خطبة الجمعة (38) 6 شوال -1422هـ – 21-12-2001 م
مواضيع الخطبة:
نظرة الإسلام لظاهرة
الخمر الخبيثة – واقعة بدر _ كلمة لأهالي جدحفص
قد ودّع العالم الإسلامي في الأيام القليلة الماضية، مرجعاً من مراجع الدين، ورجلاً من رجالات الجهاد الفكري والمواجهة السياسية في الساحة العراقية، وداعية لمدرسة أهل البيت (ع)، وهو سماحة السيد محمد الشيرازي تغمّده الله برحمته وأسكنه فسيح جنّاته
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي لا تغنى عنه الأرباب المختلقة، ولا تُحمى منه الآلهة الزائفة، ولا ترضى العقول إلا بمعرفته، ولا تطمئن القلوب إلا بذكره، ولا تشفى الصدور إلا بوصله.
أشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله. أشاد بفضل الله في الناس صرح الإيمان، وحارب الجهل والكفر والطغيان. صلى الله عليه وآله سادة الأنام، والقادة إلى الجنان.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الملك الجبار قاهر من في السماوات والأرض، وأن لا نستكبر على الكبير المتعال ذي القوة الشديد، والبطش المبيد، الفعّال لما يريد، وإلى من اللجأ من الله؟ وإلى أين المفر من أخذه؟ وكيف المهرب من عذابه؟ ألا فلا محذور كمحذور معصيته، ولا مرهوب كمرهوب عقوبته، ولا مرغوب كمرغوب طاعته، ولا مطلوب كمطلوب رضوانه ومثوبته. مَن فرّ ممن سواه إلى كنفه وجد لجأ، ومن فرّ منه إلى مَن سواه لا يجد مهرباً.
الفواحش: انحراف عن الحقّ وتهديد للمجتمع:-
أيها المؤمنون والمؤمنات: الحديث عن داء خطير، وظاهرةٍ خبيثة، ومنكرٍ قبيح استساغته بعض الأوساط في المسلمين، ويحميه القانون في كثير من بلدانهم، وتروج له الدعاية بينهم، ويستغله المستغلون في بناء الثروات الهائلة الحرام لهم، وهو ضلعٌ في ثلاثي خطير مدمر للأفراد والمجتمعات؛ ألا وهو الخمر، أما صاحباه فاللهو الماجن، والفحشاء المنكرة. والثلاثة مائدة كثير من الفنادق في بلاد المسلمين ومجامعهم على مستوى الأشراف بالمعنى الدنيوي الرخيص. وهناك ظاهرة ترويج المخدرات على الشواطئ، وهذا الساحل منها، فالمراقبون يقولون أن في كل صبيحة يجتمع كمٌّ كبير من مخلفات البيرة أو الخمرة، إلى جانب ذلك توجد في بعض الأمسيات مظاهر خلاعية، ورقصٌ مشتركٌ بين شباب وشابات، فماذا يعني كل هذا؟ علامة سؤال كبير وكبير وكبير.. وعلى المسلم الذي يقيم لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وأئمة المسلمين وزناً ويعيرهما اهتماما، ويرى آخرة وحساباً وجزاءا، ويهمه أمر نفسه وولده وبلده وأمته دنياً وآخرة أن يسمع لكلمة الله وكلمة رسوله في هذا المنكر القبيح والمرض الخطير الذي يهدد الأمة في كيانها ومعناها ومبناها.
