خطبة الجمعة (39) 13 شوال 1422هـ – 28-12-2001 م
مواضيع الخطبة:
الاسرة في الإسلام ( 1 )
– الزوج والزوجة الصالحة – واقعة أحد- بطولة الإمام علي (ع) في واقعة أحد
التمرد على رأي القائد في كثير من المرات ، الضغط عليه ضغطاً يلجئه إلى الرأي الآخر, معناه أن القيادة ليست قيادة, وأن الرأي العام يكون هو القائد .
الخطبة الأولى
الحمد لله العليم الذي لا يجهل ، الحكيم الذي لا يخطئ ، العدل الذي لا يجور . أشهد ان لا اله إلا الله وحده لا شريك له, خلق الخلائق وهو غنيٌ عنها ، وقدّرها فأحسن تقديرها ، ودبرها فأحكم تدبيرها ، وهو العالم أزلاً ببداياتها ونهاياتها ، وبكل أسرارها ، وما يأتي عنها, وما يعرض عليها ، فلا تقدير إلا ما قدّر ، ولا تدبير إلا ما دبّر ، و لا يتقدم شيء عن علمه ولا يتأخر .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالرسالة التامة ، والكلمة الهادية ، والطريقة المنجية ، والدين الكامل ، والحل الشامل . اللهم صل وسلم على عبدك المختار محمد وآله الأبرار.
عباد الله عليكم بتقوى الله ، والرغبة في ما رغَّب ، والزهد في ما زهَّد . ازرعوا اليوم تحصدوا غداً ، ولا تزرعوا شوك الباطل فتحصدوا مُرَّ العذاب ، وازرعوا في أنفسكم وفي ما حولكم غراس الحق تجنوا عذب الجزاء ؛ حياةً رغيدةً ، وآخرة سعيدة . افتحوا أسماع القلوب وأبصار الأفئدة على دروس الأيام ، وكلمات الليل والنهار ، وأحداث الشروق والغروب وما بينهما من الآنات ، تحدثكم بالعبرة ، وتريكم الموعظة ، وأن النزل في الدنيا قليل ، وأنه للآخرة الرحيل ، وأن طالب أولاهما مطلوب ، وعلى أمره مغلوب ، وأن وعده من الشيطان فيها مكذوب .
أما بعد فالحديث الآن في ما يتعلق بالخليَّة الاجتماعية الأولى, وفي بنيتها البسيطة الأولى المكونة من الزوج وزوجه ، فمع هذه النصوص في الموضوع :
لا جمود عند الغريزة ..
(( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكرون ))
ليس لقاءً جنسياً غليظاً ، ولا تنفيساً عن الغريزة الجنسية فقط للتخلص من شحنتها العائقة عن سلوك درب الكمال. إنما يراد مع ذلك أن تبنى الخلية الأولى الاجتماعية بنيةً محكمة ، قائمةً على أمتن العلاقات من الود والحب والرحمة والاحترام .
(( ما بني في الإسلام بناءٌ أحب إلى الله عز وجل ، و أعز من التزويج )) عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
إنه البناء المحبوب إلى الله وما يحبه الله هو أن تخلص القلوب وتطهر, وأن تعيش الحب لا الحقد ، وأن يكون ما بها حسن النية لا سوء النية ، وأن ينطلق من شعاعها ومن علاقتها بالله التعاون على الخير ، لا التهارش ولا التنافس ولا التباغض من أجل الدنيا .
(( من نكح لله – أي من أجل الله ، طاعةً لله ، تزوج من أجل الله – وأنكح لله – زوّج ولداً أو بنتاً – استحق ولاية الله )) عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
أن تتزوج وزواجك لله ، من أجل أن تبني بيتاً رفيعاً من الإيمان ، من أجل أن تؤسس أسرة مسلمةً قائمة على الحق قائمةً به ، من أجل أن تنتج جيلاً عابداً لله ، مصلحاً في الأرض ، إذا كان زوجك من أجل هذا فأنت تستحق ولاية الله . إما أن تدخل في عداد أوليائه, أو أنه سبحانه وتعالى هو المتولي لأمرك في كل شؤونك بما يتولى به من أحب من عباده ، فيكفيك ويغنيك ويسدد خطاك, ولا يدع للمشكلات. تستولي عليك ، أن تستحق هذا الموقع في متعة من متع الدنيا حيث تتجاوز بها إلى الهدف العبادي وتقصد بها وجه الله سبحانه وتعالى… حيث تستر نفسك ، و تكف عرضك ، و تصون ذاتك عن الدنس ، وتؤسس لجيل مؤمنٍ عابد . يكون هذا ومعه ما هو لمن أنكح لله. كمن زوّج ولداً أو بنتاً لله سبحانه وتعالى لنفس الأغراض السابقة أيضاً يكون مستحقاً لولاية الله سبحانه وتعالى .
(( ما من شابٍ تزوج في حداثة سنه إلا عجّ شيطانه : يا ويله يا ويله ، عصم مني ثلثي دينه ، فليتق اللهَ العبدُ في الثلث الباقي )) عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
فالزواج هنا لحماية الدين ، لحماية الذات الإنسانية ، لرفع العوائق عن السلوك إلى الله سبحانه وتعالى. فالزواج في الإسلام ليس قضاء شهوة ، وليس تنفيساً عن غريزة فقط ، إنما هو خطوة على طريق الكمال والبناء ، خطوة على طريق صناعة النفس ، صناعة الجيل ، صناعة المجتمع الكبير المتجه إلى الله سبحانه وتعالى .
إذن فالزواج في الإسلام لا يمثل جموداً عند الغريزة واستجابة سمجةً ساذجة لها فقط .
التأسيس لجيلٍ مؤمن قوي طاهر :
يستهدف الزواج في الإسلام إنشاء جيلٍ من نوعٍ مؤمنٍ قويٍ طاهر ، لذلك يضع مواصفات للزواج ، للزوجة ، للزوج ، للعلقة الزوجية ، من أجل إنتاج هذا الجيل .
(( تزوجوا في الحجر الصالح فإن العرق دساس )) عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
إذا كان المطلوب هو التنفيس عن الغريزة الجنسية فقط ، التخلص من الشحنة المضايقة للجسد فقط ، فتكفي المرأة من أي مستوى ومن أي نوعٍ ومن أي بيئة ، لكن لما كان الهدف أكبر من ذلك وهو أن يأتي ذلك الجيل القوى الطاهر العفيف ، الذي يبني الحياة ولا يهدمها, ويقود الحياة على طريق الصلاح والإصلاح ، لا على طريق الفساد والإفساد ، كان لا بد أن تنتقى الزوجة .. أن ينتقى الزوج ..
(( تخيّروا لنطفكم فإن النساء يلدن أشباه إخوانهن وأخواتهن )) عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
وأول ما يلحظ في الزوجة إيمانها وأخلاقيتها وقدرتها على الصبر على طاعة الله ، وعن معصيته وهناك جوانب أخرى تلحظ في الموضوع كالجوانب الصحية وما إلى ذلك ، هذا كله من أجل ذلك الهدف الكبير الذي يتجاوز حدود الشهوة المتسعّرة إلى ما هو أكبر من بناء الجيل وتنشئة أمة قوية قادرة على ريادة الناس في الأرض على طريق الله سبحانه وتعالى.
(( إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته يخطب ( إليكم ) فزوجوه ، إن لا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبير )) عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته … أول ما يلحظ في الخاطب إنسانيته ، سلامة أكبر جانب من جوانب شخصيته ، صحته في أهم بعد من أبعاد ذاته وهي صحته الروحية ، صحته الدينية. أن تلحظ صحة البدن ذلك لك وهو جيد ، أن تلحظ الصحة النفسية ذلك لك وهو جيد ، لكن عليك أن تلحظ قبل ذلك صحة الخاطب وصحة المخطوبة على البعد الروحي ، الذي يمثل لب الذات وصلب الذات الإنسانية .
(( إياك أن تزوّج شارب الخمر فإن زوّجتهُ فكأنما قُدت إلى الزنا ))
كأن ذاك البعيد صار قوّاداً بين ابنته وبين زوجها شارب الخمر ، وليس منكحاً لابنته وكريمته للرجل الصالح ، ذلك لأن المنظور هو : الاستقامة ، هو الإنسانية ، هو الدين ، وشارب الخمر منهار دينياً فكأنه لا زواج شرعي ، كأن هذا الزواج منّزلٌ منزلة الزنا ، حيث لا يعطي النتائج المطلوبة من الزواج كما ينبغي .
(( تزوجوا في الشكاك ولا تزوجوهم ، لأن المرأة تأخذ من أدب الرجل ويقهرها على دينه ))
الشكاك من ناحية دينيه ، الشكاك في الدين ، الشكاك في المذهب ، هم مسلمون ولكنهم ليسوا على إسلام تام ، يعيشون بعض الشبهات ، بعض الانحرافات العقيدية التي لا تخرجهم نهائيا من الإسلامً ، إذا تزوجت الواحدة من هؤلاء أمكنك أن تصنعها ، وإذا تزوج منك أحد هؤلاء ابنتك ، أمكن له أن يصنعها كما يشاء فتكون أنت قد خنت الأمانة ، وهذا هو الغالب, وقد يكون الرجل ضعيفاً في شخصيته ، ضعيفاً في إيمانه, ليس له ما يحميه من الذوبان في الطرف الآخر ، فهو وإن كان رجلاً ولكن الطرف الآخر إذا كان أقوى جاءت العلة لتكون حائلاً بين الشخص وبين أن يزوّج ولده أو بين أن يتزوج هذا الشخص نفسه من شكاكة ومن منحرفة على البعد العقائدي لأنها ستصنعه…. ستغلبه…. ستكسره .
لكل حق وعلى كل واجب :
(( .. وعاشروهن بالمعروف .. )) 19 النساء
ومنطلقات المعروف : العقل ، الضمير ، الفطرة ، الشرع .. كل هذه منطلقات للمعروف فما كان من المعاملة خارجاً عن ما يقتضيه العقل ، عن ما يرضاه الضمير ، عن ما تؤدي إليه الفطرة فهو ليس من المعاشرة بالمعروف. ومن الفطرة في هذا المجال أن المرأة أخت الرجل في إنسانيتهما فأن يهدر رجل إنسانية زوجه هي معاملة بغير المعروف من منطلق الفطرة ، ومن منطلق معروف المجتمع الإسلامي ، ومن منطلق الشرع الذي يحكم سلوكيات وذوق هذا المجتمع .
(( ويلٌ لامرأة أغضبت زوجها ، وطوبى لامرأة رضى عنها زوجها ))
وكل ذلك في دائرة المباح والحلال ، ولا رضا لمخلوق في سخط الخالق ، ولا طاعة لمخلوق في سخط الخالق .
(( لو أمرت أحداً أن يسجد لأحدٍ لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها ))
وهو مبالغة لطاعة الزوج – الأنثى – لزوجها في حدود طاعة الله سبحانه وتعالى .
(( وأما حق الزوجة فأن تعلم أن الله عز وجل جعلها لك سكناً وأنساً فتعلم أن ذلك نعمة من الله عليك فتكرمها وترفق بها ، وإن كان حقك عليها أوجب فإن لها عليك أن ترحمها ..)) عن زين العابدين عليه السلام.
هنا تجاوز عن حد العدل إلى حد الإكرام والتقدير والاحترام والمعاملة بالإحسان ، وقد تخطئ المرأة فيكون التوجيه الإسلامي هنا للرجل بالرفق و الرحمة, من غير أن يطمع ذلك المرأة في التمادي في الغي ، لأن التهديد للمرأة بمخالفة زوجها وغضبه هو غضب الله سبحانه وتعالى عليها .
(( إن المرء يحتاج في منزله وعياله إلى ثلاث خلال يتكلفها وإن لم يكن في طبعه ذلك : معاشرة جملية ، وسعة بتقدير ، وغيرة بتحصن )) عن الصادق عليه السلام.
إذا كان ليس من طبعه هذه الخصال فعليه أن يتحامل على نفسه, وعليه أن يروّضها ويقودها على خط التقوى, ويكلفها ما لا تحتمل من الحق حتى تحتمل ، ومن الخلق الحسن ما لا تحتمل حتى تحتمل .
معاشرةٌ جملية ، وسعةٌ بتقدير ، وغيرة بتحصن .. أن تكون معاشرته لزوجه معاشرة جميلة لائقةً خلقيةً رفيعة تغنى بالإحسان, وروح التجاوز والتسامح والتغاضي ، وسعة بتقدير أن يبذل ، أن ينفق من غير أن يصل إلى حد السرف ومن غير أن ينقاد لشهوات امرأة لا تعرف التقدير ، إذا كانت هذه المرأة لا تعرف التقدير فلا يصح للرجل أن ينساق وراء شهواتها ولا شهوات نفسه ، لا بد من سعةٍ في الإنفاق ولكن مع التقدير ..، وغيرة بتحصن : على الأب والأخ والزوج أن يعيش الغيرة على أهله, وأول هذه الغيرة أن يعمل على تحصين الأهل ، أن يوجد الأجواء التي تساعد على الحصانة ، أن لا يفتح طرق الشيطان أمام المرأة ، أمام الأخت ، أمام البنت ، ثم تثور غيرته ليحطم هذه المرأة التي فتح لها باب الانزلاق ، فلا بد من غيرة بتحصن وغيرةٍ لا تهتك الطرف الآخر ، ولا تشوّه سمعته, ولا تثير من الناس ظنون السوء ببنته وبزوجه وبأخته .
(( ما من امرأة تسقي زوجها شربة من ماء إلا كان خيراً لها من عبادة سنة ))
العبادة المستحبة ، ولا يكثر ذلك عليك ، فإن الخلية الأولى للمجتمع هي الأسرة ، والأسرة إذا انبنت على التعاون والتناصر في الحق والإيثار والتضحية ، أنبني المجتمع الكبير قوياً متماسكاً والعكس بالعكس ، والدين لا يسلم كله في ظل أسرة متحطمةٍ تعيش الفوضى والتباغض وفقد الثقة والشك ، لا يكاد يبقى دينٌ عند طرف من أطراف أسرةٍ تعيش حالة التبعثر وحالة الكيد وحالة التباغض والسعي للشر .
(( إن الرجل ليؤجر في رفع اللقمة إلى فيّ امرأته ))
إلى فم امرأته: يعني تطييباً لخاطرها ، إدخالاً للسرور عليها ، إشعاراً لها بالمحبة والمودة .
(( ملعونة ملعونة امرأة تؤذي زوجها وتغمُّه ، وسعيدة سعيدة امرأة تكرم زوجها ولا تؤذيه وتطيعه في جميع أحواله ))
والنص الحاكم على هذا النص موجود وهو أن يكون ذلك في حدود طاعة الله سبحانه وتعالى.
(( ألا وإن الله ورسوله بريئان ممن أضر بامرأة حتى تختلع منه ))
يؤذيها ويقسو عليها ، من أجل أن يلجئها إلى طلب الطلاق فتبذل له ..
استغلال بشع حرام :
جنون المادة وشرهها ، خلق حالة من الاستغلال البشع من قبل بعض الأزواج لأزواجهن من النساء ، الرجل يدفع ببنته للعمل أياً كان ، ولأي شيءٍ أدّى ، والزوج يطلب الزوجة التي يعلّق عليها أمل أن تغنيه بوظيفتها . من الأوزاج من يستحوذ على مرتب زوجته ، أو أنه يأكل أكثره, وما تدخره يوظّفه في بناء بيت يكتبه باسمه. تتحول هذه المرأة إلى خادمة رخيصةٍ في بيت زوجها ، يشتريها بقرةً حلوباً له ، يحاول ان يستثمر كدها وجهدها كله. معاملة قاسية منحطة خلقياً ، بعيدة عن قيم الدين وموازينه وموافقته ، وقد ينسى هذا الرجل يوماً يأتيه ، يقف فيه بين يدي ربه ليحاسب على كل صغيرة وكبيرة ، وحين تكون زوجه يوم ذاك أحوج ما تحتاج إلى الحسنة الواحدة . إنها ستجد فيه غنيمة لتطالب بحقها, ويتجرد هذا الرجل من كل حسناته لجيب زوجه, فيكون ما قد ربح في الدنيا وبالاً عليه في الآخرة ، ألا فلنتق الله .
شتّان بين تربية الإسلام وتربية الحضارة الماديّة :-
أريد أن ألفت إلى نقطة هي فارق التربية الإسلامية ، عن التربية الحضارية المادية ، تجدون أن التربية الحضارية المادية تستغل دافع الجنس استغلالا بشعاً وتوظفه من أجل الاستعباد والاستغلال واستثمار الشعوب وتجهيلها وبسط السيطرة عليها ، واستنزاف ثرواتها ، هذا الدافع نفسه يأتي بيد التربية الإسلامية رحمة وأداة إصلاح ، وأداة مودة ورحمة ، هذا فارق كبيرٌ بين التربيتين والكلام عن عمق هذا الفارق يحتاج إلى وقت .
اللهم صل على محمد وآل محمد واجعلنا من أهل العدل والإحسان ، ومن أورع أهل الإيمان ، واغفر لنا ولأبائنا وأمهاتنا وكل من كان له حق علينا من المؤمنين والمؤمنات ولكافة أهل الإيمان يا رحيم يا رحمن .
بسم الله الرحمن الرحيم
((إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر ))
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أظهر الأشياء من مكنون عدمها ، وابرزها من خفائها بما البسها من حلل وجودها ، ودل عليها بخلقه لها ، ، وهو الدال على ذاته بذاته ، ولا دلالة للأشياء عليه إلا به ، وكيف يكون لما به ظهوره دلالة عليه لو لاه ؟!. نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا شفاعة لأحد عنده إلا بإذنه ، ولا راد لأمره ، ولا معقّب لحكمه ، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله هدى المؤمنين به إلى سبيله وأنقذهم بمتابعته من نقمته ، وجعلها سبباً إلى رحمته . صلى الله عليه وآله وسلم تسليماً كثيراً .
عباد الله اتقوا الله واخشوا من نقماته واحذروا سخطه ، فغضب الله لا تقوم له السماوات والأرض ، وتنهد الجبال له هدّا ، ويتناثر عقد الكون له تناثرا وياللانسان من عذابٍ قال عنه سبحانه (( يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه ، وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤيه ومن في الأرض جميعاً ثم ينجيه )) هؤلاء الناس الذين تدفع عنهم في الدنيا بمالك ، وتدافع عنهم بيدك, وتبذل نفسك رخيصةً من أجل بقائهم ، تود يومذاك أن تضحي بهم كلهم لتنجو .. فكم هو هول العذاب؟! أي عذاب ذاك وأي هولٍ ذاك الذي يجعلك تسترخص كل هذه العلائق وتضحي بمن تضحي له هنا … وتنسى كل حميم وكل حبيب من اجل أن تنقذ هذه الذات التي أشفقت على ذاتها من العذاب؟!!؟ يتمنى الإنسان يومئذ أن يفتدي نفسه بكل الآخرين ولكن لا افتداء فالأمنية مردودة والمحاولة يائسة ، واليد قاصرة ، والأبواب عليه مسدودة .. (( كلا إنها لظى ، نزاعة للشوى ، تدعو من أدبر – عن طاعة الله عز وجل في الدنيا – وتولى ، وجمع فأوعى )) . عباد الله من كان مشفقاً على نفسه من عذاب الآخرة فليدرأه عنها اليوم بعمل الصالحات واجتناب السيئات ، و لا يعاند الله معاندة ولا يبارزه مبارزة .
اللهم صل وسلم على الهادي إلى دينك ، والسبيل إلى رضوانك ، والناطق بكتابك ، والحافظ لوحيك ، رسولك الأمين محمد خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين .
اللهم صل وسلم على أول الوصيين لخاتم النبيين ، وقاتل الفاسقين والمارقين ، وإمام المتقين ، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين . اللهم صل وسلم على أمتك المهذبة ، ووليتك المسدّدة ، العارفة الرشيدة ، والعالمة المفيدة ، النوراء الغراء فاطمة الزهراء . اللهم صل وسلم على الإمامين الزاكيين ، والنورين الساطعين ، والوليين الطاهرين ، الراكعين الساجدين الزاهدين ، ابي محمد الحسن وأبي عبد الله الحسين . اللهم صل وسلم على أعلام الدين ، وهدى المؤمنين ، وأئمة المسلمين ، علي بن الحسين زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وموسى الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد الجواد وعلي الهادي والحسن بن علي العسكري أسباب الرحمة في العالمين .
اللهم وصل وسلم على الزكي النقي ، والولي التقي ، والبّر الوفي محمد بن الحسن الخلف المهدي . اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه ، وانصره نصراً عزيزاً وافتح له فتحاً يسيرا، وبارك مقدمه ، وضاعف مغنمه ، وزد رفعته عندك رفعة، وشأنه شاناً يا أرحم الراحمين ، ويا أكرم الأكرمين ، اللهم انصر وأيد وسدد خطى الممهد لدولته ، والساعي لإظهار أمره والمشيد بذكره ، والمذعن بإمامته .
أما بعد فأول موضوعات هذه الخطبة واقعة أحد ..
مخالفة المعصوم جهل وتعد:-
انتهت واقعة بدرٍ بهزيمة نكراء لجبهة الكفر المتمثلة في قريش, فما صبرت على الهزيمة, وصارت تعد من أول لحظة الهزيمة نفسها إعداداً مالياً وعسكرياً من أجل مواجهة حاسمة مع الإسلام . إتجه جيش الكفر إلى المدينة وتوقف عند أحد ، وهو ثلاثة آلاف مقاتل في مائتي خيل معهم عدة وعتاد. صارت المواجهة عند جبل أحد ، وكان النصر إبتداءً مع المسلمين, وبتخلي الرماة عن الجبل, والذين كان أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم بأن لا يبارحوا مكانهم مهما كانت النتيجة… بتخلي نفرٌ عن موقعهم الذي عينه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، زحف عليهم جيش خالد بن الوليد قائد خيالة المشركين يوم ذاك فانقلب النصر بالنسبة للمسلمين هزيمة ، ذلك بمخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
كانت مخالفتان .. كان رأي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للفارق الكبير بين جيش المشركين وجيش المسلمين وهو ألفٌ في بدايته ، أن يبقى المسلمون في المدينة وتكون المواجهة داخل المدينة ، ويشترك الكبير و الصغير في مواجهة المشركين في الشوارع ومن فوق السطوح ومن كل موقعٍ, المدنيون أعرف به من قريش. واختار عدد من الصحابة أن تكون المواجهة مواجهة مكشوفةً في الصحراء ، والمواجهة المكشوفة في الصحراء بين جيشين يتفاوتان هذا التفاوت هو من ناحية عسكرية في مصلحة المشركين …
تحت ضغط رأيٍ أصرّ عليه عدد من الصحابة بالخروج إلى خارج المدينة ، لبس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لامة حربه ، أدرك المسلمون آنذاك أنهم حملوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ما يكره فتراجعوا عن رأيهم لرأي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنه قال صلوات الله وسلامه عليه فيما نُقل أنه لا ينبغي لنبيٍ لبس لامة حربه أن يتركها إلا أن يخرج ..فكان اللقاء في أُحد ، هذه مخالفة .
تخلّى الرماة عن موقعهم إلاّ قليل ، وكان قائدهم أصرّ على البقاء وكان التخلي بدافع أن يحصلوا على الغنائم ، فعندما انتصر المسلمون في الشوط الأول من المعركة وفرّ الكفار على كثرتهم ، طمع أهل الجبل في الغنيمة وخافوا فواتها عليهم فانحدورا إلى الغنائم تاركين أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, وتذكَير قائدهم بأهمية أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن هنا جاءت الهزيمة في الشوط الثاني وخسر المسلمون رجالات من أهم رجالاتهم : حمزة ومصعب بن عمير وغيرهما من أفذاذ المؤمنين, ومقاتليهم الأبطال وأصحاب المبدئية العالية .
المبالغة في التمرد تفكيك لرأي القيادة:-
هذا الشيء نقف عنده : واضحٌ أن القيادة المعصومة لا يصح مخالفتها .. دعونا نتنزّل إلى القيادة غير المعصومة. القيادة غير المعصومة قد تحدد الموقف ويكون هناك رأيٌ في مقابل رأيها وقد يكون هو الأرجح إلا أن ملخص القول هنا : إما أن نقبل خطأ رأي القائد في بعض المرات, وإما أن نتمرد على رأيه في كثير من المرات ..
التمرد على رأي القائد في كثير من المرات ، الضغط عليه ضغطاً يلجئه إلى الرأي الآخر, معناه أن القيادة ليست قيادة, وأن الرأي العام يكون هو القائد .
وكان صبر الأمة على بعض الخطأ في رأي القائد ولأنه غير معصوم ، خيرٌ لها مليون مرة من أن تفرض عليه إرادتها بعد ان تعرف عدله ورجاحة عقله ومتانة رأيه بصورة عامة وقدرته على التشخيص الدقيق في الأغلب وإلا لما صحّ لها أن تختاره قائداً .
أذّكر جدا جدا بأن فرض الرأي العام على القيادة من خلال الضغط المتواصل يعني أن الأمة بلا قيادة .
علي فتى أحد:-
قراءةٌ سريعة – عبد الله بن أبي بن سلول ينسحب بثلاثمائة من الألف في الطريق وهذا تخطيط يتبعه المنافقون في كل مشروعٍ إسلامي فيدخلون في المشروع لا لأجل المواصلة, بل للانسحاب, لهز الثقة, وإحداث إرباكٍ في صفوف المؤمنين,ن وإحداث ردة في الصفوف المؤمنة المتراصة .
– نقف عند نصوص سريعةٍ في أمير المؤمنين عليه السلام –
طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين يقتله أمير المؤمنين عليه السلام ، المسلمون كانوا ثلاث طوائف في واقعة أحد : طائفة قتلت في الشوط الثاني من المعركة ، طائفةٌ انهزمت شر هزيمة .. هزيمة مخجلة كادت تقضي على الإسلام. أما الطائفة الثالثة فهي طائفة قليلة حتى الأخير موفية بعهدها فيهم أبو دجانه .. فيهم أمير المؤمنين عليه السلام. ثبتوا إلى آخر لحظة حتى كان تصحيح الموقف بدرجةٍ سلم فيها الإسلام ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وذلك نتيجةً لهذا الصمود الكبير ، الصمود المعجب ، صمود المبدئيين الذين لا يحسبون حساباً إلا لله سبحانه وتعالى ..
طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين : يا معشر أصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ويعجّلكم بسيوفنا إلى الجنة ، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة ، أو يعجلني بسيفه إلى النار ؟؟ فقام علي بن أبي طالب رضى الله عنه – كما في النص هنا – فقال : والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى أعجلك بسيفي إلى النار, أو تعجلني بسيفك إلى الجنة .. فضربه عليٍ عليه السلام فقطع رجله فسقط فانكشفت عورته فقال : أنشدك الله والرحم يا بن عم .. فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
لما قتل علي عليه السلام أصحاب الألوية وهم تسعة ، في الحملة الثانية الشرسة على رسول الله والتي استهدفت شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكُسرت فيها رباعبته وشُجت شفته واصابته جراحات. لما قتل علي عليه السلام اصحاب الألوية أبصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من مشركي قريش فقال لعلي : احمل عليهم ، فحمل عليهم ففرّقهم, وقتل عمرو بن عبدالله الجمحي قال ثم ابصر رسول صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من مشركي قريش فقال : يا علي احمل عليهم ، فحمل عليهم ففرق جماعتهم وقتل شيبة بن مالك أحد بني عامر بن لؤي فقال جبريل : يارسول الله إن هذه للمواساة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنه مني وأنا منه ، فقال جبريل : وأنا منكما ..
قال فسمعوا صوتاً : لاسيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي …
قول جبريل : وأنا منكما ، يبعد معه جداً جداً جداً أن يكون المعنيُ من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هو مني وأنا منه يعني القرابة النسبية الرحمية ، جبريل ليس قريباً من رسول الله رحما هو نوع وهذا نوع ..
.. وأنا منكما تعني علاقة الإيمان والإسلام وأن امتداد الإسلام بأمير المؤمنين عليه السلام ..
اللهم صل وسلم على محمد وآل محمد واحفظ بلاد المسلمين من الدمار ، واهلها منهم من الفرقة والشتات ، وأبدل المؤمنين عن الضعف قوة, وعن الفقر غني, والذل عزا ، وانصر دينك يا قوي ياعزيز . اللهم اغفر لنا وللمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات, وعاملنا بعفوك واحسانك ولا تحملنا على عدلك ولا تجزنا بسيئ أعمالنا يا غفور يا رحيم ..
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون