خطبة الجمعة (41) 27 شوال 1422هـ – 11-1-2002م
مواضيع الخطبة:
الاسرة في الإسلام .. الإحسان إلى
الوالدين ( 3 ) – ذكرى الإمام الصادق ( ع )-
ذكرى استشهاد السيد الصدر
السيد الشهيد علم شامخ في الساحات الإيمانية والجهادية والعلمية والسياسية والاجتماعية، وأخته العلوية ذات دورجهادي فعال على مستوى العلم والعمل، وقد ضربت مثلاً حيا لا ينسى للتضحية والتصميم والصبر والفداء..
الخطبة الأولى
الحمد الله الذي لا مضل لمن هدى، ولا هادي لما أضل، ولا راد لمن قدّر، ولا غالب لمن نصر، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ضياء لمن استضاء، وقائدٌ نجاة لمن اقتدى، ودليل خير لمن ارتضى. سبب هدى، وغيث رحمة، وعروةٌ وثقى. صلى الله عليه وآله الهداة النجباء.
عباد الله اتقوا الله وكونوا عباداً صالحين، لا تشاركون في منكر، ولا تسبقون إلى معروف، ولا يبدر منكم ظلم، ولا يفوتكم عدل، وكونوا من النفس على حذر، فأن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، وجاهدوها على طريق الهدى، وتستجيب لما أراد لها من خير لا غنى لأحد عنه، ولا فقر لمن رزقه. وخير الخير رضوان الله والجنة، وشر الشر سخطه والنار.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات فينصب الحديث هنا على دائرة العلاقة بالوالدين وهي إحدى العلاقات المتينة الأكيدة في محيط الأسرة التي يراد لها بجميع علاقاتها أن تكون النواة الصالة، والمنطلق القوي لعلاقات اجتماعية أوسع تقوم على الله والعمل الصالح، درأ الظلم، وإقرار العدل، والاستقامة على الدرب.
وهذه جولة عاجلة مع نصوص الموضوع وفروعه:
1. الإحسان هو القاعدة:
إذا كانت القاعدة في العلاقات العامة هي العدل فإنه ربما كانت القاعدة في دائرة العلاقة مع الوالدين هي الإحسان..
– } وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً {.
إنّه قضاءٌ وحتمٌ واحد، صُعّدت به درجة الإحسان إلى الوالدين حتى كانت في تعبير الآية من درجة واحدة مع عبادة الله سبحانه } وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً..{ وليس بعد درجة الوجوب لعبادة الله درجة، تلك الدرجة العالية المغلّظة من الوجوب شُرّك في متعلقها الإحسان إلى الوالدين، ولست مع شرح الآية الكريمة في هذا المقام، ولكن انظروا – في ما يتصل بنقطة تأتي – قوله تبارك وتعالى }.. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ..{ فليس هناك ذلٌّ وخضوع واستكانة إلا لله، حتى في العلاقة مع الوالدين إنما الذل هنا نوع من الرحمة ويحمل معنى الرحمة وليس معنى الاندكاك والخضوع المطلق، لمولوية المولى الحق.
– (في قوله تعالى:}.. وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً..{ الإحسان أن تحسن صحبتهما، وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئاً مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنين) الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام.
أبوك قادر على أن يتحرك نحو ما يريد من شربة ماء أو شيء آخر مثلاً، أن يقوم بخدمة معيّنة من خدماته. هو قادر على ذلك لكنك تبادر إلى خدمته فيما يقدر من غير أن تنتظره أن يصدر طلبه.
– (اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف، وأبرهما برّ الأم الرؤوف، واجعل طاعتي لوالدي وبرّي بهما أقرّ لعيني من رقدة الوسنان، وأثلج لصدري من شربة الظمآن، حتّى أوثر على هواي هواهما…) عن زين العابدين عليه السلام.
هيبة ممزوجة بحبٍّ عارم، بمسرةٍ للخدمة وبإيثارٍ وتقديمٍ على النفس.
– (ثلاثٌ لم يجعل الله عزّ وجل لأحد فيهن رخصة: أداء الأمانة للبر والفاجر، والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر، وبرّ الوالدين برّين كانا أو فاجرين) عن الإمام الباقر عليه السلام.
لا يُعتذر بفسق الوالد، ولا بفسق الوالدة ولا بمخالفتهما في الرأي العقيدي؛ فكل ذلك لا يُسقط مسألة الإحسان إليهما والبرّ بهما.
2. برّ متصل وتدارك لتفريط:
– (ووالديك فأطعهما وبرّهما حيّين كانا أو ميتين..) عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
– – (إن العبد ليكون باراً بوالديه ثم يموتان فلا يقضي عنهما دينهما، ولا يستغفر لهما، فيكتبه الله عاقّاً، وإنه ليكون عاقّاً لهما في حياتهما غير بارٍّ بهما، فإذا ماتا قضى دينهما واستغفر لهما فيكتبه الله عز وجل بارّاً) عن الإمام الباقر عليه السلام.
الحياة ممتدة والبرّ متصل، ويمكن أن يتحوّل البار إلى عاقّ بعد موت أبيه، ويمكن أن يتحول العاقّ بعد موت أبيه إلى بارّ، ذلك بأن يتدارك أمره وتفريطه، فيتجه اتجاهاً جديداً في الأخذ بأمر الله سبحانه وتعالى في علاقته بأبويه. فبعد أن كان عاقّاً يتحول إلى بارّ، فيقوم بالأعمال التي تنفعهما في أخراهما.
ومن البر بعد الموت بالوالدين التصدّق عنهما، والحج، والصوم – كما في الروايات – فيكون الذي صنع لهما، وله مثل ذلك. صلّى فيكون ثواب صلاته لوالديه، وينال هو من ثواب صلاته مثل ذلك. لا يثلم من ثوابه ثوابُ والديه شيئاً، بل يزيده الله عزّ وجل ببره وصلاته أو صلته.
فالصلاة عن الأب تسجّل ثواباً للأب هو أصل الثواب للصلاة، وتسجّل ثواباً للإبن البارّ، ويزداد الإبن البارّ على ثواب الصلاة ثواب البرّ، فهنيئاً له.
3. خطورة بالغة:
– (يقال للعاقّ اعمل ما شئت فإني لا أغفر لك) عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
– (عقوق الوالدين من الكبائر لأن الله عز وجل جعل العاقّ عصيّاً شقيّاً) عن الصادق عليه السلام.
– (الذنوب التي تظلم الهواء عقوق الوالدين) عن الصادق عليه السلام. أثرٌ موضوعي دنيوي فإذا انتشر عقوق الوالدين سائت الحياة، وربما تأثرت الظروف الطبيعية سلباً بما يعود على المجتمع بالضرر، فدفع عقوق الوالدين دفعٌ لمنكر يستتبع خطره كارثةً للمجتمع، فمن حقي أن أنكر عليك عقوق والديك، ومن حقك أن تنكر علي عقوق والديّ، ولو لهذا الأثر الدنيوي المحطّم المشترك.
– (إثنان يعجّلهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين) عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. العقوبة ليست أخروية فقط وإنما معها عقوبة دنيوية.
– (من العقوق أن ينظر الرجل إلى والديه فيُحدّ النظر إليهما) عن الصادق عليه السلام. حدة النظر إلى الوالد إلى الوالدة، التحديق في وجههما بنظرة لا تحمل رحمة، ولا تعكس الذل من الرحمة وخفض الجناح من الذل للرحمة للوالدين: عقوق..
النظرة المركزة التي قد تنظرها في وجه صاحبك فلا تعني شيئاً، إذا نظرتها في وجه والدك بلا أن تحمل ملامح الذل من الرحمة فهي عقوق.
– (من نظر إلى والديه نظر ماقتٍ وهما ظالمان له لم يقبل الله له صلاة) عن الصادق عليه السلام. الوالد ظالم لوله، وكلّ ما يفعله هذا الولد هو أن ينظر إلى والديه نظر ماقتٍ لظلم الوالد له.. هذا عقوق.
– (من أحزن والديه فقد عقّهما).. تتأخر في الليل لغير موجب هو أهم تأخراً يحزن والديك، فأنت آثم.. فقد عققت فأنت آثم، ما ارتكبته مباحٌ بعنوانه الأوّلي، وبما هو هو..، ولكن بما أنه قد أدخل حزناً على الوالدين فعلى إباحته في الأصل إلا أنه يعبّر عن عقوق ويستحق عقوبة.
4. تعارضٌ وحل:
– (يا رسول الله: من أبرّ؟ قال: أمك، ثم قال من؟ قال: أمك، قال ثم من؟ قال أمك، ثم قال من؟ قال أباك).
وقد يختلف أمر الأب والأم في ما يتعلق بشيء واحد، أو بخدمة مطلوبة لهما، هذا يطلب منك خدمة، وتلك تطلب منك خدمة، وليس في وسعك أن تجمع بين الخدمتين لضيق الوقت مثلاً، من تقدّم؟ تقدم الأم وأمرها..
لكن لو أمرتك الأم بأن تعقّ أباك، بأن تخرج على طاعته، أن تتمرد عليه، تكون قد أمرتك بمعصية وليس لها حق الطاعة في ما تأمرك به من معصية الله سبحانه وتعالى.
5. الله فوق كل شيء:
– } وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا..{ 8 العنكبوت.
لا أمّ، لا حاكم، لا زوجة، لا صديق، لا حبيب، لا منعم من الناس بمستحق طاعة فيها معصية الله عز وجل. كل شيء يذهب هباء إذا كان في معصية الله سبحانه وتعالى، إنما طاعتنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من طاعتنا لله. وهكذا كل طاعة لا تصح إلا بأن تنتهي إلى طاعة الله الثابتة نفسها.
– } وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً..{ العبادة لله وحده، }.. أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ..{ فلا تتوهم أن الإحسان للوالدين يمتد إلى حدّ العبادة أبداً.
– } وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا{ وأنت إذا أطعت أحد الوالدين فيما هو معصية لله فقد أشركت بالله.
– (برّ الوالدين واجبٌ وإن كانا مشركين فلا تطعهما ولا غيرهما في المعصية، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) عن الصادق عليه السلام.
من أطاع غير الله سجد له بقلبه، سجد له بعقله، سجد له بمشاعره، وإنها لقسمة ضيزى، وإنه لموقف سخيف أن يسجد العبد لله بجبهته، ثم يولي بوجهه عنه ليسجد بمشاعره وقلبه وعقله لغير الله، فقد استهان بالله، ومن استهان بالله استهان الله به. الطاعة في المواقف لغير الله، والسجود في المساجد لله، الجارحة سجودها لله، والجانحة الأهم سجودها لغير الله؟ أنت ماذا؟ أنت جبهة أم أنت قلب وعقل وضمير.. إذن أنت قد سجدت لغير الله وليس لله.
اللهم صل على محمد عبدك ورسولك الأمين وآله الطيبين الطاهرين، واغفر لنا وأخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، ولأهل مودتنا وأصحاب الحقوق علينا، ومن أدّبنا بأدبك، وربّانا على حبك، وحب أوليائك، وعلمنا علماً يقربنا إليك من أهل الإيمان والإسلام، وباعد بيننا وبين ظلم الظالمين، وبغي الباغين يا علي يا عظيم يا كريم يا رحيم.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ
(وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر.)
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً ليس له منهى، ونشكره شكراً لا يحده مدى. نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. يريد فلا يكون إلا ما يريد، ويقضي فلا يقع إلا ما قضى، جل أن يغالب أو يجارى، تبارك ربنا وتعالى. ونشهد أن محمداً عبده ورسوله أمره من أمره، وحكمُه من حكمه، وطاعته من طاعته. من استكبر عليه استكبر على الله، ومن ضاده ضاد الله، ولا يفلح من كان على الله مستكبراً، ولقدرته مضاداً معانداً. اللهم صل على محمد وآل محمد الشرفاء النجباء.
عباد الله اتقوا الله، واطلبوا مغفرته بالأوبة إليه، واطمعوا في المنزلة عنده بالأخذ بطاعته، فمن غفر الله له أمن، ومن منحه المنزلة كرُم وعظُم، وما من أحد من دون الله بمالك ما يملك، ولا معط ما يُعطي، ولا مكرم كما يُكرم.
اللهم صل وسلم على المبعوث بكنوز الدين، والرحمة الواسعة للعالمين، محمد خاتم النبيين والمرسلين وآله الطاهرين. اللهم صل وسلم على إمام المتقين، والأمين على الدنيا والدين، علي ابن أبي طالب أمير المؤمنين. اللهم صل وسلم على الهادية المهدية، والزكية النقية التقية فاطمة الراضية المرضية. اللهم صل وسلم على الإمامين الهاديين، والنورين الساطعين، والبرين التقيين أبي محمد الحسن، وأبي عبدالله الحسين. اللهم صل وسلم على قادة العباد، وأمناء البلاد، والأئمة النجباء الأمجاد علي بن الحسين السجاد، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري أولي النهى والرشاد. اللهم صل وسلم على العدل المنتظر، والقائد المؤيد، والإمام المسدد، محمد بن الحسن القائم من آل محمد.
اللهم أعزّه واعزز به، وانصره وانتصر به، اللهم انصره نصراً مبيناً، وافتح له فتحاً مبيناً، وكن له قائداً ودليلا، وحافظاً ومعيناً. اللهم سدد وأيد ناصره، والداعي له، والمهتدي بهداه، والمؤمن بدولته، والراضي بإمامته. اللهم اجعلنا من جنده وأوليائه، والمستضيئين بضيائه، والراضين بحكمه وقضائه.
أما بعد أيها المؤمنون والمؤمنات فلابد أن تستوقفنا ذكرى وفاة الخامس من أهل بيت العصمة والإمامة، الإمام الصادق عليه السلام، وهذه بعض الكلمات اليسيرة بهذه المناسبة التي تذكرنا بعظمة رجل صنعته مدرسة الوحي، وأعده ربُّه لقيادة البشرية، كما تذكرنا بمأساة أمة، وظلم في التأريخ. لكن الكلمات تلتفت إلى قضايا عامة وخطوط عريضة وتستفيد منها لقضية الحاضر والمستقبل من حياة الأمة:
“إنّه – أي البخاري – امتنع عن روايتها – يعني أحاديث الأئمة من أهل البيت عليهم السلام – خوفاً وفرقاً من حكام العباسيين الذين كانوا يناصبون آل محمد العداء، وهو يعلم أنه – أي البخاري – لو روى عنهم لأهمل كتابه في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (وآله وسلم)، أو لقضي عليه وقبر وهو في مهده”.. الدكتور حامد حنفي داود. مقدمة (الإمام الصادق والمذاهب الأربعة).
أسأل إذاً: أي فكر عملاق قاهر هو فكرهم عليهم السلام؟ كلمة الدكتور تعتذر لإهمال البخاري لأحاديث أهل البيت عليهم السلام، وهو يناقش أسد حيدر في التركيز على هذه النقطة. دعونا نذهب مع الدكتور داود حنفي وكلامه الذي يثير هذا السؤال، إذا أي فكر عملاق قاهر هو فكرهم عليهم السلام، الذي شق حجب القرون ليصل منه الكثير مشعاً متلألئاً؟! دولة بعد دولة عمل على قبر فكر أهل البيت عليهم السلام، وفصل الأمة عنهم، وتحارب كل كلمة صدرت عن أهل بيت العصمة والطهارة، والمكتبة الإسلامية تزدحم بالأحاديث عنهم والآراء في العقيدة والفقه، ومختلف مساحات الحياة. خلفت مدرسة أهل البيت عليهم السلام فكراً يقيم أكبر حضارة، ويلتقي في الثابت منه مع القرآن الكريم لا يشد منه في شيء، فكم كان هو فكر أهل البيت عليهم السلام؟ وكم كان جهدهم؟! وكم كان جهادهم؟! وكم كانت شمسهم مشرقة حتى تمتنع على أن تحجب حتى من أكثر الغيوم ظلمة؟! وكيف يعتذر – نتيجة ثانية – إذا كان ما يقوله الدكتور الحنفي صحيحاً عن قبول ما جاء عنهم عليهم السلام، لأنه لم يذكره البخاري؟! البخاري الذي كان معذوراً في رأي الدكتور عن أن يذكر الأحاديث عن أهل البيت عليهم السلام خوفاً وفرقا. كيف يتخذ من إهماله حجة على عدم الحديث؟ كيف يردي الحديث في المصادر الإسلامية الأخرى من الموثقين والعدول لأن البخاري لم يذكر هذا الحديث أو ذاك؟!
الإمام الصادق (ع) مبدئية رغم التنكيل
لقد أسمع خطباء بني أمية الإمام الصادق عليه السلام مدة طويلة سب أمير المؤمنين عليه السلام، وشهد من ألوان العذاب والتنكيل لآل أبي طالب ما تذوب منه الصخور والصلاب. والملاحظة أن ذلك لم يحوله إلى إنسان منغلق على مصالح آله وأهل بيته، ولم يصرفه عن همّ البشرية جمعاء، ولم يخرِّج منه الإنسان الحاقد الذي ينال حقده من قيمه، ولا اليائس الذي يقعد به اليأس عن هدفه، ويشل حركته، ولا المستفزّ الذي ينسيه الانفعال أن يحسب خطواته، ويراعي ظروف الأمة من حوله. بقي – صلوات الله وسلامه عليه – المبدئي المخلص لمبدئه، المصر على هدفه، الساعي على دربه، المشفق على أمته، القادر على معايشة الظروف الضاغطة من حوله، ليخرج من بين كل ضغطتها وظلماتها وجورها ظلمها صاحب مذهب يفرض نفسه على الزمن، ويغذي المذاهب الأخرى بالصحيح القويم.
الابتداع والفرق الغالية أسلوب حرب للآل
تجدون أسلوبين للحرب على مدرسة أهل البيت عليهم السلام في المجال الفكري: طمس علومهم… وزرع الفرق الغالية التي تحاول الانتساب زوراً إليهم: فقد لعن الإمام الصادق عليه السلام المغيرة بن سعيد وأبا الخطاب. وجاء عنه عليه السلام قوله لمرازم: قل للغالية – أي أصحاب الغلو – توبوا إلى الله فإنكم فساق كفار مشركون. وقوله له: إذا قدمت الكوفة فأت بشار الشعيري وقل له يقول لك جعفر ابن محمد (ع): يا كافر يا فاسق أنا بريء منك، قال: بشار: – هذا الملعون – وقد ذكرني سيدي. قلت نعم ذكرك بهذا. قال: جزاك الله خيرا. والأسلوبان معاً ممتدان إلى اليوم. أسلوب مهاجمة أهل البيت عليهم السلام، تحريف أقوالهم، الحذف من المصادر بما يشيد بمنزلتهم، أسلوب قائم، وأسلوب الابتداع والتقول على أهل البيت عليهم السلام أيضاً لا زال معاشاً. تذكرون البهائية والقاديانية، والبابيات المتعددة، وكلها تصب في مصب واحد، يريد تشويه مذهب أهل البيت عليهم السلام، وينقله من جو العلم إلى جو الأحلام والخرافات والسخافات، ويستبدله عن رموزه المشعة الكبرى من أهل العصمة والعدالة والتقوى من بعدهم، إلى سفلة الناس.
الفتن تُسقط الحكم والأمة:
لقد كانت السلطات السياسية – العباسية – تحقق مكاسب آنية من خلال زرع الخلافات وتأجيجها في الدائرة السنية السنية، وفي الدائرة الشيعية الشيعية، وفي الدائرة السنية الشيعية، وفي مقابل ذلك كانت الأمة تخسر وحدة الكيان، وتقع في فوضى الفتن المحرقة، لتأتي الآثار السلبية والانتكاسة في الأخير حتى على السلطات الحاكمة يوم ذاك نفسها. تبدأ السلطة الفتنة لتحترق بها الأمة لكن ما أن تلبث حتى تسقط الحكم وتنهيه. وهذا يعلم الأمة أن تتجه خلاف هذا الاتجاه شعوباً وحكومات… أن تنبذ الفرقة، وأن لا تعمل على زرع الشقاقات والخلافات، لا من خلال الكلمة، ولا من خلال المشروع العملي فإن الخلافات في الأمة تحرقها، والحكومة من الأمة، فلا تحترق الأمة إلا ويحترق الحكم. هكذا يجب أن نتعلم بأن نكون حريصين على وحدة الأمة، عالمنا وعاملنا، والحاكم والمحكوم.
المبدئيون حراس الأمة
هناك بعض الفئات المبدئية في كل عصر. وكان آل علي عليهم السلام كذلك – أي هم الفئة المبدئية دائما في الحقيقة – لا يقدمون دنياً ربما تكون على دين، وكانوا حراساً أمناء على الفكر الإسلامي والأطروحة الإسلامية النقية. وقد لا يشتغلون بمقاومة الحكم ولا يستهدفون إسقاطه. ولكن لا يرضون أن يختلط ما هو دين وبما هو دنيا في أذهان الناس. وهؤلاء في العادة ضحية الانتهازيين والنفعيين ممن يريدون أن يقتاتوا عن طريق عن طريق الملق الرسمي، إذ يقدمون على تلك الفئات إلى الحكم صورة مفزعة تتهدده بأفدح الأخطار. وما أضر فئة المفتئتين أصحاب الزور على كثير من الأنظمة والشعوب!!
استشهاد الزعامات بعث للأمة
وقريباً مرت ذكرى استشهاد آية الله العظمى المجاهد محمد باقر الصدر وأخته المظلومة بنت الهدى (قده هما)، والسيد الشهيد علم شامخ في الساحات الإيمانية والجهادية والعلمية والسياسية والاجتماعية، وأخته العلوية ذات دورجهادي فعال على مستوى العلم والعمل، وقد ضربت مثلاً حيا لا ينسى للتضحية والتصميم والصبر والفداء… واستشهادهما يوقل من الخطأ تصور أن تغتال الأمة باغتيال بطل أو أكثر من أبطال زعامتها، والصحيح أن الأمة تبعث بمثل ذلك. وكذلك مرت ذكرى استشهاد الفقيه المحدث الشيخ حسين البحراني (قد) وهي تذكرنا بروح التقوى والولاء الطاهر، والجهاد العلمي والعملي، والتضحية في سبيل الله، ومناهضة المنكر، ومجابهة الباطل، كما تذكرنا بالدور الإيماني والعلمي المتواصل لهذا البلد الكريم، والذي ينبغي لنا جميعاً شعباً وحكومةً أن لا نتخلى عنه أو نفرّط به.
اللهم صلّ وسلم وزد وبارك على عبدك المصطفى محمد خير الورى، وآله النجباء، وبارك لنا في ديننا ودنيانا وثبت على طاعتك أقدامنا، ورسخ حبك في قلوبنا واغفر لنا وإخواننا وأخواتنا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ولمعلمينا ممن علمنا العلم النافع، وأدبنا بالأدب المرضي، ولكل ذي حق علينا، ومَنْ مَنَّ علينا بالتجاوز عن ظلم ظلمناه، أو خذلان خذلناه من أهل دينك، وأتباع ملتك يا كريم يا رحيم.
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}