وهذه طوائف من النصوص في الموضوع :-
أ. تحريمٌ صريحٌ شامل:-
{ .. إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون }. كون الخمر محصوراً في أنه رجسٌ من عمل الشيطان يحرمه، فما خلص في كونه رجساً من الشيطان ومن عمل الشيطان فهو حرام. صريح النهي فاجتنبوه يحرّم الخمر، وما يشعر بتعليق الفلاح على اجتنابه تأكيدٌ لهذه الحرمة. { إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } 90-91المائدة. أم تصرون عناداً لله، أم تروجون عناداً لله، أم تقيمون فنادق كبيرة للحرام تسترق أموال الناس وعرق الكادحين مواجهةً لله. {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر.. } هذه نتيجة موضوعية قاصمة للظهر، وهي العداوة والبغضاء { .. ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } فالخطة التي تروج للخمرة تعادي ذكر الله، هناك تناقض، وتعاكس، وتهافت بين ترويج الخمرة، والدعاية إليها، وتسويقها في بلاد المسلمين، وبين ذكر الله. وهناك علاقة مطردة بين هذا التسويق وبين الصد عن ذكر الله والقضاء على ذكر الله في بلا د المسلمين.
هذا على مستوى الكتاب الكريم وعلى مستوى السنة المطهرة، فلتنفتح آذان القلوب. (لعن الله الخمرة، وعاصرها، وغارسها، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومشتريها، وآكل ثمنها، وحاملها، والمحمولة إليه). عن الرسول صلى الله عليه وآله- ميزان الحكمة ج 3ص161. ما من طرف اشترك من بعيدٍ أو قريبٍ في الخمرة، في تحضيرها، في التمهيد لها، في الترويج، في التسويق، في التناول إلا وصب الحديث عليه لعنة الله.
ب. خبيثة ومنطلقٌ للخبائث:-
( الخمر جماع الإثم، وأم الخبائث، ومفتاح الشر ) عن الرسول صلى الله عليه وآله – المصدر السابق – . ( شرب الخمر مفتاح كل شر، وشارب الخمر يكذب بكتاب الله عز وجل، ولو صدّق كتاب الله حرّم حرامه ) عن الصادق عليه السلام – المصدر، وهي قاعدة مطردة, فالتصديق العملي بكتاب الله يعني الائتمار بأمره، والانتهاء بنهيه. فلإن كان هناك تصديقٌ على مستوىً فكري عند كثير من المسلمين فمن المؤسف جداً أن هذا التصديق الفكري لا يساوقه تصديقٌ قلبيٌ ولا عملي بما تشهد به التخلفات الكثيرة عن كتاب الله في مساحة الحياة الفردية ومساحة الحياة الاجتماعية وعلى مستوى مختلف الصعد.
ج. مقاطعة صارمة:-
( لا تشربوا على مائدة تشرب عليها الخمر، فإن العبد لا يدري متى يؤخذ ) عن أمير المؤمنين – المصدر ص 162. ولنحذر أن نؤخذ لحظةَ معصيةٍ من معاصي الله عز وجل، وأن نلقى الله على معصيته. ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدةٍِ يشرب عليها الخمر ) عن الرسول صلى الله عليه وآله – المصدر. مقاطعة حاسمة وصارمة. ( ملعونٌ ملعونٌ من جلس طائعاً على مائدةٍ يشرب عليها الخمر ) عن الرسول صلى الله عليه وآله – المصدر.
د. إسقاط ونبذٌ لشارب الخمر:-
تلك مقاطعة للخمر ومائدته، وهنا ملاحقة اجتماعية لشارب الخمر، وإسقاطٌ لشخصيته. ( شارب الخمر لا تصدقوه.. ) كم يهزّ من الشخصية أن تعيش وسطاً اجتماعيةً لا يقبل منها خبرا، وكم يؤدب هذه الشخصية أن كلمتها لا تعطى قيمة. ( شارب الخمر لا تصدقوه إذا حدث.. ) ولو عُمل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتحصن المجتمع المسلم من كل الثغرات التي ينفذ منها الشر والاهتراء، (شارب الخمر لا تصدقوه إذا حدّث، ولا تزوجوه إذا خطب، ولا تعودوه إذا مرض، ولا تحضروه إذا مات، ولا تأتمنوه على أمانة.. ) عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم – المصدر ص 164. ( لا تجالسوا مع شارب الخمر، ولا تعودوا مرضاهم.. ) إذا مرضوا لا تعودوهم، ( .. ، ولا تشيعوا جنائزهم، ولا تصلوا على أمواتهم، فإنهم كلاب ( أهل ) النار.. ) على نسختين. ( .. كما قال الله : { اخسئوا فيها ولا تكلمون } ) عن الرسول صلى الله عليه وآله – المصدر.
هـ. آخرةٌ خاسرة:-
( … فإنهم كلاب ( أهل ) النار، كما قال الله : { اخسئوا فيها ولا تكلمون } أهل النار، الطبقة الوضيعة في الآخرة من الناس، وربما كان فيهم أعالي الناس في الدنيا، هذه الطبقة الحقيرة المحتقرة الوضيعة المنبوذة في الآخرة، التي تتصف بالرجس هناك فئة منها تمثل كلابا فيها أي الأكثر رجسا، الأكثر قذارة منهم، إنّهم كلاب النار، أي شاربو الخمر، ( آخرة خاسرة) أنا لم أتعرض لمنقولات الصحة والطب لأضرار الخمر، فان الضرر الدنيوي قد يهز المشاعر، قد يخيف، قد يؤدب، ولكن ما أجملنا أن نتقي الله، وأن تكون مواقفنا الإيجابية والسلبية من موقع التقوى، موقع نزاهة القلوب، صفاء الأرواح، شفافية الذات الإنسانية في الداخل، هذا هو الأهم من أن نخاف السرطان فنمتنع عن الخمر، من أن نخاف السل فنمتنع عن الخمر، من أن نخاف على ذريتنا أن تأتي موبوءة فنقاطع الخمر، ( يخرج الخمار من قبره مكتوبٌ بين عينيه: آيسٌ من رحمة الله ) عن الرسول صلى الله عليه وآله – المصدر 165. ( إن أهل الري في الدنيا من المسكر يموتون عطاشى، ويحشرون عطاشى، ويدخلون النار عطاشى ) عن الصادق عليه السلام – المصدر نفسه.
و- من فضل الله:-
( ” من ترك الخمر لغير الله سقاه الله من الرحيق المختوم ” الكلمة عن الرسول (ص) وتثير اهتمام أمير المؤمنين (ع)، فقال علي عليه السلام: لغير الله؟! – يترك الخمر لغير الله فيسقى من الرحيق المختوم ويعطى هذا الجزاء الوفير والتكريم؟! قال: نعم، والله. لم يترك الخمر لله تركها صيانة لنفسه، ترفعاً منه على الخمر، على أن يفقد جوهرة الذات العقل. المسلم حياته كلها جد، كلها مسئولية، كلها تحمل لدور خطير، لا يسمح المسلم الواعي أن يضيّع لحظة من العمر، اللحظة الواحدة تكتب لك حياة السعادة أبدا، طرفة عين واحدة، يمكن لك فيها أن تكتسب الجنة ورضوان الله، ويمكن لك في هذه اللحظةِ لذاك البعيد أن يسقط إلى الحضيض، العقل وقوى الإدراك هي الأساس في الارتباط بدور المسئولية وبالقيام بالمهمات الحياتية الكبرى، وبأداء الدور الخلافي عن الله سبحانه وتعالى. حيث لا عقل، تسقط إنسانية الإنسان، هذه التصفية للوجود المعنوي في الذات، لإنسانية هذا الشارب الخمر، أمر ما أكبره! العاقل لا يرتكبه، نعم من ترك الخمر لغير الله سقاه الله من الرحيق المختوم، فقال علي (ع) : (لغير الله، قال: نعم والله صيانة لنفسه- الرسول (ص) يقول: هذا إنسان قدّر نفسه، احترم نفسه، صان نفسه، ولو لم يكن العمل لله عز وجل، إلّا أن الله عز وجل يحب الجمال، يحب العقل، يحب الحكمة، وهذا من الحكمة، وهذا من العقل، أن يصون المرء نفسه – فإذا صان يشكره الله على ذلك ).
اللهم صل على محمدٍ وآل محمد، واجعلنا ممن يقوم بفرائض دينك، ويؤدي حقوق عبادك، ويأتمر بأمرك، وينتهي لنهيك، شكراً لك، وحباً لذاتك، وطلباً لمرضاتك، واغفر لنا ولأمهاتنا وآبائنا وأرحامنا ولكل ذي حقٍ علينا من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات أجمعين ولجميع أهل الإيمان والإسلام يا كريم يا رحيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
(قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين).
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جلّت أسماؤه، وعظمت آلاؤه، وعمّت نعمه، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا خفيّ في علمه، ولا صعب في قدرته، ولا كبير أمام عظمته، ولا ممتنع عن قهره. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اصطفاه لرسالته لإخلاصه العبودية، واجتباه أميناً على وحيه، ودليلاً لصالحي عباده، وقائداً لأوليائه، لخفضه جناح الطاعة لعزته وكبريائه، اللهم صل وسلم عليه وآله الطيبين الطاهرين.
عباد الله اتقوا الله وأمضوا العمر سعياً في سبيله، وطلباً لمرضاته، فما طلب شيئاً من كان غير الكمال مطلبُه، وما أصاب الكمال من كان غير الله مقصدُه. إنّ كمال العبد لا يأتيه إلا من جهة الرب، وما دام الرب واحداً، والآخرون كلهم من العبيد فلا خير لأحد منهم إلاّ من عنده، ولا كمال يطلبه أحد إلا من جهته، ولينظر الإنسان لنفسه كيف يقف غداً بين يدي ربه يوم يقوم الحساب، فشتّان بين موقف يقفه عبد قضى حياته يطلب رضى ربه، ويستغفر من ذنبه، ويتوب من خطيئته، ويكدح على طريق نجاته، وبين موقف عبد أدبر عن ربه واستكبر، وكسل أو أهمل، أو جحد وعاند وحارب. ألا فرّوا عباد الله بأنفسكم من غضب الله وعذابه، ولا مفر لأحد من الله إلا بالرجوع إليه، والدخول في طاعته، والاستكانة لعظمته وكبريائه وعزته.
اللهم صلّ وسلّم على خاتم النبيين، وآخر المرسلين، حبيب رب العالمين، محمد الهادي الأمين وآله الطاهرين. اللهم صلّ وسلّم على ولي المؤمنين، وإمام المتقين، العابد الزاهد، علي ابن أبي طالب. اللهم صلّ وسلّم على أمتك الصابرة، والدرة الإيمانية الفاخرة، فاطمة بنت الرسول الطاهرة. اللهم صلّ وسلّم على نوري الرسالة، وعلمي الهدى، وإمامي التقوى، الحسن أبن علي الزكي، والحسين ابن علي شهيد كربلاء.
اللهم صلّ وسلّم على أئمة المسلمين، وأنوار الدين، وأسباب اليقين، والقادة المهديين، علي ابن الحسين زين العابدين ومحمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق وموسى بن جعفر الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد بن علي الجواد وعلي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري زين الدنيا والدين.
اللهم صلّ وسلّم على موعود بيت الرسالة، ومأمول العالم، الإمام العالم، والمنتظر القائم. اللهم عجّل فرجه وسهّل مخرجه، وانصره نصراً عزيزاً وافتح له فتحاً يسيراً، وأقر عيون المؤمنين بطلعته، وأمدّ في عمر دولته، وبلّغه مأموله، وأكبت أعداءه، يا من هو على كل شئ قدير، وكل أمر في قدرته يسير. اللهم العامل على التمهيد له بخدمة الدين، وحفظ كرامة المؤمنين، ونشر الهدى, وبسط العدل، انصره وأعزه وأيّده وبارك خطـاه يا رحيم يا كريم.
اللهم انا نستهديك ونسترشدك ونستعطي من فضلك وكرمك ورحمتك، فاهدنا وأرشدنا وسدّ منّا الخلّة، وأغننا بعد العيلة، وقوّنا بعد الضعف، وأسبغ علينا النعم, وادفع عنا النقم يا كريم.
انتفاض الإدارة دكّ لانتصار الكفر:-
ألا إنّ أحسن القول وأصدق الحديث، قول الله سبحانه وقد قال في كتابه العزيز (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت، ثم وليتم مدبرين، ثم أنزل الله سكينته – وما أحوجنا إلى السكينة في هذه الأيام التي تضطرب فيها القلوب لانتفاش الكفر وانتصاراته المادية التي إذا نظر إليها في مقطعها الزمني المحدود, أخذت صورة هائلة جداً اندك أمامها الشعور, وذابت في اتجاهها الإرادة. وعلينا دائماً أن ننظر إلى كل انتصار والى كل هزيمة على خط التاريخ الطويل لنقيسه بالنسبة إلى بقية الأحداث التي تجري بين انتصار وهزيمة. وهذا الكفر الطاغي اليوم لابد أن نأخذ في شعورنا أنه سيتحجّم, أنه سيصغر, وأنه سيندك غداً, وليس بين الأرض وبين أن تشهد هزيمة الكفر بعد انتصاره، إلا أن تفيق النفوس وتنتفض الإرادة, ويكتشف الإنسان إنسانُ الأرض في الغرب والشرق ذاته، – على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنوداً لم تروها وعذّب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين) (25-26 التوبة).
الواقعة في صورة عابرة:-
في الخبر أن النبي (ص) ما أقام عام الفتح في مكة الا نصف شهر لم يزد على ذلك، حتى جاءت هوازن وثقيف فنزلوا بحنين لمواجهة المسلمين فلاقاهم رسول الله (ص) في اثني عشر ألف مقاتل لكنهم فاجئوا المسلمين في مواقع مختارة، بحيث ارتبك وضع المسلمين, وأصابهم الذعر لمّا أمطرتهم نبال القوم من حيث لم يكونوا يحتسبون، وفّروا عن رسول الله (ص) حتى لم يبق معه في موقفه الصامد إلاّ عدد يسير، في طليعتهم أمير المؤمنين عليه السلام والعباس بن عبد المطلب والباقي نفر من بني هاشم، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، هناك اثنا عشر ألف وهذا هو الباقي. وتختلف الروايات أنهم دون العشرة أو يبلغوا ثمانين، وتحقيق صاحب الميزان أن رواية أنهم عشرة أو تسعة هي الراجحةِ ، أين بقية المسلمين؟ وهم اثنا عشر ألفاً بما فيهم الصناديد وكبار الصحابة. ونادى رسول الله (ص) الفارّين فلم يجبه أحد. ثم أمر (ص) العباس وكان جهوري الصوت بندائهم فانطلق صارخاً فيهم: يا معشر المهاجرين والأنصار، يا أصحاب سورة البقرة، يا أهل بيعة الشجرة، إلى أين تفرون؟ هذا رسول الله، فجاءته تلبياتهم – والمنقول أنها تلبيات الأنصار وأنهم الذين بادروا وسارعوا – فجاءت تلبياتهم وهرولاتهم حتى ترك من لم تطاوعه دابته. دابته، والمنقول أن الأنصار جاءوا يتوارون عن رسول الله (ص) استحياء ، وعندئذ انهزم المشركون وانتصر المؤمنون.
أولا: وهذه تأمّلات يسيرة:-
القلة في بدر تنقطع إلى الله فتنتصر، والكثرة في حنين يصيبها الغرور وتعتمد على القوة المحدودة، وكل قوة بشرية هي قوة محدودة وحساب الله مع المؤمن غير حساب الله مع الكافر. قد يحقق الله عز وجل النصر على يد الكافر وهو يعتمد على قوته، ولا يحققه على يد المؤمن حين يتكل على ذاته وعدده وعدّته، ذلك تربية للمؤمنين وتأديباً لهم، وذاك استدراج للكافرين. القلة في بدر تنقطع إلى الله فتنتصر. نعم قلة عدداً وعدة كما يعلم، وهو درس شهده المسلمون وعاشوه بأنفسهم, بمشاعرهم, بعقولهم, بحسهم, بكل وجدانهم. والكثرة في حنين تفشل وتتراجع حين تنسى الله, وتنفصل عنه بشعورها. هذه مدرسة الحياة, مدرسة الميدان العملي. الإسلام ربّى المسلمين من خلال الأحداث، ومن خلال توجيه الأحداث، وقيادة الأحداث, من خلال الكبوة، من خلال النهضة، من خلال السقطة، من خلال القيام، من خلال الهزيمة، من خلال النصر، من خلال المتاعب والأشواك والعقبات، الكثرة في حنين يصيبها الغرور، اثنا عشر ألفاً، فرأوا من أنفسهم كثرة فنسوا الله، واعتمدوا على كثرتهم وقوتهم، فعلّمهم الله سبحانه وتعالى الدرس المؤدب، إذا كان الناس يتأدبون.
ثانياً: ينبغي توزيع الأدوار بحسب الكفاءات :-
أطرح سؤالاً: لماذا ينسى المسلمون التجارب التي يمر بها الرجال عند الاختيار للمواقع؟ ألم يشهد المسلمون علياً (ع) في كل تجارب حياته بطلا، ليس بطل يد ضاربة، بقدر ما هو بطل نفس مبدئية, وروح شفافة, وقلب موصول بالله، يهجم على الموت من غير حساب, كان منتصراً أو كان غير منتصر. ألم يجرّبوه عليهم السلام المقرّب من رسول الله (ص)؟ الذي يقف مع رسول الله (ص) في كل مواقف الضنك والشدة والضيق؟ أبعده رسول الله (ص) في يوم من الأيام، عن تفكير سياسي أو تفكير عسكري أو عن إدارة اجتماعية؟ ألم يكن الرفيق الأول له (ص)؟ ألم يؤاخه وهو تلميذه، من بين كل الكبار، ومن بين كل الأجلّة، ومن بين كل متقدمي السن وفيهم الفاضلون؟ لماذا ينسى المسلمون هذه التجارب؟ فحين تأتي القسمة يقدّمون من تأخّر ويؤخرون من تقدّم؟
ثالثاً: لا قيادة إلا لمن ثبت على خط الرسالة :-
نعم لكل مسلم مجاهد حظ في النصر، في تحقيق النصر، وفي حماية الإسلام، ولكن المعوّل بالدرجة الأولى, وفي كل زمن على أصحاب الثبات في كل الظروف وفي كل المواقع. الشخصية التي تثبت على الخط، حين الزلزال، وحين الإعصار، وحين الردة، هي الشخصية التي تنقذ المجتمع، ويحتاجها المجتمع، وعلى المجتمع أن يلتف حولها ولكنها نادرة وقد لا تحصل. وقد تقدم في بعض الخطب أن الشخصية التي لا تميل ولا تحدي ولا تميد، وعلى مستوى العالم كله، وعلى مستوى كل بعد من أبعاد العالم الإنساني، وعلى مستوى كل مسار، هي شخصية المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام، وهذا لا يعني أن الشخصيات الأخرى لا يجب أن يلتف حولها، فان الميسور لا يسقط بالمعسور.
رابعاً: من مشكلة المسيرة الإسلامية أن المتخلف في الشدة يتقدم في الرخاء والقسمة، فمن على التل أو وراء الجدار حال المواجهة والمحنة، لا يبقى في موقعه الأول عندما يتصور أن الحالة حالة غنائم. تجده قد تقدّم في الصف الأول وطالب بالحظ الأول.
خامسا: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، وذكر الله كثيرا، كان (ص) أشد الناس ثباتاً أمام الأهوال والشدائد، فكان القائد القدوة المعلّم الملهم، من القيادة؟ التي لا تنهزم إذا انهزم الآخرون، والتي تمد الآخرين بالثبات، وتمدهم بالقوة، وحرام أن يتقدم أحدنا عشرة إذا لم ير في نفسه ولو ظنّاً راجحاً أنه من أقواهم، ان لم يكن أقواهم وما ينبغي هو أن يكون أقواهم.
سادسا: عن أبي سعيد الخدري: فقال رسول الله (ص) : “وجدتم – الخطاب للأنصار – في أنفسكم – صارت في أنفسكم موجدة وشئ من الغضاضة، شئ من الحزازة في النفس على رسول الله (ص) – يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام – يكون جميلا ملفتاً للنظر لكنه لا يبقى إلا قليلا وينتهي ويذوب، هو المال, هي الدنيا كلها – تألفت بها قوما ليسلموا- هم قومه (ص), هم قريش وكذلك من سائر العرب. قسمة غنائم حنين، كانت بين قريش وسائر أبناء العرب، أما الأنصار فلم يشركوا فيها وغاظهم ذلك، فجاء خطاب رسول الله (ص) لهم، – أفلا ترضون يا معشر – في للعاعة من الدنيا تألفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام؟ جعلت حظكم أنكم أنصار الإسلام، حماته, حصونه، وجعلت حظ الآخرين حفنة من المال لا تبقى. أنا أكرمتكم أكثر، أم أكرمت الآخرين أكثر؟ تلك الحفنة من المال لتتألف الآخرين، كان إسلامهم ضعيفاً, وبريق المال هو الذي يستقطبهم، أما أنتم فتستقطبكم الرسالة، يستقطبكم نور الإيمان، فأنتم وزن أكبر من ذلك الوزن بكثير – أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن تذهب الناس إلى رحالهم بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله الى رحالكم؟ – ليس بمحمد المستقيم، بمحمد الشريف، بمحمد البيت الرفيع. بمحمد الرسول الذي هو أكبر من ذلك، بالرسالة بالوحي – اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار فبكى القوم حتى اخضلّت لحاهم، وقالوا رضينا بالله ورسوله قسماً ثم تفرّقوا”
ولي كلمة إلى المؤمنين من أهل جدحفص:
أنتم أيها الأخوة المؤمنون من أهل جدحفص مطالبون لبعضكم البعض، بحق الأخوة في الإسلام، وبحق الأخوة في الإيمان، بحق الرحم -وكثير منكم أرحام وقد لا يخرج من هذه الدائرة إلا القليل-، بحق الجوار- وجوار الدار يمتدُّ من جميع جوانبها إلى دارا كما عن أمير المؤمنين عليه السلام-، فكم هي جدحفص مساحة؟ فكلكم جيران، أنتم مطالبون بحق أمن البلد كله واستقراره، ومطالبون بوحدة المؤمنين في البحرين كلها، فان تمزّقكم يمزّق، وان فتنتكم تنشر الفتنة في المواقع الأخرى، فاتقوا الله. راجعوا أنفسكم أيها الأخوة من أهل جدحفص و اسألوها: هل استمرار الصراع من منطلق التقوى والحرص على سلامة الدين؟ هل هو انتصار لله؟ هل هو انتصار للذات؟ إذا خدعتكم أنفسكم فقالت لكم إن هذا الصراع من أجل الله فكذّبوها وردّوها إلى صوابها فكل الآخرين قد لا يشاركونكم في هذا الشعور ويرون أن استمرار هذا الصراع فيه خدمة للشيطان وفيه ضعف للمؤمنين.
ثم أنه قد ودّع العالم الإسلامي في الأيام القليلة الماضية، مرجعاً من مراجع الدين، ورجلاً من رجالات الجهاد الفكري والمواجهة السياسية في الساحة العراقية، وداعية لمدرسة أهل البيت (ع)، وهو سماحة السيد محمد الشيرازي تغمّده الله برحمته وأسكنه فسيح جنّاته، وانا لله وانا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
اللهم صلّ على محمد وآل محمد واغفر لنا ولجميع أخواننا واخواتنا من أهل الإيمان و الإسلام, ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبداً يا أرحم الراحمين.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون