خطبة الجمعة (21) 5 جمادى الثاني 1422هـ – 24-8-2001 م
مواضيع الخطبة:
التصور الإسلامي للمال (2) –
ذكرى حرق المسجد الأقصى-الشواطئ والمنتزهات لمن؟ – مشكلة أجور العمل
يجب أن تستمر المطالبة ويجب أن يكون الإصرار ليس من العمال فقط وإنما من العمال، من الجامعات، من المساجد ، من كل المواقع، على أن يقضى على البطالة وعلى أن يرتفع مستوى الأجور ارتفاعا يسمح بأن يعيش الإنسان كريماً .
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أعطى ولم يعط لنفع ، ومنع ولم يمنع عن بخل ولا فقد ، وأغنى ولم يكن الإغناء منه بدون حكمة ، وعاقب ولم يعاقب ظلماً ، وأمهل ولم يهمل عن عجزٍ أو غفلة . غني لا يفتقر ، قويٌ لا يضعُف ، قدير لا يمتنع من قدرته شيء ، عزيز لا يُنال ، عدل لا يجور ، حكيم لا تثلم حكمته ، عليمٌ لا يضيق علمه . أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، إنما أحب في الله ، وعادى من أجله ، وجاهد في سبيله ، وقصد لرضاه . اللهم صل وسلم على رسولك وحبيبك محمد المصطفى وآله النجباء .
عباد الله اتقوا الله وصونوا أنفسكم عن عبث الشيطان الرجيم ، وكيد الغاوين والمضلين ، ولا تبيعوها رخيصةً في سوق الشهوات والمتع الرخيصة ، ولا تبذلوها ثمناً إلا للجنة التي وعد الله عباده المتقين .
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ولا تجعل للشيطان لنا سبيلا ، ولا للضلال علينا مدخلا ، وأجعل محبتنا لك ، وحبنا فيك ، وولاءنا لك ولمن والاك ، وعداوتنا لمن عاداك .
أيها الأحبة في الله تقدّم في الحديث عن المال أن الإسلام يرى ما في أيدي العباد منه ملكاً لله حقاً ، وإذا أسنده إليهم فإنما يسنده إليهم مجازاً ، ويراه مالهم جعلاً واعتبارا في حدودٍ حدّها ، وقيود وضوابط قد شرّعها .
والمحور الثاني الذي يجري حوله الحديث الآن إن شاء الله هو :
دور المال :
بسم الله الرحمن الرحيم ((وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً)) 5 النساء
الملكية الفردية في الإسلام مقررة ولكن برغم هذه الملكية الخاصة والتي لا يزاحَم بسببها المرء فيما ملكّته الشريعة جعلاً من المال ، ولم تبح للآخرين التصرّف في أمواله إلا برضىً من نفسه إلا أن الأمر لا ينتهي عند الملكية الخاصة بحيث تعطي الاستقلال التام في المال في أي تصرّف شاء المرء ، فليست الحرية مطلقة في التصرفات المالية فيما تحت يدي أو تحت يدك من المال مما تعتبره الشريعة ملكاً لي أو ملكاً لك ، هناك جهةٌ أخرى تحدّ التصرفات المالية وهو كون المال بمجموعه مملوكاً ملكيةً عامةً للأمة .
هذه نقطة .. والنقطة الأخرى المهمة التي يدور حولها الحديث هو أن المال لم يخلق عبثاً وحاشى الله تبارك وتعالى أن يخلق شيئاً عبثاً ، خُلقَ زرقاً للناس ، خُلقَ قياماً لهم ، حياة الفرد وحياة المجتمع لا تقوم ولا تنهض إلا بالمال ، لا بد من قوت ولا بد من مسكن ولابد من ملبس وهناك حاجات الدواء وحاجاتٌ أخرى تتطلب المال ..
المالُ في الإسلام له وظيفة بناءة ، له دورٌ حاسمٌ في بناء الإنسان ، في بناء الفرد الصالح في بناء المجتمع الصالح ، إنه قيام من دونه قعود ، من دونه تكون الحياة كسيحة ، من دونه تكون الحياة لاغية ، لا مجتمعاً ولا فرداً يمكن له أن يعيش ، أن يتقدم ، أن ينمو عقلياً ، أن يزكو روحياً من دون هذا المال ، رُبطت حياة الإنسان على الأرض بالمال ، فهو قيام ولا بد أن يُطلب لأنه قيام ..
هذا الأصل من أصول المذهب الاقتصادي في الإسلام ونحن هنا نتحدث عن مذهب ولا نتحدث عن علم الاقتصاد ، نتحدث عن مذهب الاقتصاد في الإسلام وليس عن علم الاقتصاد الذي يبحث كيف أربح ؟ وكيف ادرأ عن نفسي الخسارة ؟ وما هي القوانين السوقية التي تؤدي إلى الربح ، وما هي القوانين السوقية أي التي تلامس السوق وتعالج مشكلات السوق مما تؤدي إلى الخسارة ، هذا الأصل في المذهب الاقتصادي الإسلامي تقوم عليه بُنىً فوقية وتعاليمُ ضرورية وأحكامٌ واجبات ومحرمات ..
من نتائج هذا الأصل أنه إذا كان المال قياماً للناس خُلق هكذا فلا بد للدين والدنيا منه ، الذين يفكرون في أن يأخذوا بالحياة على مسار الدين وأن يصعدوا بها في اتجاه الله سُبحَانهُ وتعَالى هل يمكن لهم أن يعتزلوا الحركة الاقتصادية ؟ وأن يكفوا عن الصراع عليها إذا صورعوا وضويّقوا في لقمة الخبز ؟ ..
نحن نعرف من موقف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أن تعدت قريشُ على أموال المسلمين أنه شنّ المواجهات الصعبة من أجل أن يقوى المركز الاقتصادي عند المسلمين لكي يعيش المسلم ويقوم الإسلام ..
إذا كان المال قياما ، فأسأل هل هو قيام بدن في الإسلام ؟ هل هو قيام حركة بدنية ليربي الشحم واللحم ؟ أم يتجاوز كون المال قياماً في الإسلام هذه الحدود السطحية القريبة ؟ هل جاءت رسالة الإسلام لتزيد من وزن الفرد ليصل إلى 100 كيلو و150 كيلو ؟ أو جاءت لتنمو به عقلياً وروحياً وإنسانياً ؟ جاءت لتصنع منه الإنسان السويّ ، الإنسان المتكامل ، الإنسان الوقاد الذهن ، الإنسان الزكي الروح ، الإنسان المنفتح القلب ، الإنسان العامر بالإيمان ، الإنسان الذي تملؤه الطموحات الكبيرة العالية الخيرة ، الإنسان الذي ينشد بروحه وعقله وكل جوانحه إلى الله ، فإذن كون المال قياماً في الإسلام المنظور الأول فيه أن يكون قياماً لحركة روحيةٍ إيمانيةٍ عقليةٍ علمية تشد الأرض إلى السماء ، وتصل الإنسان بربه سبحانه وتعالى ، إذا كان الأمر كذلك فهنا يضع هذا المحور في المذهب الاقتصادي قيداً على الاقتصاد ، فإذا كانت هناك قوانين علمية تقول لنا بأنكم تستطيعون أن تربحوا من خلال التعامل الإيجابي مع هذا القانون كثيراً ، ولكن وجدنا في أخلاقيات الإسلام وفي أهداف الإسلام وفي تربية الإسلام .. ما يصطدم وخط التحصيل لهذه الثروة الهائلة فنحن نرفض هذه الثروة .
إذا كان المال سيأتي من بيع ديننا ، من بيع كرامتنا ، من ترويج الخمرة ، من التسهيل والترويج للسياحة المحرمة ، فإن هذه الأبواب المفتوحة على المال يرفض الإسلام إلا أن يسدها ، حيث تصطدم وصناعة الإنسان السويّ ، صناعة الإنسان المتكامل ، صناعة الإنسان المطلوب للإسلام لله سُبحَانهُ وتعَالى .
فعليه هنا أن المال لا يطلب بما ينافي كونه قياماً ، قياماً لإنسانية الإنسان قبل أن يكون قياماً لبدن الإنسان ، والقيام لبدن الإنسان في الإسلام طريقٌ لقيام إنسانية الإنسان ، وليس هذا القيامُ في البدن منظوراً في نفسه .إذا كان المال قياماً ولا بد منه فيأتي الجهاد من أجله ويأتي الجهاد من دونه وفي هذا الجهاد عبادة ، والتقصير فيه جريمة وظلمٌ للنفس .
إذا كان المال قياماً ، و تعتمد عليه نهضة الإنسان ، وله هذا الدور الضروري البنّاء اللا بُدّي ، هل يتعامل به بالإسراف والتبذير ، هنا ينسد في تعاليم الإسلام ، باب التبذير والإسراف ، وتكون مواجهة دؤوب من الإسلام ضد الإسراف والتبذير على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة ، ومن صور الإسراف الكبير أن تكون الأموال الطائلة ، المال العام بأيدي الفئة المسرفة ، إن الإسلام إذا كان يحارب الإسراف في اليد الفردية التي تجمع من المال 100 دنيارٍ أو أقل أو أكثر قليلاً ، فإن مواجهته في الإسراف في الأيدي التي تصل قبضتها إلى ملايين الدنانير ..هذه المواجهة لابد أن تكون أشد وأقوى ..
ينتج أيضاً من كون المال قياماً :
أنهُ لا يُمكّن منهُ المسرفون على حساب القيّم المعادين لها ، المسرفون هم الذين لا يختطون خط الإسلام ولا يؤمنون بأطروحة الإسلام ، المسرفون على عقل الإنسان على كرامة الإنسان ، على قدسية الإنسان ، يهدرون كرامة الإنسان ، لا يقيمون لروحه وزناً ، لا يعيرون لإنسانيته شأنا ، هؤلاء مسرفون وليس المسرف خصوص من أنفق من المال ما هو أزيد من الحاجة ، هؤلاء لا يُمكّنون في الإسلام من المال العام ((وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ)) 9 الأنبياء / .
المال الذي هو للقيام ، لبعث النهضة ، لاستمرارية الحياة ، للصعود بمستوى الحياة ، حين يكون بيد المسرفين يكون أداة هلاكٍ للأمة ، لأن مصير المسرفين كما يقول القرآن الكريم : ((وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ)) 9 الأنبياء / وهؤلاء الذين يستحقون الهلاك من الله كيف يؤمنون على أموال الأمة الطائلة الكثيرة ، والتي فيها قيام الأمة وبها قوام الأمة .
كما لا يُمكّن منها المترفون ، الذين يعيشون الحالة الترفيه في داخلهم ، في تفكيرهم ، في نفسيتهم ، في علاقاتهم ، في سلوكياتهم .((وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا )) 16 الإسراء .
وهل للقرية ، هل للمجتمع ، هل للأمة ، أن تضع المال بيد أناسٍ تجرُّ سياستهم في المال وغير المال ، إلى أن تُدّمر القرية ، إلى أن يُدّمر المجتمع ، إلى تُدّمر الأمة تدميرا ؟ كما لا يمكّن منه المفسدون في الأرض (( ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ )) 103 الأعراف .
المفسدون ، سياسة المفسدين تحوّل الأمة إلى درسٍ قاسٍ جداً تنظر إليه الأمم فيعتبر من يعتبر منها ، المفسدون أيضا ليست يدهم يد الأمانة على المال العام الذي فيه قيام الأمة وقوامها . ولا يُعطى من يطغيه المال من يتخذ المال وسيلة استعلاء ، وسيلة استكبار ، وسيلة تمردٍ على الله سبحانه وتعالى ، وسيلة كفر ، وسيلة انحراف ..(( كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي..)) 81 طه / هذا الطغيان الذي يخرج بالمال عن دوره البنّاء ، عن دوره الإصلاحي ، عن دوره القيامي والقوامي ، ليتحوّل أداة تدمير وأداةٍ تؤدي إلى غضب الله : ((..وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى )) 81 طه .
و لا يُمكّنُ منهُ من يحبسه ويفصلهُ عن دوره البنائي الصالح ((وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)) 195 البقرة / حبسهُ فيه أداءٌ إلى التهلكة وهو تأشيرٌ اقتصادي يتصل بعلم الاقتصاد ولهُ أهمية بالغة .
كون المال للإنسان قياماً ، يجعل النظر أولاً و بالذات – كما تقدم – والمحورية الأصل للإنسان فلا يضرُّ بإنسانيته ، ولا تهدر قيمتهُ ، ولا يُساء إلى معناه من أجله ، فكل ما يقال عنه بأنه لزيادة الثروة القومية وفيه إضرارٌ بإنسانية الإنسان ، وفيه إساءة إلى روح الإنسان ، وفيه انحراف عن موقع الإنسان عند الله سبحانه وتعالى عن سراطه فهو مرفوضٌ مردودٌ من قِبل الإسلام ، تقول الآية الكريمة أو ما هو من آية : ((وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى)) 11 الليل / المال للإصلاح ، المال للبناء ، المال أداة إكمال ، آلةٌ من آلات الإكمال ، إكمال الإنسان ، تكامل الإنسان ، المال لصناعة الإنسان ، أما إذا تردى الإنسان وتسافل وتحوّل إلى لا شيء في ظل الثروة الهائلة ، فما يغني عنه ماله ..؟؟ المنظور الأول المهم هو الذات الإنسانية أو ما تحمله كف الإنسان ؟ المهم في نظر الإسلام هو ذات الإنسان كيف تكون ، تتجلى هذه الذات شعاعاً من شعاع الله ، ترقى هذه الذات مشاعر طهوراً ، مشاعر نظيفة ، مشاعر رقراقة في طريق الله ، تكون هذه الذات وعياً تكون إدراكاً ، تكون إخلاصاً ، تكون وفاءُ ، تكون رحمةً ، تكون إيثاراً ، تكون نظرةً واعية ، رؤيةً منفسحةً ، منفتحةً دائماً على الله ، قلباً يعيش ذكر الله ، لذة هذا الذكر ، حلاوة هذا الذكر ، أم يكون هذا الإنسان كلباً من الكلاب ، وحماراً في الحمير ، ما قيمة أن يكون الإنسان حماراً وتوفر له القصور و المراكب و مما يسهل حياة البدن ، المنظور الأول في الإسلام ذات الإنسان وعليه فإن ذات الإنسان لا يُضحي بها من أجل مالٍ يُسلّى به الصغار ((وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى)) 11 الليل .
كون المال للإنسان قياماً ومقوّماً لحياته ودينه ودنياه ، يجعل العدل والجور في توزيعه ، وفتح فرصهِ محك صدقٍ لحركات الإصلاح ودعواته فوقيةً كانت أو قواعدية ، أي حركة إصلاحية جاءت من قمة أو جاءت من قاعدة ، جاءت من عالم دين أو جاءت من غير عالم دين ، إذا لم تسلك سبيل التوزيع العادل في المال وكانت مكتنـزة أو كانت مسرفة أو كانت لا مباليةً في دخل المال فإن هذه الحركة تسجّل على نفسها عياناً بأنها غير إصلاحية .
بما أن المال قيامٌ وقوام يكون الاستيلاء على منابعه وتجفيف روافده عن الشعوب والأمم والجماعات من الحروب الإستئصالية الأشد خطورةً على الكيانات المستهدفة . وهذا ما يفسر كثيراً من ظواهر الاستلاب والاستضعاف المالي في الأرض على مستوى الأمم وعلى مستوى الشعوب .كونه قياماً يفرض على المسلمين والمؤمنين أن يتناصروا فيما بينهم في ميادين المال تحصيلاً وبذلاً وترشيداً في الإنفاق ، واستثمار اً للثروة لئلا يذوب الكيان المسلم .
لا يكون مركز للمال القيامِ والقوامِ البدن ، وإنما تزكيةُ العقول والأرواح ووضعها على طريق كمالها طريق الله الذي لا كمال على طريقٍ سواه . ذلك لأن الإنسان هو عقله وروحه وإيمانه وهداه ، وبذا يكون الإنفاق طريقاً لصون ذات الإنسان العليا وتزكيتها ، أما إنفاقه على البدن كما تقدم هو إنفاقٌ طريقيٌ فقط .
اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته ولا عيباً إلا سترته، و أغننا بغناك ، ولا تذّلنا إلى من سواك ، وارزقنا الجدّ والنشاط ، والهدى والرشد حتى تكون حياتنا كلها بذلاً في طاعتك وطريقاً إلى مرضاتك يا أكرم من كل كريم ويا أرحم من كل رحيم .
بسم الله الرحمن الرحيم
وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9)
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بعد فلا يرى، وقرب فشهد النجوى، لا يخلو منه مكان ولا زمان، وهو خالق المكان والزمان، فلا يحده منهما حد، فيكون المغلوب لهما، وكيف يحد المحدود المطلق؟ وكيف يقهر المخلوق الخالق؟. كان ربنا ولم يكن مكان ولا زمان، فهو الغني عنهما وعن كل شيء، وكل شيء إليه فقير.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ أرسله بالهدى والحق والصدق، وجعله دليلاً على الطريق إليه، وقائداً لمرضاته، وشرفه بالرسالة التي لا تستغني عنها الحياة، والشريعة التي لا تستقيم إلا بها. اللهم صل وسلم على محمد الهادي الأمين وآله الطيبين الطاهرين.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأن لا نقبل على الله وعلى شريعته ما قد ينسب إليهما زوراً وجهلا، مما لم تقض به بديهات العقل، ولا يتفق مع ما جاء به من الله ورسله. وإن أكبر الزور أن ينسب إلى دين الله ما ليس منه، وأكبر خيانة للدين أن يروج بما فيه القضاء على الدين باسم الدين. ولقد كانت المعركة الكبرى للأئمة من أهل البيت عليهم السلام من أجل أن يبصروا الأمة بمرجعيتها الشرعية بالحق في ما يصح أو لا يصح، يحرم أو يجب، يجوز أو لا يجوز في دين الله. وإنه إذا قامت الحجة الشرعية على صحة كون الفقيه من فقهاء أهل الحق مع عدله وتقواه أن ينطق في حدود تفقهه واجتهاده بلسان الشريعة في حدود ما دل عليه الدليل حتى الظاهري وبحسب هذه الدلالة واقعية أو ظاهرية؛ فإن من لم يكن كذلك فالدليل الشرعي القطعي قائم على حرمة فتواه ونسبة آرائه وتنظيراته إلى الشريعة، وعلى حرمة أن يعتبرها الآخرون من الدين.
اللهم إنا نستغفرك ونعوذ بك من مضلات الفتن، ومن القول بغير علم ، والأخذ للدين عمن لم يأخذ عن الله ورسله وحججه عليهم أفضل الصلاة والسلام.
وهل تحرزون أن الجرائد اليومية، وأن كتب المثقفين العرب، مثل الكوم والجابري وما إلى ذلك، تنطق بدين الله بحق؟ وهل يصح لمسلم أن يتبعد بمثل هذه الأقوال الواردة في مثل هذه المجلات اليومية.. صحفيين عاديين، ومن كتابٍ يرتزقون الاتجاه الآخر في أخذ الثقافة وفي اعتبار منابع الثقافة.
اللهم صل وسلم على النبي المطهر، والرسول المؤيد، والقائد المسدد أبي القاسم الهادي محمد.
اللهم صل وسلم على الخشن في ذات الله، والمجاهد بالحق في سبيل الله، قاتل المارقين والقاسطين علي بن أبي طالب أمير المؤمنين. اللهم صل وسلم على الراضية المرضية، الهادية المهدية، فاطمة الزهراء الزكية.
اللهم صل وسلم على شبلي البسالة، وإمامي الهداية، السيدين الزكيين أبي محمد الحسن وأبي عبد الله الحسين.
اللهم صل وسلم على أئمة العدل، وخزنة الوحي، وأمناء علم الرسالة الإمام السجاد ومحمد بن علي الباقر ، وجعفر بن محمد الصادق ، وموسى بن جعفر الكاظم ، وعلي بن موسى الرضا ، ومحمد بن علي الجواد ، وعلي بن محمد الهادي ، والحسن بن علي العسكري أنوار الهداية.
اللهم صل وسلم على باعث علم القرآن، ومظهر كنوز السنة بعد النسيان، والحاكم بالإسلام والإيمان ، مذل الكفر والنفاق، من تزين بعدله الآفاق، العز والمفتخر أبي الحسن محمد المنتظر.اللهم كن له دليلاً وعيناً وقائداً وناصراً واخسأ به أهل عداوتك، وأعز به أهل ولايتك يا كريم يا رحيم. اللهم من سعى في التمكين له فمّكن له، ومن سعى للتخذيل عنه فارمه بخذلان منك لا يقوم بعده يا قوي يا عزيز. اللهم إنا نسألك التوبة والمغفرة والرحمة يا أكرم الأكرمين.
أيها المؤمنين والمؤمنات أتناول في هذه الخطبة القضايا التالية بشيء من الحديث:
1-ذكرى حرق المسجد الأقصى من المجرمين اليهود الصهاينة .
حين يكون التعدي على المسجد الأقصى وهو أولى القبلتين للمسلمين فهو تعد على أمةٍ كاملةٍ وتاريخ ومقدسات وكرامة هذه الأمة، وهو عدوان خارج دائرة الصراع على الأرض والمصالح المادية. وهو تحدٍ بالغ أقصى درجات الاستفزاز والإثارة، والامتحان لوجود الأمة ومدى ما لهذا الوجود من نبض. إن وراء عملية الحرق الحسي للمسجد الأقصى، دوافع تتجه عند الصهاينة لحرق قيم السماء في الأرض كالعدل والاشتراك في الإخاء الإنساني، والأصل واحد لأبناء الإنسانية وكونهم يقفون على صعيد واحد؛ ليس أحد منهم أكرم من الآخر إلا بالتقوى التي يعني الإيمان والطهر والعمل الصالح والكلمة الناقصة والدور الفاعل الكريم على خط الرب الواحد الأحد، ذلك شيء تتنكر له الصهيونية العنصرية، ووهم اليهودية المحرفة.
يتساءل هل يتم تحرير المسجد الأقصى، واطلاق القيم السماوية الرفيعة التي يرمز لها بتحرير الأرض، وتحرير المبنى على يد أي أطروحة وأي قيادة؟ أسأل ماذا لو تحررت البناية على يد قيادة عربية أو تركية أو فارسية نصرانية الانتماء، أو يهودية الانتماء، أو كان هواها مع يسار أو يمين، أو كانت ترفع شعار العلمانية وتفرض على الدين موقعاً هامشياً خارجاً عن ساحة الحياة، أو موقعاُ ذيلياً مستمراً لأغراض السياسة الوضعية التي تسخر من الدين وقيمه إلا أن يكون آلة بيد الطغاة من مستكبري السياسة العالمية الشيطانية وعبيدهم؟ هل يعد هذا تقريرا لمسجد الأقصى في معناه في قيمه في تاريخه فيما يشير إليه من خط حضاري ، وهل المهم والكبير أن تحرر البناية فقط ، أو أن يحرر ما وراء البناية من المرموز إليه ، هل ستنطق قيم المسجد الأقصى عندئذ فعالة، وهداه مشعاً، وتأريخه حياً؟ هل سيشارك المسجد الأقصى عندئذ بقيمه الحبة في صناعة أمة الإيمان والهدى والعدل والمساواة؟ هل سينطلق ليقنع أمة التوحيد، وتوحيد الكلمة على مائدة الإيمان وشريعة العدل الإلهي القويم؟
إذا كان الجواب (لا) وهو كذلك فالتحرير الحقيقي للمسجد الأقصى، وحمايته من حرق قيمه وتاريخه وأهدافه ورسالته يتطلب انبعاثاً إسلاميا داخل الأمة المنتسبة للإسلام، وتراصاً في الصفوف، ونبذا للتشنجات الطائفية والفئوية المفتتة .
إن بقاء الأقصى حبيس أسره، بلا تحريره مبنى وقيماً يعني أن الأمة والتي تحداها الحرق الأول فلم تستطع أن ترد على التحدي بالقوة المطلوبة، لا زالت تُتحدى وتُستفز، ولا زال مسجدها مهدداً بالحرق والنسف والسيطرة الكاملة، دون أن تملك الرد الكافي. وهذا واقع مأساوي أنهت إليه سياسات وأنظمة وأحزاب وصحافة وجامعات ومؤتمرات كان المغيب فيها دائماً هو الإسلام، والمدفون تحت التراب بالقمع والحروب الثقافية والتغريب هو صوت الإسلام.
-الشواطئ والمنتزهات لمن؟
إذا كانت البلاد الإسلامية ساحة مفتوحة لكل التوجهات السلوكية اتفقت مع الإسلام أو خالفت فهل للإسلام نصيب من ناحية عملية في بلاده في شواطئ بلاده في منتزهات بلاده ؟
الجواب الرسمي ما هو ؟ هل للإسلاميين الذين يؤمنون بقيم وخلق من صناعة الإسلام من وحي الإسلام من ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، هل لهؤلاء حق في الشواطئ في المنتزهات أو ليس لهم أن يرتادوا ؟
إذا كان لهم موقع فالسياسة لابد أن تتغير ، وإذا لم يكن لهم موقع فالقرار لابد أن يُراجع حتى على القول أن بلاد الإسلام يجب أن تكون مفتوحة على جلب كل السلوكيات على كل وارد فاسد، على رقص الغرب، على سفه الغرب ، على فحشاء الغرب ، حتى على هذا القول هل المطلوب أن يحرم الإسلاميون أهل التقوى، أهل العفاف، أهل المحاسبة النفسية على أساس القيم الخلقية من كل الشواطئ ؟ أم لهم حق في ذلك ؟ أقول إذا كان كذلك فلا يصح حتى مع الحرية اللامسؤولة أن يحرم المؤمنون بسلوكيات الإسلام من هذه الشواطئ. والواقع القائم يحرم الإسلاميون من حقهم في التمتع بالمنتزهات والشواطئ لملأها بكل فاسد ورديء، وهناك فحشاء، وهناك رقص، وهناك عبث ولعب ينفر أي إنسان يحمل نفس شريفة وله ولو حساب قليل لقيمه وأخلاقياته أن يبتعد. فمسؤولية من هذه ؟ في إحدى البلاد العربية التي تعيش شواطئها انفلاتا أكثر من هذه الحالة أو ما هو بمستوى هذه الحالة، اتجه الإسلاميون إلى الشواطئ فأقاموا مخيمات، فأقاموا هناك الدعاء وتلاوة القرآن، كان مخيمات للنساء ومخيمات للرجال، وصارت مخيمات الإسلاميون تجتذب بروحانيتها وبأدبها وعفافها، فما أن لبثت الحكومة حتى تدخل القانون العادل في فرض الإجراءات الصارمة على الخط الإسلامي.
3-المشكلة العمالية :
المشكلة العمالية بطالة تأخذ منها جهتين جهة البطالة وجهة تدني أجور العمال ، وبالشكل السريع البطالة تفرضها سياسات الإقصاء وقد وقفنا على أهمية المال أنه قيام وقوام للأمم للشعوب وللجماعات . هذا الكلام الذي أقوله قد ينطبق بكامله أو ببعضه على الوضع في البلد وقد لا ينطبق ببعضه على البلد فالإنسان وما يرى .
البطالة تفرضها سياسات الإقصاء، إذا كانت هناك سياسة خلفية لإقصاء اتجاه معين، لقتله، لتذويبه، لإفشاله، لإسقاطه، لدحره، تأتي البطالة المفروضة على طائفة خاصة من الناس، هناك سياسة المتاجرة بالبشر والرق الجديد المغلف بالبشر .
الباكستانيون والهنود وغيرهم من الجاليات ، الواحد منهم قد يعمل عشر ساعات وما فوق عشر الساعات في الحر القائض المحرق في جو الخليج ، وما هو أجره الشهري ربما كان أربعين دينارا ، هذا نوع من الرق ، نوع من الاستنزاف ، نوع من الهدر لكرامة الإنسان ، ومن أجل ماذا ، من أجل أن تنتفخ بطون ومن أجل أن ترتفع قصور ، ومن أجل أن تتسع مزارع وحقول .
هدف الإبقاء على الطبقية الاقتصادية الفاحشة لا يليق ببلد إسلامي أبداً ، فإن الإسلام ربط بين حرب الكفر وحرب الطبقية الاقتصادية الفاحشة ، ذلك لأنه ما ولدت طبقية اقتصادية فاحشة إلا ووُجد من بين الناس عابد ومعبود .الطبقة المترفة هي المعبود هي الرب من ناحية عملية ، هي التي تفرض القوانين ، هي التي توجه سير التاريخ ، هي التي تفرض هيمنتها في كل شيء ، والفئة الثانية الفئة المسحوقة ، فئة تتلقى وتستجيب ، وهي في موقع الضعف وفي موقع الوهن .
الطبقة المسحوقة المستضعفة لابد أن تكثر فيها عبادة الطبقة المترفه ، وتنسى الله سبحانه وتعالى .
باختصار إذا كان الإسلام دين التوحيد ولا يرضى للعبادة من دون الله فمن الضروري جدا أن يحارب الطبقية الاقتصادية التي تتعاكس وبشكل كامل مع مسار التوحيد ، لأنها تفرض الشرك ، تستتبع الشرك بلا أدنى شك ، الطبقية الاقتصادية قاعدة الشرك ، قاعدة أن يُنسي العبيد المتبذخون المتفرعنون أن ينسوا الإنسان ربه ، وأن يتحولوا إلى رب كاذب في نفوس المستضعفين .
4 – مشكلة أجور العمل :
هي المشكلة الأخرى في مجال المشكلة العمالية وهذه المشكلة أيضاً تنبع من طبقية السياسة الطبقية الاقتصادية المحطمة وهي ذات مقدمات ونتائج خطرة على وضع المجتمعات .
لكي تكون طبقية اقتصادية لابد أن تبقى الفئة الكبيرة النسبة العالية من الشعب عند خط الجهل ، لابد أن تفقد التماسك الاجتماعي، لابد أن تفقد الصوت العالي الذي يطالب بحقوقها ، وهذا لابد أن يتخذ مقدمات من أجل الطبقية الاقتصادية. أنت لا تستطيع أن تفرض طبقية اقتصادية فاحشة ما لم تجهل الآخرين، ما لم تضعف الآخرين، ما لم تفرق الآخرين، وكل هذا لابد أن يتخذ مقدمات ضرورية لغرض الطبقية الاقتصادية الفاحشة، وهذه الطبقية الاقتصادية الفاحشة هي بالتالي بما تفرضه، بما تؤدي من ضعف الإمكانات لابد أن تؤخر الصفوف الفقيرة من أبناء الشعب عن نيل الفرص العلمية وعن الرقي في سلم العلم وبذلك يكون التأثير متبادلاً بين التخلف في الجهات الأخرى وبين الطبقية الاقتصادية الفاحشة. يصل الأمر إلى أن راتب العامل 80 دينار، 100 دينار، تصل بعض المرتبات من ناحية فعلية خارج الدائرة المسماة إلى عشرة آلاف دينار ، معنى هذا أن عمارة مكونة من عشرة آلاف طابق غالبية من الشعب في الطابق الأول من عمارة فيها عشرة آلاف طابق ، قلة في الطابق البالغ رقم عشرة آلاف ، هذا الطابق له أفق واسع ، له أفق ممتد، ذاك الطابق افقهم ضيق جداً الأفق الثقافي، الأفق الخبرتي ، الأفق النفسي، أفق القوة في كل ميادين، بهذا يفرض الفارق الفاحش في الأجور ، أجور العمل، أجور الوظيفة، يفرض الطبقية على كل مستويات فيمسك المتميزون في هذا الفارق بعصب الأمة وبمقدوراتها ومقدراتها بمصيرها بحياتها بموتها، ربما وصل الفارق إلى واحد على مليون وأكثر من مليون، بعض الجيوب فيها دينار، وقد لا يوجد فيها دينار، بعض الجيوب فيها عشرة ملايين دينار، بعض الجيوب فيها مئات الملايين من الدنانير.
هذا وضع ينكره الإسلام كل الإنكار ومن أكبر مهمات الرسالة الإسلامية أن يقضى على الطبقية الاقتصادية في الأرض كل الأرض حتى يحكم الإيمان وحتى تستطيع النفوس أن تتجه إلى الله سبحانه وتعالى وبرغم هذا أو ذاك وقد تكون في البلاد مشاكل كثيرة مما ذكرت أو أكثر مما ذكرت وللمطالع أن يحكم برغم هذا وذاك ، إلا أنه ينبغي للأخوة العمال الأعزاء أن لا تكون تحركاتهم تحركات غير مدروسة، وأن لا ينطلقوا دائماً الانطلاقة العفوية ويستجيبوا لأي نداء بالتظاهرات والمسيرات لأن هذا يضر بهم كثيراً ويضر بوضع البلد ككل.
ويجب أن تستمر المطالبة ويجب أن يكون الإصرار ليس من العمال فقط وإنما من العمال، من الجامعات، من المساجد ، من كل المواقع، على أن يقضى على البطالة وعلى أن يرتفع مستوى الأجور ارتفاعا يسمح بأن يعيش الإنسان كريماً .
جهد عشر ساعات على مستوى عضلي في هذا الحر القائظ يتطلب أجراً يخفف من ألام ومن نصب وتعب هذا العامل، وحرام كل الحرمة أن يستمر التفاوت الاقتصادي في كل بلادنا الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها بهذا المستوى.
اللهم اغفر لنا ولا تجعلنا من أهل نقمتك، ولا من طالبي الدنيا بسخطك، ولا من الساكتين الراضين بما يغضبك، ولا من أهل الفرقة في بلادك وعبادك يا أرحم الراحمين.
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون