خطبة الجمعة (43) 11 ذو القعدة 1422هـ – 25-1-2002م
مواضيع الخطبة:
الاسرة في الإسلام..صلة الرحم (5)
– هدف الحضارة المادية إلغاء هوية الأمة –
فقد الكفاءة والأمانة – خلل في العملية
البرلمانية
إن التصفيات الجسدية التي قد تحصد باسم محاربة الإرهاب كثيراً وكثيراً من أبناء الشعوب لهذه الأمة، في صورة مطاردة للأفراد والجماعات، وحروب شاملة تشن على الأوطان المسلمة، إن هي إلا مقدمة لمحاولة استئصال ثقافي، واجتثاث حضاري
الخطبة الأولى
الحمد لله العليم الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهو بكل شيء محيط، وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم، أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، ولا مثيل ولا شبيه، متفرد بوحدانيته، متنزه عن مماثلته ومشابهته، وأنّى للمحدود أن يداني من لا حدّ له، وللفقير المضطر أن يقارب الغني المطلق أو يشبهه؟! وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بدّد الظلام، وطارد الضلال، وأشاد الدين، وهدى المؤمنين. اللهم صل على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمارة بالسوء بتقوى الله، والرغبة في ما رغّب، والحذر ممّا حذّر، وأن يكون لنا من رقابته الشاملة حاجزاً عن معصيته، ومن عقوبته البالغة رادعاً من معاندته، ومن فقرنا المتقع إليه مانعاً من مكابرته، وأن تكون نعمه الغامرة دافعاً لنا للشكر، ومواهبه الكريمة داعياً للذكر.
أما بعد .. فان من الصلات الوثيقة في الإسلام التي لا يرضى بتضييعها، ولا التهاون بحقّها صلة الرحم، وقد عظّمها في مقام الرعاية وأولاها اهتماماً كبيراً، واتخذ منها سبباً متيناً لاحكام العلاقات الاجتماعية بين النّاس على هدى من الله، وفي محبة للخير، وتعاون على البر والتقوى، وتركيز العدل، ومجانبة الظلم.
وهذا تناول سريع للموضوع في بعض خطوطه:-
1) صلة الرحم محل لمواثيق الله
(وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى) 83 البقرة، كفى أن تكون المسألة عظيمة، وأن تكون بالغة الأهمية، أن تكون موقعاً من مواقع ميثاق الله وعهده الذي اتخذه على طائفة من الناس، من غير خصوصية لهذه الطائفة، وانما بما هم طائفة من الناس فيما يظهر.
(وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذّر تبذيرا) فليس تبرعاً منك أن توثّق الصلة بالرحم، وانما هو الحق المكتوب عليك من الله للرحم. (وآت ذا القربى حقه). ومن أصحاب الحقوق، المسكين وابن السبيل.
(الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل، ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب) الآية الكريمة في موقع منها تدلنا على أن من الأمور ما أمر الله وما حكم الله به أن يوصل ويوثق في مقام العمل والتعامل، وفي الموقع الآخر من الآية الكريمة، تربط رعاية ما أمر الله به أن يوصل، ووصله وعدم وصله في مقام العمل والتعامل، بأن يكون العبد يخشى من الله أو لا يخشى من الله، ويخاف سوء الحساب أو لا يخاف سوء الحساب، فالآية في الجملة الأخيرة التي قرأت منها هنا، فيها تهديد ووعيد، لأن من لم يصل ما أمر الله عز وجل به أن يوصل، فهو لأنه لا يخشى الله، فإن أمامه سوء الحساب، الذي يجب أن يخافه، وهو فعلاً يخافه لو اطّلع عليه أو كان له عنه شيء من التصور ولم تفرض عليه ظلمة نفسه الأفكار، والجحود، وعن الإمام الصادق (ع) “من ذلك – أي مما أمر الله به أن يوصل صلة الرحم” ثم يعقّب الحديث بهذه اللفتة العظيمة وغاية تأويلها صلتك إيانا”. أي صلةَ كل مؤمن لأهل البيت عليهم السلام؛إذ على كل مؤمن أن يرعى هذه الصلة الشرعية الولائية الوثيقة والتي أخذ عليها العهد من الله والميثاق.
2) صلة الرحم حبل لا يقطع
عن أبي بصير قال: ” سألت أبا عبدالله عليه السلام عن الرجل يصرم ذوي قرابته – أي يقطعهم – ممن لا يعرف الحق؟ – إذا كنت أنت على عقيدة هي الحق فقد يكون واحد من ذوي القربى منك ليس على العقيدة الحق. والسائل يطرح على الإمام (ع) هذا السؤال لي أن أصرم هذه القرابة التي ليست على الحق في الرأي والعقيدة ؟ قال: لا ينبغي له أن يصرمه – فلا يصح قطعه، فقطع هذه الصلة ليس من الصحيح المستقيم دينا إلا أن يحدث تزاحم، وتدخل المسألة في مورد التزاحم بأن يكون هناك أمر أهم، فيترك من أجله هذا المهم وهو صلة الرحم. والمقاطعةُ التي قد يفرضها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لك أن تقول أنها مقدّمة في مواردها على صلة الرحم، ولك أن تقول أنها من صلة الرحم، ذلك لأن المقاطعة التي تضغط على المقاطع ليعود إلى الحق، رحمة به وبالمجتمع كلّه.
عن صفوان عن الجهم ابن حميد قال: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: يكون لي القرابة على غير أمري ألهم عليّ حق؟ قال: نعم حق الرحم لا يقطعه شيء واذا كانوا على أمرك كان لهم حقّان: حق الرحم وحق الاسلام. وهذا الاطلاق لا يقطعه شيء قد يأتي عليه استثناء في مورد التزاحم بين صلة الرحم وبين ما هو أهم منها. ولننظر الى واقعنا، الأخ من أخوانك يكون جارك وهو من أقرب أرحامك اليك، وبينك وبينه صلة الايمان، والولاء في الله، ومع ذلك تأتي القطيعة من عدد منّا فلنتّق الله.
3) نتائج محسوبة وغير محسوبة
صلة الرحم تترتب عليها آثار قد تكون منظورة لنا، ونملك أن نفسرها، ونستطيع أن نفهم مسألة العليّة في موردها، وهناك نتائج تترتب على صلة الرحم لا نملك لها تفسيرا، ولا تنسجم في نظرنا القاصر، مع ظاهرة العليّة، أو لا نستطيع أن نفسّرها على أساس من العلمية التكوينية بين الأسباب والمسببات، (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا).
” صلة الأرحام تزكّي الأعمال وتنمّي الأموال، وتدفع البلوى، وتنسئ الأجل ” ما الصلة بين صلة الأرحام، ودفع البلوى، والمد في العمر، ونماء الأموال، وزكاة الأعمال، بعض هذه المفردات يمكن أن نتعقل وجه صلة بين صلة الرحم وبينها، وبعض المفردات الأخرى مما ذكرته الرواية، قد لا نملك له وجه تفسير ولكنه يبقى الحق إذا كان صادراً عنهم عليهم السلام. وما اكتشفه الانسان من قوانين الكون هو النزو القليل جداً.
(صلة الأرحام تحسّن الخلق وتسمّح الكف) وحسن الخلق يبدأ من هذه الدائرة، دائرة الصلة الحميمة، واللحمة القريبة ليتدفّق الحديث ويضيف في شرايين المجتمع كلّه. ومن لم يستطع أن يتوفّر على حسن الخلق مع هذه الصلة القريبة المتينة، فهو فاقد للقدرة على التعامل الحسن مع الآخرين “وتطبّب النفس، وتزيد في الرزق، وتنسئ من الأجل”
وممّا ذكر أثراً لها وللبر بالاخوان أنهما يهوّنان الحساب ويعصمان من الذنوب. وأما الزيادة في الرزق والإنساء في الأجل، فمتكرّران مضموناً في عدد وافر جداً جداً من الأحاديث، إلى حد يبلغ التواتر، ومن نتائج صلة الرحم أيضاً أنها تقي ميتة السوء.
4) صلة الأرحام فوق الانفعالات
” لا تقطع رحمك وان قطعك” عن الصادق (ع) أبو ذر ” أوصاني رسول الله صلّى الله عليه وآله: أن أصل رحمي وان أدبرت” الأخ ابن العم ابن الخال ابن الخالة يدبر عنك، يقطع صلته بك عملا، يقاطعك ولكن أنت عليه مقبل، وإليه محسن “صلوا أرحامكم وان قطعوكم” عن علي (ع) ” إن رجلاً أتى النبي (ص) فقال: يا رسول الله إن لي أهلاً قد كنت أصلهم وهم يؤذونني، وقد أردت رفضهم – لا أقابل سوءهم بسوء ولا أذيتهم بأذية وانما أتوقف عن صلتهم، أقاطعهم – فقال له رسول الله (ص): اذاً يرفضكم الله جميعاً” رفض الله إخراج للعبد من رحمته، ومن رفض الله عز وجل للعبد، لا يسمع له دعاءا، ولا يغيث له نداءا.
دليل على الأهمية
” سر سنة صل رحمك” ما قيمة هذا المطلب وما عظمته حتى يستحق من الإنسان أن يسير سنة ليبلغه؟! تستحق صلة الرحم أن تسير من أجلها سنة إذاً لهي شيءٌ عظيم. عن رسول الله (ص) ” أوصي الشاهد من أمتي والغائب منهم ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء الى يوم القيامة، أن يصل الرحم وان كان منه على مسير سنة، فان ذلك من الدين” ولو بالرسالة، بالسلام، بالهاتف.
في معرض الذوبان
للحضارة المادية الجاهلية قيمها التي تتلخص في تقديس المادة والانكباب عليها، ولها آثارها النفسية الخانقة، ونتائجها العملية المدمرة، فلا تنتج الا انغلاقاً على الذات، وأنانية في الشعور، وانفصاماً في العلاقات، وانحلالاً لعرى الاجتماع، وسقوطاً في الخلق، وشراسة أو مكراً وتحايلاً في التعامل، وحتى أوثق العرى يصيبها من آثار هذه الحضارة ما يسبّب لها التهلهل والانحلال، ومن ذلك العلاقات الرحميّة وما هو أشدها متانة بطبيعتها، من علاقة الأبوة والأمومة والبنوة، ثم علاقة الأخوة التي قد عرضها الوهن في مقام العمل، وحتى القطيعة كما في بعض الحالات كما تشاهدون. فحذاري من الانجرار وراء ما تريده الحضارة المادية بنا من نسف انسانيتنا واستئصال جذورها.
اللهم صلّ وسلّم على حبيبك وصفيّك ووليّك ونبيّك المصطفى، وآله الشرفاء، واغفر لنا ولاخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولكل من له حق خاص علينا منهم وأعتق رقابنا من النار، وجنبنا شقاء الدنيا والآخرة، وأسلك بنا دروب الخير، وباعد بيننا وبين دروب الشر يا كريم يا رحيم.
بسم الله الرحمن الرحيم (تبت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب، سيصلى ناراً ذات لهب، وامرأته حمالة الحطب: في جيدها حبل من مسد)
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي يزول كل شيءٍ ولا يزول، ويحول كل شيءٍ ولا يحول، وكل شيءٍ إليه فقير، وهو عنه غني. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة حق وصدق ويقين، لا مُعْدِلَ عنها، ولا شيء يتقدم عليها أو يرقى لها. منها يصدر المؤمنون، وإليها يرجعون وسعت الأمور أو ضاقت، ورضي المخلوقون أو غضبوا. واشهد أن محمداً عبده ورسوله بلّغ ما حمل إلى الخلق، وقضى فيمن حكم بالحق، وقدّم الخالق على المخلوق، ورضي بالرازق عن المرزوق. اللهم صل وسلم على خاتم الأنبياء محمد وآله الأوفياء .
عباد الله فلنتق الله حق تقاته، مستعينين به على أنفسنا، فإنه لا حول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم، ولنسابق الأجل بحسن العمل، فإنا لا ندري متى نحن راحلون، فلسنا على موعد معلوم لنا بالفراق، الذي ليس بعده في الحياة تلاق، وإن كان لنا موعدٌ عند الله لا نخلفه، يمكن أن يكون في أي ساعة من ليل أو نهار، وفي اي عمر من أعمار الصغار والكبار. إنها ساعة ننسى في غمار هو لها كل هم من هموم الدنيا التي نراها كبيرة، ويشغلنا فيها ما نستقبله من عظيم أمر الآخرة عن كل ما عداه. فلا تكونن تلك الساعة أهون الساعات في حسابنا اليوم، ولا عقل ولا حكمة ولا ربح في أن يصرفنا ضجيج الحياة ومشكلاتها عن حمل الهم الكبير لتلك الساعة والتحسب لها. على أن هذا الهم مصلح للحياة، قائم باعبائها، مخفف لغلواء مشكلاتها في ما يقدمه دبنُ الله القويم من تصور للعلاقة بين الموت والحياة …. بين الدنيا والآخرة .
اللهم صلّ وسلم على قدوتك في العالمين، خاتم النبيين والمرسلين محمد الأمين وآله الطاهرين، اللهم صل على القاضي بالحق في الأمة، الإمام أبي الأئمة، من حبه جُنَّة، سيف الله الضارب علي بن أبي طالب. اللهم صل وسلم على كريمة رسولك النبي، وزوج وصيه الولي، أم الحسنين الشهيد والزكي .
اللهم صل وسلم على بدري الدجى، ومصباحي الهدى، والحجة على اهل الدنيا، الإمامين الرضيين أبي محمد الحسن وأبي عبدالله الحسين، اللهم صل وسلم على الأئمة من ولد الحسين، هداة العالمين، وأمناء الدنيا والدين: علي بن الحسين زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي والحسن بن علي العسكري الراكعين الساجدين المتقين الزاهدين .
اللهم صلّ وسلم على خاتمة أهل العصمة، ومنقذ الأمة من الغمة، والهادي إلى النجاة والجنة، المرجو للإصلاح والأمان، مولانا صاحب العصر والزمان. اللهم قرّب ظهوره، وأظهر لنا نوره، وانصره نصراً عزيزاً، وافتح له فتحاً يسيراً، وكن له على أعدائه ظهيراً ،وأصلح به بلادك، وأحيي به عبادك، وأرِ به مردة الكفر والطغيان ما يكرهون، يا أقوى من كل قوي ويا أعز من كل عزيز .
اللهم الساعي في نصرته فانصره، والمؤمن بدعوته فأيده، والعامل لظهور طلعته المباركة الميمونة بخدمة الدين فقوّه، وأيد الفقهاء والعلماء المخلصين من دعاة الاسلام والمدافعين عنه في كل مكان يا من هو باوليائه رؤوف رحيم .
أما بعد فتوافي هذا اليوم المبارك ذكرى مولد الإمام الثامن من أهل البيت عليهم السلام، الذين خاضوا تجارب منها المتشابه ومنها المختلف في مسافة زمنية ممتدة، وواجهوا كل تجربة وكل ظرف بالأسلوب المناسب ضمن رؤية إسلامية واحدة، ومن منطلق هدف كبير واحد، وهو أن تكون كلمة الله في الأرض تشريعاً هي العليا، وأن يهتدي الناس طريق سعادتهم فيسلكوه، وطريق شقائهم فيفارقوه، ويتجنبوه .
ولقد مر الإمام عليه السلام بتجربة من أقسى التجارب وأكثرها تحدّياً في محاولة احتواء الخليفة العباسي المأمون لشخصيتة الإسلامية المعصومة، و الانسانية الضخمه وتعطيل دورها نهائياً وربطها بسياسية النظام لتفريغها من جاذبيتها الايمانية، وإسقاط موقعيتها في القدوة. ولكن التزام الإمام عليه السلام بالمنهجية الإسلامية الواعية التي يتوفر على وعيها، والقدرة على مواكبتها بالكامل، والتي تموّن الإنسان بالصواب والهدى والحق في مختلف الظروف والمواقف، لم يفوت على المأمون هدف محاولته فحسب بل قدّم – ذلك الإلتزام – الإمام عليه السلام إلى الأمة إماماً معصوماً كما هو واقعه وأضاف إلى حجته في ذلك حجة، وإلى موقعه في نفوس الناس موقعاً، وأبرز واضحاً أن الدنيا لا تغلب النفس التي حلّقت في مستواها حتى الشعور بلذة الدين، وما يثيره في الذات من معنى الكرامة والسمو والشرف الرفيع، وأن الذين يتأتى لهم أن يروا من الدنيا حجمها، ومن الدين حجمه لا يمكن أن يتقدم في خيارهم أمر الدنيا على الدين، ولا أن يرضوا عن السماء بديلاً من الأرض .
الهدف إلغاء هوية الأمة واستئصال إرادتها
من جهة أخرى يواجه الامة مستقبلٌ خطير، يُنذر به واقعها المرير، والأسر الخانق لإرادتها الحضارية التي تريد حضارة المادة الغازيةُ إلغاءها بالكامل. إن التصفيات الجسدية التي قد تحصد باسم محاربة الإرهاب كثيراً وكثيراً من أبناء الشعوب لهذه الأمة، في صورة مطاردة للأفراد والجماعات، وحروب شاملة تشن على الأوطان المسلمة، إن هي إلا مقدمة لمحاولة استئصال ثقافي، واجتثاث حضاري لا تخفى ملامحها في بداية الحملة الحربية الطويلة المدى، بل لا تخفيها التصريحات والمطالبات للحكومات الإسلامية من قبل أمريكا بالتدخل في التوجيه الديني وإحداث التغيرات في مناهج التربية الإسلامية بما يحقق حلم الطرف الآخر في تهجير الإسلام نهائياً من واقع المسلمين، وفكرهم وشعورهم .
تجدون أن الحكومات في البلاد الإسلامية مطالبة من قادة ما اصطلح عليه بالحملة العالمية ضد الإرهاب بشهادة براءةٍ مكلفة، لابد أن تتحصل عليها كل حكومة على أمل أن تنجو من العقوبة الصارمة. هذه الشهادة تكتبها كل حكومة بنفسها تاركة مكاناً لامضاء الطرف الآخر عليها بعد التحقيق والتدقيق، وهي شهادة براءة مؤقتة لا أكثر تجدّد بنفس الثمن بين حين وآخر. أما ما تخط به هذه الشهادة فدماء المسلمين واسراهم وإن لم يدخلوا في حروب وكانوا ممن يُطاردون مطاردة الجراد هنا وهناك لتسلّمهم حكوماتهم بيد العدالة الغربية المنصفة، التي تنطلق من مراعاة الهيمنة الأمريكة، وحماية المصالح المادية للقطب الواحد في الأرض كلها أولاًَ وبالذات، والمصالح الأوربية من النوع نفسه ثانياً وبالتبع .
ومما تخط به كذلك الاجراءاتُ والترتيبات الكثيرة العاجلة، التي تضمن موقف تدفق الوعي الديني لا المشبع بروح الإرهاب وهو ليس وعياً دينياً عندنا، بل الوعي الديني المبرّء من الإرهاب والعدوانية وتقطيع أوصال الإنسانية الكريمة الواحدة بالباطل كما يرتكبه الغرب. ولكن لأنه وعي، ولأنه يحترم الانسان، ولأنه يعترف بحاكمية الله وربوبيته، وعبودية الانسان لخالقه التي تعني كرامته وحريته البناءة ودوره الإصلاحي الكبير، ولأنه ينادي بالحق والعدل والإنصاف، ويناهض الظلم والنهب والإستغلال، ويحل الطيبات، ويحّرم الخبائث، فلابد أن يُلفّ في الأكفان ويُقبر .
بل لابد من الترتيبيات والإجراءات التي تُحل البديل الحضاري النقيض بالمعني الأعم محل الإسلام في واقع المسلمين وفكرهم ومشاعرهم بما في هذا البديل من إلحادٍ وشركٍ وإنحرافٍ في التصور وحطةٍ في السلوك. وعندئذ ربما نحصل على شهادة حسن السلوك والرقي والتقدم .
وهذا لو كان فالخسارة ليست خسارة للأمة الإسلامية وحدها، وإنما هي خسارة للبشرية بجميع أجيالها الحاضرة والقادمة لأن فيه إطفاءً لنور الشمس الذي يمكن أن ينبعث به العالم من جديد، وحجباً لأشعتها التي تمد الحياة المعنوية للإنسان بالبقاء والنماء .
الاطروحة المهدوية تبديد للحلم الامريكي
وهل يتوقع أن يتحقق الحلم الأمريكي في التصفية النهائية للحضارة الإسلامية والوعي الديني الزاحف ؟ من المستحيل لهذا الطموح المجنون الساقط أن يتحقق على الأرض إذ يعارضه وعد الله لهذه الأمة بأن يكون إنقاذ العالم على يد مهديّها عليه السلام وأن به وبها تملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً .
قبول الإملاءات الامريكية هدم للثقة بين الشعوب والأنظمة
مع ذلك فإن الإصرار الأمريكي على حكومات اليلاد الإسلامية أن تكون أدوات تنفيذ الخطة، وأن تدخل في مواجهات صرخة حادة مع شعوب الأمة وعقيدتها سيُدخل هذه الأمة في دوامة من الفتن، ويهدم جسور الثقة بين الأنظمة والشعوب، ويحطّم الطرفين. وهو أمر ملحوظٌ للأنظمة بلا شك، فلذلك يصعب جداً عليها أن تساير الرغبة الأمريكية وإملاءها إلى الأخير. على أنه من سوء الظن جداً كذلك أن نقول بأن ليس في هذه الأنظمة أكثر من واحد له درجة وأخرى من الاهتمام بأمور المسلمين، ومصير الإسلام، بحيث تمنعه من الاشتراك في ذبح الأمة ودينها بالكامل، وإن كان البعض يهون عليه ذلك .
فقد الكفاءة والامانة خلل في العملية البرلمانية
وخارج هذه المسألة يتناول الحديث ثقافة الانتخابات على مستوى الاشارة السريعة، فالانتخابات سواء كانت في دائرة مؤسسة ثقافية أو اجتماعية أو سياسية، أو كانت على مستوى البلديات أو أكبر فلا بد أن يركز فيها على صفات المرشح المرضي، ومنها الكفاءة والقدرة على أن يقدّم الجديد المفيد من خلال موقعه، وأن يكون الصوت الذي يعبّر بأمانة ودقة عن أماني الناخب وقناعاته وطموحاته، وأن يمتلك من رجاحة الرأي، ودقة التقدير الموضوعي ما يؤهله لوضع الامور في موضعها، ومن الخبرة ما يثري به التجربة، ومن الدين والتقوى ما يحجزه عن التلاعب بمصالح الناس، ومصائرهم وكراماتهم لحساب الأنا في مطالبها المادية الرخيصة المتسعرة المتمادية، ويقف عند المضائق موقف الحق بلا انهيار ولا تراجع يصيب المقتل من مصلحة الناخبين في دنياً أو دين، والكلام المهم حين يقف الناخب بين نقص في كفاءة مرشح من حيث الخبرة والأداء، وبين نقص في الدين والأمانة ورعاية مصلحة الأمة لحساب مصلحة الذات في مرشحٍ آخر. ويُسأل هنا أي الضررين أهون ؟ لا شك أن كلا منهما مصيبة. نقص الكفاءة، وفقد الأمانة .. لا شك ان كلٌّ منهما مصيبة؛ ولكن مصيبة بيع الأمة والعمل على مسخ هويتها، والربح الذاتي بخسارتها لا يعدله تلكؤ العمل، وفجاجة التجربة، وقلة النتائج على أن الساحة في كل ميادين الانتخاب تمتلك الكفاءة بالإضافة إلى الدين والأمانة وخوف الله سبحانه وتعالى الذي يصون مع الوعي عن الانزلاق .
اللهم صل وسلم على النور المبين، والهدى منك للعالمين محمد خاتم النبين والمرسلين وآله الطاهرين. واغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولآبائنا وأمهاتنا وأرحامنا وجيراننا، وكل ذي حق خاص علينا من أهل الايمان والاسلام وقنا مانخاف ونحذر، وما لا نخاف ونحذر مما يتهددنا في علمك، ولا تخرجنا من الدنيا إلا بقلوب سليمة، وعقول عليمة، ونيات قويمة وترضينا بها لرضاك يا كريم يا رحيم .
(إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَىوَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون)