خطبة الجمعة (53) 22 محرم 1423هـ ـ 5-4-2002م
مواضيع الخطبة:
القسم في القرآن-التكليف الشرعي للمؤمنين ومسؤوليتهم اتجاه فلسطين المغتصبة
إننا ضدّ مشاريع الاستسلام والتّطبيع الخانع بكلّ أشكالها وصورها…. ضدّ استعباد الأمّة والسّيطرة الأمريكية على مَقْدراتها ومقدّراتها باسم الصّداقة الأمريكية العربية أو الإسلامية… ضدّ سلبية الأنظمة الرسمية في القضايا المصيرية لحاضر أمتنا ومستقبلها
الخطبة الأولى
الحمد لله المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ولا يحيط به شيء، المحتاج لرحمته كل شيء، وهو الغني عن كل شيء. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا معبود سواه . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله إلى الحق داعياً ، وبالصدق ناطقاً ، وبالعدل منادياً ،وإلى النجاة هادياً .صلى الله عليه وآله الشرفاء النجباء .
عباد الله اتقوا الله وذودوا أنفسكم عن حرماته فإنه سبحانه ما حرّم إلا ما أضرّ ، و”قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون” . وما من طريق للوقاية من عذاب الله وغضبه غير طاعته ، وليس لأحد مفرٌ مما أوجب على العاصين من عقوبته ، ولا يجد أحد فرصة غير فسحة الحياة لتدارك ما فرط ، وأهمل من حق ربه . فاغتنموا الفرص فإنها تمرّ مرّ السحاب ، وهل الحياة كلها إلا سحابة عابرة ؟!تمر فتعقب أما حسرة وندامة تطول ، وأما غبطة وسروراً يدوم .
أما بعد فنقرأ سورة التين لنقف عندها متعلمين :
(( بسم الله الرحمن الرحيم والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين ))
هذا قسمٌ من الله عز وجل بعدد من الأمور ، منها ما ظاهره أنه مادي، ومنها ما ظاهره أنه معنوي ، وربما أريد للقسم أن يكون بما يجمع بين المادة والمعنى ، وفي كل شيء لله آية .
(( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجرٌ غير منون فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين ))
كم من تأكيدٍ في المُقسم عليه ؟ كم أكّد الله سبحانه وتعالى على القضية التي أقسم عليها ، القسم مؤكدِّد ، اللام الداخلة على الجملة مؤكِّد آخر ، ” قد ” التحقيقية مؤكدٌ ثالث ، إسناد الفعل ” خلقنا إلى ضمير الجمع وهو يعني هنا العظمة والعزة والإحاطة والخبرة ،وكل ذلك يعني أن المقسم عليه حقٌ وصدق ، لأن المًُقسم عليه هو فعل القادر الحكيم العزيز المحيط العليم الخبير ، فحشد من المؤكدات هنا .. كل ذلك من أجل تثبيت هذه القضية في وعي الإنسان، في قلبه، في مورد سلوكه،و عسى أن يهتدي ، عسى أن يتذكر ، عسى أن يرشد ، عسى أن يستثمر حياته فيما ينبغي أن تُستثمر فيه الحياة .
ما هو المُقسم عليه ؟
(( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم )) أنت خُلقت بيد القادر المبدع في أحسن تقويم ، لك من القوى والطاقات والمواهب ، ومؤلفات الوجود ما ينتهي إلى وجودٍ متناغم متناسق ، إلى منظومة تعيش التلاحم ، تعيش التوافي ، تعيش التناغم ، هذا أنت بطبعك ويبقى شرطٌ واحد لبقاء هذا التناغم ، وهذا الائتلاف ، وهذه الاستعدادات الهائلة التي من خلالها أن تبلغ ما لا يبلغه مخلوقٌ آخر .
(( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم )) فليس من ثلمةٍ في وجودك ولا نقصٍ أن تسقط ، وليس من خلل في خلقتك أن تنتهي إلى سفل ، حين تنتهي إلى سُفْلٍ . فإنما تنتهي بإرادتك وتفريط منك، وعلى خلاف ما أهلت له ورزقت من الاستعداد ما يبلغك إياه ، لقد (( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم )) هذا وضعك فهو مؤهل للرقي والسير الصاعد .
((ثم رددناه أسفل سافلين )) هذا داخلٌ أيضاً في المُقسم عليه ، المُقسم عليه ليس الجملة الأولى فقط في الظاهر ، وإنما القضية الثانية أيضاً داخلةٌ في المُقسم عليه ، ويُقسم الله العزيز الحكيم بكل ما تقدّم من أقسام ، والقسم المؤكد على أن هذا الإنسان يرد إلى أسفل سافلين ، يسقط إلى ما لا يسقط إليه الحيوانن، ينتهي إلى شيء خسيس دنيء قذر ، إلى وجودٍ ضار في الحياة ، إلى مادة ينصبّ عليها العذاب في الآخرة ، إلى حجرٍ من أحجار جهنم (( وقودها الناس والحجارة )) ..
الإنسان من وصفه أنه على أحسن تقويم ، مع هذه الاستعدادات الهائلة ، مع هذا الوجود المؤهل الكبير إلا أنه ينتهي في الأخير إلى أسفل سافلين ، إلا أن يتوفر على هذا الشرط ، شرط أن يثبت على منهج الله في داخله وفي خارجه ((إلا الذين آمنوا )) .خلقة ومنهج ، قابلٌ وشرط ، أنت صحيح قابلٌ للكمال لكن لا يمكن أن تبلغ كمالك على طريق غير طريق الله ، ولا من خلال منهج على خلاف منهج الله ، ما هو منهج الله ؟ منهج الإيمان ، الإيمان القائم على الفطرة القائم على العلم ، القائم على الموضوعية ، القائم على صفاء الداخل ، على سلامة جهازك الروحي … أنت عندما تحافظ على أشرف أجهزة وجودك وهو جهاز الروح والعقل ، بألاّ تسد منافذ الروح بالقذارات ، و بألاّ تسد منافذ العقل بالجرائم ، فأنت لا بد أن تهتدي بهدى الإيمان ، وأنت لا بّد أن تؤمن بالله العلي العظيم ، وأنت لا بد أن تشدك روحك ، و لابد أن يشدك عقلك ، ولا بد أن يشدك وجدانك إلى الكمال الإلهي ، فتكون حينئذٍ المؤمن المخلص في إيمانه ، وهذا الإيمان في الداخل يطفح سلوكاً وفاعليَّة قادرةً ، وحركةً دؤوبةً مصلحة في الخارج (( و عملوا الصالحات )) بهذا فقط ينجو الإنسان ، عن أي طريق آخر لا يكون إلا السقوط ، لا تكون إلا النهاية المخزية ، لا تكون إلا الفجيعة المؤلمة ، لا يكون إلا الندم والحسرة ، (( إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات فلهم أجر غير منون )) غير منقطع ، ما هو هذا الأجر غير المنون ؟؟ إنه كمالك ، أجرك الذي يعطيك ارتباطك بمنهج الله ، بخط الله سبحانه وتعالى ، أنك تكمل ، أنك تتبلور ذاتاً إنسانيةً صافية ، أنك تكبر في داخلك بصورة لا يتسع لها الكون المنظور ، أنك تكبر في داخلك حتى لا يمكن للدنيا أن تشتري منك لحظة من العمر ، أنك تنضج ، أنك تهتدي ، تبلغ الغاية ، وأشرف غاية للإنسان أن يعيش معرفة الله ، أن يعيش نعيم الالتذاذ بمعرفة الله ، بذكره ، أن يشعر بأنه أثرٌ للكامل سبحانه وتعالى ، وأنه مرضيٌ عند الله ، هذا الأجر الذي يستتبع كل لذةٍ مما تفكرون وتتصورون من غير أن تكون هدفاً ، ومن غير أن تكون محل القناعة ، لا يقنع المؤمن بعد أن يكون مؤمناً حقاً إلا أن يشعر بأنه مرضيٌ عند الله ، لا يقنع المؤمن أن يسكن القصور ، وأن يتزوج الحور ، وأن يكون له ما يكون إذا لم يشعر بأنه مرضيٌ عند الله (( إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات فلهم أجر غير منون )) ..
(( فما يكذبك بعد بالدين )) هذا الدين الذي يوصلك إلى هذه النتيجة ، الدين الذي يعني العدول عنه السقوط الكامل الذريع ، الدين الذي يبلغ بك أقصى غاية تتمناها ، الدين الذي يتناغم مع فطرتك ، يتناغم مع الرصيد الإيجابي في داخلك ، الدين الذي لا يبعثر لك وجودك ، وإنما يحفظ لك وجودك وينمّيه ويزكيّه ، ما يكذبك بهذا الدين ؟ أليس من السخف ؟ أليس من الجنون ، أليس من نسيان المصلحة ؟ أليس من سفاهة الذات بعد هذا أن تكذب بالدين ؟
الدين المنهج الوحيد الذي ينقذ لك حياتك ، والذي يثمن لك حياتك ، والذي ينتهي بحياتك إلى أكبر نتيجة ، وهو الدين المكتوب عليك من الله ، والدين هنا إما الجزاء وإما المنهج ، وربما اختير أن المعنى المنهج وهو الملة ، انسجاماً مع السياق . هذا الدين الذي يبلغ بك كل هذا ، ما يكذبك به ويجعلك تبحث عن رأسمالية أو اشتراكية ؟ أو نظرية مهلهلة من شرق أو غرب أو من داخلٍ موبوء ..
(( أليس الله بأحكم الحاكمين )) أيسع لك أن تكذّب الدين وهو من عند الله أحكم الحاكمين ؟؟ ويسع لك أن تكذّب النتيجة وهو الإنتهاء إلى أسفل سافلين ، عندما تنفصل عن الدين ، والإنتهاء إلى الأجر الدائم غير المنون والذي هو فوق كل أجر تتصوره ، عندما تبيع حياتك للدين .. (( أليس الله بأحكم الحاكمين )) أو يكون في دين الله ثلمةٌ وهو من الله ؟! (( أليس الله بأحكم الحاكمين )) و لماذا كان أحكم الحاكين ؟؟ لأنه الله ، الذات المقدسة التي تستجمع كل صفات الكمال والجلال ..
اغرسوا في أنفسكم في قلوبكم ، في عقولكم ، حقيقة أن الله أحكم الحاكمين ، فلا يُكذّب ما يجيء من عنده ، بيعوا حياتكم لله تربحوا أيها المؤمنات والمؤمنون.
اللهم صل على عبدك المصطفى منارة الحق والهدى ، ودليل النجاة والزلفى ، وآله أهل الطاعة والتقوى ، واجعلنا ممن آمن واستقام ، وصدّق بالحق وعمل به ، وكفر بالباطل وتجنبّه ، واغفر لنا ذنوبنا وكفّر عنا سيئاتنا ,آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، وتوفنا مع الأبرار ، واغفر لإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ، ولوالدينا وارحمنا ولكل ذي حق خاص علينا يا غفور يا رحيم .
(( بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ))
الخطبة الثانية
الحمد لله كما هو أهله حمداً كثيراً لا أمد له ولا انقطاع؛ جلّت نعمه، وعظمت آلاؤه، وعمّت رحمته، ونطقت الخلائق بإحسانه. أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له. أحد صمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله؛ اصطفاه بعلمه اصطفاء حكيماً، وأكرمه من جميل فضله إكراماً عظيماً، وأنعم عليه بمنّه انعاماً جسيماً. صلى الله عليه وآله وسلّم تسليما.
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله، والتراحم، والتناصح، والتواصي بالحقّ، والتواصي بالصبر، وأن نكون يداً واحدة في الخير، وقوّة واحدة على الشرّ، لا يستقطبنا إلّا منهج الله، ولا نقتدي إلّا بمن رضي، ولا نجتمعُ إلّا على محبّته، ولا نستضيءُ إلّا بهداه، ولا نعدل بالحقّ شيئاً.
اللهم صلّ وسلّم على عبدك ذي المآثر والمفاخر، رسولك الزّكي الطاهر، خاتم النّبيين محمّد الهادي الأمين وآله الطاهرين. اللهم صلّ وسلّم على يعسوب الدّين وإمام المتّقين عليٍ أمير المؤمنين. اللهم صلّ وسلّم على أمّ السبطين، وملتقى النّورين، الطاهرة النوراء فاطمة الزهراء. اللهم صلّ وسلّم على الوليين التقيين، والقمرين الزاهرين إمامنا أبي محمد الحسن وإمامنا أبي عبد الله الحسين.، اللهم صلّ وسلّم على الاصفياء الأولياء والأئمة الهداة النجباء علي بن الحسين السجاد ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمّد الصادق وموسى بن جعفر الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد بن علي الجواد وعلي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري الأتقياء السعداء. اللهم صلّ وسلّم على القائد المؤمل والعدل المنتظر، والإمام المؤتمن، والمنقذ المرتقب محمد بن الحسن الأغر. اللهم عجّل فرجه، وسهّل مخرجه، وافتح له فتحاً يسيراً، وانصره نصراً عزيزاً، وبارك أيّامه، وضاعف إكرامه يا كريم. اللهم الآخذ بطريقته، والممهّد لدولته أيّده وسدّده واكفه ما أهمّه، وجنّبه ما يسوءه، وبلّغه مأموله، والفقهاء العاملين الصالحين أيّدهم وسدّدهم وأعزّ جانبهم يا قويّ يا عزيز يا رحمن يا رحيم.
أمّا بعد أيّها المؤمنون والمؤمنات فإنّ للإيمان تكاليف باهضة لا يسع مؤمناً أن يتخلّى عنها، ويدير ظهره إليها منها ما يحمّله هذا الخطاب الإلهي من مسؤوليّة للذين آمنوا (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)
والمؤمنون اليوم أمام معركة ضارية تستهدف طرد شعبٍ مسلم من أرضه، وهي تحصد في طريق هذا الهدف الإجرامي المسلمين كباراً وصغاراً ،ذكوراً وإناثاً ،مجاهدين ومدنيين من غير حساب، وتنكّل بالآمنين أشدّ تنكيل في صور مرعبة وأشكال رهيبة. المؤمنون والمسلمون اليوم أمام حالة من حالات الدفاع عن الأرض والمال والنفس والعرض فكلّ ذلك يتعرض للعدوان وكلّ ذلك يواجه صوراً من الفتك والسّحق. وحالة الدفاع هي حالة استنفار لكلّ قوى الأمّة وقدراتها إلى الحد الذي يدفع العدوان، وتأمن به الأرض، والأنفس، والأموال، والأعراض والمقدّسات، ويعيد الحقّ إلى نصابه كما تُجمع عليه فتاوى الفقهاء، وتقرّره واضحات الشّريعة. والدفاع جهادٌ موضوعه عدوان ابتدائي يتوجّه إلى المسلمين وأرضهم ومقدّساتهم، فيتوجّب عليهم ردُّه بما هم أمّة، فإن تأدّى على يد جماعة معيّنة سقط الوجوب عن الجميع، أمّا إذا لم يكفِ المدافعون واستعداداتهم للرّدّ على العدوان وإيقافه نهائيّاً، وتصحيح الوضع بالكامل، فالأمّة كلّها مخاطبة بنصرتهم حتى تؤدي عملية الدفاع كامل أغراضها، وإن لم تفعل وهي قادرة فهي آثمة، وكل من أبنائها معاقب بحسب تفريطه. وإنّ الأمّة اليوم لتقف وجهاً لوجه أمام هذه الخطابات الإلهية الحاسمة:
(انفروا خفافاً وثقالاً) منكم من تسمح له ظروفه بأن يندفع ، يتحرّك في سَرَاع إلى الجهاد من غير معاناة، ومنكم من تُثقل ظروفه خطاه، إلا أنّ على الجميع من سهلتُ حركته، ومن صعبت أن يتحرّك في حالة من ال المستميت، وخاصة إذا كانت المسألة مسألة دفاع بأن00000 كان العدوّ مبتدئاً غازياً (انفروا خفافاً وثقالا..) لا الجهاد (..وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله..) وغير الأموال وغير الأنفس، من ولد ومن رحم ومن قريب ومن صديق (.. وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) ولا يكن هذا الجهاد غطرسة، ولا يكن هذا الجهاد للظهور الشخصي، ولا حماية عن الوطن بما هو وطن فقط، إنما بما هو وطن إسلامي، وكلّ شبرٍ من الوطن الإسلامي له قدسية، وكلّ حبّة تراب من الوطن الإسلامي لها قدسية عند الله ورسوله لا بما هي حبّة رمل وإنما بما تملكه من وظيفة فعليّة في خدمة الدين وفي أداء الدور الخلافي هنا في الأرض عن الله (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) وإنّما تستحقّون النصر حينما يكون جهادكم في سبيل الله (..ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) خسارة الأموال، وخسارة الأنفس، الاضطراب الأمني، فقد الراحة، المعاناة الصعبة، الثكل، التيتم، شتى الآلام، كلها ثمن رخيص للنصر الذي يخدم دين الله، الذي تأمن به السبل، الذي ينتشر به العدل، الذي تتمكن من خلاله الاطروحة الإسلامية ، أن تؤدي دورها على الأرض، ودورها دور إيجابي دائم، دور عادل، دور متقدم، دور صناع للإنسان، لرقي الإنسان، لتقدم الإنسان، لإنسانية الإنسان.
هناك موقع كبير للأنفس وحرمة كبيرة للأنفس في الإسلام، الأنفس مقدمة على الأموال، الأعراض مقدمة على الأموال، ولكن دين الله مقدم على كل شيء، وعزة الأمة الإسلامية بما هي أمة إسلامية مقدمة على كل شيء، أن يبقى النور الإلهي في الأرض مربياً صانعا، هو أهم من الأنفس، أهم من الأموال، أهم من كل شيء. ليس هناك دم أغلى من دم الإمام الحسين (ع) في وقته، وليس هناك بيت له من القدسية ما لبيت رسول الله (ص)، ولا حرمة أكبر من الحرمة الثابتة لبيت النبوة ،وللفاطميات يوم كربلاء، إلا أنّ كل ذلك قد رخص في سبيل الله، ومن أجل الحفاظ على دين الله.
{ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} ولو علمنا لانكشف الأمر لنا، لكنها السذاجة، ولكنها الغفلة التي تجعلنا نطلب الراحة بالذل، ونطلب العيش الرغيد ببيع دين الله.
(يا أيّها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلّا قليل)
تضع الآية الكريمة أيدينا على خلفية التقاعس، على خلفية الخوف في داخل أنفسنا، على خلفية الجبن، على خلفية التخاذل أمام أعداء الله، ما هي الخلفية؟ هي الارتباط بالحياة، تقديم الحياة على الآخرة، لأننا لا نعرف قيمة الآخرة، لأننا لا نذكر الله، لأننا لا نعرف أنفسنا، لو عرفنا أنفسنا ما بعناها بأي ثمن، لو عرفنا الله عز وجل لما ارتعدنا أمام طاغوت، لو عرفنا قيمة الآخرة لزهدنا في الدنيا حتى لو لم تكن ثمناً للآخرة، فيكف بها في ما يراد بنا أن تكون ثمناً لآخرتنا؟
{يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله} أفقدتم وعيكم؟ أفقدتم حسكم الإيماني؟ أنسيتم ذواتكم؟ أنسيتم ربكم؟ أنسيتم مستقبلكم؟ أنسيتم عزتكم؟ اثاقلتم إلى الأرض؟ رضيتم متاع الدنيا من الآخرة؟ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. الله يكشف لنا الواقع، الله يكشف الغطاء عن الحقيقة، فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل، قليل مزهود، قليل لا يلفت النظر، قليل لا يستقطب النفس.
(إلّا تنفروا..) أمام إسرائيل، أمام كلّ غزو (إلا تنفروا يعذّبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم..) دين الله لا يتعطّل( ويستبدل قوماً غيركم ولا تضرّوه شيئاً والله على كلّ شيء قدير).
فوق هذا العذاب الذي يواجهنا به العدو إذا جبناّ ، إذا نكصنا، إذا تراجعنا نتوقع عذاباً أكبر وصفه الله عزّ وجل بأنّه عذاب أليم، ووصف الله عزّ وجل لا يرقى إليه وصف.
بعد هذا ، إنّ الحكومات لمسئولة أن تنتقل من ردّ الفعل على مستوى الإدانة اللفظية، ومناشدة أمريكا الصديقة العدوّة تخفيفاً لموجات الغليان الشعبية في الأمة، وتخديراً للأعصاب، وإقناعاً للجماهير بالموقف البطولي الزّائف إلى اتّخاذ مواقف عمليّة جادّة في مسألة الدّفاع، نحن لسنا أمام مسألة جهاد بالمعنى الاصطلاحي، نحن أمام مسألة دفاع بهذا المعنى، ونحن في حالة ردّ العدوان، ولسنا في حالة فتح بلاد أخرى باسم الإسلام وتفعيل كلّ الآليات المتوفّرة في المعركة المصيرية المشتعلة. ولا يُقبل أبداً أن يتساوى ردّ الفعل من الأنظمة التي تضع يدها على قدرات الأمّة ، مع ردّ الفعل من الشّعوب المسلوبة كلّ شيء إلّا النزر القليل. الشعوب تُدين بإدانات لفظية ومظاهرات وباحتجاجات كلامية، وأيضاً موقف الحكومات هو الإدانة الكلامية؟! بيد الحكومات سلاح النفط – قطع العلاقات السّياسية والاقتصادية والثّقافية مع العدو الإسرائيلي – توظيف موقف سياسي موحد قوي للضغط على السياسة الأمريكية – طرح البديل الجاد لمبادرة السلام التي واجهتها إسرائيل بالاستخفاف والردّ الساخر من القمّة العربية – إمداد المجاهدين بالمال والسلاح في داخل الأرض المحتلّة – فتح الفرص لتدفق المجاهدين من أبناء الأمّة خارج فلسطين المغتصبة عليها – إيقاف الاستثمارات العربية في البلاد المساندة لإسرائيل – عدم التعاون العلني والسّرّي مع المشاريع الأمريكية في المنطقة والغزو الظالم للبلاد الإسلامية. والمعروف أنّ بعض الأنظمة العربية والإسلامية و إلى الآن تواجه وتمنع المظاهرات السلمية ضدّ إسرائيل في الوطن الإسلامي، كما أنّ كثيراً من بلدان العالم العربي والإسلامي لا زالت تتقرّب إلى أمريكا بتسليمها الصيد المسلمين الذين ترميهم أمريكا نفسها بالإرهاب توثيقاً لإخلاصها للسّيّد الأمريكي، وسياسته الرحيمة في بلاد المسلمين.
أما ما تملكه الشعوب فهو المقاطعة الشاملة لكلّ ما فيه دعم للاقتصاد الإسرائيلي ومنابع دعمه في أمريكا عدا ما قضت به الضرورة القصوى، والاستمرار في المظاهرات والمسيرات والاحتجاجات لتكون ظاهرة صارخة على مستوى الأمّة في وجه العدوان الإسرائيلي والاحتضان والدعم الأمريكي، والصمت الرسمي العربي والإسلامي فضلاً عن الصمت العالمي، ومن أجل تحريك الضمير العالمي الذي يعاني من التّبلّد والجمود. وتملك أن تسجّل رفضاً تاريخيّاً مستمراً وبقوّة لمخطّطات الاستسلام، وبيع الحاضر والمستقبل الإسلامي من أجل إيقاف المؤامرة الاستكبارية على أمتنا، وأن تحبط بمواقفها المبدئية محاولات التغريب الفكري والعملي التي تستهدف إسقاط هويّة الأمّة.
إننا ضدّ مشاريع الاستسلام والتّطبيع الخانع بكلّ أشكالها وصورها…. ضدّ استعباد الأمّة والسّيطرة الأمريكية على مَقْدراتها ومقدّراتها باسم الصّداقة الأمريكية العربية أو الإسلامية… ضدّ سلبية الأنظمة الرسمية في القضايا المصيرية لحاضر أمتنا ومستقبلها، وتآمر بعض هذه الأنظمة على واقعنا ومستقبلنا الإسلامي الكبير. ضدّ تهميش الشّعوب المسلمة وإلغاء إراداتها الإيمانية الفاعلة – ضدّ تعميم الشّعور بالضّعف والهزيمة وتركيزه في نفوس جماهير الأمّة وأجيالها الصّاعدة.
نحن نؤمن بقدرة أمتنا، وبعطاء جماهيرنا، ونؤمن بعظمة الإسلام الصنّاع للقدرات الهائلة، وتفجير الطاقات المخزونة، والقابليّات التي تعاني من الكبت.. .
نؤمن بأنّ أيّ ضعف طارئ على الأمة مردّه إلى قصور الأنظمة وتقصيرها، وليس لعظمة ذاتية تتمتّع بها إسرائيل أو أمريكا، أو غيرهما وتفتقدها هذه الأمة المجيدة الحيّة المعطاء. نؤمن بأنّ طريق النّصر يمُرُّ باعتراف الأنظمة بالشعوب وكرامتها ومخزونها الهائل، وإتاحة الفرصة لهذا المخزون أن يتحرّك فاعلاً على أرض الواقع من غير عوائق فئوية وطائفيّة ومصالح شخصيّة ضيّقة، ومن خلال أجواء النّمو الصالح، والتّعبير بإرادة حرّة عن الانتماء الحضاري الإسلامي القادر على الدفع بعجلة الأوضاع إيجاباً وبصورة مثمرة ثرة ملايين الأضعاف على ما عليه واقع سيرها فعلاً، وفي غياب فاعليّة هذا الانتماء وتجميده.
من جهة أخرى إننا نجيب على طلب سفير الولايات المتّحدة بوقفة حداد على القتلى الإسرائيليين بصبّ اللعنات على كلّ من تحرّكت قدماه من الإسرائيليين لإسالة قطرة دم زكي لمسلم يحامي عن أرضه وشرفه ودينه وكرامته.. ونقول للسفير المذكور أين وثيقة العبودية أو التبعيّة لأمريكا التي وقعها شعب البحرين لتنتظر منه أن يسمع أوامرك السامية بالترحم على المجرمين من قتلتنا، ومصاصي دماء الأبرياء من أبناء أمتنا؟! أنت كبير في موقعك الرسمي ، فليكن كذلك، ونحن أيضاً كبار في إبائنا وغيرتنا على ديننا وشعورنا بعظمة انتمائنا للإسلام، وعزّتنا بالله، وبأننا أمجاد وأبناء أمجاد وآباء لأمجاد لا ينسون قيمتهم الإيمانية أبداً.
يا أبناء أمتنا الغيارى إنّكم لن تعوّلوا في أيّ يوم من الأيّام على مندوبي الرّئيس الأمريكي للمنطقة ولا على الرئيس الأمريكي نفسه، وعلى طلبه لإسرائيل بالانسحاب. ولن تقدم أمريكا ولا أوروبا على أيّ خطوة في صالح قضيّتنا إلا اضطراراً تحت وطأة الضّغط من جماهير الأمة وقواها الشعبية الفاعلة، ولإنقاذ مصالحها، والحفاظ على مدلّلتها إسرائيل. إنّه لا يحسن الظن بأعداء الأمة… ولعلّ مخطط استئصال الإسلاميين من فلسطينيين ولبنانيين هو الذي يجري تنفيذه الآن، وكذلك القوى الوطنيّة والقومية بتواطئ له أطرافه المعينة، تمهيداً لضربة العراق وضربات أخرى موجعة للأمة في جوّ خال من المقاومة والتّصدي هنا أوهناك.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمد وغيّر سوء حالنا بحسن حال من عندك يا كريم، وانصرنا على أشرار الأرض ، وشذّاذ الآفاق الغاصبين لأرض الأنبياء ، ومهد الرسالات ، ومدنسي الأقصى ، ومن وراءهم من قوى الشّرّ والعدوان في الأرض يا قويّ يا عزيز، يا جبّار يا شديد. اللهم اغفر لنا ولإخواننا في الإيمان والإسلام ولكلّ ذي رحم وذي حقّ خاص علينا ولوالدينا من المؤمنين والمؤمنات أجمعين.
(إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكرون).