خطبة الجمعة (25) 3 رجب 1422هـ – 21-9-2001 م
مواضيع الخطبة:
التفقه في الدين – الصبروتقدير
المعيشة – الدنيا سوق..الرد الأمريكي على أفغانستان
المطلوب من الحكومات الإسلامية وحكومات العالم أجمع أن تحدد مفهوماً واضحاً للإرهاب ، على مستوى هيئة الأمم المتحدة ، وأن تتخذ قرارات مشتركة مدروسة وعادلة في مكافحة هذه الظاهرة التي تهدد العالم بالدمار
الخطبة الأولى
الحمد لله نحمده ونستعينه ونؤمن به ، ونتوكل عليه ، ونفوّض أمرنا إليه ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يفعل ما يشاء وهو على كل شيءٍ قدير ، بيده مقادير الأمور ، ومصير الخلائق ، قدره جار وقضاؤه نافذ ، ولا مقاوم لقهره ، ولا مضاد لأمره ، ولا تخلف من مشيئته . وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون . اللهم صل وسلم على رسولك المصطفى ، ورحمتك للورى ، وعلى آله المعصومين الشرفاء .
أوصيكم ونفسي بتقوى الله وأن لا يخرجنا شيء من حب الدنيا عن طاعته ، أو يقودنا إلى معصيته ، وأن لا تنسينا زخارفها جميل ما وعد ، وجليل ما بشر به ، وأن لا تلهينا محاذيرها من عظيم ما توعد ، وشديد ما أنذر به . فإن غداً لناظره لقريب ، وما أسرع ما ينكشف أن الركض وراء الدنيا ركض وراء السراب ، وغداً تحدثك بنفسها عن ذلك عندما يكون العمر إلى أفول ، وربما سُدّت على النفس كل منافذ سمعها وبصرها من حب الدنيا حتى لا يسمع نصحها وحديثها الصادق عن نفسها وإنها غرور ، ولا ترى من عبرها الصارخة في الآخرين وفي الذات ، وفي البعيد القريب الراحلين ومن على الطريق ما يجعلها تقطع الرحلة إلى السراب ، وتلتفت بنظرها عن الآمال الوهمية حتى في أواخر الطريق ، وعند أوهن العُمُر . وغداً يرى الصابرون خيراً ، وإن وعد الله حق ، وأن الله لا يخلف الميعاد . وعندئذ تقر الأعين ، وتطمئن النفوس ، وتلذ الحياة . ولي : سؤال هل يخاف مؤمن مما بعد الموت أن آمن ؟؟ وهل يأمن كافر مما بعد الموت أن كفر ؟! وسؤال آخر : هل يندم مؤمن غداً بعد هذه الحياة أن ترك لذة من لذائذها ؟ وهل أنت تعيش الآن حسرة أن فاتتك وجبة شهية قبل عشرات السنين فقط فضلاً عن ألوفٍ أو ملايين من السنين قد ولت ؟! وهل سيبقى مع كافر أو فاجر من لذائد هذه الدنيا ما ينعشه عد رحيل وفوات صار إلى عدم كما يرى ، أو بعث حياً ليلقى ما قدمت يداه ، كما هو الحق اليقين ؟! ابحث في وجدانك عن الإجابة تجد أن لذائد الأمس القريب قد ودعتك قبل أن يودعك الأمس، فكيف بلذائذ مضت عليها آمادٌ وآمادٌ وآماد ، بلذائذ جسد قد بلى وتحولت عظامه إلى رميم ، بل ودخل في تحولات وتحولات جعلت من أمر أصله شيئاً منسياً ؟!
اللهم صل وسلم على رسولك الأمين محمد خاتم النبيين والمرسلين وآله الطيبين الطاهرين ، و أرزقنا الرشد والهدى واليقين ، واجعلنا إلى ما تحب من الخير ، وجنبنا ما تكره من الشر ، وصيّرنا إلى محبوبك من الطاعة والتعلق بالآخرة ، والنأي عن التنافس على الدنيا ، وعبادة الهوى ، وتقديم العاجلة على المأوى يا رحيم يا كريم .
أيها المؤمنون والمؤمنات : يحتضن الأسبوع الأول من رجب ثلاث ذكريات حسب التأريخ ، مولد الباقر والهادي عليهما السلام ، فهاتان اثنتان ، والثالثة هي ذكرى وفاة الهادي عليه السلام ، وليكن تتلمذنا اليوم على مائدة كلمتين للإمامين الطاهرين ، ومن كلمات الأئمة عليهم السلام يتعلم للدنيا وللآخرة .
الكلمة عن الإمام الباقر عليه السلام (( الكمال كل الكمال : التفقه في الدين ، والصبر على النائبة ، وتقدير المعيشة )) ..
والكلمة عن الهادي عليه السلام (( الدنيا سوق ، ربح فيها قومٌ ، وخسر آخرون )) ..
مع الكلمة الأولى :
ما هو التفقه في الدين .. الذي عدّه الإمام عليه السلام الكمال ؟
قبل ذلك إذا راجعنا الكلمة وجدنا فيها ثلاثة أبعاد ، ثلاث نظرات ، نظرة إلى الروح والفكر أو العقل ، ونظرة إلى النفس ، ونظرة إلى الناحية العملية .. التفقه في الدين فيه نظرٌ إلى الروح والعقل ، الصبر على النائبة فيه نظرٌ إلى البعد النفسي في الشخصية الإنسانية ، تقدير المعيشة فيه نظرٌ إلى الجانب العملي في حياة الإنسان .
عندما يقول الإمام عليه السلام : التفقه في الدين .. ما هو التفقه في الدين ؟؟ أن تكون لك رؤيتك الكونية الصادقة الواعية المطابقة للواقع ، بأن توحد الله سبحانه وتعالى وترد الأمور كلها إليه ، أن يكون توحيدك شاملاً صادقاً على مستوى الذات وعلى مستوى الصفات وعلى مستوى الفعل لله سبحانه وتعالى وعلى مستوى العبادة وعلى أي مستوى من المستويات التي يأتي عليها التوحيد .
التفقه في الدين يعني أن تتوفر على رؤية واضحة للمفاهيم الإسلامية ، وأن تعرف مقاصد الإسلام والخطوط العريضة في أخلاقية الإسلام وما يهم الإسلام من الأهداف الكبرى التي لا يمكن التضحية بها .
من التفقه في الدين أن تعرف هذا الترابط المكين الشديد بين وحدات النظام الإسلامي المتكامل المتناسق ، من التفقه في الدين أن تعرف دوره في الحياة ورسالته في الناس وأنك تعيش هذه الرسالة وتعيش هذا الدور في حياتك كلها فكراً ، شعوراً ، عملاً .
من التفقه في الدين أن تعرف دقة الأحكام الإسلامية في الفروع ، في كل عمل ، في كل حركة وسكون ، وأن لا تقدم لهذه الدقة ولهذه المعصومية ولهذه العدالة في الحكم الإسلامي وأنه من حكم الله سبحانه وتعالى ، أن تقدّم عليه أي حكم آخر .
من التفقه في الدين أن تعرف ربطه بين الآخرة والأولى وأنه يوجد التكامل والانسجام والتفاعل المتكامل بين ما هو للدنيا وبين ما هو للآخرة ، ولا يحدث انقسامٌ في الإسلام بين تشريعاته للدنيا وبين تشريعاته للآخرة ،كل هذا وغيره هو من التفقه في الدين ، وعند توفر الشخصية على هذه الرؤية ، على هذا التفقه ، يكون قد توفر على انطلاقة روحية وعقلية صحية متينة ، تضمن له السلامة حين يعود لها في سلوكاته ، في تصوره ، في مشاعره ، في علاقاته ، بما هي قاعدةٌ ثابتةٌ متأصلة يرجع إليها كل حين ، يراجعها فيما يصح وما لا يصح ، فيما هو خيرٌ ، فيما هو شر ، فيما هو هدىً فيما هو ضلال ..
لماذا هذه الأهمية للتفقه في الدين ؟
لأنه لا تصح دنيا ولا تصح آخرة ، بلا هذا التفقه في الدين ، وأنتم ترون من آثار الانفلات عن الدين ، ما ترون ..
الصبر على النائبة ..
الصبر على النائبة له منطلق من داخل النفس ، مرةً تكون البنية الطبيعية الوراثية ، لهذا الشخص بالخصوص متينة ، وتكون وراثاته التي تلقاها قوية ، فيساعده ذلك على الصبر ، إلا أنه هناك منطلقاً أكبر للصبر على النائبة والثبات عند الشدة ، هذا المنطلق يتمثل في تلك الرؤية التي تقدم الحديث عنها ، فالنفس الموصولة بذكر الله ، المشعة بنور الله ، المتجهة لله سبحانه وتعالى ، نفسٌ صامدةٌ ، نفسٌ قوية ، نفسٌ متينة ، نفس مقاومة .
والنفس التي ترجو ما عند الله ، وترى خسارة الدنيا مهما كبرت ليست بكبيرة ، وأن ربح الدنيا مهما كبر ليس كبيرا ، نفسٌ لا تنهزم ، نفسٌ لا تستكين ، نفسٌ لا تضعف .
الصبر أيضاً له مردود ، إن الصبر على النائبة والجائحة يعطي للنفس صلابةً جديدة ، ويعطيها إضافة إيجابية جديدة ، كلما حصل للشخص موقف ثبات ، وصبر في نائبة ، انبنت نفسه أكثر ، واشتد عودها على الأيام والنوائب أكثر ، وكلما تراجعت النفس في موقف من مواقف الإغراء أو مواقف الوعيد والتهديد ، كلما لانت وكلما تراخت ، وكلما تهلهل نسيجها ، فالصبر تجربة ناجحة لبناء النفس ، بالتقدم بمستواها بالصعود بها إلى فوق ، إلى الأمام .
قفوا على ردود الفعل الهوجاء الآن ، والتي تتهدد العالم بكارثة عارمة ، إن الرصيد الذي يمكن أن يقي من هذه الكارثة ، هو قدرة على ضبط النفس ، هو قدرة على ممارسة النفس ومشتهاها ، وروح النقمة فيها بالتحدي الكافي ، وهذه القدرة على تحدي النفس ، القدرة على الانضباط تحتاج إلى وزن نفسي كبير إنما يستمده صاحبه في الأغلب ، وبأكبر درجة ممكنة من خلفية الإيمان ، من خلفية الصلة بالله سبحانه وتعالى ، من خلفية تنور القلب ، من خلفية اطمئنان النفس والقلب إلى الله .
وما يعني تقدير المعيشة ؟
للمعيشة أهمية كما سبق في الحديث عن المال في الإسلام ، ومن تقدير المعيشة أن تدفعك للسعي الكافي للتوفر على أسباب المعيشة ، في هذا تقديرٌ للمعيشة ، لأهميتها ، لضرورتها .
من تقدير المعيشة : الاتزان و الاعتدال في الإنفاق كمية ، وفي الإنفاق كيفية ، كمية الإنفاق ، نوع الإنفاق ، أولويات الإنفاق ، تحتاج مراعاتها إلى ضبط نفسي خاص ، وتحتاج إلى رؤية إيمانية وموضوعية ، يحتاج ذلك إلى وعي ، فحين يتوفر الإنسان على الوعي الكافي والنظر الدقيق والروح الإيمانية ، والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى تحدث عنده القدرة على تقدير المعيشة فرداً كان ، شعباً كان ، حكومة كانت ، أو أمة ، أو الإنسانية كلها ، ومما يقتل الإنسانية الآن ومما ينشر الرعب فيها ، ومما يحدث الصراعات الحادة ، هو عدم القدرة على تقدير المعيشة ، وأن العقول مملوكة للشهوات ، ولو لا أن العقول مملوكة للشهوات ولو لا تغلب الروح الإنسانية ، في ظل الشهوة العارمة ، لكان انضباط ، وكان تقديرٌ للمعيشة ، فما وجد الإنسان عند ذلك حاجةً إلى الصراع والفتك ، والقتل من أجل متابعة الشهوات ، ومن أجل تبذخ القاتل .
كيف كان هذا كمالا ؟ الآن بُيّن .. لأنه ما لم يكن تقديرٌ للمعيشة يكن تهارشٌ على الثروة وإن كبرت ، صغرت أو كبرت ، و التهارش على الدنيا ، والتنافس عليها والاصطراع على موائدها وشهواتها يحط من قدر الإنسان إلى حد الحشرات والكلاب التي تتهارش على عظمة اللحم .
مع الكلمة الثانية ..
وهي للإمام الهادي عليه السلام (( الدنيا سوق ، ربح فيها قومٌ ، وخسر آخرون )) ، ومن عادة السوق ، ومن طبيعة السوق أن تكون ميدان عمل ومسرح تجارة ، فالدنيا على دونيتها ، حين يتجمد النظر عليها هي من أكبر شيء في وجود الإنسان ، هي الرصيد الأول والأخير في يد هذا الإنسان ليحدد مصيره ، ليبني مستقبله ، ما من فرصة أخرى غير فرصة هذه الحياة تستطيع أن تبني فيها مستقبلك الكبير ، مستقبلك الأخروي ، مستقبلك الأبدي .
الحياة إذن ليست مناماً ، وليست مستراحاً ، وليس للعبث واللهو ، ولا للكسل والخمول ، إنها سوق والسوق لا تعرف إلا التنافس ، السوق لا تعرف إلا الحركة ، السوق لا تعرف إلا التلفت والخبرة ، السوق لا تعرف إلا استحضار مسألة الربح والخسارة ، والتي تستتبع حركة وراء الربح ، حركة متقدمة في اتجاه الربح ، حركة متراجعة عن اتجاه الخسارة ، هذه صفة من صفات الدنيا تحملها كلمة (( الدنيا سوق )) .
السوق فيها باعة وفيها مشترون ، وفيها تنافس بين الباعة وتنافس بين المشترين ، بلى .. في السوق باعة يتحركون ، باعة بشر ، ومشترون بشر ، وفي السوق مشترون في صورة شهوات ، وفي صورة لذائد عابرة ، في صورة زخارف تتمتع بها هذه الدنيا ، ويمكن لأي زخرفة من زخارف الدنيا ، لأي شهوة من شهوات الدنيا ، في حال غفلة ، في حال استنامة ، أن تشتري الشخصية الكبيرة العملاقة ، بكل ما لها من رصيدٍ علمي ، وبكل ما لها من رصيد سياسي ، وبكل مالها من رصيد في أوساط المؤمنين ، فلا بد من التفات : الشهوة تشتري ، زينة الحياة الدنيا تشتري ، النساء تشتري ، الرجال تشتري يا إخوان .
هناك جهات خاصةً في هذا اليوم ، لشراء الشعوب ، لشراء الحكومات ، لشراء الشخصيات ، أنت في سوق تستطيع أن تبيع علمك ، تستطيع أن تبيع إيمانك ، تستطيع أن تبيع حجمك الإيماني كله بوظيفة من الوظائف ، بحفنة من المال ، بذكر في الصحافة ، بكف أذى عنك ، بمليون سلعة ، لكن هذا البيع في نظر الإمام الهادي عليه السلام بيعٌ خاسر وتجارة خاسرة .. ويلٌ لمن باع دينه من أجل دنياه .سيعض على أنملته على إصبع الندم يوم أن يفوت وقت الندم .
فيها تنافس من الباعة ، الكفاءات كما تطلب شراءها أمريكا ، تطلب شراءها الصين ، تطلب شراءها حكومات وحكومات وهنا تنافس والتنافس شديد بين هؤلاء المشترين ، والباعة أصحاب الكفاءات من أجل أن توظف كفاءاتهم لتركيز الظلم و لاستغلال المستضعفين ..
وهناك أيضاً تنافس بين الباعة وبين المشترين ، الذين يـبيعون دينهم حين يشح الطلب ، حين يشح الطلب يتنافس باعة الدين ، ويتهافتون على صفقات بيع الدين بالدنيا ، وتبخس هنالك الأثمان أكثر فأكثر ، والمشترون يتنافسون وهو ما قلته بالنسبة لأمريكا وروسيا والصين وغير هذه الصور .
في السوق فنٌ للعرض وترويج للبضائع ، والتلفاز والإنترنت والمذياع والصحف ، كل القنوات الفضائية كلها ترّوج وكلها تعرض في فن عالٍ من الدقة جداً على باعة الدين وعلى باعة الشعوب وعلى باعة الكرامة أن يتقدموا في صفقات البيع المطروحة .
الداخلون في هذه السوق التجارية المادية لهم رصيد مالي ، لا يدخلها إلا صاحب رصيد مالي صالح للتجارة ، والأكفأ في الميدان الآخر في سوق بيع الأديان ، وفي سوق بيع الكرامات ، وفي سوق بيع الشعوب والأمم ، الرصيد هنا كفاءة ومركز اجتماعي وثقة مجتمع في الشخص أو في الجماعة وما إلى ذلك …
وكلما كبر رصيد الشخص في علمٍ أو في دينٍ أو مركزٍ اجتماعي كلما كان الثمن أكبر ، فاحذروا كل الحذر أن تقدموا من لا رادع له من دين ولا تقوى له من الله .
النتيجة عند الإمام عليه السلام أن هناك رابحاً وخاسراً ، وملايين من الناس تخسر والقلة تربح ، تصمد أما كل التنافسات فلا تقدم صفقة فيها بيع شيء ولو قليل من الدين ، وما باع شخص قليلاً من دينه إلا وباع الكثير ، إنها جرأة وحين تحصل النفس على جرأة فيها بيع دين ولو كان هذا البيع بيعاً فإنها قادمة لا محالة على بيع الدين كله .
نعم هو خاسرٌ من خرج من هذه الدنيا وليس معه أي شيء من الثمن الذي باع به دينه ، قولوا لي : من سيخرج من هذه الدنيا ومعه قصوره وحقوله ومعه جاهه وشهرته يمتع بها هناك ، كل الذين يبيعون دينهم بدنياهم يخرجون من هذه الدنيا ولا تحمل أكفهم شيئاً من الثمن ، وجيوبهم خاليةً تماماً من تلك الأثمان ، نعم تبقى الأوزار على الظهر وتبقى المسئولية الكبرى وتبقى النار والعذاب .
اللهم إنا نسألك ونضرع إليك أن ترحمنا وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ، وتغفر لنا ذنوبنا وتحط عنا أوزارنا ، وتسد أبواب الشر عنا شر الدنيا والآخرة ، وأن تدفع عن بلاد الإسلام والمسلمين كل سوء ورزية ، وتجعل الجميع في حصنك المنيع ، وحماك الذي لا يضام ، وكنفك الذي لا يرام .
بسم الله الرحمن الرحيم
( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
الخطبة الثانية
الحمد لله الولي الحميد الحكيم المجيد،الفعال لما يريد ، علام الغيوب ، مدبر الأمور، لا يمتنع شيء أمام تقديره، ولا يختلف شيء عن مقتضى تدبيره ، ولا يستقل عنه شيء بصنع ، ولا يستغني عنه شيء في تقديره . ما يكون من خير ولا شر إلا بإذنه ، وما تقطر السماء إلا بعلمه ، وما تنبت الأرض إلا بقدرته ، وما تشهد من أمر إلا وكان في قدره .نحمده على ما كان ، و نستعينه من أمرنا على ما يكون ، ونستغفره ونشهد به ونشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، جبار فوق كل جبار ، قهار يذعن لقهره كل قهار ، ويستكين لقدره الأخيار والأشرار . ونشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله مبلغاً وهاديا ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً ، فمضى في أمر ربه كادحاً مجاهداً مخلصاً حتى أتاه اليقين صلى عليه وآله الطيبين.
عباد الله اتقوا الله ، وانظروا بعين البصيرة إلى دروس الحياة وأصغوا إلى نداءاتها التي تطلقها إلى أسماع الأفئدة … فمخاوف الحياة نذير عملي من مخاوف الآخرة، ونوائبها صورة مصغـّرة من كوارثها?المفزعة التي تفوق ما تطاله الأوهام والخواطر . ونعم الحياة عرض إعلامي بسيط عن لذيذ نعم الآخرة وأطايب عيشها الرغيد . والحياة أمد ، والآخرة أبد … أمدٌ ينتهي وأبدٌ يدوم ويبقى …وصحيح أن في الحياة اغراءاتٍ للأغرار، ولكن فيها غصصاً وكوارث وفجائع يعج بها الليل والنهار ، وإنذارات صارمة ًيفهمها ذوو الأنظار ، فلا تكن الغر الذي يغفل أو يستغفل ، ولا يرى ولا يسمع لغة الإنذار، فتكون ـ أعاذك الله ـ ممن قال عنهم سبحانه” وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) “الأعراف .
اللهم صل وسلم على البشير النذير ، والسراج المنير رسولك للعالمين محمد خاتم النبيين والمرسلين.اللهم صل وسلم على أمتك الطاهرة التربية على الإسلام ، الملئية بالإيمان ، الصديقة النوراء ، فاطمة الزهراء . اللهم صلي وسلم على أوليائك وخلفاء رسولك ، وحملة علم كتابك ، و المؤهلين إلى نشر العدالة في أرضك وعبادك علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ، والحسن بن علي الزكي ، والحسين بن علي الشهيد، وعلي بن الحسين زين العابدين ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق وموسى بن جعفر الكاظم وعلي بن موسى الرضا ومحمد بن علي الجواد وعلي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري الأئمة الراشدين المهديين.
اللهم صل وسلم على من يتلهف المستضعفون لمطلعه ، ويتشوق المخلصون لنصرته ، ويستعجل المضطرون يوم فرجه ولي الله، وسليل رسول الله القمر بن القمر الإمام الثاني عشر.
اللهم افتح له فتحاً يسيراً وانصره نصراً عزيزاً ومكن له تمكيناً شديداً، وأيده تأييداً كبيراً، وأغدق عليه نعمك ، وصب على أعدائك وأعدائه نقمك يا قوي يا عزيز.
اللهم من كان له ناصراً وممهداً ، وعلى طريقه دالاً ، والى هداه داعياً فسدده وأيده ، واحمه بحماك وادفع عنه بدفعك يا كريم . ومن كان عنه صاداً ، وله معانداً ، وبأوليائه كائداً فكد عليه واكف المؤمنين شره ، ورد كيده إلى نحره يا قوي يا علي يا عظيم .
اللهم إنا نستغفرك ونستهديك و نستعينك فاغفر لنا ولكل إخواننا وأخواتنا في الإيمان من الأحياء والأموات ومن يعنينا أمره ، واهدنا سواء السبيل وأعنا على التزام طاعتك ، وتجنب معصيتك يا أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
تكثر القضايا والموضوعات التي تستدعي التعرض لها ، وفي مقدمة القضايا الساخنة ما شغل الساحة العالمية بصورة عامة والساحة الإسلامية بصورة خاصة هذه الأيام.ويتهدد الساحتين معاً من شر متطاير شرره ، مما قد تتبعه التفجيرات المذهلة في أمريكا ، ورد الفعل الساخط الانفعالي عليها. وبهذا الشأن يذكر:
1- أن أحداث التفجير كان فيها تحدياً ضخماً لكبرياء أمريكا وأمنها وهيبتها ، وهو أمرٌ من شأنه أن يثير .
2- هذه الأحداث أدانها العالم كله ، ولم تتأخر ادانتها من العالم الإسلامي حكومات وأحزاباً ومنظمات ومجامع وجوامع وشخصيات مختلفة.
3- أسرعت الحكومة الأمريكية بتوجيه التهمة إلى طرف بعينه وأشركت معه بصورة تبرعية أوضح، أطرافاً أخرى ، وتعاونت لغة الحماس والتهديد في التصريحات الرسمية بصورة غير منضبطة وان كانت كلها تتسم بالتشنج والانفعال.
4- بدأت التحضيرات الفعلية الضخمة لرد فعل قاسٍ وطويل المدى وعلى مستوى جبهة عريضة وكان المطلوب مواجهة عالمية شاملة . وهذا كله قبل أن تعين الأدلة المتهم ، وفي الوقت الذي يعلن فيه المسؤولون الأمريكيين عدم انتهاء التحقيقات إلى شيء مقطوع به، ولا تظنون ظناً راجحاً وأن الوقت لازال مبكراً من هذه الناحية.
5- تتركز الاتهامات غير المحققة والمدققة على شخص أو حركة معينة لكن الحرب المعلنة حرب على أمة ودين وحضارة وتاريخ هي أمة وحضارة وتاريخ الإسلام رسالة الأمن والعدل والسلام ومحبة الإنسان للإنسان.
6-إن الاندفاع الأمريكي لإعطاء رد فعل قائم على روح الانتقام بعيداً عن موازين الدين والعقل والعدل أن لم يكن الشرارة الأولى لحرب عالمية ثالثة تؤدي إليها نزاعات الموقف العسكري المنشدين فأنه على الأقل المتشدد يؤدي في النتيجة إلى متاعب جمة شاملة للعالم كله ،وسيثير روح العداوة الدائمة المتفاقمة بين الشعوب الإسلامية وشعوب الغرب وهو ما لا يصح أن يسعى إليه عاقل.
7-يتمثل الإخلاص للعالم من قبل الحكومات الإسلامية في العمل على تهدئة الموقف واتجاه الأمور إلى التعقل والاتزان في رد الفعل الأمريكي على الهجمات التي بعد لم يتحدد على من تقع مسئوليتها في الوقت الذي يذكر الإعلام قرائن تشير إلى تورط إسرائيل وهجمات أمريكية لا صلة لها بالإسلام و لا المسلمين.
8-إن قيام الحكومات الإسلامية بدور الوكيل أو الشريك في تدمير أفغانستان وشعبها المسلم المرهق المستنزف المكدود البريء يمثل جرأة على الله ورسوله ، وسحقاً لكرامة المسلمين ، واستخفافاً بالدم المسلم ، وفضيحة تاريخية كبرى.
9- المطلوب من الحكومات الإسلامية وحكومات العالم أجمع أن تحدد مفهوماً واضحاً للإرهاب ، على مستوى هيئة الأمم المتحدة ، وأن تتخذ قرارات مشتركة مدروسة وعادلة في مكافحة هذه الظاهرة التي تهدد العالم بالدمار ، تهدف هذه القرارات إلى معالجة المشكلة من الجذور بتوفير العدل وعدم إلغاء القوي للضعيف والاستخفاف بحقوقه وإنسانيته وحياته.
10-إن التأديبات العسكرية الصارمة المنطلقة من روح التشفي والانتقام والتي تحدث الدمار ، وتغرق الأرض بالدمار، إذا أسكتت فإنما تسكت إلى حين ، ولكنها تفتح ملف حالات الاختلاف في داخل البلد الواحد أو بين البلدين المسلمين ، وكذلك في حالات الاختلاف مع العالم الآخر . ولكن هل هو صحيح أن تمارس دول مجتمعة أبشع صور الإرهاب لتقتل وتفتك وتدمر وتشرد الملايين من شعوب أمة من غير حساب ؟! إن العنف يدعو للعنف والإرهاب يدعو للإرهاب فلا بد أن يكون الشجب شاملاً متسحباً على الجميع.وألا تفتح باب لظاهرة الإرهاب في تبادل مستمر للعنف ، وتفنن دائم في أساليب المواجهة الفتاكة.
11- إذا كان صُنّاع القرار العالمي يبلغ بهم الضعف أمام حالة الانفعال إلى التسرع في قرار العنف من غير أن تُنتظر نتائج الدراسة والتحقيق لما يمكن أن يسجّل إدانة لطرف معين قد لا يكون هو من أسرع إليه الاتهام، فماذا يتصور من حال ردود الفعل الشعبية المتبادلة على مستوى شعوب الحضاريتين إذا حدث الدمار، وسالت بحور الدم، وهدمت بيوت الآمنين على رؤوسهم، وجاءت القنوات الفضائية بصور الرعب والإرهاب المكشوف والمعلن عنه رسمياً؟!
12- إن العالم بهذا النوع من رد الفعل الذي يقدم عليه الساسة الأمريكيون يحضّر فوراً لمرحلة مرعبة من الإرهاب الواسع بأساليب شتى مبتكرة تزيد من عذاب هذا العالم وترفع من مستوى شقائه أضعاف المرات، وتدخله في متاهات جديدة من الرعب لها أول وقد لا يكون لها آخر.
13- نعم خلق الإنسان ضعيفاً.. خلق الإنسان هلوعاً.. خلق الإنسان عجولاً…. أين الكلام الكثير عن حوار الحضارات، وأين الأساليب الحضارية المتقدمة، وأين التفكير العلمي، وأين الموضوعية.. وأين كون المتهم بريئاً حتى تثبت إدانته… وأين الإصغاء من الساسة الأمريكيين للآخرين بضبط الأعصاب… وأين؟ وأين؟ كل ذلك يتبخر إلى لا شيء إلا النقيض أمام حدث أزعج وأربك وأذهب بالصواب. أو أن ما كان بحسب الوهم لم يكن بالحق أبداً؟
14- كلنا ننكر الإرهاب من أي كان، ونشجبه ونشجب معه أسبابه ومنابته، ونؤكد بأن فيه خسارة العالم كله، وننكر أن تواجه أمة وتباد شعوب، وتُحشد دول في عملية إرهاب واسع صار في بشع تقوده الدولة التي تريد زعامة العالم وباسم محاربة الإرهاب.
15- إنه ليخاف جداً من فتن داخلية مترتبة على اشتراك الأنظمة في البلاد الإسلامية في الحملة الأمريكية بعيدة المدى، ويمكن لهذه الفتن التي نجد بداية لها في باكستان أن تنشر الفوضى بين المسلمين وتهدد كيانهم بالكامل، وتفتك بهم على أيديهم نفسهم. فلابد من أن تعمل هذه الأنظمة بجد وإخلاص على وراء هذا الأمر الخطير، وهذه الكارثة المفجعة.
16- إن لجوء بعض الإسلاميين إلى أساليب المواجهة الحادة في غير مورد هذه التفجيرات يرجع في الكثير إلى المبادرة القاسية للإسلام في بلاده والتضييق الخانق على الإسلاميين، فما أجمل أن تعالج هذه الظاهرة التي قد تبتلي بها بعض البلاد الإسلامية بمعالجة هذا السبب الموضوعي الواضح.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وكفّر عنّا سيئاتنا واكفنا ما أهمنا من أمر ديننا ودنيانا، وادرأ عنا وعن إخواننا المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات أجمعين واغفر لأحيائهم وأمواتهم يا كريم.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون