن تمنعوهم ، فيكون هذا الفيء بينهم خاصة ، قالوا : شاركناهم في الأموال ونبذلُ والفيء لهم خاصة ، نحن على بذلنا وعلى عطائنا للمهاجرين وليكن هذا الفيء والربح لهم خاصة . الأنصار الذين تبؤوا وتوطنوا المدينة وآثروا الإيمان على غيره، وأخلصوا الإيمان ، كلٌ بقدره ، وكان وتوطنّهم بالمدينة وهم أهلها قبل المهاجرين ، هؤلاء جاءهم المهاجرون لا يملكون شيئاً ، فأغنوهم بقدر ما يغنون ، وأعطوهم بقدر ما يجدون ، وأحبوهم .. أحبوهم لأنهم هاجروا إليهم (( يحبون من هاجر إليهم )) لأنهم هاجروا لله. هؤلاء الذين جاءوا يشاركونهم في ثروة بلدهم ، و في نتاج عرقهم ، ويكونون عالةً عليهم إلى حين .. يحبونهم لأنهم كانت هجرتهم إليهم في الله سبحانه . (( ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا .. )) لما آتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الفيء للمهاجرين ، الأنصار ليس أنهم لم يحسدوا و لم يحقدوا على المهاجرين فحسب ، فالأمر أكبر من ذلك ؛ إنهم كانوا لا يخالط نفوسهم شعورٌ بالحاجةٍ مما أوتي المهاجرون. لا تعلّق في نفوسهم بذلك الشيء الكبير أصلاً ، لا تحمل أنفسهم أي اشتغالٍ بالمادة الكبيرة التي انبسطت على المهاجرين .. (( ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا .. )) ومع ذلك (( .. ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة )) قد لا يعطي الأنصاري المهاجر من وجدان ، وإنما يعطيه من حسٍ عميقٍ من غنى الإيمان ، قد يكون الأنصاري ليس على الغنى الذي يسمح له بإشراك المهاجر في ماله ، ولكنه يجدها ضرورة إيمانية ويعيش اللذة والأنس من خلال التحامه بإيمانه وتفاعله بإيمانه ، لا بل إنهم (( يؤثرون )) المهاجرين على أنفسهم مع ما يشعرون به من الحاجة من المال. هذا مستوى إنساني رفيع جداً ، يحتاج الوصول إليه إلى روحٍ شفافة ، وإلى نفس تحررت من أسر المادة ، وإلى ثقة عميقة بالله تغذي النفس وتغنيها ، وهذا كله لا يصنعه إلّا الإيمان ومنهج الإسلام .
أنت لا تستطيع أن تحصل على هذا المستوى الإنساني الرفيع ، الذي يجد الغنى في نفسه أكثر مما يجده في يده ، والذي يؤثر أخاه على نفسه رغم ضغط الحاجة ، إلا بصناعة إلهية لهذا الإنسان ، صناعة تشريعية ترقى بمستواها إلى مستوى الصناعة التكوينية لهذا الإنسان ، دقةً وعدلاً وحكمة ، فهي هي تماماً في الحد والقدر .
((..ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ))
نحن لا نستطيع أن نتقدم من الله عز وجل ، نطلب الكمال من كماله ، ونطلب الفيض من فيضه ، ونطلب الهدى من هداه، والرحمة من رحمته ، إلا بمقدار ما نتخلص من ( الشح ) الذي يعني الحرص البالغ في النفس بحيث لا تعطي، وتتمنى أن ما بيد الغير بيدها ، والقضية قضية منهجين : منهج إلهي في التربية ، ومنهج أرضيٌ آخر في التربية ، المنهج الإلهي في التربية إذا حكم الحياة بلغ بالأنفس أن تتخلص من شحها. هو يقيها من الشح ، ويخلصها من الشح ، المنهج الثاني الأرضي يركز في النفس الشح ويعمقه ، ويأسر النفس لشح شحيح لئيم .
وهذا نموذج إنساني من خلق الرسالة ، هو مثل ، ويبقى مثلاً يُطلبُ فلا ينال (( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ، إنما نطعمكم لوجه الله .. )) هنا صفاء النفس ، هنا رقي الروح ، هنا رقيّ الذات ((إنما نطعمكم لوجه الله .. )) بلا أي غرض أرضى ، بلا أي هدف غير ذلك الهدف البعيد المنطلق بلا حدود ، هدف : رضا الله عز وجل ((إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا )) 8 ، 9 الإنسان .
الفئة التي تؤمن بهذا البيت ، بيت عليٍ وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام؛ أهلِ هذه الآية الكريمة ، لا يمكن أن تشح أنفسهم على إخوانهم المسلمين في فلسطين ، وهم يعيشون أعسر الظروف وأقسى النكبات ، ولا يحتاجون إلى دفعٍ أبداً على هذا الطريق وهم يتنفسون نسيم رحاب علي عليه السلام ، ويصل بين أنفسهم ونفس علي عليه السلام المشدودة إلى الله ولو خيط ضعيف ، الخيط الضعيف الذي يشد أنفس المؤمنين بنفس علي عليه السلام كاف جداً لأن يخرجهم من درجات كثيرة من الشح ، و أن يجعلهم في الأمام في مواقع التضحية والبذل بالمال والنفس ، وبذل الرخيص والغالي في سبيل الله سبحانه .
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد و اجعلنا لا نبخل بشيء في سبيلك ، وأغننا بك عمن سواك ، وقنا شح أنفسنا ، ولا تستعبدنا للدنيا والهوى واغفر لنا وتب علينا إنك أنت التواب الكريم واغفر لإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ولوالدينا وأهلينا وكل ذي حق خاص علينا يا أرحم الراحمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
(ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالاً وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنها عليهم مؤصدة في عمد ممدة)
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أرسل رسلاً مبشّرين ومنذرين، وأنزل كتبَ هدىً للعالمين، وأقام الحجة على الأولين والآخرين. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الموجد لكلّ موجود، الرازق لكلّ مرزوق، المقدّر لكلّ مقدور. وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله أدّى الأمانة، وبلّغ الرسالة، وأتمّ الجهاد صلى الله عليه وآله الأطياب.
عباد الله أوصيكم ونفسي المقصّرة بتقوى الله وأن نفي بالعهد ممّا يرضى به الله وقد قال سبحانه “بلى من أوفى بعهده واتقى فإنّ الله يحبُّ المتقين” وأن لا نقدِّم على عهد الله عهداً، ولا ننساه طلباً لدنيا “إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلّمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذابٌ أليم” 77/آل عمران.
اللهم صلّ وسلّم على صاحب الخُلُقِ العظيم، والمبعوث بالقرآن الكريم محمّد خاتم النبيين والمرسلين.
اللهم صلّ وسلّم على نظام الدين، وإمام المتقين عليٍ أمير المؤمنين. اللهم صلّ وسلّم على كريمة رسولك المصطفى، وقرينة وليّك المرتضى، فاطمة أمّ أئمّة الهدى. اللهم صلّ وسلّم على الامامين الهاديين والوليين الصالحين أبي محمد الحسن وأبي عبد الله الحسين. اللهم صلّ وسلّم على عبادك الصالحين وأوليائك المقرّبين والأئمة الميامين علي بن الحسين زين العابدين ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق وموسى بن جعفر الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد بن علي الجواد وعلي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري الهداة المهديين. اللهم صلّ وسلّم على منتظر المؤمنين، والقيّم على أمر الدنيا والدين، وسليل الرسول الأمين، موقظ الغافل والنائم محمد بن الحسن القائم. اللهمّ عجّل فرجه، وسهّل مخرجه وانصره على الكفر والنفاق واقمع به أهل الشّقاق، واعمر به البلاد وأحيي به العباد يا عزيز يا كريم يا وهّاب.
اللهم عبدك القاصد قصده، السالك دربه، الآخذ برشده انصره وأيده وسدّده، وأيّد وسدّد ووفّق فقهاء الأمة العدول ومجاهديها والذائدين عن دينها وكرامتها يا قويّ يا عزيز يا حميد يا مجيد.
اللهم إنا نستهديك ونسترشدك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونعوذ بك من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا فأعذنا يا كريم، واهدنا إلى سواء السبيل يا هادي الضّالين.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات
فقد تُروّجُ مفاهيم غير واضحة ولا محددة في أوساط المسلمين فتُحدث ارتباكاً فكرياً، وغَبًشًاً في الرّؤية، وخللاً في التّصوّر ممّا يؤثّر بصورة ضارّة على فهم شريحة واسعة من الشباب المسلم الاسلام، ويُحدث حالة من الغربة عندها عن الفكر الإسلامي الصحيح.
تسمع في أوساطنا الشبابية كلمات من نوع لا وصاية، لا صنمية، لا هيمنة فكرية، لا ولاية لأحد على أحد. وهذه الكلمات تحتاج إلى تحديد ما يُراد منها، وإلى تدقيق في مؤداها ليعرف مدى الحقانية لهذه الكلمات في ما تريد من تركيزه من فهم، والترويج له من فكر.
ولتُطرح هنا بعضٌ من الأسئلة في هذا السياق:
1. هل صحيح أنّه لا وصاية ولا ولاية مطلقا لأحد من الناس على أحد؟
2. وهل الأخذ والاستفادة من فكر الغير واحترامه يُعد هيمنة فكرية دائما؟
3. وهل تعني حرية الرأي تساوي الآراء قيمة من المختصين وغيرهم؟
عن السؤال الأول؛ في الفكر الديني النّقي لا ولاية لأحد على أحد بالأصل وحتى للشخص من نفسه على نفسه فلا يملك أحدنا شرعا تصفية وجوده ولا التصرف الضار بعضو من أعضائه مثلا، وإنما الولاية الثابتة هي الولاية الشاملة لله وحده على كلّ مخلوقاته إذ تتبع ولاية التشريع أصلا وسعة ولاية التكوين في أصلها وسعتها.
وفي كلّ الطروحات الأرضية تبرر قوة طرف فرض ولايته على الطرف الآخر الأقل منه قوة، أقول كل الأطروحات الأرضية حين تبحثها تجدها أنها تعترف بمنطق القوة، وأنّ القوة تعطي لصاحبها السيادة على الغير، والحاكمية على الغير، والتصرف الولائي في الغير، والطرح الديموقراطي الذي يُعد متقدماً من بين هذه الطروحات لا يخرج عن هذه القاعدة حيث يعطي الأغلبية الحق في فرض رأيها على الأقلية، وفرض الولاية لمنتخبها على الكل؛ ممن انتخبوه وممن لم ينتخبوه أو أعطوا رأياً ضده، ماذا يعني هذا يا أخوة؟ ألا يعني أن منتخب الأغلبية حصل على صوت الأغلبية ووفرت له قوة ليست لصالح الرأي الأقل عددا؟ إنه يتمتع بموقع قوة لا يتمتع به الآخر فيكون السيف معه والمال معه وكلّ أسباب القوة والقدرة معه فيتحول من صفر لا ولاية له في نظر الدساتير الأرضية إلى رقم هائل فوق كل الأرقام ليفرض سيادته عليها كلها من ناحية التصرف في المال وفي الأنفس وفي ثروات الأرض فولاية مرشح الأغلبية ولاية بالغير ثابتة بواسطة ناخبيه وهي اختيارية بالنسبة إليهم في الأساس، وإكراهية تحكمية بالنسبة للأقليّة التي قد لا تزيد عليها الأكثرية بأكثر من واحد. وتدخل في دائرة الإكراه كل الأصوات التي لم تدخل العملية الانتخابية.
وتثبت الولاية بين الناس بالغير في الفكر الديني كذلك، وذلك بتولية من الله أو من غيره ممن يعود أمره إلى أمره، واختياره إلى اختياره، كتولية النبي (ص) لغيره من كل ولاة الأقاليم الذين ينصبهم (ص). فالخلاف بين الديموقراطية وبين الدين في الطرح هو أن الولاية في الديموقراطية تكتسب من أصوات الناس، وأنّ الولاية في مطروح الدين تكتسب من أمر الله وتنصيبه.
هذا من ناحية النظر والواقع في مسألة الولاية على المستوى الديني والعقلائي. ولا يخلو مجتمع بدوي ولا مجتمع مدني من ممارسة الولاية وصلاحيات الحكومة؛ فمن رئيس القبيلة إلى الوزير ورئيس الوزراء ورئيس الجمهورية والملك والأمير فكلّ أولئك يمارسون نوعاً من الولاية على الآخرين، والمقولة الشيوعية التي بشرت بمجتمع لا حكومة فيه سقطت بعد خطوات قليلة من انطلاقها وقبل أن تصل إلى مثل هذا الخيال الموغل في الخيالية بمسافة طويلة. وهناك الولاية اللابدية على الطفل والمجنون والولاية على السفيه ومختلف القاصرين.
وإذا كان الأفراد في أنفسهم ناضجين راشدين لا يحتاجون إلى ولاية تفرض عليهم، فإن الحالة الاجتماعية والكيان الاجتماعي، والموجود الاجتماعي بما هو كيان اجتماعي وموجود اجتماعي قاصر عن تدبير شؤونه، وتنظيم علاقاته، ورعاية مصالحه إلا من خلال مجموعة من الأفراد يتصدون لإنجاز هذه الوظائف، ولا بد لهذه المجموعة هي كذلك ممن يشرف على تنظيم العلاقة داخلها وتنفيذ الأوامر في تدبير شؤونها، لأنها بما هي حالة اجتماعية ووجود اجتماعي تكون قاصرة وإن كان أفرادها هم أكثر الناس نضجا ورشدا وعلما وخبرة. وهكذا ينتهي الأمر إلى ضرورة الحكومة والولاية، والولاية تنصب صلاحيات التصرف من صاحبها على البعد الاجتماعي للأفراد، وما يتعلق بجانب الشخصية الاجتماعية لهم الذي يؤثر على صالح المجموع بصورة سلبية أو ايجابيَّة.
إذاً ليس صحيحاً أن نرفع شعار لا وصاية ولا ولاية مطلقاً بحيث يتناول النفي الولاية بالأصل والذات، والولاية بالعرض والغير، والولاية بطرح الأرض، والولاية بطرح السماء.
وإذا كان من يرفع هذا الشعار يعد نفسه ممن يلتزم بالإسلام فماذا يفعل بالآية التي تأمر بطاعة أولي الأمر، والآية التي تربط بين الإيمان والتسليم والرضى بحكم الرسول (ص).
وماذا يفعل بالنصوص والأدلة التي تُثبت درجة أو أخرى من الولاية للفقهاء وتعتبرالراد عليهم في الأخير كالراد على الله؟!
وماذا يقول أصحاب هذا الشّعار حين ينادون هم أنفسهم بالتجنيد الحرّ أو الاجباري، وهل تكون قيادة عسكرية بلا ولاية؟ وهل ينتظم أمر جيش بلا أوامر تجب طاعتها بتكييف وآخر؟!
وإذا فتَّشنا عن الصنمية في الولاية فأين نجدها؟ من كان الراد عليه كالراد على الأئمة (ع) -وهذا هو الفقيه العدل- والراد على الأئمة كالراد على النبي (ص) والراد على النبي كالراد على الله عزّ وجل فطاعته ليست صنمية وإنما طاعته عبودية وعبادة خالصة لله. ومن كانت طاعته لطاغوتية فيه أو في حزبه أو لأنه مرشح الأغلبية فقط من غير أن تلاحظ فيه صفات الإيمان والأهلية التي يرضاها الله عزّ وجل؛ فولايته تجسّد الصنميَّة والعبودية لغير الله سبحانه. ومن المفارقة التي ليس لها مردُّ! إلا قصور الرأي أوالهوى أن يقال عن طاعة الفقهاء والعلماء بأنها صنمية بينما لا يرى هذا القائل بأن طاعته أو طاعة مجموعتِه أو حزبه كذلك، وإن كان إذا نطق لاينطق إلا عن رأيه، أو رأي جماعته وحزبه من غير استناد إلى حجة شرعية تربط قوله بدين الله عز وجل، بينما من أصغى إلى ناطق ينطق عن الله فقد عبد الله، ومن أصغى إلى ناطق ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان. والفقيه لا ينطق عن الشيطان، ولا ينطق عن هوى نفسه ولا ينطق عن رغائبه واجتهاده الذي لم يأذن به الله عزّ وجل. إنّما ينطق عن الله عزّ وجل من خلال الاجتهاد العلمي المأذون من خلاله أن ينسب القول إلى الدين، وكل نطق على خلاف الحجة الشرعية هو نطق عن الشطان.
وعن السؤالين الاخرين فإنه إذا كان المعني من الهيمنة الفكرية هو رجوع الجاهل إلى العالم، والمتعلم إلى المعلم، وغيرِ ذي الاختصاص إلى ذي الاختصاص فإن ذلك هو مسلك العُقلاَء جميعاً وتقوم عليه حركة العلم، ولا غنى لاستمرار الحياة العقلية في نموّها وتقدمها عنه، وهو محل موافقة العقل والدين. وكون الرأي يمكن أن يطرح من أكثر من فرد، ومن أكثر من جهة، وأن الباب مفتوح لطرح الآراء في المسائل، ولايكون ابداء الرأي حكراً على أفراد معيّنين صحيح إلى حدّ، وذلك أن يكون طرح الرأي في أي مجال من أهل الخبرة والاختصاص في ذلك المجال. وليس صحيحاً أن تُعطي المجتمعات على نفسها أن تُصغي للرأي من غير أهله، ولا من الحق، ولا الحكمة، ولا النافع أن تأخذ بهذا وتتقيد به. وهل يقولُ بأن حرية الرأي تساوي النظر إلى رأي المختصيِن وأهل الخبرة والبصيرة والتجربة والأمانة والتقوى، وإلى رأي غيرهم على حد واحد وبمستوى واحد إلا جاهل أو مغرض سيّء القصد يريد أن يُضِّل ويصطاد الغافلين؟! وإذا كان الرجوع في الرأي إلى أهل الخبرة والاختصاص والأمانة هيمنة فكرية، وصنمية مرفوضة فبم يَصف القائل بهذ القول محاولته أن يكون المأخوذُ به رأيه وهو على المستوى الأقل شأناً ممن يَرى أن تقديم رأيهم صنمية لابد أن تلغى، وهيمنة فكرية لابد أن تحارب؟!
أيها المؤمنون والمؤمنات
فيما يتصل بالوطن الاسلامي السليب فلسطين يثار هذا السؤال:
بعد الطوفان الاجرامي المجنون المدِمر الذي شنّته القوات الصهيونية العدوانية على المسلمين في الأرض المحتلة والذي فاق في اجرامه ودناءته واستباحته لمحرمات الأديان والقوانين والأعراف حد المتصَّور حسب شهادات المعاينين من قريب ومن بعيد؛ من تريد أمريكا راعية العدوان الحاقد، ومن تريد الصهيونية المجرمة أن تُنحَّى من القيادات الفلسطينية والنشطاء والمقاتلين ممن تبقى ومن تريد أن تقرّب؟ ومن تريد أن يبقى، ومن تريد أن يفنى؟ الاتجاه واضح جدّا والهدف كذلك. المستهدف الرئيس هم الاسلاميون، وذنبهم اسلامهم الذي لا يرضى بهيمنة الأجنبي المفسد، ولايقبل لأبنائه مواقف الخيانة، والتبعيِّة الذليلة. فالإسلام هو المستهدف الأول وبالذات من كل الحملة الفتّاكة المتسترة بمحاربة ما تسميه أمريكا بالإرهاب وهي حملة مستمرة لأن الإسلام هو المقاوم الصلب الذي لا تنكسر إرادته في نفوس أبنائه أمام رغبة الطاغوتية والاستكبار في الأنفس المريضة والذوات المتعجرفة. إنّ الإسلام لا يموت ولا يندحر، ولابدّ من أن تشهد الأرض جيل الإنتصار والسحق للشراذم الصهيونية المعتدية، وأن تُمرّغ الروح الاستكبارية في شرق الأرض وغربها في الوحل.
إنّ على الأمة الإسلامية أن تؤمن بجدٍّ بأنها مهدّدةٍ في وجودها بالكامل من الاستكبار العالمي وعلى رأسه أمريكا، وأن تُفعِّل هذا الإيمان خارجاً بأن تأخذ على نفسها أن لا تقف موقفاً فرديّاً أو جماعياً في أي ساحة من ساحات الحياة يُعطي دعماً ولو بسيطاً، وقوّة ولو ضئيلة لهذا الاستكبار.
واعجبو لآخر كلمة حكمة من كلمات بوش رئيس الدولة الرائدة للعالم -حسب الدعوى- وأبلغ درس تربوي يطرحه على الأمم ليعلمها الخلق الرفيع من خلاله، وينعش فيها الضمير الانساني وهو قولُه – شارون رجل السلام -.
اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد، واغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ولوالدينا وأرحامنا ولكلّ ذي حقٍّ خاصٍّ علينا وافتح علينا أبواب النصر وأغلق عنا أبواب الهزيمة وغيّر ما بنا من سوء يا أرحم الراحمن.
إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى
وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكّرون