خطبة الجمعة (12) 29 ربيع الأول 1422هـ – 22-6-2001م
مواضيع الخطبة:
الشكر – من سمات المجتمع المؤمن –
القيادة المؤمنة – صلح الإمام الحسن
مواقف التعاون، مواقف
الائتلاف، ومواقف التنسيق تكون ولكن بحيث لا تسلب من دين الله شيئاً، وتكون تحت
مظلة الدين وحسب القوانين الدينية وحسب رؤية المختصين الدينيين وبما يوافق الحكم
الشرعي
الخطبة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
الشكر
حمد وثناء :
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا نعمة في الوجود إلا به، ولا رحمة في العالمين جميعاً إلا منه، نعمهُ سابغة، ومننه ظاهرة، وأياديه وافرة. السماوات والأرض وما فيهن من شيء وما بينهن شاهدة بفضله، ناطقة بكرمه، له الحمد الذي لا ينتهي، والشكر الذي لا ينقطع، والثناء الذي لا يحد، والذكر الجميل الذي لا يفتر.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالدين الحق، والكلمة الصدق، والآيات القيمة، والحجج البينة، فجاهد صابراً، وصبر شاكراً، وعاش حميداً، ورحل سعيداً. اللهم صل وسلم عليه وآله واجزه وإياهم عن أمة الإيمان والإسلام خير جزاء المحسنين، وفوق ما يعده الحاسبون.
شكر الله تعالى :
عباد الله، اتقوا الله الذي بفضله تحيون، من قدرته تسعون، ومنه ترزقون، وبأمره تموتون، وإليه تحشرون. وعنده حسابكم، وبيده جزاؤكم، فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها والله بكل شيء عليم.
ألا فاشكروا؛ ففي شكره دوام النعم، ودفع النقم (وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) النمل/ 40.
ألا أن الشكر خلق من خلق الله العلي العظيم ففي التنزيل ( إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُور ٌ) الشورى/23، وفيه ( وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ) البقرة/158. وخلق المؤمن من خلق ربه الكريم، فمنه يقتبس وبه يهتدي ويستضيء.
المؤمن إنما يصوغ نفسه ليأتي صورة مرضية عند الله سبحانه وتعالى والصورة الإنسانية التي يرضاها الله سبحانه وتعالى هي التي تصنع على ضوء أسمائه الحسنى فتأتي كاملة، تأتي كاملة الكمال الإنساني لتكون مرضية لله سبحانه وتعالى، وإذا كان الشكر خلقاً من خلق الله فلا بد أن يتزين المؤمن بهذا الخلق ويتسم به؛ فما الشكر؟
معنى الشكر:
الشكر أن تعترف بالنعمة وأن تظهرها قولاً وعملاً وإظهار النعمة عملاً بأن توضع في موضعها، ماذا تقولون في إنسان يحسن إلى إنسان آخر بمال؟ فيضع المُحسَنُ إليه المالَ في قتل أبن المُحسن! ويرفع ذلك بألف شكر على طرف السان، حين يقول المحسَن إليه للمحسن “أشكرك مليون مرة” وهو يستعمل المال الذي أعطاه إياه المحسن في قتل ولده أيعده العقلاء محسناً، هذا الذي يقول شكراً لله تعالى كل يوم ويعدد هذه القولة ويكثرها ولكنه يستعمل نِعم الله من سمعٍ ومن يد ومن رجل ومن كل جارحة وكل جانحة في معصية الله، أهذا عابثٌ أم جاد؟ أهذا هازئٌ بنفسه أم هو جاد في شكر ربه سبحانه وتعالى؟
الله شاكرٌ، ما معنى شكر الله سبحانه وتعالى؟ الله شكور ما معنى أن يكون الله عز وجل شاكراً؟ ( وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ) النساء/147.
أمِن إحسانٍ من خَلقِ الله لله؟! أمِن نعمة من أحد على الله حتى يستحق على الله الشكر؟! النعم كلها من الله، لا نعمة في هذا الوجود إلا منه وبه سبحانه وتعالى، فكيف يأتي منه الشكر، من أين يتخلق موضوع الشكر بالنسبة لله سبحانه وتعالى، إنه المنُ على المن، والجميلُ فوق الجميل، والإحسان فيضاف إليه الإحسان.
تسخير النعم لبناء الذات :
النعم التي عندك من الله سبحانه وتعالى، حين تشكرها، حين تضعها في موضعها، ومعنى أن تضعها في موضعها، أن تضعها في بناءك، أن تضعها في مصلحتك، وفيما يعود عليك بالخير، حين تضع النعم المفاضة عليك منه سبحانه لمصلحة – ذاتك ولبناء ذاتك، يعدُّك الله سبحانه محسناً، فيجزيك جزاء الشاكرين، ويدين نفسه سبحانه وتعالى بجزائك والنعمة كلها منه، أمن فضل أكبر من هذا الفضل، أمن إحسان فوق هذا الإحسان والجميل، فالشكر من الناس، أصحاب الوعي، أصحاب الوجدان السليم، أصحاب الذوق الرفيع، أصحاب الرؤية الصادقة: ( إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُون َ) يونس/60، ( وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) الأعراف/17، ( اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُور ُ) سبأ/13.
الآية الأخيرة تقول ” وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُور ” هم عباد، رضوا أم أبوا، هم عبيد أقنان مملوكون، من أول ذرة في وجودهم إلى آخر ذرة، ومن أصغر جسيم في الذرة، وحتى الأخير من مكونات ذرات وجودهم، مع كونهم عبيداً له أنفاسهم بيده، وجودهم من صنعه ومدده، إلا أنهم مع ذل قليل منهم من يشكر! وهذه هي نهاية الجحود، وهذه هي الغاية في التنكر للجميل، مَا من لحظة، من لحظات وجودنا، إلا ونحن نستعطي هذا الوجود من الله، إلا ونحن نتلقى هذا الوجود من الله فإذا كان وجود اللحظة مملوكاً لله سبحانه وتعالى، أو هو من عطاءه وأنا أستعمله في نفس اللحظة في معصيته، فهل أكبر من ذلك من جحود، ومن تنكر للجميل؟!
لماذا هم القليلون الذين يشكرون الله سبحانه وتعالى؟ إما أن يكون القليلون الذين يشكرون الله سبحانه وتعالى هم الغَفَلةُ، هم السَّفَلةُ، هم دونيو الخلق، أصاغر الناس، وهذا لا يرضاه عاقل، وإما أن يكونوا هم النخبة الصفوة، وهذا هو المتعين، فالشكر لله عز وجل يحتاج لنفس واعية، إلى قلب مفتوح، إلى عين تبصر، إلى بصيرة سليمة، إلى ذوق صحيح، إلى وجدان سليم، حتى يرى النعمة نعمةً ويرى المُنعم منعماً، والذي لا يشكر معناه أنه بهيمة لا يشعر بما يُعطى لا يشعر بأنه يسترفد لا يشعر بأن وجوده من الله، لا يشعر بأن أثره من الله، لا يشعر بأن حياته من الله، فهو سائمة لا يملك أن يعي، لا يملك أن يرى، لا يملك أن يفهم ويستوعب.
الشكر استزادة للنعم :
( رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) إبراهيم/7
وربما تراءى لأحد أن الكافر يكفر ويزداد، على خلاف ما تعطيه الآية الكريمة، الكافر أيها الأخوة مستدرج، الكافر يُملى له، ومعنى الاستدراج أنه إذا تنكر للنعمة وجحدها وكابر الله عز وجل معطيها بها، زاده الله عز وجل ليست زيادة شكر وليس زيادة تربية وتكملة وإنما هي زيادة يستغرق من خلالها في معصيته، وذلك جزاء من الله عز وجل على سوء عمله وتصرفه هذا الكافر كلما رأى من نعم الله المزيد، كلما أوغل في المعصية، كلما جحد كلما استكبر، كلما طغى كلما انحدر، كلما سفل، كلما تحجر، كلما تطين، لينتهي شيئاً ليس بالإنسان، لينتهي الحجر من بين أحجار النار، والوقود في وقودها، أما الزيادة التي تعني التربية والتكملة وتعني التقريب من الله عز وجل والارتفاع بهذه الذات وتكريمها إنما هي الزيادة التي تأتي على أثر الطاعة، وعلى أثر الشكر ( رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد ٌ) إبراهيم/7 .
وكفى من عذاب الله أن يسقط هذا الإنسان، ويفقد إنسانيته في الجولة الوحيدة التي يعتمد عليها مساره إلى مصيره، فعن الصادق (ع) “ما أنعم الله على عبد من نعمة فعرفها بقلبه وحمد الله ظاهراً بلسانه فتمَّ كلامه حتى يؤمر له بالمزيد” [1].
طريق مفتوح للاستزادة، أن تشكر الله على مختلف الأصعدة والمستويات فيأتيك المزيد من نعم الله سبحانه وتعالى والمسألة ليست مسألة حسابات رياضية، وإنما هي مسألة وعد إلهي صادق لا يتخلف، وإذا كان لمعادلة من كل المعادلات أن تتأخر وأن يدخلها الخطأ لتتخلف النتيجة فإن وعد الله سبحانه وتعالى وعدٌ صادق غير مكذوب “من أعطى الشكر لم يحرم الزيادة” [2] إذا وجدت نفسك تشكر الله فاعلم أنك على طريق الزيادة من نعم الله سبحانه وتعالى.
صور من الشكر :
“تمام الشكر اعتراف لسان السرّ خاضعاً لله تعالى بالعجز عن بلوغ أدنى شكره لأن التوفيق للشكر نعمة حادثة يجب الشكر عليها” [3].
درجة عالية من الشكر ولا يتم الشكر الحقيقي إلا بها، هي هذه الدرجة، أن أعترف في الداخل أن تخضع طويتي، ونفسي وسريرتي وقلبي وخلجات نفسي، أن تخضع وتعترف لله سبحانه وتعالى بالعجز عن بلوغ شكره، كيف أشكر الله عز وجل وأنا لا أشكره إلا بإحسانه حين يوفقني للشكر أشكر، شكري متوقف على أن يوفقني للشكر، فعليه ما من شكر إلا ويستحق الشكر، فإذاً لا مخرج من واجب شكر الله سبحانه وتعالى أبداً، على أنك تصلي لله بمَ؟ وتصوم بمَ؟ وتقول الحق بمَ؟ كل ذلك بفضل الله وتوفيق الله ومدد الله، وبنعم الله، هذه الدرجة هي درجة الاعتراف لله عز وجل بأني عاجز عن شكره، وراءها خلفية فكرية وشعور نفسي بنعم الله عز وجل وأني مستغرق في هذه النعم وأن كل خير بيدي إنما أصله الله عز وجل وهي نظرة تنصرف بهذا العبد عن كل المخلوقين إلى الله، تتجاوز إحسان الآباء، والأمهات والمعطي إلى عطاء الله ورحمته لأن ما من شيء في هذا الكون إلا منه وبعطائه.
“شكر المؤمن يظهر في عمله وشكر المنافق لا يتجاوز لسانه” [4] وسيأتي أن هناك شكراً باللسان وأن درجة من الشكر يمكن أن يتحقق بالنطق والكلمة لكن هذا الشكر لن يصدق حتى يسايره العمل، وقد ضربت المثل في أول الحديث، وأن الشكر اللساني حين يخالفه العمل إنما يكون من ضرب الاستهزاء، ولا يكون الشكر الجاد فالمنافق يظهر الشكر لله عز وجل بلسانه ولكنه في مقام العمل يخالف إرادته وتشريعه، فلا تدخل أيها الأخوة تحت عنوان النفاق من خلال مخالفات كثيرة متعددة متواترة في يومنا وليلتنا لأوامر الله ونواهيه. صورة أخرى “شكر كل نعمة الورع عما حرم الله” [5]، وهو موقف عملي في صورة سلبية، تتمثل في التوقف عن المحرمات وخوف الله وهذه الصورة السلبية وراءها شعورٌ إيجابي صحيح كبير، التورع العملي عن محارم الله وراءه رؤية لعظمة الله ولجبروت الله وبطش الله ووراءه رؤية لنعم الله وجميل الله وإحسان الله، والمقدّر هو ذلك الزاد والرصيد الإيجابي داخل النفس من الرؤية الصائبة والشعور السليم بعظمة الله سبحانه وتعالى وإحسانه وجميله .
صورة أخرى، وهي تدخل في الشكر العملي “إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه” [6] الله الذي أقدرك على عدوك ومن الخُلق الرفيع المتسامي هو العفو، فحين يقف أحدنا موقف العفو عند القدرة، وهذا العفو عن إنسان يكون شاكراً لله والله عز وجل يقول جزاءه وهو جزاء الشاكرين.
“أعلموا أنكم لا تشكرون الله بشيء بعد الإيمان بالله ورسوله وبعد الاعتراف بحقوق أولياء الله من آل محمد عليهم السلام أحبَّ إليكم من معاونتكم لإخوانكم المؤمنين على دنياهم..” [7]، وهي النعمة الكبرى الثالثة، أكبر مصاديق الشكر أن تؤمن بالله إيماناً حقيقياً ومعنى ذلك ألا تقدم أمراً على أمره ولا نهياً على نهيه ولا يدخلك من حب الناس لأشياء ما يخالف خط حبه.
والمصداق الآخر الكبير هو الإيمان بالرسول صلى الله عليه وآله، ولا يمكن أن يصدق الإيمان بالرسول حينما لا يصدق الإيمان بالنظام الذي جاء على يد الرسول (ص)، إيماننا بالرسول إيمان بالإسلام بتشريع الإسلام بالنظام الإسلامي، بألا نعدل به نظاماً، بألا نعترف بأن هناك حكماً منقذاً للإنسانية يساوي حكم الإسلام، ومَن دخله الخلل في هذه العقيدة فهو ليس مؤمناً برسول الله صلى الله عليه وآله وبكلمة الوحي.
المفردة الثالثة، والمصداق الثالث الكبير هو الإيمان بحقوق أولياء الله من آل محمد صلى الله على محمد وآل محمد، وحقوق أولياء الله صلوات الله وسلامه عليهم حقوق أئمة أهل البيت عليهم السلام أن تترسم خطاهم وأن تسير على هداهم وأن تأخذ بمنهجهم، أهل البيت عليهم السلام أرفع من أن يستعطوا مالاً، أو يستعطوا جاهاً أو يقبلوا منا التصفيق والهتافات أهل البيت عليهم السلام انصرفوا بكلهم إلى الله عز وجل ويريدون منك أن تنصرف إلى الله وأن تسلك طريقه.
اعلموا أنكم لا تشكرون الله بشيء بعد الإيمان بالله ورسوله وبعد الاعتراف بحقوق أولياء الله من آل محمد عليهم السلام. لا بد للمؤمن من أن يشعر بألم جاره، وبجوع جاره، بعري جاره، بحجة جاره، بجهل جاره، بضلال جاره ليعالج كل نقص من نقصه وليرفع كل عوز من عوزه، وليأخذ به على الطريق القويم والصراط المستقيم، قضاء حاجات الأخوة المؤمنين المجتمع المتآلف المتناصر المتعاون، الذي يكون له الحضور القوي الفاعل الواصل في أزمات الناس من المؤمنين. في أزمات الجيران والإخوان ومجمل المؤمنين، هذه هو المجتمع الإسلامي، هذا هو مجتمع الإيمان هذا هو المجتمع الشاكر لله سبحانه وتعالى.
ما أنعم الله على عبد بنعمة صغرت أو كبرت فقال الحمد لله إلا أدى شكرها، هذه صورة.
قولٌ باللسان “الحمد لله يعتقده القلب” يعني الشكر التام للنعمة لأن قولك الحمد لله يعني أنه لا حمد للمعطي القريب إلا بالحمد وحقيقة الحمد إنما هي لله المعطي الأول.
حين تقول الحمد لله معنى ذلك أن رؤيتك ونفسك عقلك وشعورك قد تجاوز كل الأسباب وارتبط بالمسبب الأول ورأى النعمة كيف تتدفق من مصدرها الأول وكيف تأتيك من منبعها الأصل وهو الله سبحانه وتعالى، وأن كل الأسباب التي وقعت في طريق وصول النعمة، إليك مملوكة لله مسخرة بإذنه فالنعمة منه وحده وله الشكر الأول والأصل وإذا كان هناك شكر بالدرجة الثانية فهو بأمره سبحانه وتعالى.
شكر المخلوقين :
الله عز وجل يكتب علينا أن نشكر المخلوقين ويريد منا أن نشكر المخلوقين وقد بينت موقع شكر المخلوقين من شكر الله، وأن الشكر الأصل الأول لله، وأن شكر المخلوقين إنما يأتي في طول شكر الله وبإذنه، وإذا كان قد كتب الله عليَّ أن أشكر المخلوق فحين أشكره أكون شاكراً لله سبحانه وتعالى فإن منظوري الأولي في شكر المخلوق هو طاعة الخالق وامتثال أمره.
يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده يوم القيامة: أشكر فلاناً؟ فيقولُ: بل شكرتك يا ربّ، فيقول: لم تشكرني إذ لم تشكره”
أنت حينما نسيت إحسان العبد وجميل العبد قد نسيتني، نزل الله سبحانه وتعالى جحود إحسان العبد وجميل العبد منزلة جحود نعمته هو سبحانه، إنها عملية تنزيل، فيقول: لم تشكرني، إذ لم تشكره، وكأن هذا فيه تشريع بمعنى أنه يجب عليك لتشكرني أن تشكر الذي أحسن إليك من عبيدي.
وإذ لم تفعل فلم تشكرني من بعد أمري لك والله العالم والحديث عن الإمام زين العابدين عليه السلام.
اللهم إنّا نستغفرك ونستهديك ونتوكل عليك، اللهم اجعل قلوبنا عامرة بذكر، مشغولة بشكرك، مليئة بحبك، زاهرة بمعرفتك، راضية بقضائك وقدرك، مشتاقة إليك، مستغنية بك عمن سواك، راجية مغفرتك، منصرفة إليك.
اللهم أصلح أحوالنا ورشد أقوالنا وأفعالنا، وأرنا الحق حقاً فنتبعه والباطل باطلاً فنجتنبه يا أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
الخطبة الثانية
المجتمع المؤمن
حمد وثناء :
الحمد لله، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يحيي الموتى، ويميت الأحياء، وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
ذكر النبي وآله والصلاة عليهم:
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله جاء بالنور الذي لا يخبو، والدليل الذي لا يُرد، والبرهان الذي لا يقهر، والحق الذي لا يتقهقر.
اللهم صلي وسلم على أول العارفين، وإمام المتقين، وقاتل الناكثين والمارقين، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين.
اللهم صلي وسلم على البضعة الطاهرة، والخفرة الفاخرة، والقدوة الزاهرة فاطمة العابدة الصابرة.
اللهم صلي وسلم على إمامي الرحمة، وكاشفي الغمة، وسراجي الهدى في الأمة أبي محمد الحسن وأبي عبد الله الحسين.
اللهم صلي على أنوار الهدى، وسفن النجاة، وأهل التقوى، والأوصياء من المولى، علي بن الحسين زين العابدين، ومحمد بن علي الباقر، وجعفر بن محمد الصادق، وموسى بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسى الرضا، ومحمد بن علي الهادي، والحسن بن علي العسكري الأئمة الأطياب.
اللهم صل وسلم على موعود الرحمة وإمام الأمة، والمنقذ من الغمة الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن المنتظر.
اللهم اجعلنا من أنصاره في مغيبه وظهوره، والآخذين بهداه، والمنادين بندائه، والرافعين للوائه، والراضين بحكمه وقضائه، ولا تجعلنا منحازين عنه طرفة عين أبداً يا كريم.
اللهم انصر ناصره، واخذل معاديه ومناوئه. من قرَّب منه أيده وسدّده، ومن باعد عنه فارمه بخيبة السعي وفشل المحاولة.
طلب المغفرة والرضوان :
عباد الله اتقوا الله واحذروا مقته وخذلانه وعقوبته، واطلبوا رضوانه وغفرانه ورحمته. وليس أحقَّ من الله أن يتبع، فهو الخالق والمالك والمدبر والرازق ومن إليه ترجعون. وقوله أصدق الصدق، وأحق الحق، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفة. فمن أين يطلب الصدق، وينال الحق، ويعرف الصواب إذا لم يرجع في ذلك إلى كتاب الله وسنة رسوله والطاهرين من آله عليهم السلام؟
فإلى كتاب الله القائل (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنَّكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون).
والقائل: ..( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) المائدة 8 .
والآية الثانية قد ابتدأت بنداء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ..) كما هي الآية الأولى ويقول كتاب الله العزيز الحميد ( فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) القلم .
والآيات الكريمة تقدم ركائز المجتمع المؤمن وقيادته.
من سمات المجتمع المؤمن :
هذا المجتمع مجتمع قوَّام لله والله أكبر. هذا المجتمع ليس مجتمعاً قائماً لله فقط بل قوَّام لله سبحانه وتعالى بصيغة المبالغة شديد القيام لله وإنه مجتمع القيام لا القعود، مجتمع الجد لا الكسل والخمول، مجتمع الفاعلية والتقدم لا التقصير والتأخر. مجتمع الريادة ومجتمع القيادة. ومجتمع الفاعلية والنشاط الجد والعمران، مجتمع الحركة، وهذه الحركة إنما هي تتجه لله سبحانه، منطلقة من أمره، راجعة إليه، سائرة على خط الله سبحانه وتعالى، والفاعلية والنشاط والجد والسعي والسباق والتنافس ليس للأرض، المعبود ليس المكان، ليس القوم، ليس الشعارات الأرضية، المعبود لهذا الخط الحضاري ولهذه الحركة العارمة القوية الجادة الفاعلة الصاعدة، هو الله سبحانه وتعالى وحده. قوَّامون لله، إذاً إذا وجد مجتمع مسمي نفسه مؤمناً وهو كسول.. كسول غير جاد فهو يفقد سمة الإيمان إنه ليس على خط الإيمان. مجتمع الركود، ومجتمع البؤس ومجتمع التشاؤم ومجتمع الكسل ومجتمع غير إيماني. وإذا وجدت حركة وجهاد، ووجد نشاط ثقافي كما يعبرون ووجد سعي، ولكنه لشعارات أرضية ولانتماءات غير إلهية، لأرض أو قوم أو غير ذلك، فهذا المجتمع في حركته ليس من مجتمع الإيمان.
نعم إنه مجتمع قوَّام لله نشط، ناهض فاعل على طريقه ومن أجله، إنه مجتمع يكبر على العداوات والجراحات الذين يؤذون المجتمع المؤمن ويصيبون منه. حين يتغلب المجتمع المؤمن عليه ويكتسح قواهم لا يكون المارد الجبار العتي في الأرض الذي لا يعدل ولا يرحم، إنه المجتمع العادل في أشد لحظات الانفعال والغضب قد يغضب المؤمن كما يغضب الكافر قد تغضب القيادة كما تغضب غيرها ولكنها لا تظلم، ولكن لأنها تجد أن أمر الله فوق أمرها وأن هذا الشخص ليس السيد المطلق، وإنما هو العبد المقيّد المملوك لله عز وجل. فلا بد أن يخضع، ولا بد أن ينضبط حتى تهدأ سورة غضبه ويذهب الغضب أمام هيبة الله وأمره سبحانه وتعالى. يكبر على العداوات والجراحات والآلام في إقامة العدل، ومن ذلك الشهادة بالقسط في صالح العدو، الشهادة بالقسط تكبر على الصداقات والمحبات والمودات هذا من جهة وتكبر على العداوات والجراحات من جهة أخرى. إذا كان العدل مع العدو، إذا كان الحق مع العدو، كان عليّ أن أشهد على نفسي فضلاً على الشهادة على أبي وأمي وإذا لم يكن الحق في مورد لمن أحب امتنع عليّ أن أشهد لصالحه.
برغم الحب كل حب في قلب المؤمن من ذلك في حب الله. كل غضب في قلب المؤمن من ذلك أمام إرادة الله عز وجل وأمره. فإذاً الحاكمية لأمر الله لعظمة الله في نفس الإنسان المؤمن. وحيث يكون الحكم لله في نفس المؤمن وقلبه لا يكون إلا العدل ولا يكون إلاّ الحق والقسط ثم لا عدوانية حتى مع العداوة والبغضاء، لا تعاونوا على الإثم والعدوان، لا تعتدوا إن صدوكم عن المسجد الحرام، هذا لا يتخذه المؤمنون حجة في موقف عدائي غير عادل بالنسبة لمن صدوهم عن المسجد الحرام.
أمسِ صُد رسول الله (ص) عن مكة والمسجد الحرام وفرض عليه أن يرجع القهقرى إلى المدينة بعد الصلح، ومن بعد يأتي يوم الفتح الكبير، لتكون القدرة في الموقف، كل القدرة بيد الله، بيد رسول الله (ص) وجيشه الإيماني، إلا أنه (ص) وبأمر الله سبحانه لم يدنو من عداوة جاهلية أبداً، ثم أنه مجتمع الإيمان مجتمع متعاون، ولكن على ماذا؟ مجتمع متناصر على ماذا؟ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ، يد المؤمن حرام عليها أن تمتد إلى يد مؤمن آخر وإن كان أباً أو أماً لتعاديه، فكيف تمتد يد المؤمن إلى غير المؤمن لتتعاون اليد على إثم أو باطل؟ فكيف تمتد يد المؤمن إلى غير المؤمن لتتعاون على تركيز غير الإسلام في بلاد الإسلام؟ وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان. إنه مجتمع مؤمن متناصر متعاون متآلف، ولكن إيمانه يسوقه على خط التعاون في الخير ومن أجل الهدى ومصلحة الناس وبناء المجتمع الإنساني السليم والمجتمع الإنساني السليم إنما ينبني بانتشار هدى الله منه وبمعرفة الله سبحانه، والنفس التي لا تعرف الله عز وجل إنما تعرف الضلال وترتبط بالضلال وترتكن إلى الضلال.
القيادة المؤمنة :
ثم إن القيادة المؤمنة والمجتمع المؤمن لا مساومة عنده على المبادئ ولا ترضيات على حساب دين الله سبحانه وتعالى.
مواقف التعاون، مواقف الائتلاف، ومواقف التنسيق تكون ولكن بحيث لا تسلب من دين الله شيئاً، وتكون تحت مظلة الدين وحسب القوانين الدينية وحسب رؤية المختصين الدينيين وبما يوافق الحكم الشرعي.
هناك تعاون تجاري مع الكفار وهناك مهادنات ومصالحات مع الكفار، وهناك مع مختلف أقطار الأرض تتعامل الدولة الإسلامية، دولة الرسول (ص) لم تنطوي على نفسها في المدينة ولكن تتحرك مع علاقات مع الآخرين، إنما تتحرك في إطار الحكم الشرعي ورضا الله سبحانه وتعالى، وتشخيص ذلك إنما يرجع للفقيه وليس لمتفقه قاصر أو غير متفقه أصلاً.
وقفة مع صلح الإمام الحسن (ع) :
وتستوقفنا مناسبة صلح الإمام الحسن عليه السلام الجارية في الأسبوع المنصرف حسب ما يقوله بعض التقاويم وألخص الكلمة هنا بأن صلح الإمام الحسن “ع” ومعاوية كان جريمة أمة ووعي وحكمة قيادة، إنما صالح معاوية الأمة المقصرة والنخب الفاشلة، والقيادات الثانوية الطامعة؛ هذه هي التي صالحت معاوية وكتبت على الإمام عليه السلام أن يدخل الصلح كرهاً وكان ذلك حكمة منه عليه السلام لتبقى أمة وتتقى فئة داعية ذليلة تنمو على الزمن لتكون الأمة العملاقة التي تجهر بصوت الحق والتي يتم على يدها النصر.
هذه الأمة وهذه الفئة التي كتب لها أن تتواصل حتى ظهور الإمام القائم عج.
وقفة أخيرة :
وتنبيه أخير، وهو أنه يجب أن لا نفسح إلى جائع إذا طالب لا يطالب إلا بلقمة العيش، وإلى مكتف لا يطالب إذا طالب إلا بالقيم المعنوية.
المصلي، الصائم، الشبع، المصلي الصائم الواجد المال الواجد الكفاية حين يطالب، عليه أن يطالب بالقيم، ومن القيمة التي يصر عليها الإسلام، أن يشبع الجائع وأن تجد الفاقد وأن يصل النظام بالناس إلى حد الكفاية، ساعياً مع ذلك السعي الحثيث الجاد ولا ينبغي لمؤمن جائع أن ينسى دينه.
فإذا طالب لا يطالب إلا بلقمة العيش، وينسى المنكرات الأخرى وما تفعل في العقول والأنفس وفي الدين والدنيا، المسلم عليه أن يجمع في مطالبته بين حقوق البدن والروح، وما يحتاج الدين والدنيا.
اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا ومن يعنينا أمره، وإخواننا المؤمنين والمؤمنات أجمعين واجعلنا الأمة القوية الرشيدة التي لا تغلب على دنياها، ولا تستغفل عن دينها، ولا تقدم قول المخلوق على الخالق، ولا رضى العبد على المعبود، ولا تعدل عن نصيحة الرب إلى المربوب، وافعل بنا ما أنت أهله يا أكرم الأكرمين وأرحم الأرحمين ..
إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى
وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين .