خطبة الجمعة (16) 28 ربيع الثاني 1422هـ – 20-7-2001 م
مواضيع الخطبة:
خيار إبراهيم وخيار نمرود – خطبة الجمعة ومقوماتها
– المصلحة الشعبية في السياسة الإسلامية –
هذا هو الانفتاح الحقيقي ..أن
تعطى للكلمة الهادفة ، للكلمة البناءة للكلمة الناقدة ، للكلمة التي تسلط الضوء على
العيوب الإدارية ، وعلى المفارقات الإدارية ، وعلى نقط الإجحاف والظلم ، وعلى
تخلفات القانون العادل والدستور العادل ، تعطي لهذه الكلمة الفرصة لأن تقال في جو
ليس فيه متابعات ولا ملاحقات
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي خلق الخلائق وهي محتاجةٌ إليه وهو غنيٌ عنها ، فما خلق شيئاً يستكمل به وهو الكامل أزلاً ، وإنما خلق الأشياء تفضّلاً وتكرّماً .وهو الذي .
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و لا وليّ له من الذل ، ولا منازع له في الملك ، ولا مضاد له في الأمر ، ولا معقب له في حكمه ، ولا راد له في قضائه .كل الأشياء منقادة إليه ، ومستجيبةٌ لإرادته ، مستكينة لقدرته ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ختم به النبوة وأكمل به الرسالة وأتم الحجة ، اللهم صل وسلم عليه وآله الأخيار الأبرار المنتجبين الأطهار .
عباد الله أوصيكم ونفسي الأمارة بالسوء ، المخادِعة بالباطل بتقوى الله ، لا إله إلا هو ، ولا راد لحكمه ، ولا مؤخر لقضائه ، ولا مفر لمذنب من عقوبته إلاّ أن يؤوب ويتوب ، ويناله منه عفو ومغفرة ، وليكن الموت وما بعد الموت نصب أعيننا فإنه الحق الذي لا يعتريه شك ، وكل عبد لاقيه ونسيانه وتناسيه والفتور في الاستعداد إليه لا يعقب إلا حسرة وندامة ، ولا يستتبع إلى الخسران المبين .فلندفع الغفلة بالتفكر والتذكر والتدبر في مصائر الماضين ومن بعيد ومن قريب ، وفي بيوت خلت من الأولين وأودعوا الحفر الموحشة ، وقبور الداثرين ومنازل المنسيين .
وغدا يعلو صراخ بواكينا ، وتودعنا ويلات الفجيعة ، وآهات الفراق ، بعدما انقطع العمل وطويت الصحف وفات أن يتدارك متداركٌ ما يعسر يوم القيامة حسابه ، ويقيم في النار عذابه .
عباد الله اتخذوا طريق الله لكم طريقاً ، ولا تسلكوا مسالك قد نهى عنها مما يدل عليه الشيطان وأهله ، ويدعوا إليه المفسدون في الأرض ، وأيّما دعوة على خلافها كتاب أو سنة فهي دعوة ضلال ، والضلال دعوة الشيطان وحزبه ممن يكيدون بالإنسان ، ويستهدفونه في الصميم ، وإن طريق الله عز وجل له مؤداه ، وطريق الشيطان له مؤداه ، مؤدى الأول جنة وسعادة ورضوان ومؤدى الثاني نار وشقاء وخسران وهوان .
مع كتاب الله عز وجل ..
وإن اصدق القول وأحقه قول الله العزيز الحكيم وقد قال تبارك وتعالى :
((وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)) البقرة
هنا خياران : خيار رشدٍ ، وخيار سفه .
– خيارٌ هو خيار إبراهيم عليه السلام
– خيارٌ آخر هو خيار نمرود
إبراهيم مصطفىً من الله ، مصنوعٌ تربيةً على عين الله ، مودعٌ من الكمالات الإلهية ومن الأخلاق الكريمة ومن العقل الراجح ومن الروح الطاهرة الصافية ما يتميز به عن غيره ، ذاتٌ إنسانية مثال ، ذاتٌ إنسانية قدوة ، ليس من الإنسان الذي يصاب في تفكيره بالغش ، وليس الإنسان الذي تغيم رؤيته ، وليس الإنسان الذي آمن منعه ضعف نفسه أن يتابع ما آمن به ، هو إنسان من الكُمّل المتميزين في الناس ، كان له خيار بما له من تأهيلٍ إلهيٍ خاصٍ متميّز .
نمرود الطاغية الظالم الغاشم المستغرق في الشهوات ، المأسور لهوى نفسه ، المرجوح في عقله ، كان له خيار ، والخياران كلٌ يستقطب خلقاً كبيراً من أول الدنيا إلى آخرها ، خيار إبراهيم هو الذي يستقطب الآن ولازال يستقطب ، وخيار كان قد استقطب خلائق كثيرة ولا زال يستقطب ، وأنت أمام الخيارين فاختر منها ما يقول لك به عقلك ونظرك الدقيق وفطرتك السليمة .
((وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ…)) ( 130 ) الآية الكريمة تقول إن خيار نمرود انحدار عن خط ، الخيار الذي يخالف خط إبراهيم وراءه خلفيةٌ من الفكر رديئة ، وراءه شعورٌ نفسيٌ منحط ، وراءه روحٌ ملوّثة ، وراءه مستوىً إنساني لصيقٌ بالأرض حتى تخفى إنسانيته وتذوب ليتحول طيناً صرفا .
((وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ..)) دين إبراهيم ، خط إبراهيم ، خط التوحيد ، التوحيد الشامل الكامل ، التوحيد الذاتي ، التوحيد الأفعالي ، التوحيد التشريعي ، التوحيد العبادي ، التوحيد الفاعلي ، التوحيد على مستوى الفكر ، التوحيد على مستوى الشعور ، التوحيد على مستوى السلوك .
((وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ…. )) تقزم وهانت نفسه عليه ورآها سخيفة ورخيصة ، لا يكون خيارٌ غير خيار إبراهيم لإنسان إلاّ وراءه هذه الخلفية ، خط إبراهيم عليه السلام الخط الصاعد إلى الله ، خط التوحيد خط الكرامة ، خط الإباء ، خط الشرف ، خط العدل ، خط العلم ، خط التشوّق إلى الكمال ، خط الشفافية الروحية الصادقة .
((وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ..)) فليقس أحدنا نفسه ، قدرها بقدرها وزنها ، بما هو عليه من نسبة القرب أو البعد عن خط إبراهيم عليه السلام – خط التوحيد – في كل حيثية من حيثيات حياته وفي كل جنبةٍ من جنبات وجوده .
((وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ…)) ( 130 ) خط إبراهيم خطٌ مصطفى من الله خط الشخصية التي اختارها الله سبحانه وتعالى ، هذا يكون قدوة أم لا ؟ هل يكون تقليده تقليداً معيبا ؟ أو عين الرشد وعين الاجتهاد وعين الدقة والحكمة لمن يعقل ؟ هو الثاني وليس الأول لمن يعقل ، لأنه مصطفى من الله .
أمير المؤمنين عليه السلام جُعِل علامة الحق ، والحق يدور معه حيث ما دار ، والجاهل حين يقف أمير المؤمنين ويقف معاوية موقفاً آخر ليس بمعذور ، بعد أن أقامته الشريعة علماً هادياً ودليلاً على الحق . والفئة الصالحة معروفة ومتميزة في كل زمان وهي تمثل حجة على الناس ، حيث لا يفهم الشخص ولا يميز إذا أخذ الصالحون برأي وأخذ الطالحون برأيٍ آخر ، كان في ذلك حجةً على سائر الناس .
((وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132)) البقرة – لا بد من الوفاء للرسالة ولابد من الوفاء للأجيال ، إبراهيم عليه السلام يفي برسالته ، يفي لخطه يفي لمبدأه ، يحمله الهم الأول ويحمل الهم الكبير ، ويحمل الرسالة المقدسة ، التي لا يتخلى لحظةً عن أن تلتحم به الأجيال فهو يريد للأجيال أن تلتحم بالرسالة ، ويريد للرسالة الحاكمية ليس في زمنه فقط ، وانما في كل الأزمان ، إنه من وفاء الرسالة ومن درس الرسوليين أن يعملوا ليل نهار على إبقاء الوعي الرسالي ، على إبقاء الأصالة ، على إبقاء الخط المحمدي الأصيل واضحاً للأجيال .
في هذا وفاءٌ للرسالة ، وفي هذا وفاءٌ للأجيال ، لأن دنيانا كلها لا تساوي جناح بعوضة مما في الآخرة ، فليس من سعادة الأجيال أن تترفه مادياّ وتضل ، ليس من مصلحة الأجيال أن تنسى دينها لتكبر في يدها الدنيا ، ليس من الإنسان أن يتحول بهيمةً سائمة ويكثر علفها ، وتكترش وينتفخ منها البطن ، وتزداد سمنةً ، فإن الثور هنا وبهذا المقياس أكثر تقدماً وأشرف مقاماً من الإنسان ، إذا كان وزن الإنسان سيصل إلى 150 كيلو ، فإن وزن الثور قد يصل إلى 300 كيلو ، وإذا كان تقدم الإنسان فإن كلاباً كثيرة تركب الطائرات ، واطهر الناس قد لا يركب الطائرة وانفع الناس للناس قد لا يركب الطائرة ، ومن الممكن أن يصل إلى الفضاء البعيد كلب ، فإذا كان المقياس هو ما يقطعه الإنسان من مسافة ، أو ما يركبه من مركب ، أو ما يسكنه من مسكن ، فإن الحيوان قد تكون أمامه فرصٌ تسمح له أن يكون اكبر من الإنسان بكثير .
((وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132)) البقرة – ما معنى ولا تموتن إلا وانتم مسلمون ؟ من معنا ه : أن لا تسمح للموت أن يأتيك في لحظة خفة إيمان وفقد إيمان ، أنت لا تدري متى تموت وإذا أردت أن تموت مسلماً فعليك أن تكون المسلم الحق في كل حين ، وإلا فمن الممكن جداً وحين يختلسنا الشيطان أن ننسى إسلامنا لحظة أن تكون لحظة النسيان هي لحظة مفارقة الحياة وفي ذلك الكارثة .
(( أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَـهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)) البقرة .
الوصية الأخيرة للأنبياء : الإسلام ، الصلاة ، التقوى ، الوصية للأحبة لفلذات الأكباد للأهلين ، لأنه اكبر خير وفواته أكبر خسران .
اللهم اغفر لنا وتب علينا ، ولقنا منك مغفرةً ورضواناً وأسبغ علينا من نعمك ، وأكرمنا بالاستقامة في دينك ولا تمتنا إلى ونحن مسلمون ، واجعل محيانا محيا محمد وآلا محمد ، ومماتنا مماتهم ، ومبعثنا مبعثهم واجعلنا في زمرتهم في دار المقامة ياكريم يا رحيم .
اللهم اغفر لي ولإخواني المؤمنين والمؤمنات أجمعين .
بسم الله الرحمن الرحيم
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي لا يطفئ ظمأ القلوب إلا معرفته ، ولا يُذهب حيرة النفوس إلا الاهتداء إليه ، ولا ترسو العقول إلا عند توحيده .
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة توحيد حق وتنزيه صدق وتقديس كامل مطلق ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اصطفاه للرسالة الكبرى وارتضاه للأمانة العظمى وبوأه المنزلة العليا ، وكلفه الجهاد المرير وحكّمه الدور الخطير زيادة له في الشأن ، ورفعةً له في القدر ، اللهم صل وسلم عليه .
عباد الله أوصيكم ونفسي التي تمكر بي بتقوى الله ، وأن تستقيموا على درب طاعته ، ونستضيء بنور دينه ، وأن لا نعّول إلا على شريعته ، ولا نطلب العدل إلا من حكمه .
اللهم صل وسلم على مبعوثك بالعدل ورسولك بالرحمة الصادق الأمين ، والنبي الكريم محمد وآله الطاهرين .
اللهم صل وسلم على الوصي المرضي ، والولي التقي ، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب . اللهم صل على الدرة التقية والعابدة الهدية قرة عين الرسول فاطمة النوراء البتول . اللهم صل وسلم على الحسنين التقيين المجاهدين أبي محمد الحسن وأبي عبد الله الحسين ، اللهم صل على المعصومين من ذرية الحسين حججك على عبادك وأمنائك في بلادك علي بن الحسين السجاد ، ومحمد بن علي الباقر ، ، وجعفر بن محمد الصادق ، وموسى بن جعفر الكاظم ، وعلي بن موسى الرضا ومحمد بن علي الجواد ، وعلي بن محمد الهادي والحسن بن علي العسكري عليهم أفضل الصلاة والسلام.
اللهم صل على الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن المهدي المنتظر اللهم وعجل فرجه وسهل مخرجه ، وعجل غوثك للمؤمنين بقيامه ونصرك اللهم بقدومه ، اللهم انصر ناصره ، واخذل معاديه وخاذليه إنك أنت القوى العزيز ، اللهم إنلنا غفرانك واجعلنا من أهل عفوك وعافيتك وإحسانك يا كريم .
أما بعد أيها المؤمنون فالحديث ينصب في هذه الخطبة على القضايا التالية :
1-خطبة الجمعة ومقوماتها :
تأتي أسئلة وتأتي ملاحظات وليست خطبة الجمعة خاضعةً لهواي ولا لهوى غيري ، إن لها مقومات مرسومة في الأحاديث الشريفة ، لها مقومات وآداب ، والمقوّم ركن تختل خطبة الجمعة بدونه فتختل الصلاة أيضا ، خطبتا الجمعة تقوم مقام الركعتين ويذهب من يذهب من الفقهاء إلى أن الخطبتين تأتي فيها أحكام الصلاة من عدم الالتفات ، ومن وجوب الصمت وما إلى ذلك ..
الحمد والثناء لله سبحانه وتعالى ركن ،حتى أن بعضهم أصر على أن الصيغة لا بد أن تكون بهذا النحو :(الحمد لله) ، وبحثوا هل يكفي ( أحمد الله ) أو لا يكفي .
الاستغفار ، الدعاء ، الموعظة والوصية بالتقوى ، الوصية بالتقوى ركن ، الوعظ جزءٌ من خطبة الجمعة ، والنفوس تذهب أيام الأسبوع كلها مع الدنيا ، وتلتقي بالكثير من التحديات والمغريات ، وتحتاج إلى تذكير وتحتاج إلى موعظة ، راجعوا خطب أمير المؤمنين ترونها تقطر بالوعظ وتركز على معاني التوحيد ، ويأتي بعض إخواننا المخلصين المؤمنين ليستكثر على الخطبة أن تقف مع الوعظ بعض الوقفة ، الغرض السياسي ،الغرض الاجتماعي ، واحد من أغراض خطبتي الجمعة ، حتى خصص بعضهم خطبة الجمعة الأولى للثناء والحمد على الله وفيها الموعظة ، الخطبة الثانية يأتي فيها ذكر مصالح المؤمنين للدنيا والآخرة ، وذكر مصالح المؤمنين للآخرة معناه يمر بالمفهوم الإسلامي ، وفي خطبتي الجمعة هنا يجري التركيز على تأصيل المفاهيم الإسلامية وعلى إعطاء رؤية إسلامية صافية بقدر الإمكان تحاول أن تلتصق بالقرآن وبالسنة ومن اكبر الضرورات – في نظري – في مثل هذه الزوبعة الفكرية وفي مثل هذا الأوان الذي اختلطت فيه الأوراق من ناحية فكرية أن يُركز على استخلاص الرؤية الإسلامية والانطلاق بلا رؤيةٍ صافيةٍ مكينةٍ حكيمة هي انطلاقة لا بد أن تتراجع ولا بد أن تنتكس وإذا استمرت على غير هدى استمرت لتصل إلى لا خير ، لتصل إلى شر ، فلا بد من التركيز على المفهوم الإسلامي وليجد الاخوة لي عذراً في هذا
2-المصلحة الشعبية في السياسة الإسلامية :
أ)لا بد من تقديم المصلحة الشعبية عند التزاحم ..
الكلمة عن أمير المؤمنين عليه السلام تطرح ثلاث قضايا :
القضية الأولى : أن يكون حكم الله ورضا الله هو المحور دائما
القضية الثانية : أن هناك بطانة ، هناك رسميين ، هناك وزراء ، هناك وكلاء ، هناك محيطون بأي حاكم من الحكام ، هؤلاء مصلحتهم نسميهم المصلحة الخاصة ، والمصلحة الشعبية هي المصلحة العامة فتوجد مصلحتان وقد تتهافت المصلحتان ..
اكتراش الخاصة وتضخم الخاصة مالياً ، يكون دائماً على حساب العامة وبسرقة عرق العامة وثروات العامة ، لا بد من عدل لا تظلم الخاصة لصالح العامة ، ولا تظلم العامة لصالح الخاصة في حكم أمير المؤمنين عليه السلام ، وإذا كان تزاحم بين المصلحتين فالمنشأ في الأغلب هو طمع الخاصة ، وإذا كان المنشأ في التزاحم والتهافت والتناقض هو طمع الخاصة فلا بد أن يقلم ظفر هذا الطمع ، ولا بد أن يشاح عنه بالوجه عن مصلحة الخاصة رعاية لمصلحة العامة .
التفتوا أيها الأخوة ..
أمير المؤمنين عليه السلام حين كتب عهده إلى مالك الأشتر لأنه لم يذع في إذاعة ولم يشهر في حينه في جميع الأمصار وإنما كان سياسة حكم صادقة لا تراعي إلا وجه الله سبحانه وتعالى ، وهذا يختلف كثيراُ عمّا عليه حكومات العالم اليوم حين تذيع برامجها الإصلاحية ، فهي تذيعها إعلاميا ولتأييد الرأي العام ، أما على مستوى التطبيق فالله أعلم كم يطبق من وصايا الحكام حتى لو أخلصت .
تقول الكلمة لأمير المؤمنين عليه السلام في العهد لمالك الأشتر : ” وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق ..” يعني الأمر الذي يتوسط طريق الحق بحيث لا يميل شعرة عنه ، فإن الميل عن وسط الحق فيه خطورة الوصول إلى طرف الباطل ، معنى أن يكون الأمر في وسط الحق ، أنه متغلغل في قلب الحق لا يحمل شعرة من الباطل ولا ذرة من الباطل أبدا ” وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق وأعمقها في العدل ..” العدل للجميع “.. وأجمعها لرضا الرعية ” فإن سخط العامة يجحف برضا الخاصة ، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة وهنا درس سياسي لمالك الأشتر ، لكل الحكام . الذين يطلبون رضا الخاصة حماية للكرسي واهمون مخطئون ، رضا الخاصة الذي ينسف برضا العامة ،ويذهب رضا العامة هذا ليس فيه ضمانة لبقاء الحكم ، وإنما فيه تهديدٌ للحكم ، الذي يمثل ضمانةً لبقاء الحكم هو رضا الرأي العام ، هو رعاية المصالح الشعبية العامة ، وليس أن يكترش نـفر قليل بحرمان الآخرين ، وفي قبال ذلك حرمان الآخرين وجوع الآخرين .
ما يتطلبه بقاء الحكم أن يراعى الرأي العام ، ولكن في ضل المقدمة التي قدمها أمير المؤمنين عليه السلام وهي رعاية العدل والتزام وسط الحق ، الرأي العام ليس سيداً عند أمير المؤمنين عليه السلام ، لا رأي الخاصة بإله ، ولا رأي العامة بإله ، إنما الإله إلهٌ واحدٌ حق ، وأمر الله سبحانه وتعالى ، وأمر أمير المؤمنين الذي هو من أمر رسول الله ، من أمر الله سبحانه وتعالى ، أن تراعى مصلحة العامة عند التهافت والتناقض لما سبق أن منشأ هذا التهافت هو طمع الخاصة .
قد يعترض على استعمال كلمة الرعية عند أمير المؤمنين عليه السلام فكأن الحكم الإسلامي ، يستهين بعقول الناس بعقول الفلاسفة ، بعقول المفكرين السياسيين ، بعقول النخبة المثقفة ، يسميهم أمير المؤمنين عليه السلام رعية .
أولاً : في مسالة إمرة المؤمنين فإن سائر الناس هم دون الحاكم ، فلاسفة كانوا ..مثقفين كانوا ..أياً كانوا ، على الأقل المعدل الوسطي للحاكم _ حتى بعد المعصوم _ في الإسلام بلحاظ ما تتوفر عليه أبعاد شخصيته يجب أن يكون أعلى من الآخرين ، هو ليس الأكمل في كل شيء لكن المعدل الوسطي لأبعاد شخصيته لا بد أن يكون هو الأكثر تقدماً أما إذا نظرنا إلا المعصوم عليه السلام فهو سيد كل الفلاسفة وسيد كل الحكماء وأكبر شخصيةٍ في الأرض .
الجانب الآخر : فالرعية من الرعاية ، الرعاية من الناحية السياسية ، ومن ناحية الحقوق ، من ناحية التربية على المنهج الحق والحاكم لا يربي أفراداً إنما يربي أمة ، والحاكم لا يحكم أفرادا بمقدار ما يحكم الهيئة العامة للأمة ، والوجود الكلي للأمة ،الوجود الاجتماعي وليس الوجود المجموعي . ففي الحقيقة تربيته تكون للوجود الاجتماعي أكثر منها للوجود المجموعي ، وإن كان الوجود المجموعي تربيته عبر تربيته للوجود الاجتماعي ، والأمة شخصية اجتماعية اعتبارية أو قريبة من الاعتبار إلا أنها في شخصيتها الاجتماعية قاصرة لا تدير نفسها ، الشخصية الاعتبارية لا تملك أن تدير شئون أفراد الأمة وهي قاصرةُ أمام الفرد الذي هو من أكمل أفراد الأمة ..
وليست الرعاية من هنا حط القدر من إنسان الأمة ، كيف وأمير المؤمنين عليه السلام والإسلام أساساً والقرآن يرى الإنسان خليفة الله ، ويكلفه الدور الأكبر في الأرض .
ب)الاستقرار والمصلحة الشعبية : ”
وإن افضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد ، وظهور مودة الرعية وإنه لا تظهر مودتهم إلا بسلامة صدورهم ، ولا تصح نصيحتهم إلا بحيطتهم على ولاة الأمور …”
يركز النص هنا من أمير المؤمنين عليه السلام على هداية الحكومات إلى سبل الاستقرار وإلى اكبر سبيل من سبل الاستقرار وهو أن يعملوا على مصلحة الشعب ، وأن يكتسبوا ود الشعب من الداخل والإعلام المزوّر لا يكفي لاكتساب ود الشعب ، إنما هي المشاريع الحية الفاعلة تقوم على الأرض ، وتدخل بالصالح على الناس ، وتغير أحوال الناس إلى الأكثر إيجابية ، هذا هو الذي يكسب مودة الحكم ، ويجعل الشعب كل الشعب قلعةً تحمي الحكم وتذود عنه .
3-جو الانفتاح في حكومة عليٍ عليه السلام :”
واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرغ فيه شخصك ، وتجلس لهم مجلساً عاماً فتتواضع فيه لله الذي خلقك ، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من احراسك وشرطك حتى يكلمك متكلمهم عير متعتع ” النهج 439
هذا هو الانفتاح الحقيقي ..أن تعطى للكلمة الهادفة ، للكلمة البناءة للكلمة الناقدة ، للكلمة التي تسلط الضوء على العيوب الإدارية ، وعلى المفارقات الإدارية ، وعلى نقط الإجحاف والظلم ، وعلى تخلفات القانون العادل والدستور العادل ، تعطي لهذه الكلمة الفرصة لأن تقال في جو ليس فيه متابعات ولا ملاحقات ، لا ملاحقات أمنية ولا ملاحقات إعلامية تسقط الشخص وتذيله ، وتتهمه بالعمالة وتقصيه من مواقعه الشعبية بالإعلام المضلل .
الانفتاح عند أمير المؤمنين عليه السلام هذا ..أن يعطي للضعيف للإنسان العادي ، الفرصة كل الفرصة ، بأن يقول الكلمة حرة هادفة بناءة ، كل هيبة الحكم ، كل مظاهر الهيبة في الحكم توضع عن هذا اللسان ، ليقول الكلمة التي تتلجلج على طرفه وقد يمنع منها هيبة السلطان وجند السلطان وسيف السلطان ..
جو الانفتاح يعني أن لا تلاحق الكلمة حتى قبل أن تقال ، بل لا تلاحق حتى بعد أن تقال إلا أن تخالف أمرا من أوامر الله أو تصد عن ذكر الله وأن تنتهج نهجاً غير عادل وأن تسيء إلى الاجتماع وان تحدث الفرقة ، أما الكلمة المصلحة التي تبين العيب الإداري ، فهي كلمة مصلحة جامعة غير مفرقة .
اللهم اغفر لنا ولإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين ، وتجاوز عنا وارحم ضعفنا في الدنيا والآخرة يا اكرم الأكرمين .
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون