خطبة الجمعة (54) 29محرم 1423هـ – 12-4-2002م
مواضيع الخطبة:
محاسبة النفس-الجرائم الصهيونية والأنظمة الرسمية-الشهيد محمد جمعة
الشهيد محمد جمعة وملايين الشهداء من أبناء الأمة ، ممن استشهدوا ، وممن هم على الطريق يهنؤهم ، ويهنئ ذويهم، ووطنهم أن يفوزوا بوسام الشهادة، ويبذلوا دمهم ثمناً لحياة الدين، وعز الأمة، وحفظ كرامتها.
الخطبة الأولى
الحمد لله العليّ الأعلى، الأعزّ الأجلّ الأكرم، لا يُبلغ كماله، ولا يُدرك جلاله، ولا يُحدّ جماله. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعالى عن وصف الواصفين، وتقدّس عن مشابهة المخلوقين، وتنزّه عن صفة المحدودين. وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله أرسله هدىً لمحو الضلال، وعدلاً لإزاحة الجور، ودليلاً يُنقذ من التّيه، وقائداً لا يكبو، ونوراً لا يخبو. اللهم صلّ على عبدك ورسولك الأمين محمّدٍ وآله الطاهرين.
عباد الله أوصيكم بعد نفسي الأمارة بالسوء ، الميّالة للهوى بتقوى الله الذي له مردّ العباد، وأن نستعين بالصلاة والصبر في الطريق الطويل الشائك، من مجاهدة النفس، وهو طريق يكثر المتساقطون فيه، والهلكى ممن يعجز عن مواصلة الطريق، فينقاد لهواه، ويستسلم لرغائب الدنيا، وينساق لدوافع الشّهوة، أعاذنا الله من صرعة الهوى، ومذبح الشّهوة، والمصير إلى السّعير.
أمّا بعد أيّها المؤمنون والمؤمنات: فاليوم عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل، والحساب ثقيل، والجزاء كبير، فطوبى لمن ثقل حسابه اليوم لنفسه، ليهون عليه الحساب بين يدي ربّه، (فلنسئلنّ الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) 6/الأعراف.
(فلنقصنّ عليهم بعلم وما كنّا غائبين) 7/ الأعراف.
سؤال الله عزّ وجل لعباده كلّ عباده، هو سؤال محاسبة، وليس سؤال جهل، وهو أعلم بما فعلوا، أعلم بكلّ غائبة، بكلّ ما في الصدور، إنّه سؤال المحاسبة الذي يترتّب عليه تحديد المصير، ما أصعبه من حساب، حساب إمّا أن ينتهي بالعبد إلى جنّة، أو ينتهي بالعبد إلى النار، وهي نار أبد، وهي نار خلود.
إنّه َلتأكيد (فلنسئلنّ الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين) . والسؤال أدّى المرسلون رسالتهم بدقّة بالغة أم لم يؤدّوا، استجاب المرسل إليهم لنداء المرسلين أم لم يستجيبوا، تحمّلوا الأمانة بكلّ صبرٍ ومجاهدة أم نكصوا عن ذلك، نجحوا في امتحان الدنيا أم رسبوا، استجابوا لهوى النفس ونداءات الضلال التي يطلقها شياطين الأرض، والمستكبرون الطغاة أم كانت استجابتهم لنداء الله العزيز الحكيم، (وقفوهم إنّهم مسؤولون) 34/الصّافات.
مساءلة الدنيا تثقل على النفس، وكلّما تحرّجت المساءلة، وكلّما كان أمر المسؤول مكشوفاً للسائل كلّما أرهق النفس ذلك بصورة أشد، فكيف هي بالمساءلة التي يترتب عليها أن يعيش الإنسان نعيما أبديا أو شقاءا أبديا؟! وكيف هي المساءلة بين يدي العزيز الجبار ملك السماوات والأرض؟! وكيف هي المساءلة ممن يعلم من النفس كلّ دقيقة وكل خلجة، وكلّ خاطرة؟! ما أرهقها من مساءلة، وما أجدر بالعبد أن يكون حسابه كلّ حسابه ليوم تلك المساءلة، وما يترتب على تلك المساءلة. كلّ أحداثكم هنا في الحياة الدنيا على عظمها صغيرة، وكلّ المحن هنا في الدنيا على قساوتها سهلة. حين تقاس الدنيا بكلّ مصائبها و كوارثها إلى اليوم الآخر لا تعد شيئاً ، وكلّ الرغائب، وكلّ الخيرات في الدنيا هنا شيء تافه، حين تقاس إلى نعيم الآخرة، اتّجهوا عباد الله إلى الله، واحسبوا حسابكم ليوم يقوم فيه الحساب، (فوربّك لنسألنّهم أجمعين. عما كانوا يعملون) 92-93/الحجر.
ليس العمل اليدوي فقط، ولا حركة الرجل فقط، إنّما كلّ حركة من حركات الخارج، وكلّ حركة من حركات الداخل، يتناول الحساب النيّة، يتناول الحساب الطموح، يتناول الحساب البغض والحب، يتناول الحساب الخوف الذي كنت سبباًُ في تخلّقه بتقصيري، يتناول كلٍّ رغبة، يتناول كلّ مشتهى كانت لي فيه مقدمة من المقدمات الموصلة أو الإعدادية التي يصحّ في العقل أن يتحمّل الإنسان النتيجة المترتبة عليها. (فوربّك لنسألنّهم أجمعين. عما كانوا يعملون). (اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم وأطيعوا الله ولا تعصوه…)
نعم تكبر المسؤولية وتتعاظم بالنسبة لمن يرعى غيره، الإنسان في مسؤوليّته أمام نفسه يتحمّل عبئاً كبيراً، فكيف إذا امتدّ العبء إلى العائلة؟ وكيف إذا امتدّت المسؤوليّة إلى الجماعة؟ وكيف إذا كان الإنسان في موقع الحكم وكان حاكما؟ كم يتحمّل ظهر الحاكمين من أوزار، وكم يتحمّل ظهر الحاكمين من مسؤوليّات ضخام، وكم يقف الحاكمون بين يدي الله العزيز الجبار أذلاء مثقلين بأوزارهم الناتجة عن التقصير، وحتى الناتجة عن القصور الذي لم يعبؤابه وتسلّقوا إلى المناصب وهم لا يستطيعونها، هذا الحاكم مسؤول عن كلّ نفس تقع تحت مسؤوليّة حكمه، وعن كلّ بهيمة، وعن كلّ شجرة، وعن كلّ قطرة ماء، وعن كلّ حبّة رملٍ، وعن كل ثروة، مسؤول أن يقوم بالدور الخلافي الصحيح بالنسبة للإنسان، بالنسبة للأشياء، بالنسبة للحاضر، بالنسبة للمستقبل، عليه أن يرعى أمانات الله، ومن يستطيع أن يرعى أمانات الله في نفسه بدقّة حتى ينهض بأمانات الله في الحدود الواسعة التي تشمل الكثير من الإنسان والكثير من الثروة، والكثير من الأشياء، إنّ الله تعالى سائل كلّ راع عمّا استرعاه، حفظ ذلك أم ضيّعه، فويل لمن قصّر في مسؤوليّة الحكم، وويل لمن ضيّع أمانات الله، وويل لمن طلب منصباً ليتحمّل مسؤولية الناس وهو لا يستطيع.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمد، وتجاوز عنا، ولا تعسّر علينا الحساب، ولا تفضحنا يوم المعاد، واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وارحمنا يوم يقوم الأشهاد.
بسم الله الرحمن الرحيم.
(ويلٌ لكلّ همزة لمزة، الذي جمع مالا وعدده، يحسب أنّ ماله أخلده، كلّا لينبذنّ في الحطمة، وما أدراك ما الحطمة، نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، إنّها عليهم مؤصدة، في عمد ممددة).
الخطبة الثانية
الحمد لله القهّار الجبار، الملك الحقّ الحيّ الذي لا يموت. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يقوم له شيء، ولا يردّ قضاءه شيء، ولا يشاركه في حكمه شيء، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله نبي لا نبي بعده، ولا ناسخ لشريعته، ولا بديل عن دينه، ولا إيمان إلا بالتسليم بقوله وفعله وتقريره. اللهمّ صلّ وسلّم على محمّد وآل محمّد وزدهم من تحيّاتك المباركة، ومن بركاتك الغامرة، ومن عطاياك الهانئة.
عباد الله اتقوا الله واعلموا أنّ أهل الحقّ يموتون، وأنّ أهل الباطل يهلكون، ولا يبقى من أهل سماء ولا أرض مخلوقون، إنّما البقاء لله وحده الحيّ القيوم. فكلّ حيّ ممن خلق الله وما خلق مستنفذٍ حياته، مستوفٍ مدّته، ملاق منيّته، ولكن شتّان بين من لقي ربّه مؤمناً مفلحاً، وبين ملاقيه كافراً منتكساً. فلا تختاروا كفراً على إيمان، ولا معصية على طاعة، ولا الدنيا على الآخرة، ولا تطلبوا عزّة من مخلوق فيذلّكم الخالق، ولا رفعة من عبد فيضعكم الرب.
اللهم صلّ على أمينك المصطفى ، محمّد وآله الشرفاء، اللهم صلّ وسلّم على إمام المتّقين عليٍٍ أمير المؤمنين. اللهم صلّ وسلّم على فاطمة المعصومة الزهراء التقية النقية. اللهم صلّ وسلّم على إمامي المسلمين سبطي رسول الله صلى الله عليه وآله الحسن والحسين، اللهم صلّ وسلّم على الهداة الميامين أئمة الدنيا والدين علي بن الحسين زين العابدين ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمّد الصادق وموسى بن جعفر الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد بن علي الجواد وعلي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري أوليائك العاملين وعبادك الصالحين، اللهم صلّ وسلّم على محقّق العدل والأمان محمد بن الحسن إمام العصر والزمان.
اللهمّ عجّل فرجه وسهل مخرجه، يا كريمً، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً يسيراً، وطهّر به الأرض تطهيراً، ومكّن له تمكيناً. اللهمّ ناصره والممهد لدولته انصره وادرأ عنه وأعزّه وأعزز به المؤمنين ، والفقهاء العاملين الصالحين أيّدهم واحفظهم سنداً للإسلام والمسلمين.
أما بعد فالحديث في قضايا من قضايا الأمة والوطن.
1. إنّ تمرير الجرائم الصهيونية البشعة بالصورة التي تمّت وتتم مأساة شعب وهي معروفة، ومأساة أنظمة عربية وإسلامية وهي ماساة هزيمة أو خيانة وتآمر، ومأساة قصور أو تقصير، ومأساة أمّة، أمّة على كثرتها، أمّة على قوّتها، أمّة على شدّة وفرة مخزونها الحضاري، ومخزونها المادي، وحجمها الثقافي، وضخامة رصيدها الإسلامي، حين تنهزم، وحين تُسحق على يدي شراذمة من بني صهيون. تغتصب هذه الشراذم الأرض، وتقتل النفس، وتبيد الحرث، وتقطع النّسل، وكلّ ذلك مأساة ولها منبعها، منبعها الواضح الرئيس هو بُعد الأنظمة في الأمة الإسلامية عن خطّ القرآن والإسلام، والتربية المايعة على عيني الغرب الكافر المايع على فرق بين أمّة كافرة يمكن أن تميع وتهتمّ بدنياها، وبين أمّة إسلامية لا بدّ أن تنشطر، ولا بدّ أن تتذبذب حين يُراد لها أن تنحدر عن خطّ عزّتها وكرامتها، عن خطّها الصاعد الذي تؤمن به من أعماقها وإن وقف قطّاع الطرق أمام رحلتها إلى الله فقطعوا هذه الرحلة الشريفة إلى الله على الأمة، ومأساة عالم يحكمه نظام طاغوتي فاقد للقيم ، تقوده دولة لا تسمع صوت عقل ولا دين ولا ضمير.
2. إنّ الأنظمة الرسمية في اتجاه، والشعوب في اتجاه آخر فالأمة على مستوى الشعوب شارعاً ونخباً تُؤمن بالمقاطعة لإسرائيل والأنظمة تنادي بالتطبيع. الشعوب مع الجهاد والأنظمة مع توقيع معاهدة سلام يفرض شروطها شارون والبيت الأبيض، على أنقاض الوجود الفاعل في فلسطين. الشعوب تتظاهر تضامناً واحتجاجاً، والأنظمة تقمع وتطارد وتسجن وتقتل لصالح إسرائيل وأمريكا. الشعوب تطالب بفتح الحدود للجهاد، والأنظمة تحسب لأمريكا ألف حساب.
3. سمعتم أنّ أوروبا قالت ولو للدعاية والإعلام بأنّها تفكر في فرض نوع من العقوبات على الموقف الإسرائيلي المتعنّت، وكان لكلّ من البرلمان الأوروبي ولو في وقت متأخّر وبلجيكا موقف إيجابيّ جيّد، وبعض الدول العربية التي لها علاقات مكشوفة مع إسرائيل يعزّ عليها ويعزّ، وترفض وترفض أن تفرّط بها.
4. أيرمى بعرفات جانباً حيّاً أو ميّتاً؟ وفي ذلك عبرة للأنظمة وللزعامات الشعبية العميلة إن كان ، أم يُحتفظ به لتعزّ مكانته من جديد؟ وفي ذلك درس للحركات والشعوب إذا حدث، فهذا يقول لها لا تسيري وراء غير راية دين، ووراء غير راية تقوى، ووراء أيّ زعيم لا يأخذ أوامره ونواهيه من الله.
5. أنا لا أنطلق في التذكير للمسيرات بالمحافظة على الممتلكات العامة والخاصة، وضبط الشعارات والنأي بها عن التحرك خارج الهدف من منطلق الأخلاقية التحضرية، فإنّ الحضارة المادية السائدة هي التي ترتكب المجازر في الآمنين وتُثكل وتيتم وتسحق لتنهب وتذل وتستضعف الشعوب وتستعبدها. المنطلق الصحيح لمثل هذا التذكير هو مراعاة الحكم الشرعي الذي نؤمن به في صورته الأولية والثانوية، وما يقتضيه التفكير الصحيح والعقل السليم من المناسبة بين الوسيلة والهدف. منطلقنا أحفظ للحرمات، من منطلق أوروبا، إذا كان المتحضر في أوروبا ينطلق في المحافظة على بعض الأشياء من منطلق تحضره، وتحضره لا يمثل أرضية أصلاً لرعاية الحرمات، فإننا ننطلق من منطلق قوي ، ويقوم تورعنا على أرضية متماسكة صلبة، هي أرضية الإيمان ومراعاة الحكم الشرعي الإلهي، وإنه كلما كان علينا أن نذكر الشعب بالمحافظة على الأموال الخاصة والعامة كان علينا أن نطالب الجهة الرسمية باحترام النفوس والدماء الطاهرة. وحرمةُ المال دون حرمة الأنفس بكثير، وإنه ليهمنا أن لا تنتقل حالة الإنكار على الجرائم الصهيونية إلى شقاق داخلي يضعف الجميع.
6. الشهيد محمد جمعة وملايين الشهداء من أبناء الأمة ، ممن استشهدوا ، وممن هم على الطريق يهنؤهم ، ويهنئ ذويهم، ووطنهم أن يفوزوا بوسام الشهادة، ويبذلوا دمهم ثمناً لحياة الدين، وعز الأمة، وحفظ كرامتها. وإنه لشهيد مظلوم رفع من مستوى شرف البحرين وكرامتها بما نال من درجة الشهادة في سبيل الله ونصرة دينه، وقضية أمته أمة الإسلام والإيمان. والتحقيق الجاري في قضية الشهادة والموضوعات الأخرى الملابسة لها يعد ناقصاً ما دام من جهة واحدة.
7. صار مطلب الترحيل للسفير الأمريكي مطلباً عاماً للشارع بسبب إهانته البالغة لمشاعر هذا الشعب المسلم وازدرائه له. وهو مطلب طبيعي جداً بعد هذه السخرية المهينة.
8. المقاطعة للبضائع الأمريكية لن تكون ضاغطة إلا باستمرارها ما دام التجاهل الأمريكي لقيمة هذه الأمة.
9. الوزير الإسرائيلي بلا حقيبة وزارية يعرّض بالعرب الرسميين تعريضاً لاذعاً جداً ولكنه مع الأسف الشديد صادق. يقول بأنهم (أي الاسرائيليين) والأمريكان أصدقاء. ولذلك سيتناقشون ولن تحاسب أمريكا إسرائيل، ولن تفرض أمريكا نفسها على إسرائيل، ولن يكون القرار الأمريكي حاكماً على القرار الإسرائيلي، ذلك لأنهم أصدقاء، أنداد، الكل منهم يقف على مستوى واحد، وكل منهم كفء للآخر، وماذا يريد أن يقول هذا الوزير بالنسبة للعرب الرسميين؟ يريد أن يقول أما العرب فعبيد لا يناقشون، وإنما يفرض عليهم السيد إرادته.
اللهم صل على البشير النذير والسراج المنير عبدك المصطفى محمد وآله أهل الوفاء واغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ولأرحامنا وجيراننا وذوي الحقوق الخاصة علينا، واجعل ذلنا لك، واستكانتنا لعزك، وثقتنا فيك، وانتصارنا بك، وسعينا في سبيلك، وأنقذنا من كل سوء، وأخرجنا من كل ذل، وكد لنا ولا تكد علينا يا رؤوف يا رحيم.
{إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}