خطبة الجمعة (22) 12 جمادى الثاني 1422هـ – 31-8-2001 م
مواضيع الخطبة:
التصور الإسلامي للمال (3)
–بلادنا والمظاهرات- ولاية الفقيه – اختطاف موسى الصدر
اختطاف موسى الصدر، وتغييب خبره في عالمٍ يكاد يدري عن موقع الإبرة الضائعة في المحيط أمرٌ عجيب، ولكن كيف العجب في عالم يقدمك فيه الظفر والناب، ولا يغلو فيه الإنسان حتى يسقط، من سقط أكثر غلا في نظر الدنيا اليوم أكثر
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين ، باعث المرسلين مبشرين ومنذرين ، المجازي يوم الدين ، القاضي بالحق ، الحاكم بالعدل ، لا يفوته ظلم ظالم ، ولا مظلمة مظلوم . اشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، ولا خلف لقوله ولاتبديل ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، به ختم النبوة ، وأتم الرسالة ، جاء مصدقاً للمرسلين ، وهداية للعالمين ، من الرب الكريم الرحيم . اللهم صل وسلم على محمد وآله الهداة الميامين .
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى لله ، وأن لا نعدل عن هداه إلى ضلال غيره ، و لا عن عدله إلى جور من سواه . وما خالفت كلمة لأحد كلام الله ، ولا تشريع من أحد أحكام شريعته ، إلا وكان في ما خالف كلام الله وشريعته الضلال والبوار والخسار .
اللهم يا من لا يرجى إلا هو لغفران الذنوب ومحو السيئات اغفر لنا ولمن يعنينا أمره ولمن علمنا علماً نافعاً من المسلمين والمسلمات ، ولإخواننا وأخواتنا في الإيمان أجمعين ، وارزقنا الثبات على دينك ، والمداومة على طاعتك ، والنأي عن معصيتك ، والفرار إليك من نقمتك يا كريم .
أيها الأحبة في الله من مؤمنين ومؤمنات :
أذكّر أولاً بالمحورين السابقين من محاور التصور الإسلامي عن المال وهما محور أن المال مال الله ، وعباده مستخلفون فيه ، ومحور كون المال قياماً للناس ، فيه بقاؤهم ، ويحتاجه نموهم ورقيهم ، وبه صلاح أمرهم في دينهم ودنياهم ، فالأرواح العابدة لله في هذه الحياة ، تقوم الأجساد المحتاجة إلى الخبز والماء والكساء والمأوى . وحرية الأمم وكرامتها لا تدوم مفصولة عن المال والاكتفاء من الماء والغذاء ، والثروة وما يقوم عليها من أسباب القوة والمنعة .
والمحور الأول لا ينسجم معه أن يطلق الإنسان يده في المال ، يتصرف فيه كيفما شاء من دون أن يرجع إلى مالكه الحق ومستخلفه فيه في هذا التصرف . والمحور الثاني ينفي العبثية عن المال ، وينأى به عن الأدوار الهدامة ، وحتى الموقع الثانوي لا بد أن يفرض تحديدات على موقف الإنسان من المال ، وتعامله معه ، وتحركه فيه على الاصعدة المختلفة . فإنه إذا كان المال في واقع الأمر قياماً للناس ، وقواماً لحياتهم ، وكذلك هو في النظر التشريعي ، فلا بد من أن تأتي تحديدات شرعية للحركة الاقتصادية ، من منطلق تلك العلاقة الواقعية بين المال وحياة الإنسان ، ومن منطلق ذلك النظر للمال في مقام التشريع وترتيب الأحكام .
وقد سبق التعرض لنتائج من نتائج نظر الشارع المقدس إلى المال وهو نظر تابع لموقعه من حيث الواقع الذي يعنيه قياماً للناس وقواماً لحياتهم . واتابع النظر الآن في آثار هذه الرؤية للمال . فهي رؤية تضع تحديدات تشريعية على الحركة المالية في مختلف مستوياتها . فالمال إنتاجا وتنمية – امتلاكاً – استيراداً- توزيعاً استهلاكاً – إنفاقا في سبيل الله يواجه تحديدات على مستوى التشريع من منطلق تلك الرؤية الأساس .
أولاً : المال إنتاجاً وتنمية .. لا يكون الطريق مفتوحاً أمام إنتاج المال وتنميته بلا قيد ولا شرط ..مثلاً ما يفيض عن حاجة الاستهلاك والتصدير ، ويذهب هدراً أو يتحول ملهاة .
الإنتاج المضاد لكرامة الإنسان ، أي كرامة الإنسان ورعايته هو إنتاج مرفوض في الإسلام ، فاستغلال العامل مثلا في مناجم غير صحية تعرضه للهلاك ، وتستنزف صحته وتحوّله إلى آلة رخيصة لاستخراج الفحم أمر مرفوض في الإسلام أيضا .
إنتاج يتسبب في تلويث البيئة ، تلويثاً مضراً بصحة الإنسان ، بصحة النبات ، بصحة الحيوان ، كل ذلك مرفوض لمعارضته لما هو المحور الأول وهو الإنسان كرامة الإنسان سلامة الإنسان .
ما يستخدم بسرفٍ من كيماويات في معالجة مسألة الزراعة ومحاربة للحشرات الضارة ، إذا كانت ستطال صحة الإنسان بالتدمير فهي معالجة مرفوضة وهذا النوع من التدمير بالتالي مشجوبٌ في الإسلام.
إنتاج أسلحة الدمار الشامل ابتداء معناه أن ينتج الإنسان على يديه ما يدمر حياته ، ما يقتل الحياة في الأرض ، ما يعرقل حركة النمو ، ما يخيف ، ما يرعب ، ما يستعبد الإنسان ، ما يركّعه .
إذا جاء إنتاج أسلحة الدمار الشامل رداً على ما أنتجه الطرف الآخر فهو معقول للوقاية ويحتاج إلى ضبط نفسي شديد وإلى روح متقية وإلى عقل مسيطر .
مثلاً إنتاج لعب الأطفال من أغلى المعادن ، يمكن أن تنتج لعب الأطفال من الذهب والفضة ، هذا إنتاج عبثي ، هذا إنتاج يخالف مصلحة الإنسان ، وهناك مئات الأمثلة مما يعرفه أهل الاقتصاد والسوق .
نجد في الإسلام مثلا أن آنية الذهب لا يصح الأكل فيها ، قطعاً للطريق على مثل هذه الصناعة والإنتاج ، واستنزافه الثروة من غير طائل .. ما تتصورون لو أنتج الإنسان طائرات من معدن الذهب ، هل يكون هذا تصرفاً عقلائنا ويتمشى مع الأطروحة الإسلامية في الاقتصاد ، طبيعيٌ ..لا ..
وفي ضوء ما تقدم من محاور ثلاثة في التصور الإسلامي عن المال وهي كونه لله أصلاً وحقيقةً ، والإسلام مستخلف فيه ، وأنه جعله الله قياماً للناس وتكاملهم ، وأنه ذو بعد عامٍ ووظيفة اجتماعية تترتب نتائج عديدة تقدم ذكر عدد منها .
هناك محور ثالث وهو محور أن المال في يد الإنسان وإن اكتسبه بالطرق الحلال المسموح بها شرعاً إلا أنه يحتفظ ببعده الاجتماعي ووظيفته العامة فالمال لا ينسلخ في حال من الأحوال عن وظيفته العامة وعن دوره الاجتماعي وقد خلق الله سبحانه وتعالى ما في الأرض للناس ..
هناك النصوص من القرآن الكريم وربما من السنة الشريفة – والتي لا أدري كيف فاتني إثباتها هنا – مما يؤكد على هذا البعد الثالث والمحور الثالث والدور الاجتماعي للمال ، وأن الثروة في أصلها كانت ثروة مخلوقة للإنسانية بكاملها ، فليس لفئة من الناس في جيل واحد أن يستحوذ عليها ، وليس لجيل واحد أن يستحوذ على الثروة وأن يتعامل معها التعامل التدميري ، هذه الأرض التي جعلها الله سبحانه وتعالى مستودعاً لا ينفذ وخزاناً يتدفق دائماً بالعطاء ، ويتدفق بأسباب الحياة ، بالغذاء ، بالشراب ، باللباس ، بالمراكب ، هذه الأرض قدر الله سبحانه وتعالى أقواتها في أربعة أيام ويقول بعض المفسرين والرواية تقول بأن الأيام هذه هي فصول السنة ، الفصول التي يقدر فيها أقوات العباد في الأرض ، بالطريقة العلمية الخاصة المعلومة عند الله سبحانه وتعالى والمعروف شيء منها عند الناس .
الأرض هذا المستودع الكبير المملوك لله سبحانه وتعالى أصلا وحقيقة والملك للإنسانية جعلا واعتبارا ، هذا التمليك من الله سبحانه وتعالى للإنسان هو تمليك عام شامل ، مستوعب للإنسانية ، كافراً كان أو مؤمنا ، متقياً كان أو فاسقاً ، هذه الملكية العامة يبقى لها امتدادها ويبقى لها أثرها حتى بعد أن يكون الدينار في يدك وفي جيبك من كسبك وعرق جبينك ، ففيه الزكاة وفيه الخمس ، فيه حق الفقراء فيه حق حماية المجتمع ، فيه حق تنمية المجتمع ، فيه حق الدفاع عن المجتمع ، وكل هذا الأمر يترتب على ما هو ثابت في المال من بعد عام ووظيفة اجتماعية ، وهذا البعد العام والوظيفة الاجتماعية وكون المال قد خلق أساساً لمنفعة الإنسان كل الإنسان ، بل وللحيوان ، بل وللنبات نفسه ما في الأرض خزان يعطي النبات ويعطي الحيوان ويعطي الإنسان وليس لطرف من هذه الأطراف وأقواها الإنسان وهو القادر على أن يستحوذ على هذه الثروة ويحرم الآخرين ، هذا البعد العام ، هذه الوظيفة الواسعة للمال ، وظيفة إعمار الأرض ، إقامة الحياة على وجه الأرض إمداد الأحياء على وجه الأرض ، نباتاً كان أو حيوانا أو إنسانا ، هذه الوظيفة العامة لا تنفي أن تكون هنالك ملكية خاصة اعتبارية أيضا تدخل بشكل أساس في تنظيم الحياة الاجتماعية ، وتساعد كثيرا على النشاط في الإنتاج .
أمرٌ آخر أيضاً أن هذه الملكية العامة والوظيفة العامة للمال لا تنفي أن يسند الله سبحانه وتعالى ليدٍ أمينة ، ليد معصومة إدارة هذا المال وتدبير هذا المال والإشراف على إنتاجه وتوزيعه ووضعه في محله ، وإعطائه الإنتاجية التي تتناسب مع خط الشريعة ، ومع خط الله وتعاليمه في الأرض .
فهناك يد المعصوم ، يد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هو الحكومة المقامة من الله سبحانه وتعالى والمعطاة الإشراف الكامل ، الحق الكامل في الإشراف على إنتاج المال ، وتوزيعه ، تدبيره ، توظيفه ، كل ذلك لا يتنافى مع البعد العام والوظيفة الاجتماعية ، بعد أن تكون هذه النقطة نقطة إشراف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتوجيهه للمال والحركة التربوية والسياسية والاجتماعية ، كل ذلك راجع إلى أنه اليد الأمينة ، المعصومة ، المختارة من الله سبحانه وتعالى التي لا تنحرف قيد شعرة عن إرادة الله سبحانه وتعالى .
وتأتي من بعد ذلك اليد الأمينة لكل إمام معصوم صلوات الله سلامه عليهم أجمعين ، وهي يد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في أمانتها ، في كفاءتها ، في طهرها ، في عفتها ، في قدرتها على الإدارة الحكيمة العادلة ، فهذه خطوط … أن هنا ملكية خاصة للمال ، ملكية عامة تسبق الملكية الخاصة ، وأن هنا حق إشراف على الثروة العامة لبعض الأيدي الأمينة التي يختارها الله سبحانه وتعالى ويرضاها ، مما تتطلبه وظيفة الاجتماع واستمرارية المجتمع .
وفي ضوء ما تقدم من محاور ثلاثة _ وقد شرحت بعض الشيء المحور الثالث الآن – في التصور الإسلامي عن المال وهي كونه لله أصلاً وحقيقةً ، والإنسان مستخلف فيه ، وأنه جعله الله قياماً للناس وتكاملهم ، وأنه ذو بعد عامٍ ووظيفة اجتماعية تترتب نتائج عديدة تقدم ذكر عدد منها وفي مقدمتها أن ليس للإنسان أن يرسم نظاماً اقتصاديا ، وأن يصوغ المذهب الاقتصادي من نفسه واجتهاده بعيداً عن تشريع الله ، وهو مالك المال والإنسان . فإذا كان الله عز وجل هو مالك المال والإنسان فكيف يصح لهذا الإنسان بعد أن يكون لله عز وجل تشريع في مساحة الاقتصاد ، أن يتجاوز هذا الإنسان بتشريعه الاقتصاد الذي رسمه الله سبحانه وتعالى والنظام الذي أبدعته يداه ، يده سبحانه وتعالى ، يد العدل ، يد العلم ، يد الحكمة ، يد الرأفة ، يد الرحمة ، يد الخبرة التي لا تجارى ، والعلم الذي يتناهى .
وأن كسبه للمال ولو بالطرق الشرعية الماذونة من الله عز وجل لا يطلق يده في التصرف في المال كيفما شاء خارجاً عن كونه قياماً ، ما دام المال قياماً فلا بد أن توضع تحديدات كما سبق وقيود على الحركة الاقتصادية بحيث لا تضعه على خط كونه قياماً ، بحيث لا ينحدر عن خط كونه قواما ، وقوامية المال إذا كانت قوامية جسد ، فهي بالدرجة الأولى قوامية روح لأن صلب ما هو الإنسان وحقيقة ما هو الإنسان في نظر الإسلام هو جانبه الروحي ، جانب نفخة الله وليس جانب قبضة الطين .
وأن كسبه للمال ولو بالطرق الشرعية الماذونة من الله عز وجل لا يطلق يده في التصرف في المال كيفما شاء خارجاً عن كونه قياماً ، وأداة إعمار وبناء للإنسان والحياة ، كما لا يعد هذا الكسب الحلال الشرعي سبباً كافياً لفقد المال دوره الاجتماعي وبعده العام الذي يعطي للعاجز والفقير حصة فيه وذلك للتنمية الإنسانية وصناعة المجتمع العابد لله وذلك حسبما يقتضيه المحور الثالث وتقرره أحكام الشريعة .
اللهم اغفر لنا ولأبنائنا ، وأمهاتنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ، ووفقنا لصالح القول والعمل يا أكرم الأكرمين .
بسم الله الرحمن الرحيم
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا تبلغ الخلائق حقيقة ثنائه، ولا يؤدي العبيد شكر نعمته، ولا تعد آلاؤه، ولا تحصى مواهبه. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كما شهد لنفسه، وشهدت له ملائكته ورسله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أحسن الجهاد، وأحيى بفضل ربه البلاد، وهدى إلى السداد والرشاد. اللهم صل وسلم على محمد وآله الأطهار الأطياب.
عباد الله اتقوا الله، ولا يشغلنكم خوفٌ عن خوفه، ولا رجاءٌ عن رجائه، ولا شكرٌ عن شكره، ولا تطلبوا الخير إلا من عنده، والنجاة إلا من فضله، فهو الملك الحق المنعم الرحمن الرحيم، العزيز الجبار القهار، بيده قوام كل نفس، وبقاء كل شيء، وإليه تصير الأمور.
اللهم صل وسلم على من عظّمت خلقه، وأعليت شأنه، ورفعت منزلته، وطهرته تطهيرا، وجعلته سراجاً منيرا، عبدك المسدد، وحبيبك المصطفى محمد.
اللهم صل وسلم على البر التقي، والعابد النقي، ابن عم الرسول، وزوج المفخرة البتول، السيف الضارب، علي بن أبي طالب.
اللهم صل وسلم على المجاهدة الصابرة، والمعصومة الطاهرة، منارة الهدى، فاطمة الصديقة الزهراء.
اللهم صل وسلم على الحسنين الزكيين، والإمامين الرضيين، والسيدين الوليين، أبي محمد الحسن، وأبي عبد الله الحسين.
اللهم صل وسلم على الخلفاء الصلحاء، والبررة الأتقياء، والقادة الأولياء، الطاهرين المعصومين، علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الجواد، وعلي بن محمد الهادي، والحسن بن علي العسكري، عليهم أفضل الصلاة والسلام.
اللهم صل وسلم على نور الإسلام، وضياء القرآن، والهادي إلى الإيمان، مبيد الظلم، مظهر العدل، سيد العرب والعجم، المنتظر بن الحسن.
اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، واجعلنا من حزبه وخاصته، يا منيل يا كريم، اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه يا أرحم الراحمين.
اللهم من كان في نصره مسرّته، وفي عزه تقريب دولته، فانصره وانتصر به، وأعزه، وأعزز به عبادك المؤمنين يا خير من أمّل، وأكرم من سئل، يا رب العالمين.
اللهم اغفر لنا وتب علينا، واغفر لآبائنا وأمهاتنا وجميع من يعنينا أمره وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين، وأعذنا من مضلات الفتن، وموبقات الدين والدنيا، يا أرحم الراحمين.
أيها الأخوة والأخوات الساعين بذكر الله، الملبين لنداء الله. يدور الحديث في هذه الخطبة حول الأمور التالية:
1. بلادنا والمظاهرات: إني أحب لهذه البلاد عملياً أن لا تكون بلاد مظاهرات احتجاجية على مستوى الشأن الداخلي في جنبته السياسية، وما يتصل بالحكم من مسائل أخرى، وإن كان السماح بذلك ضرورةً قانونيةً ودستورية للدلالة على الضرورات الإصلاحية عند الحاجة. وأمنية الاستغناء عن المظاهرات والمظاهر الاحتجاجية من منشأ أن ذلك أحوط للنأي بالبلاد عن التوترات والتصدعات. إلا أن هذه الأمنية تتطلب دائماً التركيز لسياسة العدل والإنصاف، ورعاية القيم المعنوية، وما يؤكد على كرامة الإنسان، ونبذ الطائفية السياسية وما يجهد لها، وما يترتب عليها. وهو الشيء الذي تملك أسبابه الحكومة وبمقدورها المبادرة إليه. فكلما بادرت الحكومة في شيءٍ إلى شيءٍ من ذلك، وبصورة جدية، أغلقت باب المظاهرات الاحتجاجية التي نتمنى أن تستغني عنها ساحتنا المحلية، وساحتنا الإسلامية بكاملها، من خلال عدلٍ شامل، ومن خلال تمسكٍ جادٍ بالقيم المعنوية.
2. كلمات سريعة عن ولاية الفقيه:
أولاً: أصلاً لا ولاية لأحدٍ على أحدٍ إلا لله الذي له الولاية التكوينية والتشريعية الشاملة الكاملة.
ثانيا: تثبت الولاية التشريعية التبعية المتفرعة على ولاية الله لمن جعل الله هذه الولاية فتجب طاعته في أمره ونهيه، وهي بالأصل طاعة الله. فأنت حين تطيع رسول الله صلى الله عليه وآله إنما تطيع أمر الله عز وجل أولاً وبالذات وما طاعتك لرسول الله صلى الله عليه وآله إلا لما وراءها من خلفية إطاعة الله، والانصياع إلى أمره ونهيه الذي كتب عليك أن تطيع رسول الله. وهذه الولاية التبعية ثابتة للرسول الله صلى الله عليه وآله ولخلفائه المعصومين عليهم السلام بلا أدنى شكٍ عندنا.
ثالثاً: ويبحث عند الفقهاء هل ولاية الحكم والأمر والنهي في مجال الحكومة قد جعلت لغير المعصومين الخلفاء لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حال غيبتهم عليهم السلام؟ أما غيرهم – غير الفقهاء – ولولا كانوا من المؤمنين المتفقهين العدول فلا بحث فيهم إذا لم تثبت ولاية الفقيه، فلا أحد ينتهي إلى هذه النتيجة من الفقهاء، وهي أن الفقيه لا ولاية له أما الذين دونه مرتبةً فلهم الولاية. هذه النتيجة مرفوضةٌ نهائياً عند كل الفقهاء. بعد أن لم تثبت ولاية الفقيه لا تثبت لأحدٍ قطعاً من دونه قطعاً وبدرجةٍ أولى. فكلما قلنا بأنه لا ولاية للفقيه قلنا لا ولاية لمن دونه من العلماء العدول فضلاً عن من هو أقل منهم شأناً كغير العالم الديني ومن فقد العدالة بغير العالم الديني وإنما يكون جاهلاً مثلاً في الدين ومن فقد العدالة التي تؤهله للمراكز الدينية التي يعد مركز الولاية أكبرها وأشدها تصلباً للعدالة. فمن التوهم الساقط جداً أن يقال بأنه لا ولاية للفقيه وهذا يعني أن الولاية ثابتةٌ عند الفقهاء لغيره، ومن الواضح جداً أن أي فقيهٍ تثبت عنده الولاية في غيبة المعصوم عليه السلام لا يقدم أحداً على الفقيه في ذلك وهو القدر المتيقن الذي لا شك فيه، ومن لم تثبت عنده الولاية للفقيه فهو لا يثبتها لغيره بدرجة أولى وأوضح، هناك أكثر من دليل على ولاية الفقيه. بعض أدلة ولاية الفقيه فيه إطلاق لمساحة كبيرة جداً، هناك دليلٌ لفظي لولاية الفقيه يدرك هذا الدليل لفظي. هل من لسانه أن يشمل غير الفقيه؟ أو أن لسانه وخطابه يقتصر في جعل الولاية على الفقيه؟ الاطلاقات الموجودة عندهم والتي تعتمدون عليها هي اطلاقات لا تتجاوز الفقيه. هناك دليلٌ عقلي على ولاية الفقيه وهذا الدليل العقلي كما يقولون له قدرٌ متيقن وهو الفقيه. إذا أثبت الدليل العقلي ولاية الفقيه وسألنا هذا الدليل العقلي.. إذا قام الدليل العقلي على إثبات الولاية لأحدٍ على أحد، يشك هل هذه الولاية التي يراها العقل لأحدٍ على أحدٍ في الناس بعد ولاية الله وبعد ولاية المعصوم عليه السلام هل هي واسعةٌ تشمل الفقيه وغير الفقيه؟ أو هي ضيقةٌ لا تشمل إلا الفقيه؟ يقولون هنا قدرٌ متيقن، يعني نعلم يقيناً أن هذا الدليل له مصداقٌ أظهر، له مصداقٌ قطعيٌ، مصداق من له الولاية هو الفقيه أما من دونه فمشكوكٌ، فلا يثبت بدليل العقل ولاية له من دون الفقيه لا يثبت لا بالدليل اللفظي ولا بالدليل العقلي ولاية له وإنما إذا ثبتت الولاية إنما تثبت للفقيه وهي في غيبة المعصوم عليه السلام، نعم، عند عدم الفقيه يأتي البحث في ولاية عدول المؤمنين ممن لهم تفقه، ومن الواضح جداً أن أي فقيه تثبت عنده الولاية في غيبة المعصوم عليه السلام لا يقدم أحداً على الفقيه في ذلك وهو القدر المتيقن الذي لا شك فيه، ومن لم تثبت عنده الولاية للفقيه فهو لا يثبتها لغيره بدرجةٍ أولى وأوضح. والفقهاء يسمون من ليس فقيهاً عاميا، وإن كان هذا الشخص يتمتع بمستوىً علميٍ جيد، أو كان مهندساً متقدما، أو طبيباً حاذقا، أو سياسياً كبيراً وله خبرته واطلاعه السياسي الممتاز. والعامي هنا ليس بالمعنى السائد في الأوساط العرفية وإنما يعني هذا اللفظ الفاقد للفقاهة بمعناها الاصطلاحي، من كان فاقداً للفقاهة بمعناها الاصلاحي يسمى في عرف الفقهاء بأنه عامياً، ولولا كان مقارباً للاجتهاد، وبعد لم يجتهد، وهي القدرة على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها المقررة حسب الموازين والطرق المتعارفة عند الفقهاء المتضلعين رغم اختلافهم على المستوى الثقافي، وهذا العامي مقطوعٌ عندهم بأنه لا ولاية له بعد القول بعدم ولاية الفقيه وإن كان من المؤمنين العدول.
رابعاً: الخلاف عندهم ليس في أصل الولاية فهم يثبتونها على مستوى تمشية أمور الوقف ومال اليتيم ومجهول المالك والخمس مثلا. وإنما الخلاف على اتساعها لمسألة إقامة الحكم وتشكيل الحكومة وممارسة الصلاحيات التي تتطلب التصرف في المال والنفس وإن كان ضمن الأحكام الشرعية المقررة، ونتائج الصناعة الفقهية الدقيقة.
خامساً: نجد السيد الخوئي رحمه الله وهو ممن لا يذهب إلى الولاية السياسية قد تصدى عملياً كما هو المنقول لأعمال الولاية في الدائرة محل النزاع عند الحاجة في ظروف الانتفاضة الشعبانية ولم يتوقف فقهياً في ذلك. فتولى ولاية الفقيه ومارسها بشكل عمليٍ كما هو المنقول.
سادساً: النتيجة من هذا المرور السريع بالمسألة هي أن الذين يناقشون ولاية الفقيه في عالمنا الإسلامي اليوم لينفوها عن الفقهاء توصلاً في نظرهم لإثباتها لأنفسهم واهمون جداً، قد يتصور البعض أنه إذا انتفت الولاية عن الفقيه جاز لغير الفقيه أن يمارس هذه الولاية وأظن أن هذا فهمٌ سائدٌ في بعض أوساط عالمنا الشيعي، وهو خطأٌ كبيرٌ في التصور، ووهم فاضح، هؤلاء مخطئون إذا كانوا يراعون النفي من الناحية الشرعية، ولا يريدون مخالفة الحكم الشرعي، نعم، من انطلق في تقرير مسألة الولاية من منطلقٍ آخر وهو أن الشعب له ولاية على نفسه، أن الفرد من أبناء الأمة له ولاية كاملة على نفسه يستطيع أن يتصرف فيها على منأى من إرادة الله، لو صار المنطق هو هذا فصحيح أن الانتخاب – انتخاب الكل – يعطي الولاية لهذا الشخص أو ذاك. أما انتخاب البعض، وإن كان الأكثرية، فلا يصح في ميزان العقل أيضاً أن يعطي الشخص المنتخب ولاية على 49% بعد أن وافق على الشخص 51%. لماذا تسحب أصوات 49% بما فيهم من فلاسفة، بما فيهم من اقتصاديين كبار، بما فيهم من سياسيين كبار، بما فيهم من حكماء، بما فيهم من فقهاء، المهم نحن والميزان الشرعي، الميزان الشرعي لا يسمح بعد انتفاء الولاية عن الفقيه أن تثبت هذه الولاية لأحدٍ من دونه، لأنه إذا كان الفقهاء يحرم اتباعهم في أمر الولاية فهو أكثر حرمةً بالنسبة لمن يحاولون هذه المحاولة، وهم بذلك حين يحاولون أن يقيمون الدليل على انتفاء ولاية الفقيه هم بذلك يقيمون الدليل على عدم أهلية من ليس بفقيه لهذا المنصب الذي يرون حرمته على من هو أكفأ وأولى.
3. اختطاف موسى الصدر، وتغييب خبره في عالمٍ يكاد يدري عن موقع الإبرة الضائعة في المحيط أمرٌ عجيب، ولكن كيف العجب في عالم يقدمك فيه الظفر والناب، ولا يغلو فيه الإنسان حتى يسقط، من سقط أكثر غلا في نظر الدنيا اليوم أكثر – دنيا المادة، دنيا الطواغيت، دنيا الانحراف عن الله سبحانه وتعالى – وأرخص ما فيه – ما في هذا العالم – الدين وأهله والقيم المعنوية وعشاقها.
4. من منطلق الحرص على متانة الصف الإسلامي في بلادنا الإسلامية بكل أقطارها، والحفاظ على وحدة المسلمين، وتوجه الجهود المشتركة إلى بناء وطن المحبة والاستقرار، والتمحور حول القضايا المهمة بالأمة، وفي طليعتها قضية فلسطين والقدس والمسجد الأقصى؛ أحذر كثيراً من الانجرار وراء الإثارات الطائفية البغيضة مما يمارس في الصحافة محلياً كانت أو غير محلية، فالجواب على ذلك ينبغي أن يكون عملياً ومن وحي الدين وتقدير مصالح المسلمين ومن خلال تلاحمٍ أكثر بين كل المخلصين من الطائفتين الإسلاميتين الكبيرتين والذين يحملون هم الإسلام المشترك، ويسعون لتوحيد صفوف الأمة الواحدة، ليس في يوم حربها مع الغادي فقط، وإنما في يوم الحرب والسلم، والشدة والرخاء.
اللهم يا غفار الذنوب، ويا ستار العيوب، اغفر ذنوبنا واستر عيوبنا، وباعد بيننا وبين الشيطان الرجيم، ووحد كلمة المسلمين على التقوى، وارزقهم العزة والنصر والغلبة على عدوهم يا قوي يا عزيز يا من هو ممن دعاه قريب، ولمن سأله مجيب.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون